محمد سليم شوشة
رواية «جرما الترجمان» للروائي السعودي محمد حسن علوان الصادرة عن دار تشكيل بالسعودية 2021 تمثل وحدة إضافية في منجزه السردي الكبير والخاص، وتشكل خطابا روائيا ثريا ومهما وحافلا بالجماليات وبشعريات السرد، وقابلة لقراءات عديدة واحتمالات تأويلية كثيرة ورسائل مختلفة.
تقارب هذه الرواية حياة جرما الشاب الحلبي المسيحي في عهد السلطان العثماني بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح، والسلطان المملوكي قايتباي الذي كانت تتبعه حلب في تلك المرحلة التاريخية، ولكن المهم في هذه الرواية هو ما تمثله من حالة للصراع والعيش على التخوم، وكم كان جرما يشبه مدينته، فهو يكاد يتماهى معها، وإذا كانت هي جغرافيا على تخوم السلطنتين؛ العثمانية والمملوكية وهو ما يجعلها هامشا دائما يعاني من الإهمال وأن تكون مساحة للشد والجذب والصراع الدائم، والأم كذلك تبدو هي الأصل لهذه الحالة من الالتباس والبينية والعيش على التخوم والهامش، فكم كانت الأم تشبه المدينة التي تركها فيها الحجاج وهي طفلة صغيرة فتصبح المسلمة التي تنتمي لاإراديا للمسيحية وكم كان الابن يشبه الأم، وكم كانت مهنته معمقة لهذه الحال فيصبح على تخوم الألسنة والمعتقدات والبلاد وتخوم الجغرافيا يقع في كافة المساحات المتنازع عليها في قبرص وصقلية ورودس وغيرها من البلدان. وهي حال تتسم على المستوى الإنساني بالحركية والتقلب والنزوع الدائم إلى استكشاف الذات أو البحث عن الذات، وفضلا عن كل هذه التعقيدات المتجذرة في تكوين جرما فإنه ينتمي إلى أب فقير سليط اللسان ولا يقدر أن يحدد بدقة إذا ما كان أبوه محبا رحيما أم قاسيا مستغلا له أبشع ما يكون الاستغلال إلى حد أن يبيعه أو يرهنه لخمس سنوات ويقبض الأجر مقدما.
هذا التراكب والتعقيد يجعل الرواية تتسم بالحركية وتبدو رحلة بحث عن الذات مشحونة بكثير من القلق، فهي أعمق من أن تكون رحلة في المكان، بل رحلة نحو الاستقرار النفسي والاجتماعي وأن يحقق ذاته، ومن التوفيق الكبير أن يكون هناك توازٍ وتناسب تام بينه وبين سلطانه التركي المعزول أو المطرود الذي أصبح مترجما له وملازما دائما، فهو الآخر في حال من التيه والضياع ويبحث عن ذاته بأن يجد منفذا يعيده إلى الحكم المسلوب.
إن جوهر هذا الخطاب الروائي في جرما الترجمان وهويته الجمالية لتتجسد بالأساس في خصوصية هذه الشخصية، ولا نقصد هنا كونه محور العمل الروائي، ولكن ما نعنيه هو ما تجسد في شخصية جرما من أبعاد ومحددات تجعله دائما في مناطق التماس الحضاري ومناطق النزاع والخلاف والجدل الديني والمؤامرات السياسية، وتجعله في المساحة القلقة باستمرار وفي خط التماسّ بين حضارات متصارعة وأنظمة وممالك وسلاطين في حال من التناوش والحراك السلبي أو الإيجابي، في مرحلة من الصعود والهبوط. على اليمين وعلى اليسار وفي الشمال والجنوب، فيمكن أن نقول إن قيام هذا الخطاب الروائي وتأسيسه على شخصية جرما يمنحنا زاوية رؤية جديدة ومختلفة لهذه العوالم الصاخبة سياسيا وفكريا. والأهم أن هذا العالم الصاخب يأتي من زاوية الهامش أي زاوية أقرب للإنسان العادي المغلوب على أمره والمتأثر بهذه الصراعات، وهنا يبدو جرما ليس مجرد وسيلة في أيدي هؤلاء وليس نموذجا دالا على كل شخصية مسلوبة ولا حيلة له مع التقلبات السياسية، بل يبدو دالا على ما هو أبعد من هذا، فيصبح قريبا من الإنسان المجبر وجوديا على تجربة الحياة، وهنا يأخذ خطاب الرواية بعدا رمزيا يتجاوز الواقع الحياتي إلى مسحة ميتافيزيقية عن سؤال الخلق والقدرية وهل الإنسان مسير أم مخير؟ أو ما يعرف في مباحث الفلسفة بالجبرية والقدرية.
