الاستمتاع بالسرد شرطٌ قائمٌ بصورةٍ ضمنيّةٍ بين القارئ والكاتب؛ فإنْ تعرّف القارئ على شفرة النصّ وحدث التجاذب الممتع معه، تمنّى ألا تنتهي الحكاية. هكذا يتشكّل سحرُ النص السرديّ بعد أن يتصيد روح القارئ ووعيه معًا. على أنّ اللعبة ليست في الحكاية، بقدر ما هي في طريقة تقديمها؛ ما يسميه النقاد البناء أو الحبكة. هناك أيضا آفاقٌ أخرى يجترئ عليها السرد بأكثر مما يفعل غيره؛ أعني زوايا الثقافة التي يكشف عن أنساقها، ويعيد النظر في تفسير تاريخها بأكثر مما يظنّ مؤلّفه.
لا أثق في محاولة تقديم سردٍ عن السرد، أو وصف للوصف؛ فما يقدمه هذا المقال هو أفكار عن الثقافة وفعل الكتابة، تفرقت كتفرق فصول الرواية، وربما تأثَّرا بها، وتبعثرت كتبعثر شخصياتها في محنة الوجود.
تبدأ رواية «جليلة»(1) لحمود الشايجي باستعراض بيئة بعينها هي جزيرة فيلكا الكويتية. الزمن ممتدٌّ من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، حتى النصف الثاني من القرن العشرين. الغناء غلاف السرد وطقسه العلني المتحّدي. صالحة خادمة مقام الخضر وخالتها حسينة هما روح المكان المنشد بقيمه وتراثه الغنائي/الإنساني، كلتاهما تبدوان منبتتين الصلة عن أهل المكان بصورة أو بأخرى رغم أنهما من يحمل تاريخه وإيقاع وجوده. الجميع لا يستطيع أن يطلق البهجة من صدره بدون كاهنات المعبد اللواتي يقدّمن الطقوس اللازمة للشعور بالفرح؛ أي هي طقوس العبور لمساحة أحاطتها الثقافات العربية منذ بداية عصور الظلام بأسلاك شائكة. لقد أعلنت الرواية عن هذا الدور المحوري لصالحة وحسينة منذ الصفحات الأولى؛ حيث ظل شعور الفرح حبيسا في صدر أم العروس، حتى أذنت له سادنة السعادة بالخروج:
«تهلل وجه أم العروس وورد أكثر من ابنتها وراحت تزغرد فقط حين باركت لها صالحة بقولها «بالمبارك إن شاء الله».(١٤) لقد اطمأنت أم العروس إلى أن صالحة تمنح لسعادتها مشروعيّة الوجود. ما تمثله صالحة وحسينة ومن بعدهما جليلة منذ بداية الرواية هو تعويذة ثقافيّة يقبل بها الناس بكل تناقضاتها فهن الأصل والاغتراب، البركة واللعنة، سر البهجة والألم، الشرف والعار. لا أحد يمكنه أن يطلق ما يدور في صدره بدون إذنهنّ وحضورهنّ يتضح ذلك في عرس أم غانم التي لا تحبها حسينة، لكن أحدًا لا يستطيع ممارسة الفرح بدونها هي وصالحة. في هذا المشهد تحديدا تظهر جليلة امتدادًا مباركا لهما. إنها ترقص للمرة الأولى وهي ابنة الخامسة بما يبهر الجميع ويُثير مشاعر الغيرة في صدر بنات أم خليفة. جليلة اللقيطة التي يعبّر اسمها عن نقيض وضعها الاجتماعي الذي كان يصح معه أن تسمى «ذليلة». لكنّها بكل تناقضاتها وبوضعها الإشكالي هذا تحمل تعويذة المكان، وتعبّر عن أزمة ثقافة تخفي ما تتمنى إعلانه. جليلة وجدت على باب مقام الخضر ملقاة على درجاته كجزء منه، ثم إنها ترقص وهي طفلة بصورة مبهرة تدفع الطقس للتكرار الذي يصل به حد الاكتمال المُشْبِع؛ إنها الوريث الطبيعي لخادمات المقام: صالحة وحسينة.
