رمزية متخيل الجسد والماء والتراب في (ديوان النساء) للشاعرة التونسية المبدعة جميلة الماجري
تستهدي في قصيدتها بفتنة عنف المتخيل،معتمدة على خصوبة الحواس في بناء نص شعري مُغاير،يجد نسبه في الانتماء لحرارة تجربة اليد وهي تكتب تاريخها على البياض،وتؤسس بطراوة المعنى لغتها الشعرية المشبعة بتفاصيل الرؤيا،والمشرعة على غنائية مسكونة بالحلم والحكمة والأمل والحرية والغبطة والدهشة.
أدركت قيمة الانتساب إلى سلالة القصيدة الأندلسية وفاء لأجدادها الشعراء في بناء الخطاب الشعري المشرع على التأمل وكينونة الإنصات لأعماق الروح والنفس معا. اخترقت خلوة النص العنيفة، فاتجهت صوب فتنة المتخيل، وخصوبة اللغة لتعبر حجاب الصمت والعتمة، حيث تصبح الكتابة مقاومة حقيقية لكل أشكال الكبت والمصادرة، والحرية في تحرك الجسد مكانا في الوجود والكون، قبل أن يكون كائنا بشريا يتحرك، ويعيش.
1- سلطة العنوان، متعة القارئ:
يعتبر العنوان من العتبات النصية الهامة التي أولتها الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة عناية خاصة خصوصا مع جيرار جينيت. بحيث يصبح العنوان البوابة السرية والسحرية للتلصص على العالم الجمالي والشعري للعمل الإبداعي. فعنوان «ديوان النساء» التي اختارته الشاعرة بقصدية متقنة ليمرر رسالتها للحياة والكون عبر المرور من مغارة اللغة لتعبر لجسر المعنى يحتمل عدة قراءات وتأويلات، وفي التعدد تتجلى خصوبة العناوين الطرية بحرارة التجربة، وفتنة القصيدة. فنساء الشاعرة من حقهن الإقامة في ديوان/ مسكن أو إقامة، هربا من برد الخارج/ العالم، وبحثا عن دفء الداخل/ الديوان بما يحمله من موروث لغوي وتخييلي ورمزي في الذاكرة الشفويةوالكتابة الشعرية العربية القديمة باعتبار المبدعة جميلة الماجري حفيدة سلالة شعرية لا تشيخ أبدا. هكذا وصل إلينا «ديوان الشنفري»، «ديوان المتنبي»، «ديوان الأعشى». وكأن جمعٍ النصوص الشعرية تأريخ لوعي شعري وزمن إبداعي خوفا من شيخوخة محتملة للمعنى، أو تحسبا لضياع إرث الفعل الشعري المكتوب مع مرور الزمن. لذا جمعت الشاعرة النساء في ديوان لتحكي عبر ألسنتهن غبطتهن ومتعتهن وحريتهن وخيباتهن وانتصاراتهن وخساراتهن. إن الجمع شهادة عميقة لتاريخ إنساني استند لوجعه المكابر، أو لفتنته الموحشة. والديوان في رمزيته يدون سيرة تاريخ النساء ،كما يدين أيضا كل أشكال الكبت والاستلاب والمصادرة للحرية.
2- رمزية متخيل الجسد
تقول الشاعرة جميلة الماجري:
منهنَّ مِطفَلة بماء الوَرْدِ قدْ
فَاحَـتْ و ماء العطر شاءْ
ملآى من الطـَّـفَـلِ المٌعَطّر و الشّذى
تطلي به جَسَدًا يَتوقُ إلى بدَايَته
طينا و مَــاءْ
الجسد منفى، القصيدة مسكن، فالجسد ليتحرر من الكبت الذي مورس عليه لزمن طويل عبر حقب تاريخية متعددة يتحصن بالكتابة/المأوى والإقامة في مواجهة ضارية تعلنها القصيدة باللغة وعبرها لتكسير الرؤية التقليدية،التي ساهمت في تقليصه وتقزيمه من كينونة حية،متمسكة بعشق الحياة والحق في التعبير الحر لوجع عميق يجد أحيانا دوره في الحياة للإنتاج فقط. وهنا يغيب الشرط الإنساني والوجودي للكائن البشري.