تعد هذه الدراسة النقدية لرواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور معالجة فلسفية نقدية، تتم في ضوء الارتباط بين الرواية / الخطاب Discourse والسياق الجدلي الثقافي والتاريخي الذي أنتجته الرؤية الفلسفية للرواية.
إن تبنينا لهذا التناول في تحليل الخطاب يساعد في توجيه مجموعة من الأسئلة التي تتفق وجوهر دراستنا الراهنة، فهو يمنحنا القدرة على الوقوف على بنية النص الدلالية من خلال تحليله الداخلي بشكل جيد وفي إطار مرجعية قراءتنا للواقع التاريخي، الذي نشأ فيه النص، نستطيع أن نقف عند جوهر هذا الصراع الأزلي، صراع السيد والعبد، وكيف عالج النص الروائي هذه الجدلية الفلسفية عبر نص تاريخي اجتماعي له صداه العميق في المتلقي العربي والمتلقي المسلم.
لقد صدرت الرواية عبر خطابها عن رؤية هيجل الفلسفية للإنسان وصراعه مع أخيه الإنسان، هذا الصراع الذي أنتج في لحظات الكون الأولى أول جريمة قتل في التاريخ، سعى صاحبها لتحقيق مبدأ السيادة على الآخر، كي يحقق طموحه ورغباته التي نازعه فيها أخوه الإنسان، فكان ضروريًا أن ينشأ هذا الصراع الجدلي، وأن يكون الموت عاملًا حاسمًا فيه؛ حتى ينصاع أحد الطرفين للآخر خشية من شبح الموت.
” لقد كان هيجل محقًا عندما قال إن عبودية القنِّ تجعل السيد أيضا يفقد بعضًا من إنسانيته(1)؛ لأنه يسعى لدحر الجوانب الإنسانية لدى إنسان آخر، ويحوله إلى مجرد كائن بهيمي مجرد من كل الفضائل الإنسانية، التي يعلن السيد أنه يمتلكها، ويتباهى بها، وينزعها من الإنسان العبد.
إن جدلية Dialectic السيد والعبد التي يتحدث عنه هيجل مبنية على ثنائية الحياة / الموت، فالإنسان الذي يسعى للحياة ويفكر في امتلاكها، هو الإنسان الذي يحسم الصراع لصالحه، ويحقق سيادته على الآخر؛ لأنه استطاع أن يبعد شبح الموت عن وعيه ولا وعيه، أما الإنسان الذي يبادر بالتفكير في الموت والخوف منه، هو الإنسان الذي لا يقوى على المجازفة ويهيمن على وعيه ولا وعيه شبح الموت؛ فيحسم أمره بالاستسلام للعبودية.
إن صراع السيادة والعبودية يعتمد الحياة والموت لكنه ووفقًا للمجازفة يضمن هذا الصراع الحياة للطرفين: السيد والعبد، فرغم تحليق شبح الموت بقوة في هذا الصراع فإن الموت يظل بعيدًا عن الوقوع إلا في حالة الضرورة فقط، أي بموت البعض، يبقى المجموع عبر تحقيق ثنائية السيد والعبد فـــ” لا يفيد إذن إنسان الصراع في شيء أن يقتل خصمه. عليه أن يلغيه جدليًا يعني عليه أن يترك له حياته ووعيه، ولا يدمر سوى استقلاليته، وعليه ألا يلغيه إلا كمعارض له وفاعل ضده، بكلام آخر عليه أن يستعبده(2)
” ورغم أن الإنسان بذاته حرٌ في ماهيته وجوهره ولكن في حالة عدم وعي الإنسان بأنه في ماهيته وجوهره حرٌ يكون غير موجود كإنسان حر، فالإنسان لا يكون حرًا إلا إذا عرف أو وعى أن طبيعته الجوهرية هي الحرية، فالوعي وحده هو الذي يحرر الإنسان عند هيجل(3)
لقد كان الخطاب السردي في ثلاثية غرناطة واضحًا ومعبرًا عن تلك الجدلية الفلسفية، وأنتجت صورة ثقافية عميقة لذلك الصراع الذي دار في غرناطة والأندلس كلها، صراع السيادة والعبودية، بل إنها انطلقت لتعبر عبر خصوصية النص عن الصراع الحضاري المحتدم بين الغرب / السيد، الشرق / العبد.
لقد لعب التاريخ في الرواية عاملًا مهمًا في إبراز حقيقة الصراع بين الحضارة الغربية الناشئة الساعية عبر أدوات القوة المتسلطة لإخضاع الحضارة الإسلامية لجبروتها، بل تعدت ذلك لهدم كل ما هو إسلامي في تلك البلاد.
يُعبِّر هذا الصراع الحضاري من خلال جدلية هيجل عن تلك النظرة الغربية المتعالية تجاه كل ما هو شرقي / إسلامي، وينطق كذلك بأن الطريقة المثلى في التعامل مع هذا العالم هي الاستعباد، فمن وجهة نظر الجدلية الهيجلية والرؤية القشتالية أن السيادة والسيطرة لابد أن تكون لهذه الحضارة الفتية، عبر استعمار الوعي الإسلامي Colonization of consciousness وترسيخ دونيته؛ ليؤمن هذا العالم بأنه وجد ليخدم الحضارة الغربية، فلا يبادر فيما بعد بالمقاومة أو بالتمرد.
بمنطق أن الحرية هي للملك ولأهله، أما هم أهل الشرق ففي طبيعتهم ووعيهم أن الحرية ليست لهم، وهذا ما برر لهم استخدام القوة اللاإنسانية في التعامل معهم، بل نزع كل صفات الإنسانية عنهم ومعاملتهم معاملة حيوانية.
إن هذه الرؤية تعكس مدى التناقض الذي تتميز به الرؤية الفلسفية الغربية فهي في حين تطبق أساليب القهر والاستعباد تجاه الغرناطيين، يذكر هيجل في المرحلة الثالثة للحرية أنها ” تضم العالم الجرماني وهي بمثابة مرحلة الشيخوخة، وأهل هذا العالم يعلمون بفضل المسيحية أن كل الناس أحرار(4) لكن من الواضح أن الخطاب في ثلاثية غرناطة كشف التناقض الفكري للفلسفة المسيحية، حيث أوضحت أن استعباد الآخر وقهره حق مكتسب للأمم الغالبة، وهذه الرؤية تستقيم مع الرؤية اليونانية والرومانية للحرية” فالإرادة عند الشرقيين إرادة متناهية فهي لم تدرك ذاتها بعد كإرادة عامة. ولذلك لا يوجد سوى طبقة مغلقة من الأسياد وأخرى من الخدم، إنه مجال الاستبداد؛ والشعور بالخوف، والخوف هو المقولة السائدة، طالما أن الروح مستغرق في العنصر الطبيعي، فإنه لا يكون حرًا؛ لأنه ما يزال متوحدًا مع الخاص، مع المتناهي ومشوبًا به، وواعيًا أن ذاته على هذا النحو المتناهي يكون قابلًا للتحطيم، ولذلك يطرح نفسه كنقيض للمستبد. وعلى العكس تكمن الحرية في عدم البقاء المتناهي، تكمن في الوجود لذاته، في وجود لا متناه ذاتيًا؛ وهذا ما لا يمكن انتقاده – ولكن ما يسود الشرق هو الخوف والاستبداد. فالإنسان إما أن يخاف ويهاب أو أنه يسود بفعل التخويف؛ فهو إذن سيد أو خادم(5) .
لقد اهتمت الدراسة بالوقوف على طرق الخطاب السردي في مناقشة القضايا الفلسفية التي تمس الإنسانية، منطلقة من الماضي العربي والحاضر والمستقبل.
واعتمد البحث المنهج التحليلي القائم على تحليل النصوص والوقوف على دلالاتها الفلسفية التي تبرز أهم القضايا الفلسفية المعبرة عن جدلية السيد والعبد.
ولم يقف البحث أمام الرؤية الفلسفية فقط لجدلية السيد والعبد، إنما تعداها إلى نتاجات هذه الجدلية من صراعات نفسية وسلوكيات قهرية، وحاول البحث الربط بين الرؤية الفلسفية ومدرسة التحليل النفسي متمثلة في ما ينتجه القهر والعبودية وممارساتهما من أمراض نفسية وسلوكيات تتعارض مع القيم الانسانية والمجتمعية.
وفي النهاية استطاع البحث أن يقف على عمق الخطابي الفلسفي للرواية، وكثافة دلالاته التي تنطلق من الماضي لتبصر الحاضر وتنبئ عن المستقبل، وكشف كذلك عن الانتماء للهوية العربية والإسلامية للغرناطي، ومدى مقاومته الشرسة لمحاولات التنصير ومحو الهوية، كما أشار البحث إلى دور الخطاب السردي في التعبير عن الذات والغربة التي شعر بها المقهورون في غرناطة، والقلق على المصير الإنساني، هذا القلق الذي حدا بالذات المقهورة للانحراف متقنِّعة بقناعات عديدة، بعضها ينم عن خلل واضح في النفس والسلوك.
الاستهلال السردي والصراع الإنساني
استهلت ثلاثية غرناطة نصها بمشهد سردي متداخل، يجمع بين صورة الحقيقة وشبح الخيال، بين رمزيتين، رمزية تنطلق من صدق المشهد وحركته وبين رمزية تهيمن على عقل أبي جعفر من هول ما رأى وغرابته، لذا فهو يتوقف كثيرًا؛ ليستجمع ذاته بحثًا عن الحقيقة، ويتوقف معه المتلقي محاولًا فك شفرات الاستهلال السردي، يتوقف القارئ لتتحقق لحظة ” الانتظار الهيدغري للذي يجب التفكير فيه ويقال لنا إذ إن فهم نص ما هو أن نكون مستعدين لتركه يقول شيئا ما؛ لأن الوعي المشكل في التأويل يجب أن يكون مفتوحًا بسهولة على تغاير النص(6).
” في ذلك اليوم رأى أبو جعفر امرأة عارية تنحدر في اتجاهه من أعلى الشارع كأنها تقصده. اقتربت المرأة أكثر فأيقن أنها لم تكن ماجنة ولا مخمورة، كانت صبية بالغة الحسن … في وجه شديد الشحوب(7).
استهلت الرواية خطابها بنص سردي فسيفسائي دقيق، يحمل نبوءة تأكيد، ونبوءة نقض، فالاستهلال هنا يرصد الواقع والماضي برمزية معبرة، ففي البداية حيث لم يكن السقوط المدوي لغرناطة مقبولًا وغير محتمل التصديق، جاء النص ليرمز لنا به في تلك الصورة السردية شديدة المغايرة، دقيقة التأثير، ووظفت دلالة الأسماء، ” فالأسماء لا تكون بلا دلالة فهي دائما تعني شيئا ما، حتى لو كان المعنى السطحي، وتسمية الشخصيات هي دائمًا جزء مهم من عملية خلقها، (8) فأبو جعفر اسمه يشير في رمزية إلى أبي جعفر المنصور بن أبي عامر آخر الملوك الأقوياء، الذين حافظوا على وحدة الأندلس وقوتها، وكان الاستهلال بالاسم يؤكد لنا أنه كما كان أبو جعفر المنصور بن أبي عامر آخر الملوك الأقوياء، فإن أبا جعفر الرواية كان آخر جيل الأحرار في غرناطة، إن النص يأخذنا حيث المستقبل العقيم المرتبط بالماضي العريق، فمن رحم القوة، تنطلق النهاية حيث السقوط والاستعباد.
ولتزداد الصورة السردية دقة في التعبير عن الماضي والحاضر والمستقبل بدت الفتاة العارية التي رآها أبو جعفر صبية، جميلة،، تكتسي بالحزن، حزن الضياع والعبودية، رغم الشباب والجمال، وامتلاك أسباب الحياة، إنها صورة رمزية لأندلس الماضي ممثلة في الجمال، أندلس الحاضر ممثلة في الحزن، أندلس / غرناطة المستقبل ممثلة في العري.
” وقام إلى المرأة وخلع ملفه الصوفي وأحاط بجسدها، وسألها عن اسمها ودارها، فلم يبد أنها رأته أو سمعته، تركها تواصل طريقها، وظل يتابع مشيتها الوئيدة(9) .
منذ بداية السرد وجدلية السيد والعبد ورمزية الاستهلال تحلق في فضاء النص، فالمرأة العارية ما هي إلا صورة لطغيان سيد قوي، استطاع أن يفرض عليها بقوة أدواته التعري والتشرد، في ظل برودة شديدة، تؤكد رمزية المرأة / الصبية / غرناطة التي لا مفر ستسقط في قبضة السيد الجديد / القشتاليين.
وتأتي عبارة وكان الشارع مهجورًا؛ لتؤكد حقيقة الصراع ووحشته، حيث تخلى الجميع عن تلك الفتاة العارية / غرناطة وتركوها وحدها فريسة سهلة للسيد القشتالي، وبرغم محاولات أبي جعفر لسترها، فلقد ظلت سائرة في وجهتها حيث النهاية المحتومة.
” لكن الأمل والحلم بهزيمة الاستعباد ممثلا في صورة السيد القشتالي تبدد عند أبي جعفر ” عندما حكى له نعيم عن امرأة وجدوا جثتها عارية تطفو على صفحة النهر، سأله
– في حدرة أم شنيل
– في شنيل
– إذن لا مفر (10)
لم يستمر أمراء غرناطة وقادتها في المجازفة من أجل الحرية والإنسانية، استسلموا بسهولة ورفضوا أن ” يكون الإنسان – فيهم – حقًا إنسانيًا، ويختلف جوهريا وواقعيًا عن الحيوان، – كان – يجب أن تتغلب عنده فعليًا رغبته الإنسانية على رغبته الحيوانية، فكل رغبة هي رغبة قيمة. والقيمة العليا للحيوان هي حياته الحيوانية. وفي نهاية التحليل تكون كل رغبات الحيوان وظيفة للرغبة التي لديه بحفظ حياته. على الرغبة الإنسانية أن تتغلب على رغبة حفظ الحياة، بكلام آخر لا ينكشف الإنسان إنسانيًا إلا إذا جازف بحياته الحيوانية تبعًا لوظيفة رغبته الإنسانية، إنه في هذه المجازفة – التي أباها الإنسان الغرناطي- وبها يبدع الواقع الإنساني نفسه، ويفصح عن نفسه بصفته واقعًا(11)
لقد نجح القشتاليون في أن يلغوا العربي الغرناطي جدليًا، وهبوه حياته في مقابل الاستسلام وقتلوا استقلاليته، فاستسلم أمراء غرناطة وقادتها وفقهاؤها للعبودية، لقد حقق القشتالي ارتواءه باعتراف الغرناطي بقوته، وسيادته ” بكى أبو عبدالله محمد الصغير، انتحب الوزراء والقادة والعلماء ورددوا لا حول ولا قوة إلا بالله ولا راد لقضاء الله(12)
لقد استسلم الغرناطيون لواقعهم، فقدوا وعيهم بإنسانيتهم وحريتهم، فهيمن عليهم ” هذا الوعي العبودي – الذي – كان قد اعتراه الخوف ليس من أجل هذا أو ذاك، وليس أثناء اللحظة أو تلك، ولكن من أجل واقعه الجوهري الخاص بكامله؛ لأنه اختبر كآبة الموت في السيد المطلق، في هذه الكآبة، انحل الوعي العبودي داخليًا، وارتعش بالكامل في نفسه، وارتجف فيه كل ما هو ثابت ومستقر(13) وانهارت قوى الوعي الجوهري بالإنسانية والحرية والسيادة، فراح يرفع راية الحياة ضد رايات المجازفة؛ فتحقق للسيد القشتالي ما أراد عبر التفكير في الحياة والسيادة؛ فاستسلم الغرناطيون لهذه الإرادة بعد أن غلَّبوا التفكير في الموت ووعيه على التفكير في الحياة والإنسانية ووعيهما.
