ما الذي يضع الحدود الفاصلة بين الشكل الفني للقصة والرواية عند مبدع كجمال الغيطاني؟ وما الخط الممتد – مثلا – بين روايته الأخيرة (حكايات المؤسسة) ومجموعته القصصية الأخيرة (مطربة الغروب)؟
من المؤكد استنادا لأدبيات علم الاجتماع الأدبي أن التداخل حميم بين الشكلين الفنيين المنتجين في نفس الفترة الزمنية والمعبرين عن وعي الكاتب بالوجود من حوله.
وسبق أن أشرت في أكثر من دراسة سابقة عن عالمه أن قضية التغيير والتحول والتبدل الزمني تكاد تكون المحور الأساسي أو اللحن الأساسي في انتاجه القصصي، ويتقاطع المحور الزمني الرأسي مع بعده الاجتماعي الأفقي منتجا دلالات فنية ومستخلصا دروسا وتقييمات تسمح لنا بملاحظات مساحة التغير.
ثمة قضيتان تاليتان – لقضية التغير بمفهومه الفلسفي والاجتماعي – تغلب على أغلب نتاجاته القصصية وهما الحرية /القهر، والفساد / السوداء، وهو ما يبدو جليا في مجموعته القصصية (مطربة الغروب) والصادرة عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة. وتضم المجموعة 15 قصة تناغم في بعضها وتستنسخ نفسها أحيانا سواء في الجو الفني والقيمة الفنية (ما عدا القصتين الأول والأخيرة) وكذلك في الشكل الفني.
في القصة الرئيسية الأولى (مطربة الغروب) والتي تحمل المجموعة اسمها يلوح النفس الروائي حيث يحشد المؤلف تجربته اللغوية والتشكيلية في البناء الفني بحيث تبدو أقرب الى لوحة أو مجسم فني يشبه الفسيفساء في عمارة القاهرة الاسلامية التي ذاع اهتمام الغيطاني بها، وبتطورها ومعانيها المميزة. وهذه القصة تكاد تكون أقرب الى (الحالة النفسية) التي تخلو من حدث أو أحداث مهمة وحيث يتوحد بطلها مع شخصيته (مطربة الغروب) أحد ألقاب ابنة رمسيس الثاني أشهر ملوك مصر الفرعونية، وينذر البطل نفسه لملاحقتها والتوحد معها، وهي حيلة فنية قديمة وظهرت في بعض نصوص الغيطاني نفسه المتقدمة، وفي التي تدور حول فتاة محجبة تعمل أمينة لمتحف وتتوحد مع تمثال لأمير فرعوني من بين مقتنيات المتحف الذي تعمل فيه وتتخيله في طريقها وسط شوارع القاهرة، وهذا التماهي بين زمنين وحقبتين نراه أيضا في فيلم عادل امام الأخير (رسالة الى الوالي) أو مسرحية (جحا يحكم المدينة) ليسرى الجندي ومسرحية محمد الماغوط، وتدور كلها حول مفارقة استحضار شخصية تاريخية في غير زمنها الواقعي، مما يسمح بتفجير كم من المتناقضات له الالته الفكرية. ما يميز قصة (مطربة الغروب التشكيل اللغوي الأخاذ الذي يكمل الشكل الفني للقمة التي تعتمد على استلهام الشكل التراثي من حكايات شعبية وحوليات.. الخ. والكثافة اللغوية للغة تجيء الى أجواء البنية التراثية الصوفية محققا المعادلة الصعبة في توظيف اللغة التراثية رافدا محاولة الرواية العربية تأصيل هوية خاصة لها، وخاصة عن توظيف اللغة التراثية، نقرأ من (مطربة الغروب) هذه الفقرة: "يغمض عينيه يتكوكب، يصبح مداره داخله، لا يرغب في الحديث الى أي مخلوق، يتظاهر هربا باغفاءة يخلو العالم الا منها، يستعيد ادارتها فيوشك على ذهول: تماما، كأنه يقف في مواجهتها، انحناءة وفيها وتدفقهما، احكامهما وانضباطهما، تأثير ماض الى كل الاتجاهات. رحابا بطنها. زهرة صرتها، لمومة صدرها، عريها مكتمل مع أنها ترتدي التاج الأموني والثوب الملكي، عري محرض، محتشم رادع يحكم وضعها، مع أن اقبالها في سكونها يستنفر حواس أمة مجتمعة. الحواس المعروفة وتلك التي لم تدرك بعد".