يبدو جرما نموذجا لكل إنسان لا يملك من أمره الكثير فلا يجد له مفرا من أن يمضي في الدروب المفتوحة أمامه، يولد لأب فقير وقاس وغامض وأم مغلوبة على أمرها ويجبر على أشياء كثيرة ويجد نفسه في تجارب غرائبية، وتحولات لا تنتهي ويبدو لنا في انعطافه الفكري والمعتقدات والحقيقة أن هذه الطبيعة مما يسهم في الناحية الجمالية بناتجين هما أولا أن يجد المتلقي فيه ذاته أو يكون المتلقي قابلا للتماهي معه لأنه معبر عن شريحة كبيرة من البشر المغلوبين على أمرهم، والناتج الآخر يتمثل فيما له من الضعف الذي يجعله قادرا على الاستحواذ على المتلقي عاطفيا، فهو ليس نموذجا خارقا أو استثنائيا أو مفارقا للغالب من سمات البشر، بل إن ضعفه يجعله دائما متورطا بشكل متجدد ولا يملك مساره، وهو ليس معبرا عن إنسان العصور الوسطى وحسب، بل ربما يعبر عن كل إنسان يقع في شراك وفخاخ عديدة. جرما ليس نموذجا مأساويا بشكل كامل حتى مع كل هذا الضعف، بل هو حالة من الالتباس بين النجاح والفشل، بين المجد والانحطاط والهزيمة والانتصار وتتراكب فيه عديد المتناقضات، بين الذكاء والفطرة والقدرة على تعلم اللغات والزراعة وغيرها من المهن، في حين يصبح عاجزا عن استيعاب المؤامرات أو مراكمة الخبرات المرتبطة بالسياسة وحيلها وألعابها، يبدو عاجزا عن استيعاب شراسة عالم السياسة والصراع الديني، وكم يبدو ساذجا في مواقف عديدة مثل تلك التي يجد نفسه فيها متورطا بفطرته السليمة بأن يكون مخلصا لرب عمله السلطان العثماني الذي لا يعنيه من شأنه غير مصالحه الخاصة ولا يأبه به، والأمر كذلك حين يصبح مترجما في محكمة التفتيش في باليرمو أو يترجم أسرارا ترتبط بالسلطان ولا يستوعب خطورتها إلا بعد فوات الأوان.
هذا النموذج المعقد والمركب والطريف وما أتيح له من الظروف والملابسات وما توافر في تكوينه من الأبعاد يجعله على أعلى قدر من الخصوصية الإنسانية ومن خصوصية يستمد الخطاب الروائي منها خصوصيته ويصبح هذا النموذج مجالا خصبا لإبراز عالم متشابك وعلى القدر ذاته من المغايرة والاختلاف. ولهذا فهو لا يمضي في حياته في خط ثابت، أو مسار يمكن توقعه، بل يبدو بعيدا تماما عن الاستقرار أو احتمالات السكون والثبات، وفي الوقت الذي يكون فيه مؤهلا للاستقرار دائما ما تنفجر المفاجآت، وهذا ما عبر عنه الخطاب الروائي حين تحدث عن علاقته بالسلطان المعطل وكيف تمضي بهم الحياة في كل مرة ينتقلون فيها إلى مكان أو مسرح جديد، بأن تبدأ الحياة غريبة وتدريجيا تمضي إلى الاعتياد والألفة المملة ثم تكون بعد ذلك التحولات المأساوية، وهو في النهاية ما يدعم استراتيجية الخطاب الروائي في إنتاج التشويق؛ ذلك لأن مصير جرما ليس مصير شخص فقط وهو مهم، لكنه يتماس كذلك مع أحداث كبرى أو مع مصير آخرين، ويبدو معرضا لمسارات عديدة.
تتجسد في شخصية المترجم بشكل عام عديد الأبعاد المهمة التي تجعله نموذجا ثريا وعلى التخوم، فهو الوسيط بين الحكام وبين الثقافات والوسيط بين السلطة وما أسفلها، هو أداة الفهم أو الاتصال والارتباط وهو ظل الحاكم أو السلطان أو من يترجم له، وهكذا فإن كل هذا يجعله يتحرك في مساحة أقرب إلى طبيعة الرمال المتحركة، يتقمص حال السلطان في الغضب والانفعال والرحمة والمحبة والتودد والنفاق والاستعطاف وفي الإثارة الجنسية والحب والطابع الرومانسي والعاطفي، ويكتم أسراره وفي الوقت نفسه يتحول إلى حال من الانسحاق والهزيمة والضعف وأن يكون مجرد مطية وأداة ويعيش أخطارا تلغيه. وهذه السمات التي اشتغل عليها الخطاب الروائي وهذا الاستثمار لطبيعة الشخصية وما تمكن الخطاب من تحقيق قدر كبير من الجماليات والخصوصية في السرد وبلاغته.