مات الأمل عندما مات ابن أبي الغسان الذي خرج من اجتماع الحمراء وقد قرر أن يقاتل القشتاليين، “وقاتل جموعهم وحده ولما أصابوه وكادوا يظفرون به ألقى بنفسه في النهر (14) إنه السيد الوحيد في غرناطة الذي انتصر على القشتاليين عندما جازف بحياته – وفق رؤية هيجل- واختار الوعي الإنساني والموت بديلًا عن حياة الاستعباد وفقدان الكرامة الإنسانية، ومع موته انهارت القوى واستسلمت الأنفس الغرناطية للعبودية.
“يا أبا جعفر الله يرضى عليك نحن لا نختار بين بديلين بل هو قدر مكتوب، نحن مهزومون فمن أين الاختيار ولماذا نحاربهم ألم تكفنا عشر سنوات من الحرب؟! هل تريد أن يحل بنا ما حل بأهل مالقة ونأكل البغال والحمير وأوراق الشجر؟!التسليم يرد شرهم عنا ويحفظ لنا حقوقنا.(15) .
كشف الاستهلال السردي في الثلاثية عن مصير أهل غرناطة برمزية ذات دلالة عميقة، إن الاستهلال أنار للمتلقي طريقه لقراءة النص، وأتاح له الولوج للنص الروائي عبر دلالات عميقة فلسفيًا تشمل الماضي، الحاضر والمستقبل.
العبودية
إن ” سقوط غرناطة هو الحدث المؤسس للقص، هو الزمن المحوري الذي يؤرخ لبقية الأحداث. فشخصيات الثلاثية لم تختر الرحيل أو الهجرة أو التنصير كما فعل الأغنياء وعلية القوم ورجال سلطة العهد المنصرم، على العكس فقد تمسكوا بدينهم ومدينتهم وهويتهم، فاتفاقية تسليم المدينة التي تنظم العلاقات بين السلطات القشتالية الكاثوليكية والسكان المسلمين، هي المعادل للاتفاق الخادع في الحكاية الخرافية، فقد نقض الملكان الكاثوليكيان وخلفاؤهما بنود الاتفاق وتخلوا عن سياسة التسامح واحترام ثقافة الآخر المغاير التي انتهجوها في السنوات الأولى التي تلت السقوط. تسلل الأحداث ليس إلا منحنى مستمر للتدهور والانحدار، أنتجته تداعيات السقوط والتسليم والخضوع(16) فالأحداث سارت نحو الهدف المرسوم لها من قبل السلطة القشتالية ظنًا منها أنها قادرة على هضم الآخر المهزوم، وإعادة إنتاجه فكريًا وثقافيًا ودينيًا؛ ليصبح مواطنًا قشتاليًا من الدرجة الثانية، أو بمعنى آخر ليصبح عبدًا يخدم سادته الجدد، مع محو ثقافته ودينه واستقلاليته، يحفظ لها قوة الدولة الاقتصادية والعلمية والعسكرية، بمال له من خبرات كبيرة في تلك المناحي، في مقابل أن تحفظ له السلطة حياته المنزوعة من كل القيم الإنسانية. كان تصور السلطة القشتالية قائمًا على مقدرة السيد عبر أجهزته الأيديولوجية على محو ثقافة العبد / الغرناطي، وإقناعه بالرضا بالعبودية والمواطنة الزائفة، مقابل منحه الحياة وبعض المميزات.
فمن هذا المنظور الأيديولوجي للسيد القشتالي تم وضع برنامج أيديولوجي يهدف إلى قلب الأوضاع الثقافية والدينية داخل غرناطة، وصبغها بالهوية القشتالية الكاثوليكية وجاء القص؛ ليظهر ” عملية تغيير للبنية الاجتماعية والثقافية للمدينة من خلال السيطرة العسكرية والسياسية على المدينة أولًا، ثم تغيير المكان الإنساني قسريًا(17) عبر الأدوات المعدة من قبل أجهزة الدولة الأيديولوجية؛ لإرسال رسائل العبودية وسحق الذات، ودفع العبد الغرناطي إلى الاستسلام عبر استعمار الوعي الفردي والجمعي ؛ حتى تنهار المقاومة أو على أقل تقدير يتم تهيئتهم لما هو قادم.
لقد أراد السيد فرض سيطرته على العبد الغرناطي عبر رسائله الأيدلوجية، التي تؤكد ضعفه وضرورة خضوعه للمنتصر، ذلك المنتصر الذي قهر البشرية في أقاصي العالم، وجاء بها إلى هنا؛ لتخدمه” فالقشتاليون أصبحوا ذوات الفعل في حين تحول الغرناطيون إلى ذوات الكينونة حسب تعريف جريماس Greims، ذات الفعل هي التي تملك أنماط الفعل، وتنظم وتنفذ البرنامج السردي، في حين أن ذات الكينونة ليست إلا حاملة للصفات والقيم والأنماط التي تميزها، أو محرومة من هذه الصفات إثر تحولات قامت به ذوات الفعل المتصارعة، تقلصت مساحات القدرة على الفعل لدى أهل غرناطة وأصبحوا ذوات الكينونة: ذوات تميزها الإرادة، فهم يريدون استرجاع مدينتهم والمحافظة على الهوية الثقافية لمجتمعهم؛ وذوات عارفة، تعرف نفسها ووضعها كما تعرف أهداف الضد، وأخيرًا ذوات عاجزة عن الفعل، هذا الوضع الذي سيحاولون تغييره في بعض الأحيان من خلال برامج سردية جماعية وفردية تدفع بالأحداث(18)
إن وعي السيد بهذه الإرادة الفاعلة التي قد تتمرد في بعض الأحيان؛ هي التي دفعته إلى إرسال رسائله الأيديولوجية لسحق أي إرادة لدى الغرناطيين، فالخطاب السردي يصف صور أهل البلدان المفتوحة أو العالم الجديد ” يمشون بخطى وئيدة” تؤكد الانكسار والاستسلام، فلا مفر من الانصياع لهذا السيد القوي المتجبر، ” وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم يحيط بهم الحراس من الجانبين” إنها القوة التي تقتل أي إرادة تفكر في تغيير الوضع، تقييد للأيدي، حراس لإضفاء مزيد من الهيمنة، تتعالى الضحكات، ضحكات القشتاليين المزهوة بهذا الانتصار/ الاستعباد للمخلوقات البشرية الجديدة” ولكن بعض القشتاليين كانوا يضحكون التفتت سليمة إلى سعد ما الذي يضحكهم، كانت الضحكات قد فاجأت سعد أيضا وأربكته ثم استفزته(19)” إن هذه الضحكات أثارت حفيظة الأجيال القادمة في غرناطة أرض العبيد الجدد. حلَّقت هذه الضحكات معلنة سطوتها على المشهد وعدم اكتراثها بأي قيمة إنسانية مفقودة لدى الآخر / الضد المستعبد، فحرَّكت القلق لدى سليمة / سعد وأعادتهما للواقع العبودي المتمثل في موكب عبيد العالم الجديد.
جثم الخوف والقلق في قلوب الصغار الأربعة ورحلت علامات البهجة واستعمرتها علامات الحزن والبؤسلقد وصلت الرسالة جيدًا إلى الصغار، وشاهدوا صورهم في ملامح أهل العالم الجديد، كان الموكب موكب أهل غرناطة المستعبدين، انقلبت الصور وتبدَّلت الملامح فصار الكل: أهل العالم الجديد وأهل غرناطة عبيدًا يسيرون في موكب السادة الجدد، ولذلك قررت سليمة الرحيل ” قالت سليمة :لم لا نرجع للبيت؟”(20)؛ لأنها رأت نفسها في موكب العبيد فقررت الهروب من الواقع المرير.
” ليس أمرًا بسيطًا أن نرى انهيار الموقف والبنية الواعية عند كائن إنساني، إنها نهاية حقيقية للعالم بشكل مصغر، إذ يتشكل لدى الشخص انطباع بأن كل العناصر التي كانت تؤلف حياته قد ارتدت إلى شكل من العماء البدئي، ويشعر أنه منبوذ وتائه ومقهور إلى أقصى درجة، إنه يمثل مركب بلا دفة تتقاذفه هيجانات العناصر. هذا على الأقل ما يبدو أنه يحصل وانطباع الشخص عنه. ولكن التجربة تظهر أن الحقيقة مختلفة قليلًا: في الواقع، لقد ارتد الكائن الذي هجره وعيه إلى مستويات لا وعيه الجماعي التي استسلم لها والتي تتحمل من الآن فصاعدا تحديد الوجهة(21). انتقلت الرسالة من الوعي الفردي إلى اللاوعي الجمعي، تداعت الذكريات لدى سعد، ليستحضر صور الماضي القريب الذي نساه أو تناساه، حيث سقوط مدينته ” مالقة ” واستعباد أهلها عبر قوة غاشمة مغتصبة.
” ساروا بصمت في طرق جبلية غربت شمسها، فغامت الألوان على التلال لتخبو وتسلم نفسها لليل وشيك(22) إنه العماء البدئي، إنه ظلام الاستعباد والهزيمة التي ارتسمت في سماء مدينة غرناطة. ” وكان سعد يُحدِّق في موكب الأسرى الذي ذهب، ترى هل حاصروهم من البر والبحر كما حاصروا مالقة، هل جوعوهم حتى أكل من جرؤ لحم حصانه، هل قصفوا بيوتهم واقتحموها عليهم واقتادوهم أسرى(23).
لقد عاش الغرناطي المهزوم نفسيًا في الموكب الذي رآه، موكب عبيد العالم الجديد، واستحضر مع الموكب صور الماضي، حيث عالم العنف المفروض عليه من السيد القشتالي، الذي تعاونت معه الطبيعة، فبات هذا الإنسان الغرناطي / العبد يحيا في عالم الضرورة، فقد السيطرة على مصيره. فالأم تعلن عن قرب موت الصغار جوعًا، والأب العاجز يصيح محاولًا استجماع كرامته وكبرياءه أمام صغاره ” والله العظيم لست جائعًا”(24) .. ثم ينهار حيث المصير المؤلم القادم؛ فيبكي خوفًا على صغاره، حصانه، زوجته، نفسه. تحاول الأم أن تجلب الحياة لصغارها، زوجها، نفسها، وتحفظ الحصان، وهي تحيا في عالم الضرورة “فتطحن سعف النخيل، وتطبخ أوراق العنب الجافة(25)؛ إنها تحفظ الحياة للجميع؛ لكنها لا تضمن لهم الحرية / الكرامة الإنسانية. يصور السرد مالقة وموكب العالم الجديد؛ ليرسم صورة واقعية لمستقبل غرناطة، وعبَّر السرد بالصغار الأربعة؛ لأنهم يمثلون جزءًا أصيلًا من مستقبل غرناطة وأهلها، بل هم الفاعلون مستقبلا.
أرسل السيد رسائله للعبد كي يحطمه نفسيًا، ويهيئه لتقبل واقعه الجديد، ونجحت هذه الرسائل في اتحاد الوعي الفردي والجمعي واستحضار صور الهزيمة في مالقة والعالم الجديد. لقد صنع السيد عالمه الجديد عبر أجهزة دولته الأيديولوجية التي صنعت قهرًا إنسانيًا للمستعبد، لذلك لجأ السيد إلى اختبار قوة العبد ومدى إرادته وجرأته في مقاومة أساليب الاستعباد، ومن خلال هذا الاختبار يحدد كيفية التعامل مع الغرناطي مستقبلًا
رسمت الرواية الواقع التاريخي لمسلمي غرناطة تجاه اختبارات السيد القشتالي، الذي حاول اختباره عبر تحطيم قدسية المرأة / العرض / الشرف، وتمثل هذا في محاولة الاعتداء على فتاة بكر، في وضح النهار، “لم تملك الركض ثانيًا كان أحدهما قد طوقها بذراعه وأمسك الآخر بجديلتها ولفها كالحبل حول قبضته(26). وكأن السيد يسعى لتدمير الذات / الإرادة لدى الغرناطي؛ حتى يقضي بداخله على كل قيمة وقدسية تدفعه للمقاومة مستقبلًا. إن هذا الاختبار كان يرسم بوضوح عبر السرد الروائي الفعل القشتالي ورد الفعل الغرناطي تجاه الامتهان المتعمد، وسحق الاستقلالية والحرية، وقتل القدسية لدى الإنسان / العبد، ثم يرسم السرد ردود الفعل القشتالية وفق مجريات الأحداث حيال تمرد العبد.
كان الاختبار القشتالي مباغتًا للفكر والمخيلة العبودية، لذلك جاء رد الفعل تلقائيًا، لكنه تطور وفق مشيئة فردية رسمها السرد الروائي بدقة، أدت إلى تصاعد وتيرة الأحداث، اختبر فيها العبد / الغرناطي قوته وإرادته، واستطاع ابتداء أن يحقق مكاسب كبرى، تمثلت في قتله لأحد المعتدين على شرفه، ومحاصرة بيت الكاردينال، وتحطيم نوافذه، وتكوين حكومة الأربعين لحكم غرناطة وتسيير أمورها. إن الاختبار العبودي نجح في توحيد العبيد / الغرناطيين وتجرؤهم على سيدهم القشتالي، في ثورة توازي ثورة العبيد بقيادة سبارتكوس. لكن التفكير في الموت لا التفكير في الحياة دفعهم إلى التراجع والاستسلام. كان هذا التراجع والاستسلام بمثابة النهاية الحقيقية لغرناطة وأهلها، فسرعان ما تأكد السيد من قوته واختياره للحياة، ووضع يده على موطن الضعف عند خصمه العبد / الغرناطي، فراح يمارس سطوته بقسوة، كان يضرب بقوة وعنف؛ لأنه أيقن أنها الجولة الحاسمة الفاصلة بين السيادة له والعبودية لخصمه.
” قوات كبيرة تفوقنا عددًا وكانوا مسلحين ولم نكن … رحنا نتشاور هل نقاتلهم، ونحتسب أنفسنا عند الله شهداء …. تشاورنا ثم قررنا فك الحصار(27).
رصد السرد الروائي صورتي السيد والعبد، كلاهما وقف عند ذات الدرجة في الصراع، لم يفرق بينهما سوى فرق واحد، لكنه جوهري، في تفاوت القوة، الجرأة، الإرادة. كان السيد محملًا بطاقة أكبر، ورغبة أكيدة في التضحية من أجل السيادة، من أجل إعلاء مصلحته الخاصة في الحياة، وبما أن هدفه متجدد فإن جرأته أكبر وأكثر تجددًا من رغبة العبد / الغرناطي المحدودة، وعشوائيته التي بدت بلا هدف واحد. بدا العبد متخبطًا في رؤيته وإرادته، لم يكن يدري ماذا يفعل تجاه اختبار السيد؛ فانهزم سريعًا عندما ظن أن تراجعه كفيل بتحقيق نجاحه في نيل بعض مطالبه. لم يكن هدف العبد / الغرناطي تحقيق حريته واستقلاليته بقدر ما كان تعبيرًا عن رضاه بالعبودية والاستسلام للسيد في مقابل أن يتركه يعيش عبدًا في هدوء. أيقن السيد هذا الضعف داخل العبد؛ فراح يمارس سطوته عبر الأساليب الأيديولوجية المتمثلة في القوة، العنف، المراوغة، الخداع ” كان سعد الذي رافق الشباب إلى بيت الكاردينال هو الذي طرح السؤال” هل أخطأنا” لم يجب عن سؤاله أحد، وإن كانت العيون قد جاوبت شكه بنظراتها الحائرة(28) .
