لولا السجن لما كانت الفرصه متاحة لرفعة الجادرجي أن يكتب كتابه المهم «الأخيضر والقصر البلوري " هذا ما نوه عنه في مقدمة الكتاب، في حين أن الفترات السابقة شهدت هي الأخرى ملاحقة له، وخضع الى عدد من لجان التحقيق وتعرض للفصل والتجميد، وكان في كل مرة منها ينصرف الى العمل والقراءة والتأمل والبدء في التخطيط لمشاريع أخرى، الا أنه في سجن ابي غريب، وفي فترة صعبة من تاريخ العراق، حيث يصبح السجن طريقا الى الاعدام أو الموت البطيء، تحفز رفعة الجادرجي ليكتب كتابه الوثيقة، الكتاب الذي يفصح عن بنية عقلية جدلية تجعل من مجال العمارة مدخلا آمنا لدراسة المجتمع العراقي وتركيبته الاجتماعية والنفسية.
-1-
وكأن رفعة في كتابته للأخيضر والقصر البلوري قد جعل من السجن مكانا للاستعادة، ومجالا لتجميع الذاكرة وانهاضا لما هو يومي في عمله المتسع وتحويله الى لغة حسية – ثقافية.
فكانت الكتابة تحررا للذاكرة وللجسد معا، من هنا أصبح الاشتغال بالعمارة وفنونها مدخلا لرؤية التحولات السيكولوجية للسلطات وللناس معا، وحاول عبر الخبرات المحلية للبنائين والنجارين والفلاحين أن يولف طريقة فنية تجتمع فيها الخبرة الآنية لهؤلاء مع خبرة الماضي في بنية الشكل المكاني للعمارة أو لأجزاء من تراكبيها المعقدة والصعبة، واذا كانت الكتابة فعلا لتحرير الذات وتحديا للسجان. فإن الكتاب نفسه يصبح أحد أهم الشواهد المعمارية في فن التجربة العملية لمهندس ينحدر من أسرة وطنية ومارس عبر تواريخ عدة مهنته بوضوح وبدقة، وكأنه يقول لنا ضمنا إن التاريخ الحقيقي لمكونات المجتمع العراقي لا يكتب الا من خلال الخبرة الميدانية في أنشطته العملية، وقاريء الكتاب يشعر أن ما يعنيه بالنظرية الجدلية للعمارة ليست الا الرؤية الميدانية المشغولة بالتطبيق المخطىء والمصيب، مع الانتباه العميق لحركة المجتمع وهو ينمو في اتجاهات مختلفة دون أن يلفي كلية فعل التأثر بالتيارات الحديثة في العمارة الأوروبية مع محاولة نقد منهجي للموروث في أشكال العمارة التراثية وأخذ الجانب العلمي والمتقدم منه واخضاعه تقنيا الى السياق المعماري الحديث. ان هذه النظرية التي تحولت الى مجال تطبيقي واضح تفصح عن رؤية فكرية أشمل، تلك التي تتعلق بالجانب الاقتصادي فالمهندس المعماري الحديث اذ يستفيد من بنية البيئة مناخيا وجغرافيا وأداتيا وخبرة، انما يحاول أن يجعل من هذه المواد الخام والأولية أرضية يشيد من خلالها وفوقها تكوينات معمارية جمالية ونفعية معا، ومستطلع انجازات رفعة وعدد من المهندسين المعماريين العراقيين يجدها قد استنطقت المكونات المحلية الى الحد الذي بدت خصوصيتهم في هذا الانجاز أو ذاك هي الهوية الفنية والفكرية لهم. وهذه الميزة الثقافية الكبيرة واحدة من تحويل فعل الهندسة المعمارية في العراق الى رافد ثقافي كبير، ليس عل مستوى الشكل وجماليات البناء، وانما في استخدام المادة الخام وفي وضع المفهومات والآراء الشخصية موضع تطبيق يوازنون به بين الدراسة والخبرة المعملية المحلية. وهكذا يدخل فن المعمار من إطاره التكويني – العياني والكتلي الى اطار اللغة الأدبية والجمالية، ويصبح هذا الفن رافدا لكل ذي توجه أدبي. أقول ذلك، واعتبر أن العمارة هي "المكين " في المكان، كما ينوه الفلاسفة العرب عن "اشغال المكان ". ولأن العمارة العراقية المنحدرة من التراث والحاضر معا قد رافقت نموا حضريا معينا، وأعني به "ثقافة المدن " و"الارتباط بين التطور والسلطة ". فقد جعلها المعنيون واحدة من الشواهد الحضارية التي نقيس في ضوئها ليس تطورها الذاتي فقط، وانما بناء الانسان العراقي نفسيا واجتماعيا، وأعني بالبناء هنا، هو مجايلة تطور العمارة في العالم، وفي الوقت نفسه تجديد رؤيتنا الى التراث العربي – الاسلامي مع المحافظة على أغراضها النفعية والجمالية.