لكن، ما الذي تقوله رواية جليلة بين السطور عن الثقافات التي تدور بين جنباتها الأحداث؟ هل تحوّلت عين الراوي العليم في جليلة إلى محرّك بحث إنساني، يتجول بين زوايا مجتمعات الجزيرة، بكل ما تحمل من تراكيب ثقافية معقدة وثرية، ليكشف عنها ويستعرض تناقضاتها؟ يبدو أن جليلة تنطق منذ الصفحات الأولى بطموح عميق وجارف للكشف والدخول في مساحات التردد والتوتر في وعينا استشرافا لمستقبل نجهله، ولن تصرح به خاتمة الرواية؛ لتضعنا جميعا أمام مسؤوليّة صنعه. كلُّ وحدة سردية في جليلة -إن جاز لنا تقسيم الأحداث إلى وحدات سردية- تمسّ جانبا مهمًّا في العقل الجمعي، وتكشف الغطاء ببراءة مقصودة عما يسكنه من تناقضات.
في مشهد موجع يأتي «عُودة» لحسينة بخبر موت ابنها خضير. ولأنها سادنة السعادة والحزن، وموضع السرّ الذي يمنح المكان الحياة والبهجة والمعنى، جاء موتها بما يليق بها في طقوسية بديعة. لم تبك حسينة وإنما بدأت في الغناء بإنشاد يبدو كأنما هو نعي لابنها وإعلان عن موتها في الوقت نفسه. الأنشودة هي إعلان ثانٍ وصاخب عن جليلة/ الوريثة التي تحول رقصها المبهر إلى جزء من الطقس، ما جعل حسينة تُعيد المقاطع أكثر من مرة؛ مشبعة ذلك الطقس الذي يتضح أنه طقس موتها؛ فما إن تنتهي من الأنشودة حتى تغمض عينيها مفارقة الحياة. تغلق حسينة عينيها وتفتح بوابات الألم في صدور الجميع؛ فموتها هو لحظة صدق مباغتة قلما يمارسها المحيطون بها مع أنفسهم. لحظة كشف لكل ما نؤمن به، أو ندعي أننا نؤمن به.
تتجلى الأزمة حين يعلن شيخ المسجد أنه لن يصلي على حسينة، ولن يسمح بدفنها في قبور المسلمين راميا إياها بالكفر. ينفضح الازدواج وتعلن كل قوة عن نفسها في مواجهة ذات دلالات واضحة. من يكون هذا الشيخ المجهول الذي يقف في وجه الفرح والحقيقة لصالح الجهامة واللاإنسانية؟ إنه يبدو للوهلة الأولى نسخة مبهمة من سحيلان/ عبد الوهاب مؤذن المسجد في قبيلة الشيخ عبد الله الذي سيظهر لاحقا، وتسبب في مقتل العالم بالغناء مصدر الفرحة والبهجة والصداقة التي تضرب بالطبقات عرض الحائط. كلاهما ينتمي لعالم من القواعد المسطحة الصلبة الفجّة، المنتمية لعالم الادعاء السطحي بكل ما يوجد فيه من كراهية وممارسة للكذب والإيذاء والمصالح الجاهلة، وسنكتشف بعد ذلك أنهما شخص واحد انتقل من مكان إلى مكان، أو هو اسم تكرر ليشير إلى دلالاته الوهابية التي يقوم بنشرها (٣٢٠- ٣٢٢). في حين يرتبط كل من وقع عليهم شر هؤلاء إلى عالم الحقيقة الباطنة الصادقة ذات المساحات والقيم الإنسانية الحقيقية الخصيبة العليمة بأعماق الإنسان.
خرج في جنازة حسينة كلّ من أحسنت إليه. وقف الرجال متجمدين غير قادرين على مناصرة العمق الإنساني الذي يتم انتهاكه أمام أعينهم، ليجسدوا العجز عينه، باستثناء عودة الطبال وهزاع ودخيل وعيسى السماك، في حين تحركت النساء، حاملات القيم الإنسانية العميقة والإرث الثقافي للمكان، ليلبين نداء الحقيقة التي تصدر من قلوبهن مباشرة. تحولت جنازة حسينة إلى «موكب» كما أصرّ النص أن يسميها؛ لأنها ملكة المكان وحافظة سرّه، ولأنها بموتها وضعت كل كائن في معسكره الصحيح… عاريا.