تمرد العبد الغرناطي في لحظة جرأة فارقة في مصيره العبودي، في لحظة كادت أن تحقق معادلة المجازفة والسعي للحياة، التي لو نجحت لحسمت الأمر لصالحه واقتنص حريته، لكنه في اللحظات الفاصلة هيمن عليه القلق المميت، فلم يستطع أن يحقق وعيه بحريته واستقلاليته، لم يستطع أن ينتبه إلى قيمة الوجود الحر؛ فتهاوت عزيمته، وارتبكت الإرادة؛ وراحت الألسن تتساءل ” هل أخطأنا؟” إنها بداية العبودية الحقيقية. لقد فقد الغرناطي إحساسه بذاته ووعيه الحر؛ فتنازل عن استقلاليته.
أكد السرد الروائي حقيقة أن التاريخ الإنساني هو تاريخ الرغبات المرغوبة، ” فالرغبة الإنسانية تميل إلى إشباع ذاتها عبر فعل سالب بل محوَّل ومستوعِب ويتغذى الإنسان بالرغبات كالحيوان الذي يتغذى بالأشياء الواقعية(29) فالسيد يرغب في تحقيق انتصاره الحاسم في صراعه في معركة اختبار العبودية؛ فقرر أن يوظف أيديولوجيته؛ لتحقيق أهدافه المرحلية التي حددها في برنامجه المعد سلفًا للهيمنة على العبد، ودفعه إلى الاعتراف به والاستسلام له. لجأ السيد إلى حيلة الكذب البريء أو التسامح الظاهري المؤقت، وأبدى استعداده لقبول شروط الآخر / العبد / الغرناطي والتعايش السلمي واحترام ذاته الإنسانية وكرامته وشرفه.
” قال الكونت: لنعش معًا في سلام … ولتكن هذه أزمة عابرة، ما قمتم به ليس تمردًا على ملكي قشتالة .. أردتم تنفيذ بنود المعاهدة وهذا ما نضمنه مستقبلًا(30) عرض الكونت التعايش السلمي، وقرر أن ما فعله الغرناطيون ليس تمردًا من قبل العبيد على سادتهم، إنما هو فقط رغبة في تفعيل بنود معاهدة التسليم بالعبودية عبر التركيز على عبارة ليس تمردًا على ملكي قشتالة” إنه يؤكد حقيقتهم “العبودية”، ويذكرهم بحالهم المهزوم؛ ليدفعهم إلى التراجع وقتل الإرادة الداخلية لدى الشباب المتحمس للنزال لتحقيق الحرية الإنسانية، ومع إثارة الواقع العبودي من قبل السيد لدى المهزوم جاء رد الفعل ليؤكد الواقع الجدلي المتمثل في صراع الإنسانية داخل العبد ” قالوا : ومن يضمن؟(31).
إن الغرناطي يسعى لتحقيق ضمانة برفع سيف السيد عنه؛ لأنه فكَّر في الموت ولم يفكر في الحياة؛ لأنه نسي أن قوته وإرادته هي التي فرضت على السيد أن يفاوضه ويحتال عليه.
” قال كبير الأساقفة
– أنا أضمن.
– سأجعل زوجتي وأولادي يسكنون هنا بينكم في البيازين … ألا يكفي هذا الضمان؟! (32)
عجز الغرناطي عن الاستمرار والمجازفة بحياته لتحقيقها؛ فارتدت العاصفة تجاهه؛ لتدحره وتدفعه مرة أخرى إلى الحيرة التي دأب عليها منذ بداية علاقة القهر والرضوخ، للواقع المهزوم.
” طالب القشتاليون بدم بارينفويفو؛ فأطاعهم القاضي بتسليم قاتله. ولكنهم عادوا فألقوا القبض على ثلاثة غيره، وعُلِّقت المشانق، وتدلَّت على الملأ أجساد أربعة من الشباب. (33)
بقي الخصمان بعد الصراع الجدلي حول السيادة والعبودية على قيد الحياة، ” وليس ذلك ممكنًا إلا بشرط أن يسلكا في هذا الصراع على نحو مختلف، فإنه عليه أن يتقوما، كإنسانين غير متعادلين بواسطة أفعال حرية لا تختزل، بل لا يمكن توقعها ولا استنباطها عبر هذا الصراع عينه وبه، على أحدهما من غير أن يكون إطلاقا معدًا سلفًا فيه، أن يخاف من الآخر، وعليه أن يتنازل للآخر، عليه أن يرفض المجازفة بحياته في سبيل إرواء رغبته بـ ” الاعتراف”، عليه أن يتخلى عن رغبته ويشبع رغبة الآخر: عليه أن يعترف به من غير أن “يُعترف به من قبل هذا الآخر. إذن فإن الاعتراف به هكذا، هو اعتراف بصفته سيِّده والاعتراف بنفسه، وجعل نفسه معترفًا به كعبد للسيِّد(34)
القهر .. اليأس والإلحاد
لقد عرض النص السردي لنتائج العبودية المفروضة على الإنسان، بوصفه إنسانًا دون أية أبعاد أخرى دينية، عرقية، نوعية، رغم كونها ترصد تاريخ جماعة إنسانية مسلمة، عانت القهر والاستعباد، أقول رغم كل هذا فإن الرواية كانت تناقش جدلية السيد والعبد ونتائجها بمنظور إنساني، منطلقة من الخاص إلى العام ومن العام إلى الخاص.
رصدت الرواية حياة أناسي عاشوا مجدًا حضاريًا في لحظات أفوله ورحيله للأبد، وصوَّرت كيف تلقى كل إنسانٍ من هؤلاء هذه الصدمة، وتعايش معها بالسلب أو بالإيجاب. كانت أولى هذه الشخصيات، هي شخصية أبي جعفر الورَّاق، التي بدت في الرواية شخصية مضطربة قلقة، تراوح بين الأمل المفرط المتمثل في تربية الأحفاد وتعليمهم رغم ضيق المعيشة والعوز الذي يعاني منه الجميع، وبين الخوف من الغد والصراع الداخلي واللوم المتكرر للنفس، ولأهل غرناطة في وقوفهم ومساندتهم لهذا الأمير الخائن المستسلم.
رأى أبو جعفر التغير السريع المتلاحق على المدينة، رأى عمليات البيع والشراء، رأى كل هذا وكان وعيه يحترق بفعل اللاوعي التاريخي للمجد الذي عاشه قبل هذه الأيام ” هرج ومرج ركض محموم، بيوت، ضياع وجنات ومحفوظات ثمينة، وسيوف أورثها الأجداد وأجداد الأجداد” اشتري يا أبا جعفر، فالثمن بخس والشراء مكسب(35) يتأمل أبو جعفر حركة المدينة الصاخبة في رحلة الأفول النهائي للحضارة الإسلامية وغيابها واستعباد أهلها. لم تعد هذه المدينة في ألقها كما اعتاد أن يراها؛ لأنها اليوم ترتحل معلنة رحلة الاعتراف بالهزيمة والاستسلام للعبودية.
رأى “الأمراء يتنصرون. سعد ونصر ولدا السلطان أبي الحسن سميا نفسيهما الدوق فرناندوا دي غرانادا والدوق خوان دي غرانادا، وزاد سعد على أخيه درجة؛ فالتحق بجيش قشتالة مقاتلًا في صفوفه (36)
في رحلة أبي جعفر نحو اليأس المطبق تتحلى روحه بالسخرية والأسى الموجع، إن الحالة النفسية للذات المقهورة تكاد أن تنفجر، لولا بقايا الكبرياء والكرامة التي يتحلى بهما الرجل الطاعن في السن، يعيش أبو جعفر ” في عالم من العنف المفروض. عنف يأتي من الطبيعة وغوائلها، التي لا يستطيع لها ردعًا، والتي تشكِّل تهديدًا فعليًا لقوته وأمنه وصحته… هذا العنف يجعله يعيش في عالم الضرورة، في حالة فقدان متفاوت في قدرته للسيطرة على مصيره. إنه اعتباط الطبيعة عندما تقسو دون أن يجد وسيلة لحماية ذاته، للشعور بالأمن إزاء ما تشكله من تهديد، إنه يفتقر إلى سلاح للمجابهة، ولذلك تبدو أخطار الطبيعة مضخمة وبالقدر نفسه تتضخم مشاعر عجزه وقلقه(37)
كان أبو جعفر يتفقد عمائر المدينة، مدارها وجوامعها وروابطها وزواياها وأرباضها وحدائقها؛ كأنما يتعين عليه أن يرسم تفاصيلها ويحيط. يخرج من بيته ويعود ثم يخرج، لا يتبادل حديثًا مع أحد وإن حكمت الضرورة ينطق بكلمات مقتضبة لا يزيد.(38).
” تلك هي حال الإنسان المقهور فإزاء عظم قوى القهر والتسلط من ناحية واعتباط الطبيعة من ناحية ثانية، وإزاء العجز عن المجابهة وانعدام القدرة على التغيير؛ يتعرض توازنه النفسي لهزات شديدة، واعتباره الذاتي للانهيار ويبدو الحاضر مؤلمًا يحمل المرارة والبؤس(39) جاهد أبو جعفر نفسه وقاوم كل عواتي الحياة الجديدة، ارتكز إلى حفيديه يتلمَّس فيهما الأمل والرغبة في الحياة، لكن الانهيار النفسي والوهن البدني، كانا قد تمكنا منه _فقط _ كان ينتظر النقطة الحاسمة؛ ليعلن الرجل انهياره التام. كان المشهد الأول في المحطة الأخيرة للرجل حين شاهد تنصُّر حامد الثغري، وبدأ الانهيار، فلم يتمالك نفسه وأعلن ضعفه أمام الصغار.
التفت إلى أبي جعفر فراعته دموع تنسال غزيرة من عينيه كأنه ولد صغير، كرر سعد وهو يحيط كتف أبي جعفر بذراعيه. قم يا جدي (40)
وقع أبو جعفر فريسة لليأس العبودي الذي فرضه السيد عليه، لكن هذا الرجل القوي ما كان ليستسلم بسهولة، وما كان ليعلن اعترافه بالسيد وبكونه عبدًا؛ لأنه عاش جلال الحضارة المادي وأجواء الإيمان.
كانت لحظات التحدي الأكبر لقدرته هي اللحظات التي أعلنوا أنهم سيحرقون الكتب، كان هذا هو التحدي الأكبر للرجل ” قال نعيم إنهم يكدسون ما استولوا عليه من كتب في باب الرملة، إنهم سيحرقون الكتب! لبس أبو جعفر مركوبه وخرج مهرولا وراء نعيم(41) خرج الرجل مهرولًا بحثًا عن الحقيقة _فيما يقول نعيم_ خرج وكله أمل في أن يخطئ الصبي؛ لأنه لم يكن ليقوى على رؤية حرق تاريخه، الذي سعى بقوة للحفاظ عليه ” كان أبو جعفر قد اتفق مع زملائه في حارة الوراقين على نقل الكتب تحت جنح الليل إلى بيوتهم، ثم نقلها بعد ذلك في وضح النهار إلى المخابئ الدائمة(42) غامر الرجل بحياته في سبيل حفظ التراث والحضارة والتاريخ، فكيف تأتي لحظة يرى كل تاريخه يُحرق أمامه، إنها أقسى ممارسات القهر النفسي تجاه هذا الرجل، وهذه الأمة، لحظات قرر فيها السيد محو تاريخ العبد من الوجود. أمام هذه الأزمة الوجودية لم يملك الإنسان المستعبد المقهور حلا سوى الحضور والغياب، التواري عن الكارثة؛ والهرب بعقله وفكره مما يرى ” كان أبو جعفر يحدِّق في المشهد، ثم يغض الطرف ثم يعود يحدِّق ويتمتم بكلام غير مفهوم، لا يعي قبضة سليمة المشدودة على يده، ولا أظافرها المغروسة فيها، ولا صوتها وهو يكرر ملحًا مكررًا السؤال لن يحرقوا الكتب يا جدي(43).
قصد السرد الروائي الهيمنة التامة على عقل أبي جعفر؛ فحاصرته عربات الكتب القادمة من كل مكان في غرناطة؛ وكأنها تخاطبه هو، بأنه لم يعد هناك مفر سوى الاستسلام لليأس، لا مجال للهروب” يقرب المزيد من العربات من الشمال والشرق، والغرب من جهة البيازين والمارستان من جهة الحمراء وغرناطة اليهود ومن جهة المدرسة والجامع الأعظم(44).
قرر أبو جعفر العودة للتاريخ هروبًا من الواقع المحترق الذي عاشه في أخريات حياته، لا ليستنهض الهمم المقاومة للعبودية، إنما عاد له ليبكي حاله مع حال تاريخه المحروق في ميدان الرملة.
إنها مفارقات القدر كتب تُحرق – دماء حضارية تسيل، جروح في تاريخ الوجود، ودين محاه السيد من الوجود ” بتحويل المسجد إلى كنيسة. انتهى التاريخ / الحضارة / أبو جعفر إلى مصطبة حجرية / قسوة السيد وطغيانه وآلام العبودية وقهرها، مصطبة حجرية لا تشعر بأحد ولا تتعاطف مع أحد، بل لا تشعر هي بوجودها في هذا الكون، يستخدمها ولا تعترض، تعيش في ظل كل الأوضاع ولا تشعر؛ لأنها صارت منذ الأزل عبدة لا تقوى على الفعل، إنما فقط اعترفت بوضعها وفقدت كل إحساس بالوجود. وظل جالسًا بلا حراك حتى غروب الشمس ” غروب شمس الحضارة، التاريخ، الحياة، لقد أعلنت الشمس الذهبية للحضارة الإسلامية وللوطن ولحياته الرحيل.
” قبل أن يأوي إلى فراشه في تلك الليلة قال لزوجته، سأموت عاريًا ووحيدًا لأن الله ليس له وجود ومات”(45) لقد مارس السيد جبروته وقسوته على الإنسان / العبد؛ ليعترف بوجوده سيدًا، هذا العنف والقسوة دفعت البعض إلى اليأس والإحباط ورفض الاستسلام والاعتراف بالسيادة له، لكنهم كفروا بوجودهم وحياتهم وقرروا الرحيل للموت دون الاعتراف به سيدًا.