-2-
جدلية البيت
ليس من الهين أن تلم بطروحات رفعة الجادرجي العملية والجمالية ففي الكتاب الكثير والكثير من الموضوعات التي تستحق وقفات تأمل ودراسة، منها مفهومه للبيت البغدادي
وعلاقة هذا المفهوم بالموروث، فهو قد اعاد اكتشاف قيمة الحوش في الف ليلة وليلة ثم استفادته من البيت المغربي خاصة في تراكبيه: الاسلاك والقضبان، ثم معاينة الواقع العراقي محليا وخصوصية الرواق والباحة والمشبك. كل هذه المفردات قد وضعت في سياق معاصر لحل مشكل البيئة المحلية أي استعمال مواد جديدة عن معرفة تتلاءم واستحداث الحلول التطورية لمتطلبات البيئة اجتماعيا ووظيفيا. اضافة الى تنمية احساسنا الشعبي بألفة مكانية تعيد للساكن أحلام يقظة دائمية من خلال الارتباط بالماضي، بيت الاجداد ومن ثم نقل أهم مكوناته الى البيت المعاصر – ثم التطلع الى المعاصرة – التكوين الجمالي لمدينة ناهضة، وهذا ما دفعه لأن يعمل توازنا هندسيا وجماليا بين باطن الدار، بوصفه موروثا عن الباحة القديمة كجزء من بناء ديني يرتبط بالجنة والنار، وبين خارج الدار، بوصفه تكوينا جماليا يخضع لقيم الفضاء والبيئة والعيانية، وكان من خلال هذا التوازن المنهجي أن جعل مفهوم الاجتماعية ينمو في باطن الدار كما ينمو في خارجها، ولعل هذه الظاهرة الجدلية في التوازن بين موقعين آتية اليه من المحاورة السياسية والفكرية التي كانت تضع مجمل أفكارها حيز التطبيق ليس على مستوى العمارة وانما على مستوى الفن التشكيلي والفن المسرحي لذلك نجده يقول "للفن وظيفة اجتماعية لا يمكن تجنبها وعلى الفنان أن يكون مدركا ليتخذ الموقف المناسب شريطة الا ينزلق وينجرف ويتناسى التقنية " ويقول أيضا "ضرورة استحداث فن عراقي حديث متأثر بالمجتمع العراقي" ص 45 ومن الواضح أن محمود صبري الفنان أحد أهم الفنانين الذين توافقت رؤيتهم مع ما أنجزه رفعة الجادرجي في هذا المجال. وهذا مدخل للمصاهرة بين فن التشكيل والعمارة.
والبيت البغدادي لدى رفعة هو التكوين الجمالي – الاجتماعي، والذي من خلاله استطاع أن يدمج في بنائه: النقوش الاسلامية. وهذا يعني أن المعرفة بزخارفها تعني معرفة بأصولها الدينية والمثيولوجية، كمحاولة لتجديد الشكل الاسلامي للعمارة. ثم اضفاء الطابع الذاتي على كل ذلك من خلال الخطوط والأحيان الجديدة التي يتطلبها التصميم الجديد المنطلق من ضرورة وجود الحلول الكفيلة بتوليد عمارة ذات طابع عراقي. ص 47.
ويستمر البيت حضورا، وفاعلية مع رفعة الجادرجي، سواء انشغل بتصميم عمارة كبيرة أو نصب تذكاري، فالبيت البغدادي كوحدة معمارية كان أشبه بالقيمة المركزية، والبؤرة المعمارية التي أدخلها كلها أو أجزاء منها في أي تشكيل أو تصميم معماري آخر، فعندما اكتشف الرؤية الجديدة الخاصة به في بناء الجامع وبخاصة في مجال الزخرفة، توصل الى موقف يوحد بين "العملي الواقعي" و"الفني الجمالي " ص 64. وهنا بدأت أولى خطواته في الابتعاد عن المؤثر الأجنبي والدخول الى التراث الاسلامي من خلال فن التجريد الحديث والزخرفة الاسلامية. أي الدمج بين ما هو محلي وعالمي. من خلال توظيف الأشكال الشعبية = الهلال عند جواد سليم – والمربع عند موندريان، وجمعهما في إطار تراكمي غير محسوس ينم عن معرفة جمالية بالتشكيل عبر مفردات متنافرة تاريخيا، منسجمة، جماليا،ومن هنا نراه عندما يعود لتصميم العمارة لاحقا يعتمد الجوامع والأزقة كخلفية بغدادية -ولننتبه الى مفردة بغدادية – لأعماله ص 65. الجوامع والأزقة: الدين والحياة الشعبية. الجامع كمكان للعبادة والبيت كمكان للألفة والهناءة والسكن، ومعهما سوية بنية الزقاق الطولي الذي تتجاور في أعلاه البيوت لتتعاور بشناشيلها وكأنها أجهزة اتصال سمعية – بصرية تسمح بمرور الضوء العازل لأجزاء من الشارع الضيق، بمثل هذا التكوين الجمالي الفائر بالشعبية والتجريدية معا. يستخلص تكوينا جماليا لبيت عراقي عام وليس لبيت عراقي خاص. ولعل تجارب المهندسين المعماريين العرب والأجانب – حسن فتحي مثلا، واحدة من الشواهد الثقافية المبنية على الاقتصاد بالمادة وبالوظيفة، لعل بيت منير عباس أحد الأمثلة التي يكثر رفعة من الاستشهاد بها، وبملاحظة بسيطة يوضح رفعة أن إنزال الشكل المائل فوق التكوين الأفقي الشاقولي يعني مزاوجة بين موروث اسلامي، وخبرة موندريان، وبالفعل نراه في الفصل الرابع من الكتاب يكثر الاستشهاد بنماذج من المهندسين المعماريين الأوروبيين: دستيل – يبتر فان دررو، جيوبونتي اضافة الى فنانين تشكيليين.