فالقصة أقرب الى الحالة النفسية التي يسعى بطلها الى التحقق عبر تشخيص الرمز الأسطوري الدلالي، بالهروب أو السعي الى الطيف أو الخيال والتوحد معه، وتتكون هذه اللوحة من لوحات أصغر تحمل عناوين بنية يعبر كل منها في لفظة واحدة عن حالة شعورية وداعية معا (حفرة – اصغاء – توسل – انتقال) وهذا الاختزال اللغوي يلائم الاطار الكنائي للغة المكتوبة بروح صوفية شديدة الكثافة، وهو يصل اللوحات الجانبية بمقطوعات شعرية مستوحاة من النصوص الدينية المصرية القديمة.
يستعيد بطل القصة كثيرا من ملامح المؤلف سواء المادي (تخصصية في صناعة النسيج وتشكيله) أو النفس (الغربة والوحدة والتأمل). إن طيف ابنة رمسيس الثاني الأميرة التي يقع البطل في غرامها، ويوقف حياته على ملاحقتها (ولكن لو سبقني غيري، فلن أنال ما كل أسعى اليه) والتوحد في حياة البشر، المجاوزة والاتحاد مع ما يهم انسانيتنا. ويحقق ما هيتنا، إن مطربة العواطف ليست مجرد معشوقة بل هي حلم الكمال الشعري، السعي الى ما يهبنا تميزنا وتعينا من الكائن الى اللاكائن، ومن المادي الى الروحي، ومن المستعين الى المحتجب. تمنحنا مطربة الوجود القدرة على تجاوز الوجود بالقوة الى الوجود بالفعل، وتخطي الممكن الى المستحيل. انها رحلة السعي الى الصبغة الأخرى من الوجود البشري حتى ان بطلنا "يتطلع دائما الى ضفتي النهر".
وتبدو اللغة بكثافتها وصوفيتها وشعريتها في أفضل آلتها بين يدي المؤلف، معبرة بشحناتها الفنية وموسيقاها الجمالية عن البناء الفني للنص.
يسم قصص المجموعة اقتصارها على كلمة واحدة في العنوان (جدل – خشية – مجهول – دعوة – مرافق) وكأن القصة تصور حالة أو حدثا تؤمن الكلمة بكثافة الحدث والشخصية (تركيزها من خلال العنوان) ويظل هذا التركيز اللغوي وتفجير شحنتها الدلالية واستقطار مكناتها أهم ما يميز كتابات الغيطاني وخاصة الأخيرة معبرا عن سيطرته على اللفة واقتداره التعبيري.
ربما تبدو قصة (لماذا طار العصفور؟) آخر قصص المجموعة شاذة عن أجواء المجموعة والتي يعود تاريخها الى فترة أسبق (1979) حيث تطل بمباشرتها وطفو لتها وان لم تخل من دلالة فلسفية في بعض المواضع.
تتوزع تواريخ كتابة نصوص المجموعة الخمسة عشر كالتالي: تعود 13 قصة منها الى فترة التسعينات في توقيت كتابتها، منها ست قصص مكتوبة عام 1992 وحدة وهي سنة الزخم الفني عنده على ما يبدو.
لا يكتب الغيطاني عن جماعة، بل عن أفراد اشكاليين بتعبير لوكاتش، فالدكتور المدعى الذي ظل سنوات طوال يتظاهر بمراجعة اطروحة دكتوراه أمام زبائن المقهى بتراجع داخل شرنقته متوحدا بزيفه وانكساره حتى ينتهك هذا السلام لنفس المدة هو سؤال التبادل عن حقيقة هذه الأطروحة التي يحملها منذ سنوات دون أن يغيرها، فيتداعى هذا العالم المؤسس على كذبة، مما يؤدي بانهيار صاحبه.
وفي قصة (الجهاز) تطالع واحدة من أصدق صرخات ادانة الفساد وتعريته في المجتمع العربي حيث يتكالب المسؤولون (مسؤول البلدية – ومسؤول التموين – وضابط الشرطة – والجندي) على ابتزاز بائع شطائر بتناول الشطائر مجانا وبلا مقابل، ويذعن البائع الشاب الجامعي لهذا الابتزاز، والذي يتزايد بالتدريج، ونصل الى المفارقة الساخرة حيث يدعو الضابط ضيوفه على شطائر البائع المجانية. يعود الغيطاني الى الصيغة المفضلة حول الفساد 0فساد الأجهزة والأنظمة والأفراد في شكل فني بسيط يخلو من التعقيد، ويميل أحيانا الى المباشرة نقرأ منها: "لم يزد المبلغ الذي يرسله الضابط مع الجندي على خمسين قرشا، في اليوم الرابع لم يحدد الجندي المطلوب بالضبط، قال باختصار
– "الباشا عنده ضيوف".
تطلع اليه.
