هذا ليل كثيف تطل فيه عيون السمك الميت، وتبدو أبنية الفندق العملاق مثل الأشباح الساكنة، أو قطع الشطرنج الضخمة.
رماد منتشر، وغبار، وليل البحر خيم فوق التراب والأحجار، الصمت المفاجيء قطع أصوات المغنين والميكروفونات والزجاج الملون الصاخب، والقاعدون حول بركة السباحة سقطوا فيها أو هربوا، وانطفأ الجمر المثرثر تحت الخروف المتقلب.
الأبنية الكثيرة الهائلة على الشاطيء الطويل أصابها الخرس والعماء اللوني، وبدت جزءا من ظلمة البحر الكثيف.
هناك أصوات كثيرة قربة، محتدمة، وخائفة، ومتسائلة. أفواج السياح مضطربة، تنزف ماء كثيفا ساخنا، تنطلق بملابسها المختزلة وتتصادم وتصخب، ورجاله يخترقون الجموع بمصابيحهم وفوانيسهم وشموعهم، وتبدو الظلال والأنوار والهذيان والخوف والضحك مثل مشاهد احتفالية مرتبكة،
تليفوناته كلها تشتعل بالكلام، وتتجسد الكلمات والظلال كخطة خرافية.
أحد موظفيه عند الشاطيء يصف صخب البحر، ورجرجة الموج المخيفة. فتتداخل جمله برذاذ الماء وأجيج الموج، ويقول مرعوبا أن الماء يهز الأعمدة، والساحل كله يتغلغل ويأكل الرمال.
وثمة موظف آخر تاه في الرمل المهاجم. جاءت كلماته من داخل عباءة الريح المتكلمة،وراح يصف المحطة الكهربائية التي تغذي الشاطيء كله بالنور، صارخا انه يرى اجساما عملاقة فوقها.. ثم انطفأ صوته كليا، ومات ارساله، في يده.
أخذ يناديه، لكن الريح وحدها أجابته صاخبة، مرعدة.
اتصل بآخر فجاء صوته من صخب المطبخ واشتعال نار، وطالع من الشرفة الدخان الأبيض يتمدد من النوافذ.
ماذا يجري؟ هل أدت عاصفة البحر والرمال الى سقوط المباني؟ ما هي تلك الكتل المخيفة التي تتحرك في الظلام ؟
في بدء السهرة، كانت السماء زرقاء وامضة، تنفث أنوارا لؤلؤية، ونسمات البحر تشكل عظة من الحنو فوق البقعة الخضراء، والنزلاء والسياح وفرقة الهواة الاستعراضية يتداخلون في رقص، ويتبادلون الأقنعة والكؤوس،وراح الشواء يغذي الموسيقى والاكتاف المهتزة، ويقلع البدلات المفتعلة.
وهو على طاولته الباذخة،يأكل الاهتزازات البيضاء الأخيرة للسرطانات، ويسبح مع نافورة النبيذ بين النجوم والعيون. كان مرتعشا من الطقس والبورصة الرصينة.
جرته شقراء الى حلبة الرقص، ودغدغته بغدائرها ونسائمها، لكنه وزع ابتساماته على جميع الغزالات، وصعد الى جناحه في الطابق العاشر، وأبصر الساحل والبحر والبرية الممتدة، وغابة الاشجار الغريبة التي أحضرها من القارات الخمس، فبدت تحيط بالأبنية مثل القبعة الخضراء الكبيرة.
أرتمي على السرير والجدران كلها سكرى بالموسيقى.الخافتة، كالدش المائي البارد في الصيف، كالبلابل الجميلة التي كانت تلاحق صباه في البساتين.
حينذاك عصر الأشجار رطبا وذهبا. ثم وجد الغيم شحيحا، والينابيع تبول وحلا، فوضع الأنابيب فوق عظام البرك، ورمى الأعشاش في المزابل وأطلق أسنان المناشير في لحم الشجر. كان رصيده غير كاف للسباحة في المدن.
وفي نهار مغبر، أشارت اليه ثلاث نسوة ملفقات بالأسود، الى موقع هذا الساحل المدهش والغريب. وقلن له: هناك ستجد رجلا عجوزا يعرض أرضه منذ سنين، للبيع ولا أحد يشتريها فاندفع بسيارته في سهل عذري ينحدر بجنون نحو البحر.
لم يكن ثمة شيء مثير للانتباه سوى حقل النخيل، فلا الأحجار المشوهة الكبيرة وكأنها بقايا تماثيل أو نيازك، ولا المصائد ذوات الرؤوس الحنجرية، ولا البحر الأزرق العميق، ولا الينابيع الحلوة البحرية النهرية التي يظللها المحار القاتم، كانت تثير دهشته.
كانت النخيل ذوات وجوه آدمية، متكلمة متجهمة، تتغلغل جذوعها في مياه البحر، وتبدو كقطيع واسع من المردة المحبوسين.
حكى له العجوز قصصا انتشرت مثل الأحلام في حضرة النخل المتنفس عصافير ونسمات.
زعم إنه نخل عتيق، يعود غرسه الى آدم. كان نواة أولى من بلح وحشي ألقاها في المياه، وكان البحر وقتذاك يملأ كل هذه الأرض، فراحت النخيل تصنع اليابسة، وينتشر طلعها فوق البحر، فيبزغ البشر والزهر والثمر.
أعطى العجوز ماله، وباع جريد المصائد، وعبأ ماء الينابيع في زجاجات، ولم يغط خسائره.
وفكر مرة أن يبيع الأرض ويهاجر.