-3-
لم يقف تصور رفعة الجادرجي عند بناء جزئيات: بيت- محل- عمارة – سوق – نصب، فالتعامل مع الجزئيات يجعل المعماري أو أي فنان مشتغل جزئيا وخاصا، وقد يكون متميزا رذا خيال ونظرة، وإنما التعامل مع الجزئيات هو مدخل للتعامل مع بنية اجتماعية أشمل، هو هدف أي معماري يمتلك نظرة متقدمة، وهذا ما فعله رفعة عندما زاوج بين مفهومي: "العراق لابد وان يتطور، والعمارة لابد وأن تتطور أيضا. لذلك لا تكون بنية العمارة الجديدة الا من خلال بنية المجتمع الجديد" الا أن هذا المفهوم الكلي والشامل نراه يصطدم بتقلبات سياسية ومعمارية متخلفة، تؤدي بالتالي الى التهديم وقلب المفاهيم، وهذا ماحدث كما يروي في الكتاب أكثر من مرة، ومن الأفكار الجميلة في هذا الصدد، الكيفية التي تتحول بها الرسوم الى واقع معماري، هنا يعيد رفعة تركيب المفاهيم الأدبية والفنية لصياغة تجسيد مكاني، ومن خلال هذه المصاهرة المعمارية الفنية ينهض المهندس ليس رؤيته لمفهوم التطور وانما ليجعل من المشاريع الشخصية والمحددة بقطعة قماش مثلا، كيانا معماريا والمعروف أن الفن التشكيلي العراقي، اذا ما درس من خلال علاقته بفن العمارة سيجد مجالات رؤية نقدية أكثر دقة من تلك التي تعتمد مقولات نقدية تشكيلية بحتة. لعل نصب الحرية لجواد سليم، واحد من الشواهد التي يتزاوج بها المعماري بالتشكيلي عبر مصاهرة حضارية بين الموروث والمعاصر. ولما كان انساننا لم يتطور بما فيه الكفاية، أي لم تصبح التنمية الثقافية والفكرية متسعة لقطاعات واسعة من المجتمع، لاقى المهندس المعماري مشكلة الاستيعاب للجديد، حتى لدى المثقفين، وهذا ما جعل رفعة يتنصل من انجازاته في بعض البيوت التي بناها لأصدقائه، فكيف اذا كان الأمر يتصل بالمجتمع ككل، والبغدادي – بوصفه صرة العراق – بوجه خاص. من هنا جاء اهتمامه المتزايد بالحاجة النفعية، أي تلك الحاجة التي تتوالد من العلاقة بين الانسان والطبيعة، وبما أن الفن، الفن بوجه عام، والفن المعماري -التشكيلي بوجه خاص لا يتطور خارج الاطار النفعي، فإنه يمثل الموقف "اللانفعي" ص 84. والموقف اللانفعي هو الموقف الجمالي الخالص حسب تعبير هيجل.
يتطلع رفعة الجادرجي الى البيت العراقي تطلعه الى الوطن، ويريد من هذا البيت أن يحمل هويته، وان يصبح الساكنون فيه قوما لهم وجود فاعل ليس من خلال تراثهم فقط، وانما من خلال حاضرهم، لذلك يشعر القاريء بالنغمة المتحمسة في ثنايا الكتاب لأن يجعل من البيت وطنا معاصرا. وبالطبع فالجادرجي ليس فيلسوفا ظاهراتيا يريد تجريد المكان – البيت – من ماضيه ومن صوره المترائية يوميا والمتجددة، وانما هو مهندس معماري بحس وطني، وتراث قومي يمتد عبر العصور وبأ فق معاصر، لذلك كان البيت عنده نقطة تحول كبرى في توظيفه للمفهومات المعمارية الحديثة، وفي الوقت نفسا ليجعل منه أفقا حدا ثويا غير مقلد. لذلك نجده وهو يجوب في آفاق المعرفة المعمارية والفنية يقتنص كل مفردة ذات معنى، فبالأضافة الى جوامع بغداد وأرقتها وأسواقها وحاناتها ودورها التقليدية كان هناك دوكسيا دس اليوناني، وجواد سليم ومحمود صبري، وقحطان وغيرهم، وقد دخلوا جميعا معترك البحث عن هوية للبيت _ الوطن من خلال فن العمارة. قد يكون قولنا هذا من قبيل تحصيل حاصل للقراءة الخارجية لانتاج ثقافي أكثر منه لمعايشة واقع وشواهد مقامة على الأرض، فمثل هذا الاستنتاج صحيح، لاسيما وان رفعة حاول في كتابته أن ينتمي الى لغة معمارية وليس الى لغة أدبية، وهذا ما جعل كتابته تتحول من الترصيف الى التجسيد وقد اغتنت بالوثائقية والمرجعية، وتعمقت في اشتقاق المصطلحات وفي ترجمة الأخرى الأجنبية وايجاد معادل لغوي أو لساني لها، فالهوامش وهي كثيرة وغنية كانت دليلا آخر على تشييد كيان كتابي موثق يشابه الى حد بعيد الاستعارات الصورية التي وظفها في العمارة، ومن هنا فالجادرجي في الكتابة مبدع كما هو شأنه في البناء ولعل الكتاب بقسميه، سياحة منهجية، قد تكون اطلالتنا هذه قائمة على العلاقة بين المكان والعمارة.