– كم عددهم؟
راح الجندي يعد على أصابعه، ثم عادل السعد
– سبعة "
– لا تؤاخذني.. أنا عبدا لمأمور.الأوامر أوامر.
وتتكرر تيمة الفساد في قصة (تبدل) حيث يسود الفساد بين القائمين على أمر شركة حكومية. وتدين قصة (مرافق) مناخ القهر في دولة عربية شرقية معروفة بشموليتها وسطوة أجهزتها القمعية حول العالم الداخلي لمرافق رسمي يصحب ضيوف الدولة في زياراتهم الرسمية، ولكنه يبوح بباطنه المعادي للنظام تحت تأثير الخمر وتستنسخ قصة (مراقبة) مناخ القهر من خلال علاقة بين مخبر والشخص المراقب، وينجح المؤلف في تفجير شحنة انسانية تتعاطف مع المخبر البسيط الذي هو أقرب الى هينة لدى النظام، ولدى الشخص الذي يراقبه.
تكاد القاهرة القديمة وبالأخص حي الحسين يستقطب أحداث العديد من قصص المجموعة، وهي البيئة المثالية في أعماله، وكأن تحقق الهوية والأمان النفسي يتم عبر العودة الى البنية الأصلية في مواجهة التغريب الموروث (المكان -اللغة – الرموز – الأنا) في مواجهة عوامل التهديد الخارجية.
ربما كانت قصة (مراقبة) تداعيا على (محاكمة) كافكا، نجدها في قصة لمحمد جبريل، وقصة لكاتب هذه السطور بعنوان (الآخر)، وان كان الغيطاني ينجح في تعميق البعد الانساني لرمز السلطة (المخبر) الذي يشكل قاعدة الهرم الأمني، وهو أقرب الى الضحية التي تستدعي الرثاء بؤوسه وشقائه، يسأله المراقب:
-"أين تسكن؟
– شبرا
– سبرا؟
– أي والله.. آخر شبرا
وتجيء الى حلوان لتراقبني؟
– أوامر يا أستاذ؟
– متى تستيقظ:؟
– الفجر.. أخرج من البيت في الظلام
– لا.. الوقت لا يكفي.. يجب أن ألحق أول قطار.. لكن سيادتكم قطعت نفسي.. لم تتح لي فرصة لكي أنظر – أمس وأول أمس.
ويجنح الغيطاني الى أسلوبه الرمزي المحفوظ في قصتي (دخول) حيث يقف بطلها متأهبا لاجراء جراحة خطيرة في مستشفى أجنبي، وهي مستوحاة من تجربة شخصية له، وتصل القصة الى ذررتها الفنية عندما يسأله موظف المستشفى عن اسم أقرب انسان يمكن الاتصال، حيث يحيل الرمز الى الوقوف على عتبة الموت.
وفي قصة (دعوة) ينفصل الرجل عن ذاته حيث يدعى الى حفل مجلس أباء مدرسة أبنائه، رغم أنه ينصاع الى عزوبيته وعدم تجاربه، ويلتبس الأمر عليه ويساير الكذبة حتى النهاية حيث يستقبل كرجل أعمال مهم، ويعرضون عليه رسوم أبنيته والتي ينكرها، اننا أمام توازي خطية: الواقعي والمتخيل، الأنا والهو، فتتحرر من قيودنا ويكذب ارتباطاتنا ومسؤولياتنا وقيودنا، وحيث يحيل الواقعي الى متخيل، والمتخيل الى واقعي.
وفي قصة (خشية) نرى بروفة أولية لرواية الغيطاني الأخيرة (حكايات المؤسسة) التي صدرت في رواية مؤخرا حول فساد المسؤول عن مؤسسة ذات نشاط اعلامي، حيث يضبط البطل رئيس المؤسسة في وضع جنسي مع احدى العاملات بالمؤسسة وتنتهي القصة باستدعائه لنيل قصاصه على ما اكتشفه من فساد رئيسه.
أما (الليلة الأولى) فتطو فيها النبرة الانسانية حيث تصور الليلة الأولى فراش أرملة بعد رحيل زوجها وسعادة تجربتها الجنسية معه عبر لحظة جوع جنسي.
يرصد القاهرة في مجموعة (مطربة الغروب) القصصية أحوال البلاد وتجوالها تبدلها في مناخ الانفتاح الاقتصادي والذي انتج مناخا من الفساد والتفاوت الاجتماعي الواسع وتآكل الطبقة الوسطى وشيوع منظومة قيمية استهلاكية ومادية وفردية، وهنا يأتي دور المبدع في كشف الاختلال البنيوي واطلاق صرخات التحذير وادانة كل صفوف التداعي والفساد والترهل.
محسن خضر (كاتب واكاديمي من مصر)