لقد اكتمل الموكب باتباع نساء الجزيرة الجنازة حتى وجدن جميعا، ومعهن من رق قلبه من الرجال، المكان الملائم لدفن حسينة تحت شجرة سدر وحيدة في الصحراء. الرمزية صاخبة هنا: لقد بدأ طقس موت حسينة بصوتها هي شخصيا ممتزجا مع رقص جليلة، ثم اكتمل بالغناء الذي أحاط جنازتها:
«ما إن خرج عودة من الباب، واستقرت قدماه راح يقرع على طبله بإيقاع ثابت، تبعته صالحة بطارها، اتجهوا إلى مقام الخضر، وهم يغنون كل الأغاني التي كانت حسينة تحبها وترددها … وصلوا المقام، لفوا عليه ثلاث لفات وهم مستمرون في غنائهم، ثم أكملوا متجهين إلى الصحراء. كان هذا كله تحت أعين رجال الجزيرة الذين تسمروا في أماكنهم، لكن نساءهم رفضن التسمر، وراحت الواحدة تلو الأخرى تضع عباءتها على رأسها لتتبع موكب تشييع حسينة» (٣٣).
لكن من تكون حسينة؟ يَعرفُ النصُّ أن الفصول الافتتاحية تؤسس للسؤال، فيمنح القارئ الإجابة من دون تلكؤ. يحكي الفصل التالي لموت حسينة قصتها منذ اختطفها تجار العبيد من أفريقيا، وهي الحرة ابنة الأحرار، لتباع في سوق الرقيق. لكن شخصيتها المختلفة وجرأتها تلفتان نظر رامبو تاجر الرقيق الفرنسي والشاعر المشهور، ليفصلها عن قريناتها. يمكن للقارئ أن يتتبع قصة حسينة وكيف اختارت مصيرها، لكن ما يلفت النظر هنا هو تشابه عميق في المنبع الأسطوري لكل من حسينة وجليلة.
لقد أتت حسينة من غياهب مجهولة تماما مثل جليلة، وحملت موهبتها في صدرها لتتجلى قدرتها العقلية والروحية الفائقة، ما جعلها أهلا لاختيار مصيرها بوضوح رؤية مذهل. السر في القلب/ الروح/ العمق الحقيقي للإنسان، وهذا نفسه ما علمته صالحة لجليلة في بداية الرواية: «صالحة لا تعتمد على الإيقاعات التي تأتي من خارجها، إيقاعها داخلي المنشأ… «الإيقاع يأتي من هنا» هذا ما كانت تقوله لجليلة وهي تشير إلى وسط صدرها. إذا ما حسيتيه يطلع من هني ما راح تعرفين ترقصين أبد» جليلة ذات السنوات الخمس تسمع صالحة بعينيها الواسعتين أكثر من أذنيها. تحفظ ما يقال لها وتنساه وتذكرها صالحة به» (ص ١٥- ١٦).
فكرة السلسال حامل المعرفة/ السر واضحة. وهي تقدم نفسها دونما خطابيّة، ينتقل السر من واحدة إلى أخرى من سادنات المقام. هل يشير النص إلى خليقة/ بطل/ كائن من نوع خاص هو وريث جينات الحياة في صورتها النقية، وخرج من أفريقيا حيث نَشَأتِ الحياة؟ ولماذا تحمل النساء السر وتبدو حلقات الرجال التي توصله لهن غامضة شاحبة كشحوب الشيخ «سر»؟
عوالم السّحر والفنتازيا تغلّف جليلة وتقع في العمق من عقول شخصياتها، صحيح أن النص لا يُصدِّر تلك العوالم بوصفها واجهة الحدث كما فعل حمود الشايجي في روايته الأولى «شيخ الخطاطين»، إلا أنّ تلك العوالم هي مصدر القوة الكامنة وراء فعل الشخصيات وقدراتها. حسينة ربيبة الشيخ «سر» الذي يشير اسمه، رغم شحوب الشخصية نفسها، وما تعلمته منه حسينة إلى واحد من مصادر القوى السحرية الخفية المحركة للأحداث، والقادرة على سبر الأعماق الإنسانية. الخضر بكل مخزونه الرمزي وقدراته التنبؤية المدهشة في العقلية العربية، وقبل المصدرين السابقين أفريقيا منبع الحياة والأسرار والسحر التي تشبه تعويذة يتشرب طاقتها كل من ولد على أرضها. لكن هناك عروقًا خفية تربط الأراضي المبروكة بعضها ببعض، فمن أفريقيا التي تمثل مخزن السحر والقوة إلى فيلكا التي تصفها حسينة بقولها: «أرض مبروكة ما يجيها محتاج إلا وأرضته» (١٤٨) يمتد الخير وتسري المعرفة بمنطق غامض لا تفسره سوى طبيعة الحياة التي تأبى إلا أن تجد طريقها.