من حيث الاستراتيجية السردية في هذه الرواية نجد أن فيها كثيرا من اللمحات التي تمثل دروسا في السرد، ومنها مثلا البداية التي اعتمدت على إرجاء السبب الذي يتم لسببه السفر والاستدعاء لجرما من قبل أبيه، فهذا الإخفاء أو الإرجاء المؤقت يجعل المتلقي متحفزا لمعرفته ومتطلعا لإدراكه ويظل منتظرا له ليس لأنه يكشف عن لغز فقط، ولكنه يجلي جوانب هذا العالم ويوضح علاقة الشخصية الرئيسة بالأب الغامض الذي لا يلمح عنه إلا بالقليل من الصفات مثل تقدمه في السن أو لسانه السليط، ومن نقاط التوفيق كذلك ما اعتمد عليه السرد من الاتجاه المعاكس في سرد الرحلة، ففي اللحظة التي يقرر فيها جرما ويوافق على العودة مع سيمون الرسول الذي جاءه من طرف أبيه، ويكون مهيأ لسرد رحلة نحو الشرق إلى حلب يعود السرد إلى الماضي ويسترجع رحلة أخرى وهي رحلة جرما إلى الماغوصة أو جزيرة قبرص وخروجه من حلب، وفي الوقت الذي يكون المتلقي متوقعا لرحلة بحرية يعود فيها البطل إلى حلب ويتم الكشف عن سر استدعائه، تأتي فصول جديدة كلها من الماضي عن هذه الرحلة المعاكسة التي جاءت به إلى هذه الجزيرة وبداية عمله فيها قبل أعوام وعمله بالسخرة لخمسة أعوام في الزراعة، وهو ما يدعم مزيدا من الإرجاء والانتظار لسر الاستدعاء واستجلاء بقية ملامح الشخصيات. وأتصور أن هذه الاستراتيجية من الإخفاء أو الإرجاء هي التقنية الأكثر استثمارا لتحقيق التشويق في هذه الرواية، والجميل أن بعض هذا الإرجاء يكون نابعا بشكل طبيعي من الحياة نفسها وسمات هذا العالم وما فيه من الغموض، ويتكرر ذلك في أكثر من موقف وبخاصة في الرحلات البحرية التي تكون فيها الوجهة غير محددة، فيكون هناك انتظار أو توقع من المتلقي والتحرك في اتجاهات عديدة، وبخاصة في رحلات جرما مع “جم” السلطان العثماني المعزول والطريد في بلاد الغرب.
ومن الحيل السردية الجميلة كذلك أن تكون بعض الاسترجاعات مشحونة بأحداث فرعية وثانوية طريفة ومشوقة مثل بعض المشاجرات أو الأحداث الحركية أو الأحداث الطريفة، على نحو ما نرى مثلا في أحداث خروجه لأول مرة في السفينة وبعض ما كان فيها من المشاجرات بين النزلاء أو العمال، أو إلقاء أحد اللصوص في البحر، والأمر نفسه مع بعض الأحداث ذات الطابع الحركي المشوقة والغريبة مثل اختطاف جرما في باليرمو حين كان يعمل مترجما في محكمة التفتيش الإسبانية وإعادته إلى السلطان بعد أن هرب منه، وكذلك مشاجرته في الحي اليهودي وبعض الأحداث المشتعلة مثل حصار المحكمة من الجماهير الغاضبة، وغيرها الكثير مما يدعم استراتيجية الخطاب السردي لإنتاج التشويق والاستحواذ على المتلقي.