لم يكفر الرجل بالله ولا بدينه الذي عاش طيلة عمره يعبده ويمارس طقوسه، إنما أنكر في تلك اللحظات العصيبة مساندة الله له ووجوده بجانبه. أنكر أبو جعفر وجود الله حاميًا ومعينًا له ولحضارته ولدينه كما كان من قبل. لم تكن عبارته “سأموت عاريًا لأن الله ليس له وجود ” تعني أنه أنكر ربوبية الله بقدر ما كانت تأكيدًا ليأسه وإحباطه معلنًا تخلي الله عنه، وتركه وحيدًا فريسة للسيد
لم يكن – فقط – أبو جعفر هو الذي سقط فريسة لليأس والإحباط، إنما كانت أم جعفر كذلك وقعت فريسة؛ لكنها كانت تستقوي عليه بالتمسك بالحياة انتظارًا لعدالة السماء التي لم تخيِّب رجاءها وجاءتها على لسان نعيم” أن الملكين قبل وفاتهما قد فقدا أكبر أولادهما الأمير دون خوان ثم لحقته الأميرة إيزابلا شقيقته الأصغر،… إذن فالله قد عاقبهما فما قيمة أن يكسب الإنسان حروبًا ويوسِّع مملكته إن فقد فلذة كبده؟ كان الكلام الذي نقله لها نعيم يثلج صدرها ليس لأنها تتشفى في هذين الملكين اللذين أذاقا كل “أهل غرناطة حنظل المرار، ولكن لأنها كانت قد وجدت أخيرًا عدالة من السماء، أرَّقها غيابها، وملأها بشك كان يداهمها أحيانًا متقمصة صوت أبي جعفر بعد حرق الكتب، فتدرأها بعيدًا عنها وهي تستغفر الله.(46)
تماسكت أم جعفر وتحملت وطردت اليأس والقنوط منتظرة عقاب الله للسادة المتجبرين، والانتقام لأبي جعفر الذي مات قهرًا تحت وطأة طغيانهم. كان أبو جعفر وزوجته وزوجة جعفر ” زينب” يمثِّلون الجيل الذي شاهد جلال الحضارة الإسلامية وعظمتها، وعاش جُل عمره في كنفها آمنًا مطمئنًا مزهوًا بتاريخه وحضارته، هذا الجيل الذي ما كان ليتقبل الخنوع والاستسلام والاعتراف بعبوديته وسيادة القشتاليين عليه. لقد كان رحيل هؤلاء يمثل حالة الانفصام الحضاري والتاريخي بين جيلين: جيل الحضارة والازدهار وجيل وُلد؛ ليعاصر السقوط، الرحيل، العبودية وتعايش معها دون المجازفة بحياته لتحقيق استقلاليته وحريته وكرامته، يمثِّل هذا الجيل حسن ومريمة ونعيم وسعد وأبناؤهم.
لقد كانت الرؤية الفلسفية للرواية عميقة في تصويرها لتعاقب الأجيال وانفصالها الإنساني والوجداني، وفي تصويرها كذلك في حالة القطيعة التي حدثت فجأة بين جيل جلال الحضارة، وجيل الهزيمة والعبودية، هذا الجيل الذي أصابه اليأس والإحباط، لكنه تمسك بالحياة ولم يتركها بسهولة كما فعل أبو جعفر، أم جعفر، أم حسن.
(4)
صراع الهوية
مثلت الرواية – كما ذكرنا سلفًا- ساحة للقتال بين إنسانين يسعيان للحياة، أحدهما قرر أن يسود وجازف بحياته ووجوده في سبيل أن يعترف به الإنسان الآخر، والآخر غلب عليه التفكير في شبح الموت؛ فتنازل عن وجوده الحر، وقرر الاعتراف بالآخر سيدًا وبنفسه عبدًا. لكنه ظن أن هذا الاعتراف سيضمن له الحياة محتفظًا بوجوده النفسي، الديني والثقافي، ولم يع أن الاعتراف باللاإنسانية يعني التخلي التدريجي عن كل مقدساته ومعتقداته، التي تُسِّير حياته، إذ إن السيد الجديد لا بد وأن يحاول تغيير العبد، ومحو ثقافته ودينه الذي قد يعوق مستقبلًا الاعتراف به؛ لذلك فإن السيد سيلجأ إلى مجموعة من الأساليب الأيديولوجية العنيفة؛ ليضمن لنفسه السيادة، وللعبد الانصياع التام له، عبر استعمار تام للوعي، وسحق للموروث الديني والثقافي.
بدت ثلاثية غرناطة بسرديتها وخطابها الفلسفي ميدانًا للصراع حول البقاء، صراع أزلي ابتدأ مع وجود الإنسان على الأرض، وُظِّفت فيه كل الإمكانات المتاحة لمحو الآخر، ودفعه للاعتراف، وربما هذا ما برر للقشتالي السيد قهر العبد الغرناطي قهرًا لا إنسانيًا؛ لأنه كان يرى – من خلال جدلية السيد والعبد – أن احتفاظ العبد الغرناطي بدينه أو ثقافته يعد تهديدًا وجوديًا له ولدينه بوصفه دينًا مهيمنًا، خاصة وأن القساوسة صوّروا له أن محو الآخر يعد عملًا دينيًا وجوبيًا، فلن تسود روح المسيحية دون الخلاص من هؤلاء المسلمين وتحويلهم للمسيحية الكاثوليكية.
(1/4)
رصد السردُ الروائي الخطابَ الإقصائي للآخر عبر تحطيم نفسيته وثقته بنفسه وبقادته وزعمائه -الذين طالما رفعوا رايات المقاومة ضد العدو القشتالي / السيد-، من أجل مزيد من كسر الإرادة الدينية للغرناطيين، فلقد سارع الخطاب الروائي برصد تنصِّر الوزيرين اللذين قاما بالتفاوض مع القشتالي المنتصر، هذا التفاوض الذي أدى في النهاية إلى الاستسلام للعدو.
بادرت تلك المحاولات الأولى للتأكيد على أنه لا بقاء لدين في غرناطة سوى المسيحية الكاثوليكية، فبث السيد الأخبار عبر الشائعات النفسية أو ما يعرف بالحرب النفسية؛ لتهيئة الأجواء لإحكام سيطرته على المدينة والإنسان بداخلها، لكن إحكام السيطرة العسكرية قد تحقق عبر بنود التسليم الواردة في المعاهدة، ويبقى الإنسان المسلم محورًا لتدقيق السيد، لذلك لجأ لبث الشائعات، بعضها حقيقي والآخر كاذب؛ يهدف للتضليل ودفع العامة من المسلمين لتصديق كل ما يعلنه فيما بعد.
” ورغم أن المنادي لم يعلن ولا إمام المسجد أشار إلى تفاصيل اجتماع الحمراء الذي أقر المعاهدة، فقد عرف أبو جعفر كغيره من أهل المدينة ما دار فيها (47)
إن هذه الحرب الدينية النفسية القاصدة إلى زعزعة الإيمان وتهيئة النفوس الدينية؛ لتقبل القرارات القادمة، تؤكد وعي السيد بحقيقة العبد وطريقة تفكيره، لذا قرر مواجهته عبر أسلحة أيديولوجية نفسية، تدفعه في نهاية الأمر إلى الاعتناق الديني للمسيحية الكاثوليكية، كل هذه البرامج النفسية الموجهة للغرناطيين استطاعت أن ” تنتج اختلال التوازن الوجودي وانعدام تحقيق الذات، حالة مفرطة من التوتر وانعدام الاعتبار الذاتي(48) سيطرت على تفكير الغرناطي ووجدانه، لذلك بادر السيد القشتالي بالمواجهة النفسية المباشرة لكسر الإرادة قبل الإعلان عن قراراته الحاسمة.
” كان أمر المعاهدة السرية بين أبي عبدالله محمد الصغير والملكين الكاثوليكيين قد افتضح وشاع، سلمهم الملك الصغير مفاتيح الحمراء، فكافأوه بثلاثين ألف جنيه قشتالي، وبصون حقه الأبدي في ملكية قصوره وضياعه وممتلكات أهل بيته … عاشوا يومهم تثقلهم مرارة اكتشاف أنهم بيعوا كقطيع أبقار أو غنم(49)
إن هذه الرسالة النفسية كانت كفيلة بالإحباط واليأس ودفعهم إلى التخلي عن الدين والثقافة والوطن بسهولة، لكن الغرناطيين المحبطين ظلوا متمسِّكين بدينهم راضيين بالعيش في وطنهم، في ظل هذه الظروف القاسية، أو متمسِّكين بدينهم راحلين عن وطنهم إلى أن يشاء الله بالعودة. ” رأوا الهجرة الجماعية للأشراف وعلية القوم والأغنياء”(50) لكن الضربة النفسية الموجعة، الكفيلة بتغيير وجهات النظر ودفع العامة الذين لم يرحلوا من مدينتهم إلى التشكك في وجودهم الديني كانت تنصُّر القادة والأمراء ” رأوا الأمراء يتنصرون سعد ونصر ولدا السلطان أبي الحسن … والوزير يوسف بن كماشة (51)
قرر السيد القشتالي المواجهة النفسية لسحق ما تبقى من إرادة دينية إسلامية، ولإشعارهم أن دينهم الذي يتمسكون به خطأ يحق التبرؤ منه، وأن المسيحية الكاثوليكية هي الحق الوحيد الذي يجب اتباعه.
” نادى المنادي في الناس أنه سيفرج عن حامد الثغري، فمن أراد من الأهالي رؤية الرجل رأي العين والتأكد؛ فليتوجه في اليوم التالي إلى كنيسة سلفادور؛ لأن الدخول مشاع والفرجة للجميع(52).لقد تركت الأيديولوجية القشتالية الباب مفتوحًا أمام توقعات الغرناطيين المسلمين، كل منهم يتصور حامد وموقفه، والإفراج عنه وفق تصوراته وخيالاته، حتى تأتي اللحظة الحاسمة التي توجه الأيديولوجية القشتالية سهامها تجاه العقيدة الإسلامية داخل نفوس الغرناطيين.
انطلت الحيلة الأيدولوجية على أهل غرناطة، وقرَّروا المشاركة في احتفالية الإفراج المزعوم عن زعيمهم ورمزهم حامد الثغري، هذا الزعيم الرمز الذي وُظِّف كي يُحدث الصدمة النفسية الأيديولوجية في الذات الغرناطية المسلمة بهدف هزيمتها وإجبارها على الاعتراف بالمسيحية الكاثوليكية.
أراد السيد أن يؤكد على ضعة الإنسان المقهور وجهله وتأخره، ويغرس هذه الصورة في نفسه غرسًا من خلال عملية تبخيس دائبة، تحاصر ذلك الإنسان من كل الجوانب. “تحط من قدره وتسفِّل كل ما يمتّ إليه بصلة، تراثه، عاداته، قيمه، إمكاناته، سادَّة أمامه كل آفاق التغيير والارتقاء بوجوده، وقد يصل الأمر إلى حد التدمير المنظم لذات الإنسان المقهور ولتراثه – الديني – لحشره في الطريق المسدود، الذي لا خروج منه إلا بالرضوخ، أو الاستلاب من خلال الذوبان في عالم المتسلط، وبقدر ما يحط من قدر هذا الإنسان المقهور يحاول المتسلط تضخيم أهميته، وتفخيم عالمه وانتماءاته وأدواته. إنه ينخرط في عملية استعراض لقدراته على كل صعيد( قوته، إمكاناته، بطشه، تقنياته ) بشكل يبهر الإنسان المقهور ويُدخل اليأس في نفسه من أماكن التصدي والتساوي(53) مارس القشتالي كل هذا مع العبد الغرناطي، في مشهد تصويري سردي، قصد فيه الخطاب إلى رسم الصورة بدقة متناهية؛ ليبرز كل خلجات الأنفس المضطربة، لدى الغرناطي، بدأ هذا من لحظة الجلوس في باحة المسجد” في صفوف متراصعة يتطلعون وينتظرون” حتى ظهور حامد الثغري وصورته المأساوية” شديد النحول، يرتدي ملابس رثة، كان مقيد اليدين والقدمين مطاطئ الرأس متعثر الخطى” إنها الرسالة النفسية للحضور، وكأن الخطاب الروائي المتمثل في رؤية السيد يؤكد للغرناطي المتلقي مصيره إن هو أصرَّ على الاحتفاظ بدينه، وعارض مشيئة الرب / الإمبراطور / الكنيسة ” ظهر الكاردينال خيمنيث في ثوبه الأسود الضافي”(54) مفارقة تصويرية بين شخصين حامد / خيمينث تعكس مدى الفارق بين رجلين عبد / وسيد، بين دينين إسلام / مسيحية بين عالمين الحضارة الإسلامية الآفلة / عالم الحضارة القشتالية القادمة.
ثم تنطلق المؤثرات التصويرية والصوتية لتمنح مزيدًا من السيادة للقشتالي والعبودية للمسلم حامد ” تكلم يا حامد ” نبرة الاستعلاء والقوة والمجد، وفي المقابل التصويري لحامد ترسم صورة تعبر عن الواقع ” نظر حامد إلى الحشد، ثم أطرق، ثم عاد ينظر نظرة زائغة مضطربة” وجدت الصورتان صدى قويًا لدى الحضور الذي تحرك بداخلهم القلق والتوتر واستحضرت العبودية أدواتها بداخلهم” كبح الناس أنفاسهم ” وبدت علامات الضعف والاعتراف بالعبودية لدى حامد ” قال حامد بالأمس .. قال أحد الحراس ارفع صوتك ” تعكس المفارقة الصوتية والحركة التصويرية للحدث نتائجها النفسية ” قال حامد وأنا نائم بالأمس جاءني هاتف قال يريد لك الله توقف ومرت لحظات من الوجوم بدا أن الرجل لم يعد لديه ما يقول ” إنه الاضطراب والحيرة التي تسبق الاعتراف بالسيادة والعبودية ” أغمض عينيه” ظلام العبودية قد ساد، الرغبة في الهروب من العار، ” قال يريد لك أن تتنصَّر، وهذه إرادة الله ومشيئته”(55) كانت الصدمة النفسية أقوى وأعمق من أن يصدر عنها رد فعل سريع وواضح، فاكتفى الغرناطيون بأن يجفلوا ويتركوا المكان عقب إعلان هزيمتهم، وانتصار دين سادتهم والموسيقى الكنائسية تتردد في باحة المسجد / الكنيسة.
(2/4)
تعامل القشتاليون مع أهل غرناطة عبر رؤية واضحة ومحددة، تُعرف بإدراك الحقبة التاريخية، وصناعة التاريخ والثقافة، صناعة الحق المطلق لأصحاب السيادة والقوة، إن هذه الرؤية سعت لتأسيس مقاييس خاصة بها، تُعبِّر عمَّا هو مقبول، وما هو مرفوض من السلوك والممارسات الثقافية والدينية، وكذلك حدَّدت أصحاب الحل والعقد المنوط بهم وضع المعايير والقواعد والقوانين الخاصة بتسيير حياة أهل غرناطة، ومن الطبيعي أن تكون هي السلطة الصانعة المهيمنة على القرار، وذلك بعد أن وظَّفت حربها النفسية في صراعها الديني مع الغرناطيين وعبر ترويج الشائعات المغلَّفة بالحقيقة أحيانًا؛ لتهيئة المناخ لصناعة إدراك الحقبة التاريخية بقوانينه الخاصة.
” أصدر الملكان الكاثوليكيان أمرهما بالتنصير القسري لكافة الأهالي، ونُشر المرسوم وأُذيع في الناس وكان على أهل غرناطة والبيازين الاختيار بين التنصير أو الترحيل(56) قرر الملكان إصدار قوانين الحقبة التاريخية وتنفيذها بالقوة، فعقب الحرب النفسية وبرامجها المتعددة، جاءت اللحظة الحاسمة لتنفيذ المخطط، مخطط محو الهوية الدينية لأهل غرناطة، وتنصيرهم إجباريًا، وعليهما أن يختاروا بين ترك الوطن، أو التخلي عن الإسلام. كان خيارًا صعبًا وعلى الغرناطي تدبير حاله بسرعة حتى لا يقع تحت طائلة العقاب.
إن العمل الروائي يرصد لنا مواقف نفسية تجاه قرار التنصير عبر وجهة نظر متباينة، وكلٌ يصدر قراره عبر هوية الذات أو هوية الأنا Ego identity.
