للوهلة الأولى تبدو مجموعة»ماجرى يوم الخميس»لجمال ناجي الصادرة عن وزارة الثقافة بخمسة عشر قصة لاتختلف في بنية السرد والتقنية الفنية كثيرا عن نتاج ناجي منذ الطريق الى بلحارث مرورا بجموعاته القصصية ر جل خالي الذهن ورجل بلا تفاصيل، واتتهاء بروايته الأخيرة ليلة الريش ، فاللغة المسترسلة بالسرد والقدرة البصرية على رسم المكان والزمان وتفاصيل الشخصيات ،بالإضافة الى تطور الحدث بسهولة ودونما تعقيد لغوي أو فني وأخيرا اتقان شروط «المفارقات وصدمة القارئ» هي من ثيمات أعمال الكاتب الذي لازال يرفد المشهد السردي في الأردن ومنذ ربع قرن متنقلاً بين عربات الرواية ومحطات القصة القصيرة الكلاسيكية بصبر وجهد ملحوظ ، ولكن القرأة المتأنية والناقدة تكشف تحت غور المادة القصصية خيطا رفيعا وقاسيا يمتد بشراسة وببطء ليربط شخصيات المجموعة بالواقع اليومي ويلقي بقعة ضوء مفاجئة على ظلمات الذات المتشظية في عالم ناجي القصصي ، وعبر مرآةاللغة والدلالات، والتوصيف الدقيق لشخصيات تتفاوت نسيبا في رؤياها ورؤيتها, وهي تتعرى ببطء تارة وبتسارع لا يقل عن مدى لهاثها في دواليب عجلة اليومي وتعقيداته الإجتماعية والثقافية لتنكشف لنا مدىالغربة والإغتراب المادي والنفسي لذوات شبه مريضة بلا أسماء وبلا أماكن واقعية ومعلومة وبلا أسماء اوتوصيف دقيق لمكوناتها»باستثناءاتٍ لا تذكر في متن السرد»رسمت بعناية لتؤشر على البعد العام لشرائح ونماذج تتشابه طبقيا وإجتماعيا في موقعها وواقعها، وتعاني في مجملها من «عاطفة مثبطة» نتيجة انفلات اللحظة اليومية من عقالها وعدم قدرة هؤلاءعلى تحديد مواقعهم الشخصيةإزاء ما وصلوا له من فوضى واضطراب في علاقاتهم، سواءمع الأخرين اومع تناقضاتهم الطبقية والإجتماعية .
الذات المريضة وتقنيات الكشف
تبدأ «ما جرى يوم الخميس» بكلمة أكرهه ! في قصة «رجل لا يحسن الحب» لنصطدم منذ البداية بشخصية مهزوزة تعاني من اضطراب عاطفي يمارسه الأب علىابنه بقسوة وتناقض ،تبلغ إشكاليته في كونه لا يعرف سر هذه الكراهية التي يحملها لصغيره ، وذلك العنف المختزن والغير مضبوط في وجه تفاصيل صغيره ،يعترف بينه وبين نفسه المتشظيه أنها لاتستحق هذا القسوة وليس لها ما يبررها، لنكتشف لاحقا انه وفي اعماقه المريضه يمارس سادية على وجهه في مرأة باطنه حين يدرك ان الولد يشبهه ويشبه ماضيه المتواري خلف ما تراكم في زحام اليومي من خسارات وارهاصات! ، وعبر التفاصيل الصغيرة والدفق المختصر يبرع ناجي في توصيف الذات المشروخة في عوالم السرد لديه وتتماهى تقنيات «الكشف السريري»عبر استخدام ضمير المتكلم بلغة باردة رغم حرارة اشكالياتها النفسية فنكاد نلمح الأبطال المهزومين وكأنهم في حضرة بوح وتداع مسترخين في مقعد مريح ويمارسون تشريحا خاصا لذواتهم وكأنها نفس الشخصيات العارية في قصة «مجتمع مدني» و«يوميات رجل مكتوف اليدين» حين يتداعى السرد بحرية وشجاعة ،على لسان الشخصيات المكبلة والغيرشجاعة ممن تضطر لممارسة» الكذب والتذاكي» لإنتزاع مصالحها الصغيرة أوتلجأ للوهم وللتعويض الكابوسي عن حياة وصلت ذروة جحيمها بكلمة «أريح .. أريح» التي خرجت من النائم الذي أبصر َموته في الهاوية ، ويصاب بالذعرمن أحدهم حين يبتسم في وجهه مستفسرا عن سر عبوسه الدائم!