تغييب مقصود وممنهج ومخطط له سلفا حتى يبقى الجسد سجينا لعزلته وهشاشته فقط. والحمام باعتباره مكانا لألفة وإقامة الجسد المؤقته في مصاحبة الماء والدفء ارتبط في المتخيل بما هو طهراني محكوم بالصفاء والمحبة،وأحيانا بما هو ايروتيكي يستند للرغبة والشهوة أكثر مما يتجه صوب وجوده ككيانإنساني أولا، ففي الجسد الواحد أجساد متعددة، تتصارع، تتجاور، تتآلف، تختصم، تتصالح، تواجه، تحب، تقاوم، تكره، تعشق، تصرخ، تتأوه، تنادي، تحن،تئن…إلخ، لهذا فـ (إن الأمر الرمزي الذي يطبع الجسد بطباعه يعطي للشخص سبل الإخفاء القصوى لهذه الحقيقة المبهمة التي ارتبط بها. إن الجسد هو الحاضر-الغائب، إنه في آن واحد، محور إدراج الإنسان في نسيج العالم. والمركز الذي لا بد منه لكل الممارسات الاجتماعية إنه لا يوجد في وعي الشخص إلا في اللحظات التي يكف فيها عن القيام بوظائفه المعتادة، عندما يختفي روتين الحياة اليومية، أو عندما ينقطع «صمت الأعضاء»(1) فالحمام لحظة عميقة في المتخيل الإنساني عند العديد من الشعوب والثقافات، له طقوس تعترف أساسا بحرارة اليد في صب الماء، وهي ترتعش مرة، أو تكتب سيرة تاريخها بالرمز أو الإشارة. في مصاحبة الماء ينتعش الجسد ويتطهر ويتقوى، كأنه يعيش مرحلة ولادة جديدة. إن الشاعرة جميلة الماجري وهي تكتب عن الجسد من داخل تجربة اللغة، تهاجر عبر المعنى لمواجهة الاستبداد الذي مورس على تاريخ الجسد في حريته وغبطته أيضا. إن (تقارب التجربة الجسدية والإشارات التي تظهر بها للآخرين، والمشاطرة المشتركة في الطقوس التي تنظم الحياة الاجتماعية هي الشروط التي تجعل من الممكن قيام الاتصال والانتقال الثابت للحس في داخل مجتمع ما، إلا أنه يبدو غريبا، من خلال التواطؤ القائم بين الجسد الظاهر في مرآة الغير، وألفة الشخص مع ترميز استعمالاته الجسدية الخاصة طوال حياته اليومية، أن يمحي الجسد، ويختفي من ميدان الوعي، وتضعف ألوانه وسط الطقوس اليومية شبه المؤتمنة.)(2)
3- رمزية متخيل الماء
استطاع الماء باعتباره أصل الكون في الحقيقة ومتخيل البشرية أن يصبح محل انتباه وعناية من طرف المبدعين في التشكيل، والقصة والرواية والأجناس الأخرى، فتم توظيفه في بناء معمار النص الأدبي عموما. وفي القصيدة العربية المعاصرة خصوصا،تقول الشاعرة:
بالمـــاء حُكمُ الخَلـْـقِ مُرْتهـِـنٌ
و الطـِّـينُ عُنصُرُهُ السَّمِيُّ الأرْفـَـعُ
المَـــاء..صُبِّي المَاءَ..زيدِي المَـاء
خَلـِّي المَاءَ يَندَفِـقُ
كَوْنٌ من الأسرار يَنفـَتِقُ
بَوَّابَة سِــريَّة
تـُـفـْضِي إلى
مَلكوتـِـهِ و أفيَاء السّماواتِ
فالتدفق يرمز للسيلان والتجدد والخصوبة والديمومة. في التدفق حياة لا منتهية تعاند شيخوخة مصيرها، وفي حصار التدفق موت وشيخوخة وفناء وخريف مُرّ. وفعل الأمر يعبر دلاليا عن الحاجة الملحة والاستمرار بالفعل الإرادي المعقلن (صُبّي، زِيدِي، خَلي). هي دعوة وأمر من طرف الذات الشاعرة لترك الماء متدفقا، منسابا، رقراقا يستهدي بكثرته التي تحيل في رمزيتها على خصوبة متجددة، وحياة أكثر اخضرارا واشتهاء ومتعة.(هكذا سيبدو لنا الماء مثل كائن شامل : له جسد، وروح، وصوت. وقد يكون للماء، أكثر من أي عنصر آخر واقع شعري كامل. ويمكن أن تضمن وحدة ما شعرية الماء، على الرغم من تنوع مشاهِده. إذ يجب أن يوحي الماء إلى الشاعر بواجب جديد ، وحدة العنصر. ففي حال فقدان وحدة العنصر هذه، يصير الخيال المادي غير مشبع، ويظل الخيال الصوري غير كافٍ لوصل الخطوط المبعثرة، ويفتقد المؤلف الحياة لافتقاره إلى المادة.)(3)
تقول الشاعرة جميلة الماجري:
بعض الرجال بك في الحب ما صدقوا.. و بقية ماتوا وما عشقوا ..ما عذرهم ؟ لو يسألون غدا .. مروا بجنب النبع رقراقا و ما شربوا..