-4-
ثمة تصاهر جدلي في عمل رفعة الجادرجي بين ما هو حضري، وما هو لا حضري، فالحوش بناء لاحضري "الحوش ليس سوى وضع اجتماعي معين " ص 149، لأن الحوش جزء من بنية القرية الزراعية ويتصل عيانيا بالراحة بعد التعب لذلك لابد من مسافة للنظر فيه، وهذا ما جعل الحيطان – الخصاص وأسيجة القصب والطين – إما أن تكون واطئة أو بعيدة. الحوش ماهر الا مكان يرتبط بحرية الحركة خارج الدار – مكان المنام -وعندما أتى به الى البناء الحضري اصطدم بالكلفة أولا، وبالمساحة ثانيا، وبالانتقال من الجلسة التعدية – من القعود – الى الجلسة الأرائكية – وهذا الانتقال استغرق وقتا طويلا كي يبدأ التآلف مع الوضع الحضري، ثم إن العراق كله بما فيه البادية كان يعتمد مفهوم الحوش والديوان،وهما مفهومان قديمان لذلك فالبنية المعمارية للمدن العراقية تعتمدها كجزء من تكوين ثقافي – اجتماعي، أما بعد ان أصبحت بغداد والمدن مرتبطة بتطور العمل وبالتقنية الحديثة لفعالية الشارع والمسكن، والتوزيع الوظيفي للخدمات أو العمل المتنوع والمجاورة بين سكان لا ينحدرون من جذر واحد. مضافا اليها طرق الماء والكهرباء والمواصلات والازياء وتطور المطبخ، والاهتمام بالزينة و…الخ. جعل من المدينة العراقية حلقة وصل متقدمة بين الجذر الزراعي، والمدينة الحضرية الناهضة.. لذلك شكل الحوش والباحة والرواق والمجاز، روافد نفسية أكثر مما هي بنى اجتماعية واقتصادية، ومع الحوش المحلي، كان مفهوم الجدار العاكس ص 152، واحدا من القيم المعمارية الجديدة، وفائدة هذا التصميم هو احتواء قدر معين من الضياء الداخل الى الدار مع تكوين بصري خارجي جميل. وحاول الجادرجي أن يجعل من الجدار العاكس مرآة للضوء الداخلي بنسب هندسية. هذه القيمة حضرية، وجديدة ولكنها تلاءمت مع بنية الحوش. ومن خلال هذين المفهومين: الحوش والجدار طور الجادرجي ثيمات عدة: الجدار الناتيء،والحيز المضي، والداكن، والجدار المرتد والمترس، وأدخل ذلك كله الى التفاصيل الداخلية للبيت: الموقد والستارة الجدارية المواجهة للمدخل، ثم الى خارج الدار: الحديقة وملحقاتها. والاضاءة والأوجار،وكل ما يتصل بالتكوين الجمالي الداخلي والخارجي للبيت. وفي العمق من هذا التأثير نجد موندريان يطل علينا من خلال مربعاته ومساحاته الملونة، ومع موندريان ثمة رؤية محمود صبري الخفية المتسمة بالواقعية: واقعية اللون وواقعية المساحة. اضافة الى فنانين ومعماريين آخرين.
النظرة الجدلية التي وظفها الجادرجي في مفهوم البيت البغدادي الذي يجمع بين الحضري واللاحضري، هي النظرة الاختلاسية، ومفادها أن الناظر الى الحوش حيث السعة المكانية تتم من موقع حصين. وغالبا ما يكون هذا الموقع غرفة النوم أو المكان المرتفع "الكفشكان، أو الكدي، أو الجدار المرتفع " والنظرة الاختلاسية لا تتحدد بأغراض ذاتية ومؤقتة، وانما ترتبط بالخمار، والبرقع، وبأقنعة الوجه القديمة، وبالخيمة، وذلك من خلال تأكيد مبدأ«تضييق الاتساع " الذي اتسمت به الخيمة في الصحراء الواسعة. فالخيمة موزعة الى خانات تفصلها ستائر وحواجز، وجعل للنساء مكانا وللرجال مكانا والمراسلة بين الاثنين تتم من خلال فتحات أو من خلال الصوت.. هذه البنية اللاحضرية جاء بها لاوعي المهندس المعماري وهو ينقل خصوصية البيت الأليف المرتبط بفاعلية العش والجنس الى البيت المعاصر. وعندي ان مسعاه هذا جاء من تداخل بين حضارة الشرق، حيث فاعلية الحرارة والسعة المكانية، وحضارة الغرب حيث الاقتصاد والعمل الوظيفي المركز، ومن خلال هذه المجاورة نمت روحية الانسان العراقي المتطلع بعين الى الامام، وفي الوقت نفسا مشدود بوتد مكاني وزماني الى التراث.