إن المشهد يعكس رؤيتين صدرتا عن هويتين أنويتين مختلفتين تمامًا، هوية الذات أو الأنا الخاصة بحسن وسعد، هذه الهوية الذاتية الأنوية التي نشأت في ظل سقوط غرناطة، فكانت هذه الهوية قلقة مضطربة، سريعة الانفعال، سريعة التقلب، شديدة الحذر المرضي، فقررت هذه الهوية _التي لم ترضع الاستقرار الوطني وقيمه في سنوات عمرها الأولى_ الانسحاب من المشهد، حيث الفرار بالدين والنفس والعرض، لم تفكِّر هذه الهوية في مقاومة القرار الملكي، والحفاظ على الدين والوطن معًا، بل بادرت بقرار حسن ” سيبيع بيت عين الدمع والبيت الذي يسكنونه في البيازين ويرحلون(57). أما هوية سعد المشتركة مع حسن في البناء، فكانت راحلة إلى عالم آخر حيث مالقة التي غادرها طفلًا وها هو يكمل مسيرة الرحيل من الوطن الثاني غرناطة. إن الحوار الجدلي الذي عاشه حسن وسعد في الصغر، حيث القهر والاحتلال والاستعباد أثَّر فيهما بقوة، وجعلهما مسخًا نفسيا لا يستقر مطلقًا.
لكن الهوية Identity الذاتية أو الأنوية الأقوى فكانت هوية أم جعفر، صاحبة الهوية التي بُنيت عبر حوار جدلي ترسَّخ فيه تقديس الدين والوطن، ولا يعرف الهروب النفسي ولا الارتحال، ارتبطت هويتها الذاتية بالأرض والتراب الذي عاشت فيه، وتتمنى أن تموت فيه، فأصدرت حكمها النهائي بقوة وصلابة” قالت أم جعفر إنها لن ترحل، … لن أتنصَّر”(58) لقد حافظت على دينها ووطنها، وقبلت التحدي، وأبت أن تنهزم وتتراجع أمام القوانين الاستعبادية الجديدة. كان الأمر شديد التعقيد ” يستمد طاقاته من طاقتي الحب والكراهية، تتفاوت فيكوِّن أنماطًا من الصحة وأنماطًا من المرض تغذيها على نحو أو آخر روافد من جدل(59) الصراع على الهوية بين هوية سيد يريد لها أن تتنصر عبر القوة واللاإنسانية، وهوية عبد تخلى عن كرامته واستقلاليته من قبل، وحانت لحظة فارقة في حياته، عليه أن يختار بين هويته الدينية وبين هوية الآخر أو الرحيل. في هذه اللحظات النفسية والصراع بين هويتين ذاتيتين متناقضتين هوية حسن وهوية أم جعفر علا صوت مريمة؛ لتنطلق هوية ثالثة تشمل عناصر من الهويتين السابقتين، فهي لن ترحل، ولن تتنصَّر، ستحافظ على الوطن والدين، وسترضي السيد شكلًا أو تظاهرًا خشية التعرض للعقاب.
” أعرف نفسي مريمة، وهذه ابنتي رقية، فهل يغيِّر من الأمر كثيرًا أن يحملني حكام البلد ورقة تشهد أن اسمي ماريا، وأن اسمها أنّا. لن أرحل؛لأن اللسان لا ينكر لغته ولا الوجه ملامحه(60).
إن مريمة تقاوم إدراك الحقبة التاريخية المفروض عليها، من قبل السيد القشتالي، بإدراك حقبة جديدة، فقررت أن تصنع لنفسها إدراكًا جديدًا لحقبتها التاريخية التي تحياها، وتصنع حياة أخرى موازية ومتناقضة تمامًا مع الحياة التي يحييونها علانية، لإرضاء السيد ودولته الأيدولوجية، وتبقى هذه الحياة هي الأهم؛ لأنها تحمل كل عناصر البقاء لها، الدين، اللغة، الثقافة، العادات والتقاليد، لقد قرر العبد المقاومة والمجازفة من أجل هويته الدينية والثقافية، لقد نشأت جدلية فلسفية أخرى بين السيد والعبد، بادر فيها هنا العبد بأن يعيش بهويتين متناقضتين، ويحفظ لنفسه الخلود عبر التحدي في عالمه الافتراضي.
(3/4)
لم يعمد السيد القشتالي إلى التنصير فحسب، إنه قصد صناعة ثقافة جديدة، تتفق هذه الثقافة مع رؤيته الاستعبادية لمسلمي غرناطة، فعقب قرارات التنصير التي أصدرها الملكان، توالت القرارات المعضِّدة لها، الساعية إلى استبدال ثقافة مصنوعة بثقافة سائدة متوارثة عبر مئات السنين، صنعها الدين والأصل العربي في هذه البلاد. حاولت هذه الثقافة تعزيز سلطانها في وجه الثقافة الإسلامية، واتجهت إلى العنف والتعذيب لترسيخها، لكن العبد الغرناطي أبي أن يعتنق هذه الثقافة، وابتكر طرقًا جديدة لمقاومتها، والتغلب عليها، وكما ذكرنا في المبحث السابق صنع لنفسه عالمًا موازيًا يحيا فيه بطريقته المبتكرة التي تحافظ على بقاء هويته كما هي. وفي المقابل في العالم الخارجي “لم يكن الأمر كما قالت مريمة اسمًا على ورق تستبدل باسم، بل حياة كاملة صارت كل مفرداتها تهمًا ومعاصي(61) إنها الثقافة الجديدة تفرض نفسها بقوة عبر الزواجر والنواهي، وتسعى لكبح كل تمرد عليها.
توالت القرارات الهادفة لترسيخ ثقافة أخرى، وبدأ السرد الروائي لثلاثية غرناطة في عرض الخطاب الاستعبادي والتعبير عن جدلية صراع الهوية الثقافية بين سيد وعبد “يحظر على المتنصرين الجدد ارتداء الملابس العربية، ويمنع أي خياط من حياكة الملابس المحظورة، وعلى النساء التخلص من غطاء الرأس(62) عمدت الأجهزة الأيديولوجية للسيد إلى إحداث نوع من القطيعة والاغتراب النفسي بين الإنسان وماضيه وثقافته، فبدأت قرارات المحو الثقافي بتمهيد نفسي، لتمكين الشعور بالغربة والاغتراب، داخل العبد الغرناطي عبر فرض رداء غير ردائه، مما يشعره بأنه لم يعد كذلك، وأن شخصًا جديدًا تلبَّسه، وتُحدث هذه الحالة نوعًا من الاضطراب النفسي الذي يضعف المقاومة، ويُسهِّل عملية الاستعباد عبر تمكين الثقافة الجديدة أو ما أسمِّيه باستعمار الوعي المظهري.
” لا يجوز لمتنصر جديد أن يبيع ممتلكاته لشخص من أصل عربي مثله(63) إنها قرارات القطيعة الاجتماعية بين أمة واحدة، ودفعها للتشرذم والخوف من القرب والتواصل، حتى تتفرق ويسهل تغييرهم. وكذلك السعي بالتقطير المادي؛ حتى تضيق المعايش والأحوال، ويضطر العبد إلى مجاراة سيده والانصياع له ولثقافته مقهورًا.
” يتوجب على كل عربي يمتلك كتبًا أو مخطوطات في غرناطة والقرى التابعة لها، أن يسلم كل ما يمتلكه وإلا عرض نفسه للمحاكمة والسجن، من يثبت بعد التاريخ المحدد أنه يمتلك كتبًا تصادر كل ممتلكاته(64) بدأ السيد في عملية محو ثقافي يهدف منها الى إعادة إنتاج العقلية الثقافية المستأنسة لدى العبد، عبر حرب نفسية منظمة، تحطم كل القيم الثقافية والاجتماعية بداخله.
” يحظر الإرث على الطريقة الإسلامية، فالتركة لا تقسم بل تنقل بما هو دارج في أعراف مملكة قشتالة(65) لقد أكدت الرؤية الروائية صراع الأيديولوجيات داخل النص الروائي، فنحن إزاء أيديولوجيتين تتصارعان، أحدهما حول السيادة ومحو الآخر / العبد، والأخرى تسعى للحياة والبقاء مهما كانت التضحيات، إننا أمام حوارية باختينة، لكنها غير مكتملة، والثلاثية خفَّضت من صوت الأيديولوجية الخاصة بالعبد المسلم، واكتفت بالمقاومة الخفية، فضاعت منها القيمة الكبرى للحوارية، وصراع الأيديولوجيات داخل النص السردي، لكنها – وهذا ما دفعها لخفض صوت الصراع – كانت تضع التاريخ نصب أعينها، فعبرت عن تواضع الصوت الغرناطي، لتتماشي مع التاريخ وواقعية الاستعباد. وتبدأ الازدواجية النفسية في الذات الغرناطية، ويرتدي القناع دون أن يدري أو يختار ذلك، ” والحال أن القناع كما تدل تسميته ليس إلا قناعًا يخفي جزءًا من النفس الجماعية، ويعطي في الوقت ذاته وهمًا بالفردية، قناعًا يدفع الآخرين ويدفعنا نحن إلى الاعتقاد بأن الكائن المعني فردي، في حين أنه في العمق يلعب ببساطة دورًا تعبر عنه معطيات وضرورات النفس الجماعية عن نفسها من خلاله(66) كان على الغرناطي أن يتحمل حالة الاستلاب التي تمارس معه، وعليه أن يتعايش مع تلك المعاناة وتجريف الثقافة الإسلامية، وكان كلما التزم بالصمت تمادى السيد في غيه وتسلطه، ومحاولاته الجادة في محو هويته الثقافية.
” قلت لك: أغلقوا الحمام، جاءت جنود وأخرجونا منه، وأغلقوه وقالوا إن فتح أي حمام بعد اليوم يعرِّض صاحبه والعاملين فيه لأشد العقاب. لماذا؟ … إنها عادة عربية سيئة بلا معنى(67) وفي كل هذه الأحوال كان الغرناطي يلجأ إلى محاولات الفهم، محاولا تبرير ما يرى أو يسمع أو يمارس ضده.
” أن يقاتلك عدوك أمر مفهوم، لكن ما الحكمة من إغلاق حمام أو إجبار الأهالي على التنصر (68) إن ما فكَّر فيه نعيم يعكس تساؤلات العقلية الغرناطية الباحثة عن فهم مبررات تغيير الهوية الدينية والثقافية لمجتمع عربي مسلم، عاش حياته هذه لمئات السنين، ورضي بالاستسلام.
(4/4)
رصدت الرواية حالة الشدة ” التي تفيض بها النفوس – الغرناطية – لا تترك فضلًا من الانتباه إلى ما عداها، وأي شدة أعظم من مواجهة عدو يريد لنفسه كيانًا شرطه ألا تكون، أو على الأصح يريد أن يكون سيدًا على نحو يعيد إلى الذهن ما أبرزه ” هيجل ” في جدل السيد والعبد، بحيث تكون وظيفتك أن تكون له عبدًا، تزجي إليه ليلًا ونهارًا اعترافًا يمنحه شرعية الوجود(69). لكن هل يقبل الغرناطي بهذا المحو التام للهوية الدينية والثقافية، من المعلوم أن الغرناطي / العبد اعترف بسيادة القشتالي عليه، وقرَّر تحت عنفه وقسوته أن يتخلى عن حريته واستقلاليته وجزءًا مهمًا من إنسانيته وكرامته، ظنًا منه أنه سيتركه يحيا بدينه وهويته الثقافية، لكن الواقع كذَّب هذا وأكد سعي السيد لمحوه وجعله مسخًا كاثوليكيًا يقر ويعترف بسيادته عبر الاستغناء عن الكرامة، الحرية، الدين والهوية، وأن يتمسح في النصرانية الكاثوليكية.
كان من الواضح أن السيد القشتالي وأجهزته الأيديولويجية Ideology قد أخطآ خطأ فادحًا عندما قررا محو الهوية الإسلامية والثقافة العربية للغرناطي / العبد، إن تلك المحاولات هي التي دفعت العبد الغرناطي إلى التفكير الجدي في المقاومة وفي إنتاج كيان مستقل به، وعالم مواز للعالم الخارجي، يعيش فيه بكل ثقافته وهويته كما عاش أجداده من قبل.
” كانت مريمة قد نفَّذت ما أراده حسن وتربيتها لصغارها، في البيت يتحدثون العربية، ويعيشون يومهم كما عاش آباؤهم وأجدادهم، وفي الشارع والمدرسة يتحدثون القشتالية، ويسلكون بما يرضي السلطة الحاكمة، وديوان التحقيق(70)
هيأ الغرناطي نفسه وأبناءه للعيش في عالمين متوازيين عالم الضرورة حيث الحياة بين الناس أمام عين السيد القشتالي المتربص، وبين عالم الهوية الإسلامية، هوية الذات المتأصلة في النفس، التي لا يفارقها مطلقًا. بدأت محاولات صناعة هذا العالم الموازي منذ اللحظات الأولى لصراع الهوية، مع القشتالي، وبدأوا في تلقين أبنائهم هذه الحياة، وتدريبهم عليها وتوظيف كل أدوات الترهيب والترغيب لتمكينها داخل الطفل. لم تهيمن فكرة صناعة العالم الموازي للحفاظ على الهوية في عقول أصحاب الجرأة والمجابهة، بل تعدت ذلك بكثير لتجد مكانًا مهمًا في عقول المنهزمين المؤثرين للسلامة وعدم المجابهة مثل شخصية حسن، فحسن الذي كان يسعى جاهدًا للتعايش الآمن مع قوانين السيد الظالمة، يجد نفسه متوجهًا وجهة الحفاظ على الهوية؛ لأنها ليست مظهرًا أو فعلًا شكليًا يتخلى عنه أو يتمسك به دون وعي، لذلك فكر جديًا في تعليم حفيده اللغة العربية، والمجازفة.
” استقر على ضرورة تعليم حفيده اللغة العربية، بما يمكنه من قراءة القرآن، والكتب الأخرى أيضًا(71).
سعي الوعي الجمعي إلى تأصيل الحياة الموازية وتعميقها، وضمان بقائها، عبر تعليم الأطفال والصبية اللغة العربية، والحياة العربية بكل ما فيها، وبقي لهم حفظ التراث الذي سيتكئ عليه هؤلاء الصغار / الجيل القادم في حماية عالمهم الموازي وتأصيلهم وجدانيًا، معنويًا، وماديًا.
(5/4)
تعد شخصية سليمة من الشخصيات المحورية، التي اتكأ عليها الخطاب الروائي في التعبير عن التحدي العلمي والحضاري للقشتاليين
هذه الطفلة الصغيرة التي استهلت حياتها الدنيوية على وقع أقدام الاحتلال القشتالي، وحرب الإبادة الثقافية والدينية، لم تكف لحظة عن طلب العلم، وفهمه والجدية فيه، رغم كل الظروف القاسية التي مرت بها وأسرتها وأهل غرناطة جميعًا، استطاعت أن تتفوق على عصرها، وأن تنتصر لهويتها- رغم عواتي القهر والاستعباد – فاكتفت بالعلم حياة تهرب به وإليه من صور القهر، وترسخت ثقافتها بذيوع صيتها الطبي؛ هذا الذيوع الذي أقلق السيد القشتالي؛ فقرر القبض عليها وتحويلها لمحاكم التفتيش، وكانت طريقة القبض عليها حربًا نفسية شديدة لكسر إرادتها، وتحطيمها، وتحطيم الهوية العلمية لها.