إن المرور أمام النبع الرامز للخصوبة والديمومة والحياة يجعل الكائن البشري مشتاقا للشرب،خصوصا إن كان- أي النبع- رقراقا،والشاعرة وظفت النبع في قصيدتها،ولم توظف البئر مثلا،لأن من سمات وخصائص النبع أن ماءه يتجدد وينساب ويسيل،وفي تجدده الدائم المستمر وانسيابه وسيلانه يحي الأرض والإنسان والكون والحياة.في النبع نِيَّة السقي لكل عطش واقعي أو رمزي.ومن الخسائر الفظيعة التي يتكبدها الإنسان في روحه وأعماقه ووجدانه موت مفاجئ دون تذوق طعم العشق والحب والوله والصبابة الفاتنة،لهذا
(تكفي قطرة ماء واحدة لخلق عالم وإذابة الليل، وبغية الحلم بالقوة، لا يحتاج المرء إلا إلى قطرة متخيلة في العمق فالماء المحرك هكذا برعم، يعطي الحياة، انطلاقا لا يستنفذ)(4)
تنهض قصيدة الشاعرة جميلة الماجري على شعرية العين،المتجسسة،المتلصصة التي تشحذ متخيلها بكثافة لتتعمق في مساءلة الجسد بالعين المتطورة، الفاحصة،اللاقطة لأدق التفاصيل والحركات،إنها الثقافة البصرية المشبعة بالتأمل والرؤية في ملكوت الجمر والماء:
و الجَمْرُ مُـتـَّـقدٌ
في المَـاء مُشتـَـعِلُ
فلكـلِّ بَارئَـة.
جمع بين متناقضات آمنت بها الشاعرة،فالجمر بما هو لهب ونار حارقة ترمز للقوة والجبروت والعنف والقسوة يحافظ على ديمومة حياته عندما يلمس الماء بما هو رامز للخصوبة والعطاء يزداد اشتعالا.إنه تقويض للمفهوم المتداول في جميع الثقافات الإنسانية بأن الجمر الملتهب يقتله الماء بسرعة،واختراق للمألوف السائد في وعينا بموت النار العنيفة عبر عدوانيةالماء الهادرة.
رمزية متخيل التراب أو الصلصال :
تقول الشاعرة:
حتّى إذا الـْـتَبَسَتْ بالطّين ثانيَة
و توَحَّدَتْ بالمَاء غارقـَة
في صَـفـْـو عُنصُـرهَا
و تمَعَّـجَ الصَّلصَالُ بالنّيرَان مُشتاقا
و مُـلـْـتَهـِـبا
ثمّ اسْتـوَتْ
نـُـورًا..
توظف الشاعرة في متنها الشعري الذي يخفي متعته،أكثر مما يبدي قسوته وإدانته العناصر الأربعة المكونة للحياة والكون (الماء،التراب،النار،الهواء)، والطين أو التراب أو الصلصال يحيل على ماهو أرضي حيث التكوين والبدء والمنتهى والرجوع.التباس الطين بالماء يجعل العجين مهيأ للعبور نحو الموقد ومعاشرة النار في صمت.حيث ينضج الصمت والنسيان والمحو والرغبة في صفاء عميق ينذر بعاصفة مرتقبة بالجسد وعَبْرهُ.