في محاولته لتطوير البيت لم يقف الجادرجي على تيم معينة، حيث نراه بعد أن استكمل مفهوم الحوش والنظرة الاختلاسية – الحريمية في الأساس – يعود هذه المرة للتقويس المكاني، فنراه يستعير الطاق. وهو ارث عربي _ فارسي انجز فيه أهم نصب للجندي المجهول في بغداد، وعلى مشارف العاصمة العراقية يقبع طاق كسرى بكل موروثه، وفي العمق من هذا طه تستعاد موروثات الحضارة الاسلامية في بناء الجوامع والأسواق والخانات والمحلات.. فالعلاق ليس الا احتواء للفضاء وجعله دائريا، ليشبه في ابعاده اقتناص لحظة زمنية – مكانية من السماء على الأرض، ولذلك اعتمد سابقا كجزء من السدود، سدود الري وتنظيم الزراعة فكان معبرا، ثم ارتفع به ليصبح معبرا آخر ولكن من تحته هذه المرة، وينظم الطاق اذا ما استخدم بنية محورية في البيت فاعلية الستائر والأضواء الداخلية والخارجية. وفاعلية الموقد والباحة.والديران. ويعطينا انطباعا بأنه ليس ثقبا في جدار، ولا نافذة يطل منها أو فيها، وانما هو تركيب روحي أشبه بالتأمل في الحواجز النفسية وخلال تاريخ استعمال الطاق، تحول من ثقب – "الحضارة البابلية والاسلامية » ص 187. الى معنى آخر، هو المعنى الديني، ويعني به احتواء قطعة من السماء -الأعلى – وتحديدها بأطر تشدها الى الأرض،وقد يكون ذلك جزءا من التقديس، لعل القبة بمعناها الديني ليست الا طاقا مغلقا".
في كتاب مرسليا الياد "المقدس والعادي" عثر على صور كثيرة للمكان المقدس بوصفه المكان الذي يحقق غرضا آخر غير الأغراض الاجتماعية، وغالبا ما يكون الفرض دينيا. ولما كان الانسان الديني لا يستطيع أن يحيا الا في جو مشبع بالمقدس فما كان منه الا أن نقل الكثير من التقنيات التي ساعدته على تقديس المكان الواقعي وهكذا تضمن البيت جزءا من بنية الجامع وبنية المعبد، وبنية الالهي على الأرض، ونجد مفهوم المقدس عند الجادرجي ينتقل ليس الى البيت فقط وانما الى العمارة، خاصة عندما وجد عند كوربوزيه ثيمات الشبابيك والأحياز المقوسة فعاد بجذورها الى كنيسة نوتردام دو او رونشام. وقد طور الجادرجي هذه المفاهيم النحتية بطريقة "تمويه المقاسات " أي أن التكوين العام للكتلة لا يدل على المقياس الحقيقي لمكونات الكتلة المادية. والخلفية لهذه الفكرة جاءت للجا درجي من فنية أزقة بغداد التي تميزت بصفة نحتية تعتمد علاقات تكوينية مبسطة وقليلة العدد ص 203 ومتكررة وثابتة، ولكن هذه التكوينات مختلفة من بيت لآخر، وبمجموعها تتألف للزقاق وحدة عضوية كما لو كان هذا الزقاق هو الانسان، أما ما عدا ذلك فالأشياء بما فيها المدرة فيه لا تشكل له أية اضافة. بنية الزقاق البغدادي لها خصوصية محددة وتكمن في أن البيوت تشكل وحدة مترابطة برغم انفراط أجزائها، ويعود الجادرجي بهذه البنية الى الحكاية الشعبية "ان الزقاق البغدادي ليس عقدا متسلسلا في تكوين موحد، انه منفرط الخرزات، لكنه في عين الوقت كالاقاصيص المتفرقة والمتوالية التي تتألف منها مسلسلة ألف ليلة وليلة لكل منها لونها ومذاقها، لكنها كلها مرتبطة بسلسلة التصور ومحصورة باستمرارية الحديث والتشوق للاستمرارية ص 204. وهنا ينقل الجادرجي مبدأ "الحكي" لا الحكاية الى فن العمارة. هل نعيد مقولة أرسطو في المحاكاة "ان لذة المحاكاة هي نوع من لذة المعرفة " "فن الشعر". وبما أن الزقاق البغدادي ذو تاريخ طويل فهو يمتلك عناصر مليئة "بالقوة الدافعة » ذات بنية حركية سواء ضمن الوحدة الصغيرة "البيت " أو ضمن الوحدة الكبيرة "الزقاق "، وقد عالج الجادرجي هذه الديناميكية في بناء العمارة كما في بناء البيت. وهذا الاختلاط بين نموذجين أحدهما وظيفي والآخر نفعي، أمكنه