وامعانا في توصيف وكشف دواخل شخصياته المثبطه عاطفيا وتناقضاتها المتتاليه بإغترابها عن الأخر، مهما كانت مواصفاته اوعلاقته بها يلجأ القص الى «المنولوج الخارجي والداخلي» بحوارات مقتضبة ومختزلة تؤشر على مدى ماألقت به تسارعات اليومي وإحباطاته وتعقيداته من إختزال وأقنعة على العلاقات الإجتماعية في»الزمان والمكان ذاته»، فالولد الذي لايعبأ بورم أبيه الذي اضطر لسؤاله عنه واكتفي بكلمة «ربما» وهو يلهو بحاسوبه ، والأخر في قصة» الجهات الخمس» لم يُعر أي اهتمام لفقدان»عصفوره»الذي شغل والده المتفاني «بتربيته النفسية» وهمَهُ الكبيركيف يخبره بموت عصفوره، دون أن يعاني من صدمة نفسية توهمها مراعاة له ، مما جعله يعترف بحرقةٍ نقرأ مدى فجيعتها واصطامها بالأخر البعيد ذهنياونفسيا فيقول الأب في نهاية القصة : ثم عاد الى اللعب بجهاز الحاسوب ، دون أن يكترث بذهولي ودهشتي التي أنبتت سؤالا مفجعا : لماذا لم يحزن مثلي ؟ في عالم»ماجرى يوم الخميس» لا أحد يحزن او يفرح مثل الأخر، لا بل لاأحد يحزن أو يفرح مع الأخر .. فالتشظي والإغتراب بين المجاميع وصل ذروته ، ورغم أن تكرار المشاهد التي تتعلق بالأباء والأبناء قد تقودنا بالتحليل الى إنشائية» صراع القديم مع الحديث» الاّ أن التواترالقصصي، وتعدد أدوات القص يُشير بلغة «التحليل النفسي» الى ما هو أبعد من ذلك اذا ما دققنا أن أغلب شخصيات المجموعة تنتمي الى ماكان يعرف «بالطبقة الوسطى» والى شريحة الموظفين تحديدا، وفضائها القصصي هي المدينة بعجلتها المتسارعة وزحمتها وخوائها الثقافي ،وإغتراب مجاميعها وحالة الفراغ الروحي والقلق اليومي الذي يعشش في نفوس ذواتها وتبدو حالة الضيق المنتشرة في فضاء المجموعة جلية فأغلب القص لم يتعدى حدود الغرفة الواحدة وفي افضل الإتساعات كان المنزل الموحش في «العود» او في «قلب أخضر» وحتى «في ماجرى يوم الخميس «والتي سميت المجموعة بأسمها ،نلاحظ بجلاء بالغ أن شخصيات المجموعة بأغلبهاذوات منعزلة أو شبه منعزلة فاقدة القدرة والمتعة بالحياة، وفاقدةالثقة بأي أخر حتى لو كان الزوجة في «مقاومة بيضاء»حيث الغربة والسطحية تتناوش الزوجين ويبدو كل منهما قد قدم من عالم آخر، ولا تنقذ الزوج بعد كذبته الفاقعه سوىالبطاقة البيضاء التي خلصته من ثقل مناسبات الزوجة الإجتماعية الممجوجة، وحتى حين حاول السرد المشحون باللغة الحميمة أن يوهمنا بتعاطف الجار والجارة مع صاحب العود في قصة»العود» عبر المونولوج الخارجي بين الزوج وزوجته المتعاطفين مع العود الباكي وصاحبه ، نتفاجئ في أخر القص بإكتفاء هذا المتعاطف مع الرجل المنكوب باستراق النظرعليه من العدسة السحرية وهو يبيع فلذة روحه «عوده»لتنتهي بدعة التعاطف اوحتى التعامل مع الأخرين بخيبة كبرى!