في هذه الرواية كذلك نقاط قوة كثيرة منها مثلا قدرات خطابها على تمثيل المعارف المسيحية وما يرتبط بها من أبعاد ذهنية وجدلية من صميم الدين أو العقيدة والاختلاف بين العقائد أو الملل من سريان ولاتين وذلك وفق هذه المرحلة التاريخية وما كان فيها من تصورات ربما تطور بعضها أو اختلف، فهذه المرجعية الدينية تأتي وفق إطار من التدقيق والمراجعة المناسبة للمرحلة التاريخية أو لذلك العصر وما كان فيه من صراع أو اتهامات أو تصورات بالهرطقة أو التجديف، وكذلك في ضوء ما انتشر في أوربا وكان له هيمنة على مدار قرنين من ظاهرة فرسان الهيكل وكيف كانت صورتهم في تلك المرحلة عند جموع المسيحيين اللاتين أو الغربيين وعلاقتهم بالبابا والفاتيكان وأنظمة الحكم وتشكيلهم من بلدان وثقافات مختلفة، وأن يتم دمجهم في عالم الرواية بأبعاده المختلفة وبخاصة الجانب الأهم وهو اللغة والترجمة ومعرفة جرما ببعض اللغات والثقافات دون بعضها. وهكذا فإن هذه الجوانب الدينية والعقدية يتمثلها الخطاب الروائي على نحو فيه قدر كبير من الجهد والتدقيق والاستثمار لتشكيل عالم متكامل الأبعاد، ويكون تشكيلها في الإطارين الروحي والذهني دون انحصار في أحدهما، وهكذا تتجلى الشخصيات في إطار ثقافة هذا العصر وطبيعته الإيمانية أو سماته التي تحدد علاقة الإنسان بالدين والاعتقاد ونظرته للآخر، ومفاهيم مثل الجنة والصبر والخلاص الأخروي وهذا ما يتجلي في عدد كبير من الشخصيات في الرواية.
هناك تقنيات أخرى ترتبط بالزمن ومنها التوقع والاستباق، فأحيانا يكون هناك تصريح بحدث لاحق في نوع من الاستباق أو القفز إلى الأمام في الزمن والأحداث على نحو ما نرى مثلا في التصريح في بداية الفصل السابع باختزال بانقضاء خمسة الأعوام المحددة للسخرة أو العمل في المزرعة وأنه لم يجد مفرا من الانتظار والتحمل والالتزام بها، ثم يعود بعد ذلك في بقية الفصل ليسرد كثيرا من أحداث هذه الأعوام وبخاصة علاقته بابنة صاحب المزرعة وغيرها من التفاصيل وما تعلمه في هذه الفترة من الزراعة والعمل. وهذه التقنية كثيرة وغالبة، بأن يصرح مثلا بأن ما حدث له شيء غريب وصعب وعجيب ومفاجئ ثم يعود تدريجيا وبهدوء لهذا الأمر، ونجد مثال ذلك في الجزء الذي يتحدث فيه الراوي/ جرما عن الفترة التي قضاها في فرنسا مع السلطان فيما يشبه الأسر وكيف كانت الأمور تسير بهدوء ورتابة إلى أن صرح بأنه عاش بعد ذلك في مكان أضيق مما يتخيله أحد، وأضيق من حجرته مائلة السقف، ثم يعود تدريجيا إلى ملابسات بقائه تحت كرسي السلطان لفترات طويلة ليترجم له مع حبيبته في حكاية طريفة وأحداث مشوقة. لتكون هذه الاستراتيجية من الاستباق داعمة لجماليات التشويق والاستحواذ على المتلقي وجذبه إلى أعماق هذا العالم الصاخب وتفاصيله.
وهناك كذلك عدد كبير من المفارقات التي تهيمن على خطاب الرواية، ومنها ما يمثل وحدات كبرى وممتدة ومنها ما يمثل لمحات مفاجئة وغريبة، مثل أن يكون هو الضعيف الفقير في مواضع القوة ومواقف طريفة ومجيدة لم يتوقعها أبدا مثل أن يكون الكاردينال الذي جذب له الكرسي في يوم من الأيام ووضعه له ليجلس عليه هو بعد ذلك البابا المنتخب، أو أن يكون هو المسيحي الشرقي متعاطفا مع انكسار السلطان المسلم الذي يأسره أو يتخذه مترجما فيما يشبه الأسر، ويكون هذا السلطان نفسه أسيرا لدى البابا ولدى الفرسان ولدى آخرين، ومثلما أن يكون هو المترجم المخلص الوفي الصادق الساذج والذكي على قدر كبير من الغباء أو الحمق، ويتسبب في خيانة صعبة أو مشكلة كبيرة للسلطان دون أن يدري، والحقيقة أنها رواية حافلة بالمفارقات، ولغة السرد فيها تستحق وقفة طويلة لكونها تنهض بكل هذه الجماليات وتعبر عنها وتأتي في لغة متدفقة وسلسة تراوح بين التداولي وبين اللغة المجازية أحيانا بحسب مقتضيات المشهد أو الموقف، وفيها الكثير مما يستحق الرصد وجدير بالتأمل والبحث.