” جمعوا الأشياء ووضعوها في جوالين كبيرين وقيدوا سليمة ووضعوها في قفة. هل تصدق يا سعد حملوها في قفة(72). إنه نوع جديد من تحطيم الهوية العلمية عبر استعمار الوعي بالكذب المنظم وترديده، وصناعة محاكمة غير عادلة لسليمة حتى يقتنع الجميع بما يريدون ترويجه، وينتصرون لهويتهم .
” كان على سليمة أن تدخل القاعة بظهرها وأن تمشي بضع خطوات على عكس البشر إلى الوراء (73).
هدفت محكمة التفتيش إلى تدمير عقل سليمة، ودفعها للجنون عبر اتهامها بالسحر، وفرض أساليب غريبة ” حملها في قفة، تمشي عكس البشر” دفعوها للجنون حتى يتأكد لهم هزيمتها، وسحق هويتها أو اعترافها وتسليمها بسيادة هويتهم. استمروا في محاولتهم النفسية الساعية للهيمنة على عقلها أو دفعها للجنون. وجهوا لها اتهامات عجيبة وممارسات أكثر غلظة وقسوة وجنونًا.
” إذن تعترفين أن هذا الرسم لك.
– كان عندي ظبية وكنت أحبها كثيرًا، وحاولت أن أرسمها.
…..
– هذا تيس وليس ظبية!
– قلت يا سيدي القاضي إنني لست ماهرة في الرسم.
– إنه التيس الذي تعاشرينه وتسرين في الليل إليه.
– التيس الذي أعاشره؟!!
– نعم التيس الذي صرفك عن زوجك وجعله يهجرك … إنه الشيطان الذي تعملين في خدمته!(74)
فشل المحققون في تحقيق ذاتهم الأيديولوجية عبر هزيمة سليمة التي بدت أكثر قوة وصلابة وتحملًا في مواجهة كل أساليب الترهيب النفسي أو تدمير العقل بالمغالطات. لقد كان الصراع صراع الهوية بين المحققين وسليمة قويًا حادًا وعنيفًا، قررت فيه سليمة المجازفة بحياتها، وفضَّلت الموت على أن تنهزم حضاريًا وعلميًا أمام عدوها الجاهل. وفي الجانب الآخر خشي السيد / المحققون على أنفسهم وعلى هويتهم التي انهزمت فعليًا أمام قوة سليمة وحجتها وعقلانيتها، وتحمُّلها محاولات التدمير العقلي؛ فقرروا اللجوء إلى التعذيب.
” وحدها في زنزانتها تحاول سليمة أن تهوِّن على نفسها، لا تنام؛ لأن بإمكانها وهي مفتوحة العينين يقظة، أن تدفع الجرذان بعيدًا عنها (75) قاومت سليمة بقوة واختارت الحياة / الهوية / الانتصار، فاستطاعت أن تحقق ذاتها ولا تهاب الموت، وكانت تدفع عن نفسها كل صور الحياة التي تمكِّن الضعف منها فتتمسك بالحياة، ” عائشة، تطرد صورتها وفكرتها وتركض مبتعدة مما يهزم البدن والروح والعقل، إذ تحيله إلى الجنون(76).
قرر السيد / المحققون الخلاص منها حرقًا؛ لأنهم انهزموا أمامها، فخافوا أن تخلق التمرد على وجودهم، وأن يجازف بقية الغرناطيين بحياتهم كما فعلت سليمة؛ فقرَّروا الانتقام منها لكي” يعتبر كل ذي عقل ونفس سوية، وينأى العباد عن طريق الكفر، ولكي يعرف الكافة أن المروق لا يمكن أن يمرَّ دون عقاب … حكمنا عليك وأنت واقفة أمامنا هنا في ميدان باب الرملة أنك كافرة لا توبة لها، عقابها الموت حرقًا(77)
في باب الرملة حيث أُحرق التراث العربي، أُحرقت الهوية وأسباب حفظها، حيث أعلن أبو جعفر بعدها استسلامه للموت، وأعلن الغرناطيون اعترافهم بالعبودية، في باب الرملة ذاته تعلن سليمة انتصار هويتها الإسلامية، انتصار العبد على سيِّده؛ ليصير العبد سيِّدًا؛ لأنه / لأنها سليمة تخلَّصت من شبح الموت وتوحَّدت معه، وأعلت من قيم الإنسانية، لقد قررت سليمة أن تحيا سيِّدة نفسها، حرَّة، لها كرامتها، الإنسانية، وأن تموت متحدية الجميع” نعم أنا سليمة بنت جعفر، أنشأني رجل جليل يصنع الكتب، واحترق قلبه يوم شاهد حرق الكتب، فمضى في صمت نبيل، وأنا يا جدي صرخت ساعة التعذيب، صحيح، واختل مني العقل والبدن، لحظات يا جدي لحظات، ولكني لم أقل شيئًا تخجل منه. قرأت في الكتب كما علمتني، وطيَّبت أوجاع الناس ما استطعت، وحلمت يا جدي أن أهديك يومًا كتابًا أخطُّه بيدي وأودعه خلاصة ما قرأت وما لمست في الأبدان يداي. أردت، لولا سجن زمان يا جدي(78).
” إن الإنسان لا يكون حرًا إلا إذا عرف أو وعى أن طبيعته الجوهرية هي الحرية، فالوعي وحده هو الذي يحرر الإنسان(79) لذلك وعت سليمة حريتها وكرامتها فاختارت الانتصار بالتضحية بحياتها على أن تفقد حريتها فتحيا ميتة وبذلك ألغت عبوديتها جدليًا.
إن الخطاب السردي هنا يتضافر مع التاريخ؛ ليعبر عن صراع الهوية المحتدم بين القشتاليين والغرناطيين، بل إنه يعكس مدى قوة الغرناطيين دينيًا وهوية في مقاومة الحرب المستعرة ضدهم، فبالرغم من اعترافهم بالعبودية واستسلامهم لها، فإنهم واجهوا الصراع الأيديولوجي حول الهوية، واصطنعوا لأنفسهم عالمهم الموازي الذي حفظ لهم البقاء والقوة(80).
(5)
الجدلية الحضارية
عقد الخطاب الروائي لثلاثية غرناطة جدلًا Dialectic حضارياً بين شخصيتين، كل منهما ينتمي لعالم فكري مختلف، ووضعهما الإنساني كذلك، عكس هذا الحوار الرؤية تجاه حضارتين متصارعتين، حضارة إسلامية تعلن الرحيل، وحضارة غربية قادمة، إن الحوار الذي كشفت عنه السردية الروائية أكَّد مدى التباين الكبير بين نعيم الممثل للحضارة الإسلامية، والقس ميجيل الممثل للحضارة الغربية الإسبانية في مراحلها الأولى، لقد قصد السرد الروائي محاولة اكتشاف الآخر الإنساني داخل نعيم / ميجيل عبر الحوار الحضاري، الهادف إلى تشريح الفكر الحضاري لكل معسكر، ينتمي إليه الآخر، ورؤيته تجاه الإنسان والعالم، وذلك للوقوف على الآخر في أدبيَّاته، والكشف عن مدى تقبله لمعتقداته الحضارية، الثقافية والدينية، مدى التعايش السلمي من خلال هذه الرؤية.
استطاع السرد الروائي أن يكشف برؤية فلسفية فكرية عن مدى السطحية والانغلاق الفكري المسيطرين على القس ميجيل رمز العلم الإسباني، ومدى نظرته الدونية للآخر، وتعاليه الكبير على العلم. وكذلك كشفت عن رؤيته المادية للإنسان بصفة عامة والمهزوم المستعبد بصفة خاصة. لقد كانت الجدلية التي أقامها السرد الروائي جدلًا من نوع خاص، ليس جدلا أو حوارًا بالمعنى المفهوم للكلمتين، لأن ذلك يستحيل هنا أن يتحقق؛ لأننا أمام شخصين لا يقفان على ساحة واحدة، فأحدهما سيد وقس يمثل المحتل الحضاري، والآخر خادم/ عبد يمثل الأمم المغلوبة؛ لذلك فالحوار بمفهومه العلمي لم يكن متحققًا؛ لأنه يحتاج إلى تمرد من نعيم على وضعيته، وكان هذا غير قابل للتحقق، لذلك عرضت الرواية المشاهد السردية المتناثرة لمواقف الشخصين تجاه الإنسان، العالم، العلم، وتركت للقارئ عقد هذا الحوار من خلال إنتاج الفكر والحوار المقصود.
” ما الذي تكتبه؟ ما الذي تكتبه بالضبط؟
– .. أكتب عن الجزيرة وأهلها، أصف الأحوال المناخية، على مدار العام … وبعد ذلك سوف أكتب عن الأهالي، أصف أشكالهم وطريقة حياتهم وأفكارهم ومعتقداتهم.
– ولكن .. تلعثم نعيم
– كيف تعرف أفكارهم ومعتقداتهم ولم تتحدث مباشرة إليهم؟
– ألاحظ سلوكهم وأجمع ملاحظاتي إلى ملاحظات الآخرين ومنها أستنتج أفكارهم ومعتقداتهم.(81)
كان العالِم ميجيل يكتب عن أهل العالم الجديد، عن حياتهم، أفكارهم، معتقداتهم، سلوكياتهم، لغتهم دون أن يتعامل معهم، دون أن يعايشهم في حياتهم، ومعتقداتهم، دون التقرب إليهم؛ حتى يستطيع أن يقف على رؤيتهم للحياة وطريقة تفكيرهم. اكتفى القس العالِم ميجيل بالملاحظة والمشاهدة، وكأنه يتعامل مع مجموعة من فئران التجارب، يقف أمامهم يلاحظهم، ويكتب ما يفعلون، إنها رؤية تعكس دونية النظرة لهؤلاء البشر في العالم الجديد، فهم في نظره ونظر الجنود القشتاليين مجرد عبيد، فهم من وجهة نظر ممارساتهم مجرد حيوانات إنسانية أو أدوات للتسلية واللهو، أو ميدان للتدريب على القتل والسحق، وهتك العرض. إن الجميع من وجهة نظر ميجيل القس كفرة ويحتاجون للمخلص القشتالي؛ لينقذهم من ضلالهم وشرورهم، يحتاجونه لاستعبادهم أو قتلهم. .
في المقابل كان نعيم يتعجب من طريقة سيده القس في الكتابة عن هؤلاء البشر، وكان مدفوعًا حضاريًا بالتقرب منهم، ومعايشتهم حتى يستطيع أن يعرفهم، كيف يفكرون، كيف يتعاملون، ماذا يحبون؟ ماذا يكرهون؟
” لو أن بإمكانه أن يتحدث لغة أهل البلاد لكان تعرف على العديد منهم وصادق بعضهم… فيعرفهم بنفسه ويُسمعهم حكايته ويسمع حكايتهم ولكن كيف وهو يجهل لغتهم، (82)
كان نعيم يعي جيدًا أن لا مفر من التعامل مع أهل العالم الجديد، وفهم لغتهم حتى يستطيع هو أو سيده التعرف عليهم، والكتابة عنهم، بادر نعيم العبد/ البسيط/ الفكر العربي لا السيد / العالم / القس الفكر القشتالي بمحاولة تعلم لغة أهل العالَم الجديد، بهدف إقامة حوار إيجابي يوظِّفه للوقوف على المرتكزات الإنسانية المشتركة بين البشر، وإحداث التعايش الحضاري السلمي المنشود إنسانيًا، وكذلك فهم الرؤية الخاصة لهذا الآخر الإنسان عبر فهم رؤيته تجاه العالم، الحياة، تجاه المستبد المحتل، وكشف أغواره النفسية والدينية العميقة. يرصد الخطاب السردي الاختلاف بين الحضارة الإسلامية المستعبدة آنذاك، وبين الحضارة الغربية المتعالية التي لا ترضى إلا بالتعامل السطحي والنظرة الدونية للآخر.
إن المشهد الفسيفسائي عقد حوارًا عميقًا بين رؤيتين شديدتي التباين، رؤية نعيم الغرناطي المسلم العبد المتمثلة في احترام الآخر، والتعايش السلمي معه عبر تعلم لغته، والاندماج معه في الحياة، ولا بأس من التزاوج والتناسل فيما بينهما، وبين رؤية ميجيل العالِم السيد القشتالي المسيحي الكاثوليكي وتعاليه وتكبره وسعيه في توظيف علمه للهيمنة وبسط النفوذ على كل العالَم، فما فتح العالم الجديد إلا وسيلة لغاية كبرى وهي الإمبراطورية القشتالية ممتدة الأركان. إن هذه الرؤية تعكس عدم احترام الآخر والانتقاص من قدره الإنساني في مقابل تحقيق السيادة والهيمنة.
(6)
التماهي بالسيد
ركزَّ الخطاب السردي الروائي للثلاثية على نتاجات الجدلية القائمة بين السيد والعبد، ويعد النتاج النفسي من أهم منتجات القهر والعبودية، فلقد طغى هذا النتاج على العديد من الشخصيات الروائية؛ نتيجة الصراع المحتدم،مما أنتج عمليات الانكفاء على الذات أو التزلف والاستزلام للسيد.
ومن بين النتاجات النفسية للجدلية القائمة بين الإنسانين عملية التماهي Identification ” والتماهي يشكِّل أحد المظاهر البارزة في سعي الإنسان المقهور لحل مأزقه الوجودي والتخفف من انعدام الشعور بالأمن والتبخيس الذاتي الذي يلحق به من جراء وضعية الرضوخ. إنه كحل عبارة عن هروب من الذات وتنكر لها، وهروب من الجماعة وتنكر للانتماء إليها من خلال التشبه بالمتسلط – السيد – وتمثل عدوانيته وطغيانه ونمط حياته وقيمه المعيشية. إنه استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المتسلط ونظامه آملًا في الخلاص(83) إن التماهي ما هو إلا قناع يرتديه الإنسان المقهور المستعبد بهدف الخلاص من العار النفسي الذي لاحقه جراء العبودية، والذل والمهانة التي تحلق به. إنه قبل أن يكون حيلة لاتقاء إيذاء السيد وعنفه وقسوته، هو حيلة للهروب من الضمير من الأنا الإنسانية التي تلاحقه مؤنبة إياه لاستسلامه واعترافه بنقص إنسانيته وتخليه عن كرامته وحريته.
إذًا فالتماهي حيلة لاشعورية تصطنع للتغلب على الخوف من الأنا الإنسانية أولا والخوف من السيد المعني ثانيا، “تطغى ظاهرة التماهي –بالسيد- المعتدي خصوصًا في مرحلة الرضوخ (…) حين يحس الإنسان المقهور بوطأة وضعه وعجزه عن تغيير علاقة القهر – العبودية- – ف – تتغلل في مختلف مظاهر الحياة والسلوك بشكل لا واع مما يجعلها تفلت من محاولات التغير، وهي تشكل على ذلك الوجه المضاد لعملية مقاومة المتسلط من خلال الانكفاء على الذات، والاحتماء بالجماعة بمعاييرها وتراثها(84)
(1/6)
يفقد العبد ذاته تمامًا بمجرد خوفه من شبح الموت وإعلانه الاستسلام والاعتراف بعبوديته، منذ هذه اللحظة يبدأ الضمير الإنساني في إحداث نوع من الصراع الداخلي، محاولًا إرضاء الإنسانية بداخله مرة أخرى أو وأدها نهائيًا، وتتباين النتائج وفق مقدرة الإنسان النفسية على التحدي والمقاومة.