مفاتيح الشخصيات وتقنية المفارقة والمقارنة
يلجأ «جمال ناجي» في أغلب مساحات مجموعته الى بذرأعشاب صغيرة قد لاترى عبرالعين غير المجربة ، وهو يبرع بأخفائها لكي تتمكن لعبة المفارقة من إيهام القارئ أن هنالك ثمة قضايا كبرى تعيشها شخصيات «ماجرى يوم الخميس» وهي في أغلبها على النقيض من ذلك، فهي ذوات مريضة ومهشمة فقدت القدرة ومنذ نهاية حقبة الطفرة الأقتصادية ، وزوال الأهتمامات الكبرى ، وبسبب عدم القدرة على التكيف مع تسارعات الحياة ومنزلقاتها ، بحيث يصبح مجرد إعلان تهنئة في أحد الصحف، ربما وضعه عابث أو صاحب طرفةٍ ضجر ، يصبح الشغل الشاغل والقضية الكبرىالتي تجعل بطل القصة لا ينام ولا يخلد للنوم من شدة «فضوله» وتفرغه لمعرفةما حدث يوم الخميس ، دعونا نراقب ما زرع «ناجي» في غفلة منا على لسان صاحب الحاجة الأرعن اذ يقول : عدلت وضع الصور واللوحات المعلقة على الجدار: عادة ما تميل الصور واللوحات .. عالجت مسمارا لحميا في قدمي: عادة ما تظهر المسامير في قدمي.. أعدت المزهرية الى مكانها .. عادة ما تنتقل .. انتهيت من تلك الأعمال التي عادة ما اقوم بها دون سبب واضح» ثمة خواء هائل يسكن الشخصية تبرز حرفية « ناجي» وتقنية الكشف التي يمارسها على شخصياته المريضة وهي تتعرى ببطء وحذر ، ليمارس المفارقة التي يتقنها في السطورالأخيرة من كل قصة ، لنكتشف أن المدينة تمتلئ بالرجال «التي قتلتهم العادة وارشفتهم» وهم يتعلقون بوهم كسر هذا الصفيح من أجل معرفة ما جرى يوم الخميس !
وفي قصة «قلب أخضر» التي اتخذت آخر مقعد في حافلة المجموعة ندخل الذات الراوية بلسانها وهي تعترف وتكشف ذاتها البائسة واليائسه والتي لاتتقن ولاتعرف كيف تتعامل مع نبتة دخلت حياتها المليئة بالوحشة والوحدة ، حتى ظن متوهما لشرنقته الطويلة في غرفته وحيدا وانعدام خبرته الأجتماعية «رايت فيها مجرد واحده من موجودات الغرفة كالكرسي ، الطاولة … «ويتواصل السرد عبر ضمير المتكلم شارحا معاناته مع النبته ورغبته « في الواعي الظاهري» بالتخلص منها ، ثم تورطه شيئا فشيئا معها الى أن يعترف في احدى ومضاته وهو يصف النبته وهي تنمو وتضج بالحياة» .. وكثيرا ما سمعت صوتها : صوت الطقطقة الخافتة للأوراق أثناء تفتحها في الصباحات الباكرة ،ولقد أيقظ ذلك الصوت في أعماقي فرحا طفوليا .. وضبطت نفسي ذات مرة وأنا ابتسم لها!» يلجأ «جمال ناجي»لتشخيص حالة «بطله مريضه» الى وضع المرايا المتقابلة بالصورة والمعنى عبر ومضات يخفيها لكي لا تتسطح التفاصيل ، ولكنّا وبنظرة عامة وبالقليل من التمحيص ندرك لعبة (المقارنة والمفارقة) التي يضعنا فيها القص بين الرجل الوحيد في الغرفة وبين النبته الضيفه ، فالنبته ذات القلب الأخضر والتي تضج بالحياة ولا تنمو الا ّ في الفضاء وتحت الضوء وتحتاج الإبتسامة لطاقة الوجود والتغيير الأيجابي والتي أخيرا لا تهِبُ حريتها ولا تساوم على من يلوي وجهتها وتفضل الموت على الإنحناء ، هي بتقنية الكشف والمراياالبصرية الوجه الأخر للرجل المستوحد ، صاحب القلب الرمادي المنعزل والفاقد القدرة على التواصل والتوصيل ، متوهما حريته في عزلته !