أن يولد لنا بنية عراقية معاصرة لنمط البيت، الا أن هذه البنية كانت غير شعبية، وذات تكلفة عالية، ان نماذج البيوت التي بناها هي لأثرياء بغداد، بمعنى أنه لم يستطع تطوير مفهوم سكنى شعبي للناس، وانما كان هدفه ينصب على تكوين عمارة ذات بنية حضارية متقدمة تعتمد الموروث الشعبي. فالأزقة البغدادية وان امتلكت خصوصية حركية وفعالية ديناميكية، انما كانت تنقل اليها ثلاث خصائص: الأولى ان سكنة هذه الأزقة هم الناس المنحدرون من الريف، ولذلك كانت أشياؤهم الخاصة معلنة الى الخارج. تعريض الملابس للحرارة الشمسية، المخاطبة من الشرفات، طريقة لعب الأطفال، المطبخ المفتوح الشبابيك، وغرف النوم المحتجبة والسرية. الخصيصة الثانية: ان الانسان الشعبي لا يفصل كثيرا – وبدون وعي – بين المكان المقدس – الجامع – وبين البيت. فكلاهما بؤرة مكانية للعبادة: الأول متجه الى الله والثاني متجه الى الأسرة والذات. وعليه فالخصوصية البغداية للزقاق خصوصية دينية مكثفة البناء متجاورة اللغة والتكوين متحركة وديناميكية. الخصيصة الثالثة للزقاق: هي احتواؤه على نغمة تطورية تتجه الى المدينة القادمة، لذلك كانت مفردات البناء من الحجر والطابوق والخشب والحديد. لكنها تحتوي على بنية داخلية ريفية.. هذه النقلة المراوحة بين الريف والمدينة جعلت ما هو شعبي ومقدس قابلا لأن يفجر رؤى وأشكالا جديدة والجا درجي بحسه المرهف، ونظرته الثاقبة كان يستطلع الأفق المستقبلي من المكونات الشعبية للعمارة العراقية البدائية والشعبية.
مرة أخرى لم تغب عن الجادرجي النظرة الاختلاسية من الزقاق. ولم يغب عنه العمق الديني للبيت. ولم يغب عنه كذلك الارث الحضاري الاسلامي والانساني المعاصر. كل هذه الروافد تداخلت بعضها مع البعض الآخر لتسوغ نظرية جدلية خاصة بتركيبة البيت داخليا وخارجيا. وكأنه يبني من خلاله وطنا لأناس شبه متشابهين. وهو إن ركز جهده "البيتي" على بغداد وحدها لم نجده يعمق هذا الجهد بطرز خاصة في البيوت التي تبنى من الحجر – بيوت المنطقة الكردية والموصل، ولا البيوت التي تبى من الطين والقصب كما في بيوت المنطقة الجنوبية. كما لم يطور نظرته الى البيوت التي بناها الانجليز وبخاصة مناطق شركات النفط ومحطات السلك والموانيء، والتي اتسمت بتهوية خاصة وبناء أرضية وجدران ذات طبيعة معمارية خاصة بها. خاصة بيوت المعقل في البصرة.
في القسم الثاني من الكتاب، يوضح الجادرجي مسائل أخرى ذات صلة بالعمارة، وبالتركيبة الاجتماعية والنفسية، وهو الجزء الذي احتوى على تسعة فصول،كانت في معظمها تتناول أفكارا قارة مثل "الحيز – الارائك – التصادفية – الجدار الملتف – الممارسة والتجربة – الكلاسيكية والأسير – الاخيضر وهدريان – الاستشارة ".
ما يلفت النظر في هذا الجزء ان الجادرجي أعطى لمواقع مهمة من بغداد أهمية استثنائية، مثل شارع الرشيد، الذي أعطى أهمية استثنائية ليس لبغداد كلها،وانما لأي عمل معماري ينشأ بالقرب منه، وهكذا جرى التعامل الحذر مع منشآت شارع النهر، وشارع البنوك، ومن ثم السوق العربي، اضافة الى التجديدات التي لحقت بساحة الميدان وهباب المعظم، وما احتوته ساحة التحرير، ثم التكوين المعماري لشارع الجمهورية الموازي لشارع الرشيد، ولم يقف الأمر عند، هذا الحد، بل أن شارع السعدون الذي يعتبر امتدادا وحيدا لشارعي الرشيد والجمهورية قد أخذ هو الأخر هوية شارع الرشيد. لذلك كان على أي مهندس معماري مكلف ببناء وزارة أو مؤسسة بالقرب من هذه البؤرة المكانية الخلاقة أن يأخذ بالحسبان أهمية شارع الرشيد المعمارية والاعتبارية – سنفصل رؤيتنا لشارع الرشيد في مقال مستقل -.