يدور صراع السلطة في كل زمان ومكان، وهو هنا دائر بين مشايخ القبائل في نجد وبين معسكرين متمايزين في فيلكا، أحدهما إنساني حامل لتراث المكان وفنه وقيمه، والآخر هو ابن قيم السوق من نفعية، واستهانة بالإنساني، وعنف في تحقيق المصالح. تكشف جليلة عن وعي عميق بالثقافة الصحراوية؛ قوانينها المنظمة، وأعماقها التي تحمل -ككل الثقافات الإنسانية- الخير والشر وما بينهما من ألوان طيف إنسانية. إن الحوار الذي أحسب أن حمود كان موفّقًا حين اختار له اللغة العاميّة الخالصة كان تعبيرا عن نوعين من الاقتصاد: اقتصاد خطاب، واقتصاد قيم. أعني باقتصاد الخطاب لغته وتعابيره المكتنزة بالدلالات الخاصة باللغة العامية، ما كان جليًّا في تكرار صيغ لغوية بعينها أضفت على الرواية الأجواء الصحيحة التي تنقل روح الثقافة والمكان «طويل العمر (التي أسرف النص في استخدامها)/ وش صار (ماذا حدث؟)/ وش الدبرة (ما العمل؟)، يسري (يمشي ليلا)، الدشداشة، البشت، الدزة، البقشة …الخ». التعابير والمفردات السابقة هل بعض لهجات الجزيرة التي أحسبها جميعا وريثا شرعيا حيًّا للغة الفصحى وما عداها من ألسنة تدخل في إهاب ما يسمى باللغة العربية. أما اقتصاد القيم فيتجلى في العادات والتقاليد التي تعبئ النص من بدايته لنهايته؛ إنها عادات لا يمكن لمن يجهل الثقافة الصحراوية بعمق أن يتفاعل معها. من ذلك أن من يدخل بيتك ويشرب قهوتك بلا تردد فهو متأكد من أنك ستجيبه إلى طلبه (ص ١٢٤)، وكذلك عناصر السلطة التي حسمت الصراعات على مدى تاريخ الجزيرة: القوة، المال، الأصل، وأخيرا حب الناس أو خضوعهم؛ أيهما أسهل. ومن ذلك أهمية دهن العود وطريقة استخدامه (ص ١٤٠)، وغير ذلك مما تختص به الحياة في الجزيرة، إضافة إلى ما جادت به الرواية من استعراض لفنون الرقص والغناء. (العرضة/ ١٤١)
يصح أن نصف رحلة مراد إلى فيلكا بسيرة الشيخ مراد، التي اشتملت على ما يُشبه الرحلة الشهيرة للسيرة الهلالية بصورة مصغرة. سيرة تجد امتدادها في سيرة ولده فارس الذي يغيب ثم يبقى أيقونة للبطل المنتظر الذي لا يأتي، وربما لن يُقدّر له أن يأتي. السيرة لا بدّ لها من بطل؛ بطل وحيد لا يدانيه أحد في شرفه وصلابة تمسكه بالحق والعدل. هل تقدم «جليلة» سيرة هذا الكائن الأسطوري الذي يمتزج فيه مراد وحسينة وفارس وصالحة ومريم وجليلة؟ الأدوات موفورة لهذا الكائن ذي الوجوه المختلفة، من قدرة جسديّة وماليّة وروحيّة، وهو بطل إنساني له خيباته وأخطاؤه. لكن حركة البطل ذي الوجوه الكثيرة كلها رد فعل. الشر دوما يأخذ بناصية المبادرة. أهذا إلماح لما صرنا عليه جميعا، أم تراه تحذير من وقوفنا الصامت العاجز أمام عجلة التاريخ التي جرفتنا أو هي على وشك ذلك؟
لكن ماذا عن لغة السرد واسترساله المُربك؟ يبدو أن سحر القصة قد استولى على قلم كاتبها، حتى منعه من التصرف في صياغات النص بالاختصار وتجنب الاستطرادات الزائدة؛ ما أعنيه تحديدًا أن رواية جليلة تقدم عوالم ثريّة ساحرة، لكن بعض الترهل أصاب السرد والحوار فيها، وهو ما أفسره بسطوة عوالم النص على الكاتب نفسه، واستطرادها رغما عنه. هل لعبة الرواية هي تتبع عوالم انفتحت آفاقها أمام عين الخيال بلا قيد أو شرط من اللغة، أم الاجتهاد في تقديم تلك العوالم بصياغات تخلق الجمال والمتعة وتجتهد في تجنب الترهل والتكرار الممل؟