لهذا من (من أجل فهم علم النفس اللاشعور المبدع، في الإلحاح على تجارب السيولة، وتجارب المرونة، ففي تجربة المجبولات، يبدو الماء بوضوح مادة مهيمنة. فيه نحلم عندما يفيد بوساطته من ليونة الصلصال.)(5)
اشتياق الصلصال لدفء النيران هروب من روتين برودته،وعزلته،بحث عن الإمتاع والمؤانسة في غياب شريك أو صديق لتبديد عُنف الخلوة،وإضافة كلمة(ملتهبا) لـ(مشتاقا) دليل على قوة الحرارة والحركة أيضا،فاللهيب في اشتعاله يتحرك في جميع اتجاهات الأمكنة. (إنه التحول ألكائني الجوهري بين النار والتراب. والكائن الذي قدره الماء كائن دائخ. فهو يموت كل لحظة، ومن دون توقف، يسيل شيء ما من مادته. وليس الموت اليومي بالموت المفرط للنار التي تخترق السماء ،إذ الموت اليومي هو موت النار. الماء يجري كل يوم، الماء يهطل كل يوم، وعلى الدوام ينتهي بموته الأفقي، وسوف نرى في الأمثلة التي لا تحصى عمل يتصل بالخيال المجسد أن موت الماء أكثر حلمية من موت التراب: نهائي هو عذاب الماء)(6)
الغنائية في الخطاب الشعري لجميلة الماجري:
في(ديوان النساء) نلمس حرارة القصيدة تغزو الذات الشاعرة بمحبة نادرة لتخلصها من برودة العزلة،أو ثلج الحنين الرابض في أقصى جبال المخيلة.تلك قدرة اللغة الشعرية العميقة والأنيقة في إنقاذ الذاكرة من سلطة الألم أو استحضار الروح لسفرٍ الألفة بين حنايا النص والكتابة والحياة.حيث المعني يعي جيدا قوته الاستثنائية في رسم معالم الانتساب لسؤال شعري،تقول الشاعرة جميلة الماجري:
لي مذهب في العشق منفرد
وللعشاق أهواء
فأنا الصفية في الهوى خلصت
ولهم مذاهب في الهوى التبست
تعتز من خلال نصها الشعري الممتع بكونها من سلالة ابن زيدون وقيس ابن الملوح وعمر بن أبي ربيعة وابن حزم في طوق حمامته،والبقية في الروح كما في الذاكرة تستيقظ خلسة كلما هبّت ريح القصيدة على مخيلتها فجأة،في عشقها مذهب مغاير ومخالف للسائد،لها نمطها الخاص في الحب،وبحنين جميل تتذكر الشاعرة علاقتها مع طفولة القصيدة(أما المدارس أو التيارات الأدبية التي وجهت كتاباتي في البدايات وكونت ذائقتي، فمثل أي مُبتدِأ أحببت كل ما كنا ندرسه في برامج التعليم الثانوي حينها خاصة المتنبي والأدب الأندلسي والأدب الرومنطيقي: جبران وأبو ماضي وميخائيل نعيمة وأبو القاسم الشابي، ثم بدأنا أنا و أبناء جيلي نستقل بقراءاتنا ونتلقف دواوين نزار قباني ونحفظ روايات نجيب محفوظ ثم جاءت مرحلة الجامعة وبدأنا نتحرر من قراءاتنا ونؤسس لتجاربنا الخاصة ونطلع أكثر على التيارات الأدبية المختلفة، ففي جيلي كنّا نقرأ كثيرا.) (7)
إنه زمن إبداعي وشعري وجمالي يَهَبُ الأعماق المبدعة كما كثافة المتخيل سحرا مبتهجا بطفولة اللغة بما هي فسيفساء من كلمات حمّالة أوجه تُخفي أكثر مما تُعلن،وتمتنع عن تقديم خصوبتها بشكل سريع حفاظا على نمط حياتها السري الخاص.في الامتناع تُقدم القصيدة سيرة سَفَرِ بياضها وألغازها وأسرارها غير مكترثة بعَسَسِ المتخيل وحراس الأبجدية،لهذا فقد (تمثل الشعراء المغاربيون الرومانسية بعامة تصورات وقيما أروبية في صورة مركبة من عناصر وخصيصات اطلعوا عليها وبها تعرفوا ضمن الخطاب الرومانسي العربي في المركز فنصيا كانت الحرية أول عنصر وجودي ونظري احتاجته الممارسة. فقد حرص الشاعر على استجلاء معناها ومظاهرها كطريقة في الفكر والحياة تلتبس الرؤية إليهما وتتداخل عناصرها في الحياة والقصيدة معا. بها اقترب من مكان الإبدال الشعري، حيث انتقلت علاقته بمفهوم الشعر من حدود التقيد بالتصورات القديمة والتقليدية إلى بحث تلك التي تتصل بالحياة والأحاسيس التي حدد بها علاقته بالوجود والموجودات. ومن هنا كان مفهوم الخيال أو المفاهيم التي أعاد الشاعر الرومانسية صوغها وتحريرها من قيود الصنعة من أجل الانطلاق في اتجاه الذات الشعرية التي أصبحت تعنى بالتجاوب المعرفي مع الشعر الأوروبي والقطيعة مع التقليدية مع ما لذلك من أثر في المفاهيم الشعرية الأخرى التي تعرضت بدورها لقلب في التصورات والتأويل)(8)
في قصيدتها مغامرة لعبور السري والخفي، واللامفكر فيه،مصاحبة عميقة لنشيد الأعماق حيث المعنى مساءلة عنيفة لحفر تضاريس الروح والقلب عن كنز مفقود هناك، أو متروك هنا.إنها الشهوة النيئة، الطرية، الخصبة، المتجددة، التي تقبل موعدها مع النص في غياب لقاء محدد، أو مكان محتمل. تقول الشاعرة:
قلبي من البلور
فاحذر إن كسرته
أنت تجرح ثم يجرفك الدم
البلور دائما يتحصن بهشاشته،ويكون في مكان بعيد عن متناول اليد خوفا من الانكسار السهل،فقلب الشاعرة كأي امرأة يجب التعامل مع بليونة مفرطة وإنصات وتفاهم خوفا من إعصار بري وبحري يأتي على الأخضر واليابس.خصوصا إن كان هذا القلب قلب مبدعة وشاعرة لها حساسية فائقة في التعامل مع الكائنات المحيطة بها.فالكسر يؤدي حتما للجرح الذي هو إيذاء جسدي قبل ان يكون عاطفيا أو رمزيا.والسيل لا ينتظر أبدا حظ الخسارة.