النتيجة التي استخلصها الجادرجي من التعامل مع شارع الرشيد هي: اعتماد التيجان للأعمدة والبالقون الذي يبرز الى فضاء الشارع،وقد تداخلت معهما: الحوش وا سيجته الخارجية والطاق وفاعلية الأقواس، والمشبك الحديدي للشبابيك، اضافة الى المقرنصات الخشبية – ولكل مفردة من هذه المفردات جذور تاريخية وتصميمية، وما احتواه شارع الرشيد من بيوت قديمة "بيت ليخ، وبناية دار كرابيت، ومديرية النفوس، ودار ياسين الخضيري، وسينما الزوراء، والبناية التي سكنها المندوب السامي البريطاني ( مسز بيل (- تحولت الآن الى منتدى المسرح التابع لمؤسسة المسرح والسينما – والفندق المركزي في حافظ القاضي، اضافة الى عدد كبير من المقاهي – الزهاوي والبلدية وعدد من الفنادق. أمكن القول ان العمارة التي احتواها شارع الرشيد كانت الرافد المعاش لتطوير العمارة العراقية لاحقا. ومستقريه انجازات الجادرجي والمعماريين العراقيين يجد أن المسعى كان ينصب على الجمع بين "المطلب الاجتماعي والوضع التقني" وقد فصل الجادرجي جذور هذه الفلسفة في انجازات مهندسين عالميين منهم "تلفورد وباكستون وايفل الذين يرون ان الشكل يتبع الوظيفة، وهناك من يرى أن الشكل يجب أن يتوفق مع المتطلبات الانتاجية – أي التكنولوجيا المتقدمة لعصر ما، والمنادون بهذا الاتجاه الفرنسي أوجن ايمانويل فيوليه الذي بشر بمبدأ العقلانية، والذي كان حصيلته التأثير المباشر بكوربوزيه الا أن الجادرجي لا يقف عند أعتاب المقولات لينقلها عمليا بل يخضعها الى مخبرية خاصة يغير منها وفيها كلما قادته العملياتية الى بروز ظاهرة جديدة، وهكذا نشأت لديه ظاهرة الجدار الملتف وهو خلاصة العمارة الشعبية من أزقة بغداد وللعمارة الاسلامية – المدرسة المستنصرية، واستطاع في "الجدار الملتف " أن يصوغ رؤية جمالية ذات ايقاع بصري وفني وزع بموجبهما الجدار الى ثلاثة أجزاء، وقد اختص كل جزء بايقاع فني خاص فيما يخص الشرفات والشبابيك والقطع البارزة والفتحات، ولو دققنا النظر في المؤثرات التي جمعت في هذا السياق العراقي لوجدناها، مؤثرات دينية وفلكلورية وأوروبية ويونانية، وكنائسية ونحتية، ولها من التقسيم الجغرافي، خط الموصل / حلب، وخط بغداد / البصرة، وخط البحرين الخليج وجود هندسي وتراثي غني.
يتحول فصل الممارسة والتجربة عند الجادرجي الى فعل بحت وتقص وتدقيق فقد ألفى الكثير من طروحاته القديمة فيما يخص الشكل والنفعية والوظيفية وجعلها موزعة على اكتفاء العنصر التكويني، فلكل عنصر شكله ووظيفته وليس شرطا ان يكون مجموع الأشكال والوظائف منسجمة، هنا تحولت فاعلية التصادفية التي اعتمدها في الجدار الملتف الى بحث في ماهية الشكل الفني، لعل اهتمامه بالفن التشكيلي أتاح له رؤية متعددة لمعنى الشكل الفني الذي يتغير تبعا للمساحة، وللمحيط، ولم ينس وهو يمارس المطلب الاجتماعي والتقني مضافا اليه الخبرة والممارسة، وخلص الى القول أن ا لعمارة في العراق لا يمكن ممارستها إلا كعمل تجريبي ص 309. وهذه نتيجة مؤلمة حقا لاسيما وأن الكثير من الخبرات الميدانية قد ذهبت سدي ولعل دور السلطات القامعة والغبية أحد أهم
الأسباب وراء ذلك، اضافة الى أن مبدأ التراكم في مجال المعمار بقي فرديا ومحددا بأطر انتاجية هي الأخرى فردية: وزارة، متحف، نصب، بناية..الخ. ولم تأخذ الدوائر المعنية هذه الخبرة المتراكمة لحصيلة فكرية وفنية و:سعة للتطوير. ولم يخف الجادرجي مخاوفه من أن يصبح الشكل مهنة لغير المتدربين، خاصة أذا ما اعتمد كتقنية حكومية، أو كمفهوم شائع، لما جوى التعامل لاحقا مع الأقواس بشكل عشوائي، وفي بلد مثل المراق، المتغيرات فيه أكثر من الثوابت، والأمزجة لها دور قيادي يصبح التعامل مع الأشكال المتداولة سمة اجتماعية تغذي من جانب جماعية الطابع الوظيفي العام للمبنى، وتصبح من جانب آخر لغة اعتبارية للوجاهة. ولذلك يصف ألجادرجي أعماله بأنها "اجراء تجارب على الشكل بقصد صهر التراث صهرا بدمجه في الشكل المخلوق وعلى نحو يتصاهر التراث فيه مع المفاهيم الحديثة " ص 313 وعاد ثانية ليؤكد أن على الشكل أن يصاهر التراث، والمسألة كما يبدو أن الثقافة الغربية في مجال المعمار هي الفعل