رصد الخطاب السردي الجدلي لثلاثية غرناطة صورًا عديدة للذات الإنسانية المستعبدة تتراوح بين الخنوع التام وبين المقاومة الشرسة أو الحلول الوسطى التي تحاول التوفيق بين الإنسان الحر والعبد في ظل عالم العنف المفروض عليه أو عالم الضرورة الذي يحيا فيه. هناك من يعجز عن المقاومة والتحدي وينسحب تمامًا أمام الصراع الداخلي ويبدأ في عملية التماهي مع السيد عبر تبخيس الذات المستعبدة أو كما يسميه الماركسيون ” استعمار الوعي Colonization of consciousness (85) عبر التماهي مع أحكام السيد وفيها ” يقوم الإنسان المقهور – العبد – في عملية التماهي بأحكام المتسلط –السيد – باجتياف عدوانيته وتوجيهها إلى الذات على شكل مشاعر ذنب ودونية وتبخيس للقيمة الذاتية. إنه ينخرط في عملية حط من قيمته وقيمة الجماعة الأصلية التي ينتمي إليها وبقدر ما يذهب بعيدًا في هذا الاتجاه فإنه يعلي من شأن المتسلط ويبالغ في اعتباره وتثمين كل ما يمت إليه بصلة(86)
إن السرد يؤكد على لسان أحد المقاتلين المنهزمين عملية تبخيس الذات والحط منها” لا تأمن الآخرين يا علي. احذر القشتاليين ولكن احذر العرب أكثر(87)
إنها محاولة أكيدة لاجتياف الذات تعبر عن مدى التماهي اللاواعي مع السيد، فالقشتالي في نظره أفضل من العربي، “احذر القشتالي واحذر العربي أكثر” إنها رؤية يائسة من مقاتل غرناطي مهزوم، انهزم نفسيًا ومعنويًا قبل أن ينهزم في ساحة المعركة.
” تزوجت وردة فارسًا قشتاليًا ذا نفوذ وجاه، وهي الآن تعيش في رغد الأميرات(88) تتوال عملية التماهي بأحكام السيد، فيعلن العربي الأصل بفخر شرف مصاهرته لسيد قشتالي فارس له نفوذ وجاه، وكأنه يقول انتقل بنا من دونية العربي وحقارته إلى شرف السيادة القشتالية ونبلها، إن التماهي بأحكام السيد يعكس رؤية الخطاب السردي الذي يؤكد اعتراف العبد بعبوديته واستسلامه وشعوره الداخلي بالدونية والخسة ” يظل يكرر لا أريد حياة العبيد أهدئه وأقول لا نملك سوى هذه الحياة قسمها الله لنا، فلنعش ولنقبل بالمقدر لنا من الغيب(89) استطاع السيد استعمار وعي العبد ودفعه للتسليم بدونيته وانحطاطه الإنساني الذي خلقه الله به ” قسمها الله لنا لنقبل بالمقدر لنا”.
(2/6)
يتخلص الإنسان المقهور من مأزقه من خلال قلب الأدوار. يلعب دور القوي المعتدي ويسقط كل ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. الآخر الشبيه به وهو مذنب، وهو المقصر، وبالتالي يستحق الإدانة والتحطيم. من خلال التماهي بالمعتدي – السيد – يستعيد الإنسان المقهور – العبد – بعض اعتباره الذاتي، أو على وجه الدقة يصل إلى شيء من وهم الاعتبار الذاتي، كما أنه يتمكن من خلال هذه الأوالية من تصريف عدوانيته المتراكمة والتي كانت تتوجه إلى ذاته، فتنخر كيانه وتحطمه، هذا التصريف للعدوانية بصبِّها على الخارج من خلال مختلف التبريرات التي تجعل العنف ممكنًا تجاه الضحية، يفتح السبيل إلى عودة مشاعر الوفاق مع الذات، شرط التوازن الوجودي(90) فالتماهي بالسيد هنا هو نوع من أنواع الخلاص النفسي من عبء العبودية والقهر المهيمن على الذات، إنها محاولات تعويض لا شعورية يقوم بها اللاوعي الإنساني للحفاظ على الذات متصالحة نفسيًا.
ووضح ذلك في الخطاب الروائي للثلاثية عندما رصد الخطاب علاقة المقهورين ببعضهم البعض، فأحد الأصدقاء المشتركين في الظلم والعبودية يفشي سر صديقه ويوشي به عند السلطة الحاكمة ” من الذي أفشى السر؟ لم أقل سوى لحسن، وحسن مقعد في الدار لا يغادرها. هل أخبر مريمة فوشت بالأمر لرجال الديوان؟! وكيف عرفت مريمة اسم الرجل وكيف حددته من بين الآخرين؟
ألقى رجال ديوان التحقيق القبض على صاحب الكتاب، فهل شاهده أحد وهو يسلم لنعيم المخطوط أو يتسلمه منه؟ فلماذا إذن لم يقبضوا إلا عليه؟ (91). كانت هذه محاولات للتقرب من الديوان، والسلطة الحاكمة، وإثبات الذات عبر التضحية برفقاء الواقع المرير.
كان التماهي بالعدوانية يزداد كلما زادت الضغوط عليهم من قبل السيد، الذي حرمهم من كل قيمة إنسانية، واحتفظ لنفسه بالحق المطلق، فراحت الشخصيات تتبارى في التقرب منه، والتماهي معه ومع عدوانيته.
بدأ خوسيه المتماهي مع السادة القشتاليين في استعراض نفوذه وعلاقاته القوية بالسلطة الحاكمة من خلال تأكيده على ما فعل مع علي ” وذللت لك صعابًا ما كنت تملك التغلب عليها بدوني ” كانت هي مقدمة استعراض نفسي للقوة والنفوذ، ينطلق منها فيما بعد للاستيلاء على حق عليّ في البيت، أو بمعنى آخر نقض الاتفاق الذي كان بينهما، وهو يتماهي تمامًا مع نقض القشتاليين لاتفاقياتهم وعهودهم مع أهل غرناطة منذ لحظة السقوط وحتى ساعة الرحيل، وكما لم يكتف القشتاليون بنقض المعاهدات فقط وتمادوا في قرارات السحق والاستعباد، تمادي خوسيه مع عليّ في العدوانية ” تميزت شخصية خوسيه العربي الأصل بالتماهي الواضح مع السيد القشتالي، فلقد مارس كل درجات التماهي العدواني، التي تبدأ بالتعالي على الفقير، أو الاستقواء على الضعيف، ومرورًا بتلفيق الاتهامات للأبرياء بهدف التخلص منهم، أو سرقة ممتلكاتهم كما فعل مع عليّ صديقه القديم ” يدبِّر لك خوسيه مكيدة ما، وقد تجد نفسك متهمًا من قبل ديوان التحقيق. خوسيه لا يتورع عن ذلك. إنه حقير وأنت تعرف(92).
إن هذه المحاولات المتماهية في الحقيقة محاولات للخلاص من الاحساس بالخطر الذي يطارده، من داخله، نفسيًا، ومن خارجه حيث السيد المتربص، إنها محاولات لإقامة توافق نفسي، والقضاء على الحرب النفسية التي تدور بداخله، وتعلن عجزه، فينطلق بها تجاه الآخر الذي يعيش معه من بني جلدته ويقعان تحت طائلة الهم الواحد.
تبلغ درجات التماهي مع عدوانية السيد المعتدي عندما يغدر الإنسان بأنثى ضعيفة ركنت إليه طالبة المعونة والحماية والستر ” في ليلتنا الأولى هنا في المدينة فتح أحدهم علينا الباب وأمسك بتلابيبي وقال إنني أمارس العمل دون ترخيص، لم أفهم تمامًا ماذا يعني، ولكني أقسمت له أن مسعودًا طلب مني الزواج، وإننا سنتزوج صباح اليوم التالي، تطلعت لمسعود لكي يؤكد كلامي، ولكنه بقي صامتًا كأنه بلا لسان” قل يا مسعود، انطق يا مسعودد!” أخيرًا نطق هل تعرف يا سيدي ماذا قال؟ قال إنه لم يكن يعلم أنني أعمل دون ترخيص وارتدى ملابسه وحمل أغراضه وتركني وذهب(93) لقد غرّر مسعود بها، وخان عهده معها وتركها، لتواجه مصيرها المؤلم في الخان. إنه تماهٍ مع عدوانية السيد المعتدي، لقد تماهى هذا الشاب مع السيد في استهتاره بعرض العربي وشرفه، فراح هو كذلك يمارس نفس الدور.
(3/6)
يتدرج الإنسان المقهور المستعبد في التماهي مع سيده، حتى يصل إلى درجة من الرغبة التامة في الذوبان معه، ومع أسلوبه الحياتي، رغبة منه في تحقيق ذاته وكبريائه عبر هذا التماهي، ويعد هذا النوع من التماهي من أخطر الأنواع على هوية العبد / المقهور ووجوده؛ لأنه آنذاك ينطلق من رؤية تؤكد له أنه لا مثال يحتذي به ولا قدوة في هذا العالم سوى هذا السيد. ويرى العبد / المقهور ” في ذاك التقرب وهذا التبني حلًا لمأزقه الوجودي وارتقاء لكيانه إلى مرتبة ترضيه، وتبث الكبرياء في نفسه، وهو يبذل طواعية كل جهد ممكن في هذا السبيل متنكرًا لمصالحه الحقيقية، التي تكمن في التغيير الجذري للعلاقة والبنية الاجتماعية التي تستند إليها(94) إن هذه الحالة عندما تنتاب الإنسان المقهور / العبد وتهيمن عليه، تلغي كل القيم الإنسانية بداخله، وتدفعه إلى رفض كل مبادئ العدل والمساواة والحرية، بل إنه يتقمص دور السيد، وينادي بما ينادي به، ويعلي من القيم التي في حقيقتها تحط من قدره، وتبالغ في استعباده وقهره.
” هذا الولد ابن ياسين الوقاد. أبوه رحمة الله عليه كان يعمل وقادًا في حمامي، وأنا أسمعه الآن بأذني يتفاخر بأنه قشتاليّ أبًا عن جد، وأن دماءه نقية(95)
تبدأ مراحل التماهي بقيم السيد بمحاولات التماهي معه في الملبس والمأكل والمشرب، وكذلك التفاخر بالأصل الذي ينتسب إليه السيد، سعيًا لمنح الذات الثقة وتحقيق نوع من الكرامة المغلوطة، التي قد تُعيد لصاحبها بعضًا من الاستقرار النفسي أو دفع الضرر عن نفسه، وليؤكد للسيد أنه خادمه المطيع لن يتمرد عليه ولن يكيد له مطلقًا.
” هناك يختلط عليك الأمر ترى أبناء العرب فلا تعرف لهم ملة ولا دينًا، يتحدثون بلغة الروم ويلبسون مثلهم ويسلكون سلوكهم. (96) إنها حالة التماهي الشديد بالقيم القشتالية التي فرضت نفسها على الواقع الغرناطي، فلقد نزع البعض هويته، وراح يذوب فعلًا وقولًا في مجتمع السيد، رافضًا أن يعيش بهويته وروحه الأصيلة، معتقدًا أنه استطاع بما يفعل أن ينال رضى السيد، أو أن يبعد سوط القهر عنه.
يتعدى التماهي بقيم المتسلط كل الحدود ليصل إلى مرحلة التماهي الديني التام، فيتخلى هذا العبد المقهور عن دينه، لينتقل لدين السيد سعيًا منه للاندماج التام في هذا المجتمع ونيل حريته وتحقيق باب الرزق له ” إن زوجها قرر أن يتنصَّر بعد قرار القشتاليين بمنع الاتصال بين مسلمي غرناطة وسكان المدن القشتالية الأخرى:
-إنه مكاري ورزقه ورزق عياله يا أم جعفر في تلك الحمولات التي ينقلها حماره من هنا وهناك. وعلينا الآن أن نتنصَّر جميعًا، أقصد الأسرة كلها(97)
تُمثِّل شخصية كوثر في الرواية قمة التماهي مع السيد والذوبان فيه، فلقد خالفت الفتاة كل العادات والتقاليد المتبعة داخل قريتها، وأخبرت ديوان التحقيق عن أبيها وأخيها، وبعد ذلك تزوجت بنصراني قشتالي، وتنصَّرت هي كذلك، بل وتباهت بحملها من زوجها النصراني ” -زوجي رجل طيب يحسن معاملتي. إنه صّياد، ساعدني على العمل هنا، ثم طلب الزواج مني.
-ما اسمه؟
– سانشو لوبيس.
-نصراني؟
– ألم نعد نحن أيضا نصارى؟(98)
إن هذا التماهي في الحقيقة يعبِّر عن عمليات استعمار الوعي التي تمارس ضد العبد / المقهور، من أجل تبخيسه وازدراء كل ما يمت لعالمه الغرناطي، لدينه الإسلامي، للغته العربية، لعاداته وتقاليده بصلة، إنها محاولات مزمنة مارسها السيد القشتالي تجاه الغرناطي العبد، ونجحت كما رصدت الخاطب السردي في تحقيق نتائج ملموسة، لكنها كانت في أضيق الحدود وبصور قليلة، لا تتناسب مطلقًا مع كل الممارسات القهرية التي رصدها الخطاب السردي في الثلاثية.
(7)
الأحلام والهروب من الأزمة الوجودية
تعد الأحلام نشاطًا عقليًا مهمًا، يعيشه الإنسان في فترات نومه، وتعد الأحلام وسيلة نفسية مهمة للتعبير عن المأزق الوجودي للإنسان، والأحلام ميكانزم دفاعي mechanism Defense للتنفيس عن المكبوتات الإنسانية. لذلك فللحلم دور مهم في السرد الروائي بوصفه حدثًا يزيد من تكثيف الحدث السردي، ويكشف خبايا الأنفس الغرناطية المستعبدة، لقد كانت الأحلام في الرواية معبِّرًا حقيقيًا عن تطلعات هؤلاء الغرناطيين البسطاء وأملهم في المستقبل، وكانت ملجأ نفسيًا يهرع إليه العقل كلما ضيَّق السيد القشتالي الحياة من حولهم، وأمعن في قتل أحلامهم عبر هزيمة ثوراتهم.
” قال مريمة : ” رأيته بعد الغسق بقليل. ظننته القمر إذ كان كبيرًا ومضيئًا، ثم رأيت القمر في الجهة الأخرى فاستغربت. بعدها نمت فرأيته مرة أخرى، ولكنه كان في الحلم أكبر. كان نحاسيًا ومتوهجًا ومشرفًا على جبل، وعلى الجبل وعلٌ عظيم تعلو رأسه قرون شجرية ملتفة. وكان الوعل ساكنًا كأنما قُدَّ من صخور الجبل الذي يقف على قمته، ثم استيقظت(99) كان الحلم متنفسًا تبعث من خلاله الأمل في المستقبل،كانت مريمة تعيش أجواء سوداوية في ظل محنة الاستعباد والقهر؛ فنشط عقلها ليرى هذه الرؤية غير الواضحة، راحت تفتش عن تفسير مرض لهذه الرؤية، ولجأت إلى أم يوسف مفسرة الأحلام ”
-ما رأيت يا أم هشام هو النجم المذَّنب، وهو لا يظهر إلا منذرًا باشتعال الفتن وتبدُّل حال بحال، إذن ينبئ بزوال مُلك الظالمين وهلاكهم الوشيك.
….