ضمن هذه المتتالية الشعرة المشبعة بشهوة التلصص، وسلطة التجسس ما يجعل لغة الشعر قادرة على منح العزاء والملاذ والأمن والاستقرار والطمأنينة والإقامة الرمزية للذات الشاعرة لحظة إحساسها باليتم و الفراغ و الخواء العزلة. مشروع شعرية الصورة إذن-سواء تعلق الأمر بدراسة أي صورة داخل عمل شعري معين أو الافتراضات المتعددة للصورة خارج كل عمل خاص،يرجع أولا إلى تأمل كل أشكالها وطرقها، وأمكنة بروزها وطرائق تحريفاتها وإيقاعات تكرارها ودرجات صداها وانسجامها، ولكن هذا كله يرجع، بعد ذلك، وخاصة إلى التعمق في كيفية أن الصورة تتمنع بلا هوادة عن كل دلالة، وتحيل إلى أبعد منها، فالصورة تعد أو تساعد على إعداد حقيقة مختلفة عن تلك التي يفترض أن تمثلها اللغة.إن فائدة هذه المقارنة مرفوضة شيئا ما. ليس فقط لأنها تساعد على ملامسة مختلفة للعمل الشعري وذلك بتتبع السبل الداخلية بتواطؤ مع القراءة والكتابة كذلك، لكن لأنها تسمح بتوضيح، على الأقل في بعض مظاهرها، للطابع الخاص للعمل الشعري.)(9)
تأسيسا على ما سبق،تبقى الشاعرة جميلة الماجري منذورة لحياة داخل القصيدة،تُهاجر باللغة وعبرها في عالمها الباطني الجواني،كما تنخرط في مساءلة الواقع والمجال الإدراكي بأكوانه وكائناته وتفاصيله الدقيقة،اتخذت من الكتابة الشعرية مسكنا وإقامة ووطنا وبيتا احتماء من خلاء الواقع،وشراسة العالم،وعزلة الخارج.آمنت بالكتابة الشعرية كبعد وجودي إنساني حضاري قبل أن تكون تطهيرا للذات،و(ديوان النساء) يليق بحرارة اليد التي أسست تاريخه وانتماءه في خريطة القصيدة العربية المعاصرة.فاللغة عندها مقاومة،والقصيدة برحابة متخيلها منفى اختياري شاسع داخل فلوات المعنى.
الهوامش :
* جميلة الماجري،ديوان النساء،الشركة التونسية للنشر وتنمية الفنون والرسم.
1- دافيد لوبروتون، انتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة، محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1993،ص.123.
2- المرجع السابق،ص،ص 120-121.
3- غاستون باشلار، الماء والأحلام، دراسة عن الخيال والمادة، ترجمة، علي نجيب إبراهيم، تقديم أدونيس، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، ديسمبر 2007،ص،ص33-34.
4- غاستون باشلار، الماء والأحلام ،م،س،ص،ص.25-26.
5- غاستون باشلار، الماء والأحلام ،م،س،ص.31.
6- غاستون باشلار، الماء والأحلام ،م،س،ص.20.
7- عبدالمجيد دقنيش،حوار مع الشاعرة جميلة الماجري، http://www.palmoon.net/5/topic-6066-163.html
8- يوسف ناوري، الشعر الحديث في المغرب العربي، الجزء الأول، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء،ط1،2006، ص.286.
9-– JEAN BURGOS, POUR UNE POETIQUE DE LIMAGINAIRE, ED.du seuil, paris, 1982,p,11..
أحمد الدمناتي\
\ شاعر وناقد من المغرب