ولا تبتعد كثيرا قصتي «عوني أبن خالتي» و«عادي» بأسلوبهما عن تقنية المقارنة والمفارقة التي يتقنهما ناجي بخبرة وعناية ، رغم مافي القصة الأولى من تقطيع درامي ، ومشهدية تصويرية أقرب الى لقطات الكوميديا السوداء «التلفزيونية» الاّ أن القصتين تلجآن الى أسلوب المرايا المتقابلة لخلق المقارنة الغير مباشرة وبالتالي حدوث المفارقة السردية في أغلب القص ، واللافت في القصتين ذلك الاختراق الجميل لجوالنصوص بظهور شخصيتين من الهامش الإجتماعي والطبقي، غير منعزلتين ولا نستطيع الحاقهما بباقي شخصيات وأبطال المجموعة ، بل على النقيض من ذلك فـ«عوني أبن خالتي» هو شخص هامشي يوصف بالكذب والذكاء وهو أدنى بكثير على السلم الإجتماعي والثقافي من ابن خالته الميسور والمثقف نسبيا، ولكن الأول لا يهاب المجتمع ويعرف بخبرته وانغماسه في وحله تعقيداته ودهاليزه ِ فهو ابن المرحلة ، ويظهر في المشاهد الأربع على درجة عالية من الثقة بالنفس ، والإنسجام مع الذات ، «الحياة مسخره .. أضربها بالجزمة» ، لا بل إنه يدرك مدى خواء وركاكة الواقع حين يخبرنا وبخبرة عالية في المشهد الرابع «حذاء ابن خالتي» أن لا قيمة للحذاء وللهدية الباذخة إذا لم يعرف الأخرون أن قيمتة حذائه هو مائة دينار ! فهو يرصد بعمق مدى شكلانية اليومي وإشكالية اللحظة بطواحين هوائها وضيق ارضها وسمائها ، على النقيض من الأخر المتقابل في مرآة السرد الذي يخشى الأخر ولا يستطيع مواجهة الواقع بتعقيداته فيصبح مجرد إستخراج»دفتر عائلة» تجاوزت مدته القانونية ، قضية كبرى تثير فيه القلق الكبير والهواجس القهرية التي يتمكن»ابن خالته»الهامشي من حلها باسلوب
«الحجر والبيضة»المُجرب في الحياة الكر تونية المعاشة ، تماما كما عالج تهديد الحكومة بقطع الإعانة التي يأخذها بتدبير مكيدة السجن لإبنه واستخراج وثيقة
«سوء السلوك»، فهو بعفويته وخبراته المكتسبة يدرك مدى استفحال المحسوبية وسيادة ثقافة «الفهلوة» في مجتمع الإستهلاك والأنهيار الأخلاقي والقيمي .
وبنفس الأسلوبية وبنفس التقنيات نطالع قصة «عادي» والتي كان بإمكان ناجي بقليل من الدربة أن يلحقها «بابن خالتي عوني» فنحن إزاء شخصيتين متناقضات ومتفاوتات ثقافيا وإجتماعيا، الأول يمتلئ بالقلق والجبن الإجتماعي والتردد المشحون بالداخل المهزوز نفسيا ومعنويا، ويصف نفسه حين لا يستطيع الطلب من جاره المتغطرس تحريك سيارته «أنا رجل مسالم ، ثم أن النبي وصى على سابع جار» رغم انه قابل بعين الرضى سائق «الونش» وهو يوبخ ويعتدي على جاره المتغطرس ، ويظهر في مرآة السرد «سائق الونش»الواثق من نفسه والذي علمته حياته وواقعه كيف يتعامل مع نظرية القوة والتفاوت في مجتمع تقوم ثقافته على العنف والإقصاء بحيث يدرك ان كل مظاهره القاسية باتت «عادي» حين ندرك ان الغير عادي «هو باقي شخصيات المجموعة» التي انهزمت في الصراع اليومي وانعزلت «برؤية إنسحابية» لترفع من الهامشي وتمضي لمزيد من الأغتراب ، وكأن شخصيات ناجي تشير بوضوح بالغ على «نهاية حقبة الطبقة الوسطى» وانسحابها من ساحة الفعل والتغيير» متناسية اوهاربة من الإجابات المستعصية للحظة السياسية والإجتماعية وتسارع تعقيدات «الأنا وال نحن» بعد أن فقدت القدرة والثقة بنفسها ، منشغلة بتعويض خيباتها بالبحث عن «ماجرى يوم الخميس!»
محمـــد صبيــــح
شاعر وكاتب من الأردن