الضاغط على كل اجتهادات معماريينا، وهذا ما جعلهم يبحثون عن هويتين: هوية ذاتية، وقوية وطنية، وكانت تجربة اليابان وايطاليا (كيكوتاكي.. سكاربا) واحدة من النماذج التي خرجت على ألمألوف الغربي في العمارة. ولم يقف الأمر عند فاعلية التأثير العشوائي بل أن أبنية عربية قد نقلت تصميماتها الى أبنية دينية في بغداد بحيث أصبحت بعض الجوامع قطعا من بلدان أخرى، وخلال فصل الممارسة الذاتية والجماعية شخص الجادرجي عدة اتجاهات تجريبية سادت العمارة في العراق، أبرزها الاتجاه الغروتسكي الذي يستعمل خليطا من العناصر التراثية والشعبية بصورة عشوائية ص 316. وقد بنى فيه الكثير من البيوت والدوائر. ومارسه عدد من المهندسين الثانويين بطريقة لا تدل على ثقافة أو خصوصية – جامع الامام الأعظم، أو"الاتجاه العادي" وجامع أبو يوسف، والى جانب ذلك شخص الجادرجي اتجاهات التحديث في العمارة العراقية وسماها بـ"الاتجاه المؤذي، والاتجاه التجريبي المحلي، والاتجاه الدولي البارع ". ويعكس هذا التعدد في الاتجاهات مدى التخبط الذي تعيشه العمارة العراقية في العقود الماضية التي سمحت بالتدخلات اللامنهجية من قبل بعض المنفذين في السلطة أو من قبل بعض المنفذين هن المعماريين، اضافة الى الاتجاه الشعبي الذي يفرض ذوقه وتوجهاته.
في مجال التراث والالتزام، وهو من أمتع فصول الكتاب، يعالج الجادرجي ليس التداخل بين الموروث والحديث في العمارة، وانما يعالج الموقف الفكري والثقافي وراء كل دعوة، سواء لحانت تغلب المعاصرة أم تلك التي تغلب التراث ووقف الجادرجي موقفا نقديا من كل الاتجاهات التي وضح خطوطها، كما وقف موقفا نقديا من التراث نفسه، ونادى بالأخذ المدروس منه، فالمجتمع الذي لا يتفاعل مع التراث لا يجيد تحديد زاوية الاستفادة، وكانت نظرته الى التراث نظرة فاحصة ولكنها ليست انتقائية، بل موقف اجتماعي ص 365، ولما كان المخزون التراثي للعراق يعتمد على سلسلة من المضمارات: السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والساسانية والسلوقية، والفرنية والحضرية، والعباسية، والصفرية وأخيرا العثمانية ص 365، ولذلك يتعين على المعماري أن يتقن وفق مبدأ فني، جمالي الكيفية التي يدخل فيها المعالم التراثية في العملية الانتاجية. ولن يكون الموقف سهلا للمعماري لاسيما في بلد تتضارب فيه الأهواء والمشارب وتصبح المحلية أحيانا سيفا أمام التقدم، أو أن تصبح المعاصرة فيه الغاء للمحلية، فالمحلية عليها أن (تغير موقعها في توازن التطور) ص 378. إلا أن هذا التغير قد يكون شبه مفروض بحكم الآلية الاقتصادية والمادية والمعمارية التي تمارس خططها دوليا، حيث إن تقدم العالم التقني لا ينتبه دائما الى متطلبات المحلية. من هنا توجب على المعنيين بالمحليات والخصوصيات القومية ايجاد الحلول المناسبة للتماسك بين المحلية المتطورة والعالمية، واذا كانت المحلية يرافقها دائما هاجس التفرد والخصوصية الذاتية للمعمار، فإن العالمية توفر هاجس الحس الجمالي المتطور والمستفيد من التقنيات الحديثة في المعمار وفي التخطيط، وفي بلد مثل العراق الذي شهد تقلبات سياسية واقتصادية كبيرة وسريعة، ليس من السهل الثبات على تيار واحد، هذا ما عالجه المؤلف بوضوح في فصل المكلاسيكية والأسير، وفي فصل الاستشارة، حيث وجدنا فاعلية المهندس المعماري الفرد في إطار من التداخل بين ما هو سياسي وما هو معماري كما حدث في فترة الاحتلال الانجليزي للعراق، عندما ساد مفهوم "لويد" في العمارة فبنى عدة بيوت ومؤسسات لم تتح لغيره في الفترات اللاحقة. كما كان دور الأسطوات المحليين -الأسطى حمودي – مثلا واضحا في العمارة ولهذا الرجل أكثر من شاهد معماري ما يزال قائما دلل فيه بوضوح على أن الذاتية والخبرة المعملية الميدانية قد يفوقان التصور الهندسي أحيانا، إلا أن الأسطى حمودي وسراه كانوا اذ يخططون وينشئون البنايات يحدوهم هاجس توظيف التراث بما يتلاءم والبيئة العراقية بطريقة ذوقية عامة. وهذا ما جعل الجادرجي يفرد لهذا المهندس الشعبي حضورا ليس في ذاكر ته، وانما في ذاكرة التاريخ المعماري للعراق.
ياسين النصر (ناقد وباحث من العراق يقيم في هولندا)