-هل أنت متأكدة من هذا التفسير يا أم يوسف؟(100)
إن الحلم وتأويله “يحتل مكانة مرموقة بين أساليب السيطرة الخرافية على المصير، ويعتبر من الناحية الشعبية فأل حسن أو نذير شؤم ونوائب(101) فالإنسان يبحث فيه عن راحة مفقودة، ومستقبل لا أمل فيه.
كلما ضاقت الأحوال وازداد القهر، ومارس السيِّد ممارسته القمعية سارع المقهور لا واعيًا تجاه الأحلام لتحدث نوعًا من التوافق النفسي داخله، لذلك انتشرت الأحلام في الثلاثية وكلها تدور حول موضوع واحد، الكل ينتظره ويتمناه لكنه لا يجيء ” قالت إحداهن إن زوجها أخبرها بأن فقيهًا ذا كرامات رأى في المنام الفاطميّ يعتلي حصانه الأخضر ويشهر سيفه، ويذيع في الناس أنه لم يمت بل كان حبيسًا وراء صخرة تحت الجبل، وأنه بعد الإفلات من محبسه الطويل قادم لإنقاذ أهله(102)
وقالت امرأة أخرى إن ابنة عم لها سمعت من مكاريّ يتنقل بالحمولات بين البلاد أنه سمع في بالنسية عن امرأة وضعت طفلًا بستّ أصابع، وفَسَّر العارفون الأمر بأنه إشارة مؤكدة لخير على الطريق. وقال المكاريّ نفسه إنه سمع من الأهالي، في رحلة حملته إلى البشرات، أنهم رأوا طيورًا غريبة سابحة في السماء، وأكد بعض رجال القرية أن ما رآه لم يكن طيورًا بل رجالًا مسلحين يعتلون جيادهم ويحلقون في السماء(103)
كان الحلم وتأويله باب أمل فتحه الغرناطيون لأنفسهم، عندما ضاقت به السبل، ولم يعد هناك مفر من هذا التعسف والعنف، في عالم أضحى سجنًا لهم، فالخطاب الروائي بهذه الرؤى والأحلام كان يمهِّد الطريق للرحيل، فلقد عكس السرد الروائي كم الاختناق الشديد الذي كانت تعاني منه الذات الغرناطية والأندلسية عامة، خاصة بعد سحق ثورة البشّرات، وما شاهدوه من تنكيل وتمثيل بجثث الثوار، ثم تعدى هذا كله إليهم، إلى المسالمين المستسلمين للعبودية، حيث صدر قرار ترحليهم داخل الأندلس ثم قرار طردهم النهائي.
كشف الخطاب السردي عن الإمعان في الهروب بالحلم من الواقع، كان يعكس حقيقة القهر والاستعباد الشديد الذي مورس ضدهم. ورغم كل هذا ظلوا متمسكين ببقايا ذات وهوية مجروحة، ودين بقى في القلب والعقل، رغم تلاشي طقوسه من حياتهم.
الخاتمة
عالج هذا البحث الحوار الجدلي بين السيد والعبد، في رواية ثلاثية غرناطة لرضوى عاشور، هذه الجدلية التي انبثقت أساسًا من الصراع حول الهيمنة على مقدَّرات العالم، والإنسانية، والهيمنة على كل أسباب النجاح دون الالتفات للآخر الإنساني، الذي كان لا بد وأن يسقط ضحية هذا الصراع مستعبدًا أو ميتًا في النهاية.
عرض هذا البحث للصراع الجدلي معتمدًا على الرؤية الفلسفية لهيجل، التي تبنَّت هذه الجدلية وأفاضت في الحديث عنها بوصفها معضلة إنسانية، تمس الوجود الإنساني وسِلمه الاجتماعي والنفسي.
وأظهر هذا البحث تجليات الجدلية القائمة بين الإنسان الغرناطي والقشتالي نحو مبدأ السيادة والعبودية في الرواية، عبر مظاهر الاستهلال السردي، والعبودية ورسائلها واختباراتها وكذلك صراع الهوية والتحدي والتماهي بكافة أشكالها. لقد وقف البحث أمام إنتاجات القهر النفسية التي تصيب الإنسان بالأمراض النفسية والسلوكيات الدونية، كما أن البحث كشف عن شعور الإنسان الواقع تحت نير العبودية والقهر بالاستزلام والدونية، بل إن هذا الإنسان قد يكون _ عند تمكُّن القهر منه _ عاملًا فاعلًا في التبخيس من ذاته وهويته والإعلاء من شأن الآخر.
لقد استطاع البحث أن يقف على عمق الخطابي الفلسفي للرواية، وكثافة دلالاته التي تنطلق من الماضي لتبصر الحاضر وتنبئ عن المستقبل، وكشف كذلك عن الانتماء للهوية العربية والإسلامية للغرناطي، ومدى مقاومته الشرسة لمحاولات التنصير ومحو الهوية، كما أشار البحث إلى دور الخطاب السردي في التعبير عن الذات والغربة التي شعر بها المقهورون بها في غرناطة، والقلق على المصير الإنساني، هذا القلق الذي حدا بالذات المقهورة للانحراف متقنعة بقناعات عديدة، بعضها ينم عن خلل واضح في النفس والسلوك
أولا المصادر:
رضوى عاشور، ثلاثية غرناطة، دار الشروق، ط8، 2012م
ثانيًا المراجع العربية:
– إبراهيم الحيدري، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة، دار الساقي، بيروت، ط1، 2012م
– إقبال سمير، رمزية سقوط غرناطة في ثلاثية رضوى عاشور، فصول، مصر، ع 66، 2005م
– آلان تورين، نقد الحداثة، ترجمة: أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 1997م
– ألكسندر كوجيف، جدلية السيد والعبد المدخل لقراءة هيجل، ترجمة: وفاء شعان، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء، لبنان، 2000م
– آن موريل، النقد الأدبي المعاصر، ترجمة: إبراهيم أولحيان، محمد الزكراوي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر ط1، 2008م
– أورتادو دي مندوثا، حرب غرناطة، ترجمة: إيمان عبد الحليم، سلوى محمود، مراجعة جمال عبد الرحمن، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2008م
– تيري إيجلتون، النقد والايدلوجيا، ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات للنشر، عمان، 1992م
– جمال عبد الرحمن( دكتور )، دراسات أندلسية وموريسكية ” مترجم، تأليف نخبة من المتخصصين ” المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2008م
– جوزيف فوجت، نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان، ترجمة: د. منيرة كروان، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 1999م
– دومينغيث أورتيث، برنارد فينسينت، تاريخ الموريسيكين مأساة أقلية: ترجمة عبد العال صالح، مراجعة جمال عبدالرحمن، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2007م
– ديفيد دودج، الفن الروائي، ترجمة ماهر البطوطي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2003م
– رمضان بسطاويسي ( دكتور ) ” الإبداع .. والحرية” الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2002م
– سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، مركز الثقافة العربي، الدار البيضاء، ط3، 1997 م
– السيد إبراهيم ( دكتور ) ” قراءات جديدة في أدبنا المعاصر ” الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 2010م
– السيد إبراهيم ( دكتور )، آفاق النظرية النقدية المعاصرة، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط 1،2008
– شكري عزيز الماضي ( دكتور ) ” أنماط الرواية العربية الجديدة ” عالم المعرفة الكويت 2008 م
– صالح سليمان عبد العظيم ” سوسيولوجيا الرواية السياسية ” الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م
– الطاهر بن هلال( دكتور )، الحتمية التاريخية لدى هيجل وماركس دراسة تحليلية نقدية، مجلة المشكاة، ع 7 عام 2009 م
– عبد الرحيم الكردي( دكتور )، السرد ومناهج النقد الأدبي، مكتبة الآداب، القاهرة، 1425هـ : 2004م
– عبدالله إبراهيم ( دكتور )، السردية العربية الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2003م
– عزت جاد، سيميوطيقا التاريخ في ثلاثية غرناطة، فصول، مصر، ع 66، 2005م
– عمارة الناصر اللغة والتأويل مقاربات في الهرمينوطيقا الغربية والتأويل العربي الإسلامي، دار الفارابي، ط 1 1428هـ 2007م
– فريال حسن خليفة ( دكتور )، تصور الحرية عند هيجل، مجلة كلية التربية جامعة عين شمس، مج 18، ع 1، عام 2012م
– كارل جوستاف يونج، جدلية الأنا واللاوعي، ترجمة : نبيل محسن، دار الحوار للنشر، سوريا ط ا، 1997م
– لويس تايسون، النظريات النقدية المعاصرة الدليل الميسر للقارئ، ترجمة د أنس عبد الرازق مكتبي، جامعة الملك سعود، الرياض، 1434 هـ 2014م
– مجاهد عبد المنعم مجاهد، هيجل قلعة الحرية، سعد الدين للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1405هـ،1985م
– مرسل فالح العجمي، السرديات: مقدمة نظرية ومقتربات تطبيقية، مكتبة آفاق، الكويت، ط1، 1432 هـ : 2011م.
– مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ط9، 2005،
– مصطفى زيور، جدل السيد والعبد: دراسة في التحليل النفسي، مجلة أدب ونقد،ع / سبتمبر 1994م
– نازلي إسماعيل حسين ( دكتور ) الشعب والتاريخ: هيجل، دار المعارف، مصر
– هيجل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة: د ناجي العونلّي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2006م
– وجيه يعقوب السيد ( دكتور ) ” الرواية المصرية في ضوء المناهج النقدية الحديثة” مكتبة الآداب القاهرة ط 1 1425هـ 2005م
– يوسف حسن نوفل ( دكتور ) ” بهجة السرد عند محمد قطب وفؤاد قنديل” مطبوعات نادي القصة القاهرة ط1 2008م
المراجع الأجنبية:
? Alan Barnard and Jonathan Spencer (Editors) Encyclopedia of Social and Cultural Anthropology, Routledge. London& New York, 1996.
– Michel Foucault, Human nature: Justice Versus Power , in Refexive Water: the Basic concerns of Mankind, ed.fons Elders, London,Souvenir Press. 1974.
? Pablo Iannone, Dictionary of World Philosophy. Routledge, London& New York, 2001.
– Steph Greenblatt, , “Culture”, in Context for Criticism,Ed .Donald Keesey.Mountain View, Mayfield.1998
1 ) جوزيف فوجت، نظام العبودية القديم والنموذج المثالي للإنسان، ترجمة د. منيرة كروان، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 1999م ص 3
2 ) ) ألكسندر كوجيف، جدلية السيد والعبد المدخل لقراءة هيجل، ترجمة وفاء شعان، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء، لبنان، 2000، صـــ 51
3 ) د فريال حسن خليفة، تصور الحرية عند هيجل، مجلة كلية التربية جامعة عين شمس، مج 18، ع 1، عام 2012م ص 508
4 ) السابق 465
5 ) د فريال حسن خليفة، تصور الحرية عند هيجل، صـــ 510 : 511
6 ) السابق 25
7 ) رضوى عاشور، ثلاثية غرناطة، دار الشروق، ط 9، 2012م صـــ 8
8 ) ديفيد دودج، الفن الروائي، ترجمة ماهر البطوطي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2003م صـــ 45
9 ) رضوى عاشور، ثلاثية غرناطة صـــ 8
10 ) السابق صـــ 10
11 ) ألكسندر كوجيف، جدلية السيد والعبد المدخل لقراءة هيجل صـــ 47
12 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 12
13 ) ألكسندر كوجيف، جدلية السيد والعبد المدخل لقراءة هيجل صـــ54
14 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 11
15 ) السابق صـــ 15، 16، 17
16 ) إقبال سمير، رمزية سقوط غرناطة في ثلاثية رضوى عاشور، فصول، مصر، ع 66، 2005م صـــ 164
17 ) السابق 169
18 ) السابق صـــ 169
19 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 35 : 36
20 ) السابق صـــ 36
21 ) كارل جوستاف يونج، جدلية الأنا واللاوعي، ترجمة : نبيل محسن، دار الحوار للنشر، سوريا ط ا، 1997م صــ 71
22 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 37
23 ) السابق صـــ 39
24 ) السابق صـــ 39
25 ) السابق صـــ 39
26 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 56
27 ) السابق صـــ 61
28 ) السابق صـــ 61
29 ) ألكسندر كوجيف، جدلية السيد والعبد المدخل لقراءة هيجل صـــ 46
30 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 63
31 ) السابق صـــ 64
32 ) السابق صـــ 64
33 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 64 : 65
34 ) ألكسندر كوجيف، جدلية السيد والعبد المدخل لقراءة هيجل صـــ47 : 48
35 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 26: 27
36 ) السابق 27
37 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 37 : 38
38 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 27 : 28
39 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ ص 109
40 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 47
41 ) السابق صــ 49
42 ) السابق صـــ 48
43 ) السابق صـــ 51
44 ) السابق صــ 51
45 ) السابق صــ 52
46 ) السابق صــ 127 : 128
47 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 12
48 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 97
49 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 26
50 ) السابق صـــ 27
51 ) السابق صـــ 27
52 ) السابق صـــ 44 : 45
53 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 128
54 ) رضوى عاشور، ثلاثية غرناطة صـــ 45
55 ) السابق صـــ 45
56 ) السابق صـــ 121
57 ) السابق صـــ 121
58 ) السابق صـــ 121
59 ) مصطفى زيور، جدل السيد والعبد: دراسة في التحليل النفسي، مجلة أدب ونقد،ع / سبتمبر 1994م، صـــ 109
60 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ صـــ122
61 ) السابق صـــ 122
62 ) السابق صـــ 122
63 ) السابق صـــ 123
64 ) السابق صـــ 123
65 ) السابق صـــ 123
66 ) كارل جوستاف يونج، جدلية الأنا واللاوعي صـــ62
67 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 105
68 ) السابق صـــ 106
69 ) مصطفى زيور، جدل السيد والعبد: دراسة في التحليل النفسي صـــ 10: 11
70 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 157
71 ) السابق صـــ 272
72 ) السابق صـــ 221
73 ) السابق صـــ 228
74 ) السابق صـــ 234
75 ) السابق صـــ 240
76 ) السابق صـــ 241
77 ) السابق صـــ 245
78 ) السابق صـــ 243 : 244
79 ) د فريال حسن خليفة، تصور الحرية عند هيجل صـــ 508
80) هناك قصة شبيهة بقصة سليمة وردت في الوثائق الموريسيكية وللمزيد راجع: د جمال عبد الرحمن، دراسات أندلسية وموريسكية ” مترجم، تأليف نخبة من المتخصصين ” المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2008م صـــ 110 : 111
81 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 177 : 178
82 ) السابق صـــ 176
83 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 123
84 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 123
85 ) لويس تايسون، النظريات النقدية المعاصرة الدليل الميسر للقاريء، ترجمة د أنس عبد الرازق مكتبي، جامعة الملك سعود، الرايض، 1434 هـ 2014م، صــ 67
86 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 127
87 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 355
88 ) السابق صـــ 360
89 ) السابق صـــ 295
90 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 128 : 129
91 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ299
92 ) السابق صـــ 394
93 ) السابق صـــ 445
94 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ 132 : 133
95 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 217
96 ) السابق صـــ 479
97 ) السابق صـــ 103
98 ) السابق صـــ 443 : 444
99 ) السابق صـــ 248
100 ) السابق صـــ 248:249
101 ) د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل سيكولوجية الإنسان المقهور صـــ160
102 ) رضوى عاشور ثلاثية غرناطة صـــ 250
103 ) السابق صـــ 251
—————
هاني إسماعيل أبو رطيبة *