ها هنا مشكلة؛ فالرواية تصدر عن وعي كتابي وتخاطب وعيًا كتابيا وإن كانت بقايا الشفوية فيه كبيرة، من هنا يبدو تقديم الوعي الشفوي منفلتا من ربقة البناء المدروس العمدي، ومتحرّكا بحرية الكلام الشفوي في هذا الوقت، وهو ما يمكن أن يراه البعض ميزة وأراها نقيصة. من ذلك التكرار الذي يربك التقنية السردية في وصف شاهة في كل مرة بكلمة «الست»، ولا أدري كيف يحترم الراوي العليم إحدى شخصياته كأنه أحد شخوص القصة؟ بل إنه حدد حضورًا يتناقض مع فكرة الراوي العليم، فهو يبدو كأحد الشخوص الذين يحبون شاهة ويحترمونها ولا يضمرون لها حقدا أو عداوة! من التزيّد الوصفي أيضا ما يعقب به النص أحيانا على بعض المشاهد التي تنطق بذاتها ولا تحتاج إلى تفسير؛ كتعقيب الراوي على موقف مهمّ للشيخ مراد وهو يطلب يد ابنة الشيخ حمود لأحد رجاله (خلف). يقول التعقيب: «وبهذا الحوار حسم أية رد فعل لحمود بالرفض أو التأجيل» (١٣٩). إنه استطراد شارح بصورة يقدمها المشهد دونما حاجة إليه، لكنه استطراد المنفعل بالحدث، وبنجاح مراد أن يوجه دفة المفاوضات باتجاهه، يبدو الشرح غير الضروري الذي يظهر أحيانا في مشاهد الرواية كأنه نافذة خفيّة على لحظة الكتابة، التي انفعل فيها الكاتب مسترسلًا متحمّسًا، تعبيرًا عن استمتاعه الذاتي المتولد من سردٍ شيّق يتشكل أمام عيني خياله.
هل تنتصر جليلة تماما للعدالة المطلقة بين البشر بلا قيد أو شرط؟ النص كالحياة يموج بالتناقضات التي يكشف عنها لا وعيه، الأصيل هو حاملُ القيم والعبد اللئيم هو من يخونها هو وسلساله؛ أليس هذا بالتحديد ما عبرت عنه شاهة وابنها الذي يعبر اسمه عن أخلاقه (فارس) من ناحية، وسويرة وابنها الذي يعبر اسمه عن توجهه المفترس في الحياة (غانم)؟ فارس نذر نفسه لخدمة الناس لأنّه «نسخة طبق الأصل من والده أخلاقا وخلقا» (٢٢٥). إن الامتداد الطيّب لابدّ أن يصدر عن أصلٍ طيب، وهي الفكرة التي لا تختلف كثيرا عن قوانين الصحراء التي جعلت الأصل معيارًا لمراتب الناس وأخلاقهم، ولهذا يتحول «غانم» ابن سويرة مجهولة الأصل إلى عدو لأخيه لا يتورع عن أذيته؛ هل نحن أمام نسخة أخرى من قصة قابيل وهابيل؟. حسينة أيضا ابنة أصل وإن يكن بعيدا، وصالحة ابنة أصول في حدود دورها الوجودي، كخادمة للمقام، كما أن أبويها (زينب وبلال) متناسبان مع دورهما كتابعين. ما إن يتجاوز الشخص حدود دوره ويصعد نحو مساحة السّيادة حتى تتحكم الأصول فيظهر المعدن الحقيقيّ إما ذهبًا أو نحاسًا، إما شرفا وقوة (فارس) أو لؤما وعجزا (غانم). الأصول لها معنيان متداخلان في جليلة: الأصول البعيدة للشخص التي تدل على طيب منبته، والأصول أي مجموعة الأعراف التي تحرص كل جماعة على اتباعها والحفاظ عليها. هكذا تكون الجمل الآتية في منتهى الدلالة: «هذي مو أصول، هذي مو أصول يا سويرة»، «الأصول تركتها لك ولستك شاهة» (٢٤٥/ ٢٤٦). تتمادى سويرة في الشر بلا مبرر سوى «أصلها» الذي لا يردعها حتى عن خيانة رجلها؛ حين نكتشف أن ابنها عبد الرزاق ليس من صلب الشيخ مراد (٢٧٥). هل المساواة هنا بلا قيد أو شرط؟ نعم رغم شروط السرد، فالمساواة كما تنطق بها «جليلة» لها معيار آخر، هو قدرة كل شخص على اكتشاف ذاته والانحياز لخيرها بقرار واعٍ مقصود حر. تنقلب الكراسي ويعاد ترتيبها حين يتم الكشف عن قوة كل شخص، هنا يصبح القياس مختلفًا ومغايرًا للأعراف الاجتماعية. يقول بلال لابنته صالحة: «كل آدمي بها الدنيا الله رزقه قوة، وإذا بتعاملين غانم بالقوة اللي يفهمها، وهي قوة تخويف الناس بالضرب والسيف، رح تصيرين نفسه. شوفي قوتج وين» (٢٨٢).
بناء النص مرهق ومشوّق، يعد بجاذبية ساحرة منذ الصفحات الأولى، وسيجدها القارئ منتثرة بين جنبات الفصول. لكن ما سر جاذبية النص؟ أهو البناء الذي يتلاعب بتقديم الأحداث وتأخيرها لتبقى قطعة مهمة في كل حكاياتها منقوصة عن عمد؟ أم طبيعة الشخصيات التي تبدو مسطحة flat للوهلة الأولى ثم تتبدى أعماقها بتدريج مُدهش في بنائه، وعبر حوارات لها طعم المكان ورائحته؟ أم لعله المكان نفسه بكل ما يحمله من أجواء أسطورية يعج بها تراث صحراء نجد وجزيرة فيلكا؟ هل تشويق البناء يأتي من لعبة إعادة المشاهد الافتتاحية في نهاية الرواية، بعد أن أصبح وعي القارئ وقلبه محملا بأجوائها، ليكتشف أن لكل كلمة في مشاهد الافتتاح أغوارا بعيدة هو واصلها مع النهاية؟ المهم أن البناء يدور برشاقة شديدة في الزمن، ليجبر القارئ على استعادة ما قرأه في البداية بعد الوصول إلى نقاط معينة من انكشاف الشخصيات والأحداث. هل كانت جليلة تدور على هيئة حلقات مسلسل تليفزيوني في رأس المؤلف لتخرج بهذا التقطيع المحكم الشيق؟ ربما. المهم أن البناء يدور، يدور بصورة مدوخة، تدفعنا للتفكير في المستقبل، أو لنقل في الدورة القادمة التي يمكن لكل منا أن يبدأها منذ لحظة انسياب الدم بين جليلة/ الموروث الأصيل/ الخير/ الفن/ الإنسانية، وبين غانم الديكتاتور/ قيم السوق/ الشر/ النفعية المطلقة.
لكل شخص في رواية جليلة نصيب من اسمه ولكن بطرق متنوعة: صالحة، زينب، بلال، شاهة، سحيلان/عبد الوهاب، سويرة، فارس، غانم، مهاوش …الخ. لعبة تقليدية لكنها هنا تدعو حقا للتفكير، بمنطق من يحل لغزا أو يكتشف ظلا خفيا للشخصية مختفيا بإحكام بين طيات الاسم ودلالاته. ألا يعبر غانم عن السعي المحموم نحو الكسب؟ غريزة انتصار مؤقت مغروسة في الكائن الإنساني تلقفتها فلسفات الرأسمالية وحولتها إلى منهج عنيف حد الافتراس. ألا يعبر وصف غانم بأنه:»عمي شوف وقلب» (٢٨١) عما يتم دفعنا إليه من عماء سوق تستهين بالقيم والمشاعر والفن والتراث إلا في حدود ما يحقق المغنم المباشر أيا كانت العواقب؟ مريم بعذريتها تفضح عجز غانم، وحتى حين يكون الاسم غريبا عن المكان مثل مراد الذي لم يكن شائعا بنجد. الأمر يمتد من النص إلى خارجه، فأحيانا يلعب بدلالة الاسم كما سبق، وأحيانا أخرى يكون المقصود استبعاد دلالات يمكنها أن تشوش القراءة وتوجهها نحو معادلات بسيطة تجد صداها في تاريخ المنطقة، التاريخ الذي فتحت «جليلة» باب النظر فيه واستخدامه من قبل كتاب الرواية الكويتيين.
نحن آتون من الماضي وللمستقبل احتمالات، كلها من صنع أيدينا الآن هنا؛ هكذا تكلمت جليلة.