لكن كانت النخيل تدهشه سنة وراء سنة، تكاثرها في البحر، واستيلاؤها على الساحل، و ازاحتها للأحجار وتغلغلها فوق البرية، ومذاق رطبها الحلو، وتدفق السوائل الثمينة من تمرها، أشياء بدت مفيدة رغم حيرته في تفسيرها.
تدفق المال في جيوبه، وامتدت مبانيه وراءها، وتكاثرت شاحناته وخدمه ومخازنه، حتى رأى النخل يمتد في كل مكان ويأكل مساحاته ويحاصره، ويصدم الشاحنات.
عزم على إبادة غابة النخيل الجهنمية، وأطلق للمناشير حرية الفتك بالجذوع، التي كانت تتساقط جذوعا وخوصا وسعفا وعناقيد وبلابل وظلالا، ثم راحت أسنان الحديد الشرهة تتكسر، وتتفجر أسلاك الكهرباء بغتة وتنطفيء، ويصاب العمال بنوبات صرع ودوار فيرون في الليل مشاهد أقنعة تتكلم وثلاث ساحرات يخترقن السماء.
لكن الإبادة كانت كبيرة، وأرجع النخل الى دائرته المحصورة بين البحر والساحل، وبدت الجذور الضخمة المقطوعة مثل أفاع هائلة وحبال سرة للأرض متفجرة بالدم والرماد، وغدت أعشاش الطيور مثل منازل مهروسة، غاص المشهد البحري في رمل منتش، وتلفع البحر بغلالة من الزيت المشتعل وجاء ضوء النجوم ككحل في عين عجوز.
حينذاك كان يسأل: لماذا انتشرت الكآبة في نفسه ؟ وبدت الأرباح مثل الخسائر، وطعم النساء مثل الخريف، ولماذا يعجز السفر والمطر عن اعادته الى صباه ؟
ولا يصدق أحد إنه كان يبكي. وان انتاجه للأولاد، الذين يأخذهم الموت والطمع والخسة، كحبه لبناته، اللواتي يعطين أسهمه وذهبه للصوص والغرباء.
وظهر له أيام صباه مثل عربة من نور تسير نحو القمر، ومذاق كسرات الخبز اليابسة في الحقول مثل الشهد. وتضخمت الكآبة حتى غدت أيامه زجاجات ممتلئة ففارغة، واعتزم أن يستشير الأطباء فلم يفهموه، حتى راح يقدم في الليالي الدامسة النذور والابتهالات الى النخيل المنزوي والصامت في البحر.
ورأى فيما يرى النائم، الرجل العجوز يتقدم اليه، وهو يحمل قدرا مليئا بالرؤوس المطبوخة. صاح به: انقذني فلم يهتم به وراحت الرؤوس المقطوعة تحدق فيه ثم تتكلم. قال العجوز: ستأتيك نذري وكررها ثلاثا حتى ذاب في البخار الساخن اللافح.
بعد أيام جاءه مهندس شاب فزعا. وأخبره عن تشقق الأرض، وترنح بضع نخلات وظهور حفر هائلة تحتها، وتكون أخدود غريب، واقترح خطة مكلفة لردمه.
لم يهتم بكلامه، ثم حين كرر أقواله صرفه من الخدمة.
وجاءت هزة مدوية ذات يوم. تحركت المباني قليلا، وتساقطت الأواني والنوافذ وفاضت البرك، ثم هدأ كل شيء، وعادت القبل الى الشفاه، والحليب الى الصدور.
من يعطي الأصابع ألوانها والقلب ارتجافاته واشاراته: ولماذا أغفى، وفجأة تذكر الحلم والوهم وانطلق مذعورا في البرية، وأنحني للساحل حبا. وكانت النوارس راحلة والأسماك نافقة على الشاطيء؟
وعندما عاد رأي الرجل العجوز والنسوة الثلاث ذوات الاردية القاتمة، زبائن في الفندق فسجد شاكرا.
هناك لحظات من الهجس والخوف والذهول تكتنفه. فالزجاجات صارت هواء، والشاشات تصاب بالاغماء وثمة نسوة يمشين في الفضاء، ولا أحد يتكلم من النزلاء، وينزل ثلج في القاعة الكبرى، فيندفع الى الكشف باحثا عن اسم الرجل العجوز وهويات نسائه الثلاث، فلا يجد له أثرا، وينكر الموظفون وجودهم..!
والآن هو في غرفته محاصر بالأشباح والضجة. انطفأت هواتفه ولم تعد سوى الظلمة والريح مطبقتين على الأشياء، والمصباح اليدوي الذي بحث عنه لم يجده.
تحسس طريقه وعثر على الباب نادى الخدم فسمع جريا تصادما ورأى السيارات في الأسفل كالحشرات تمد خرطومين من الضوء، ثم تفر هاربة.
المصعد توقف، والحرارة خانقة، الريح تصفع الأبنية بالتراب وعليه أن ينزل سلم الطوارئ بين أكداس الأحذية والمصابين والأشياء، ويرى المكان المبعثر المصدوم مبعوج الخاصرة، وذلك الخط الشيطاني للنخل الذي بدا كثيفا ومرتعشا بضوء أصفر.
عندما نزل خطوة سمع شيئا مدويا، اهتز البناء كله وتناثرت شظايا الزجاج وانغلقت غرفة بعثرت أحشاءها قربه.
ترنح، ولم يسقط، شاعرا بضربة مؤلمة في ظهره، ثم جاءت هزة مدوية أخرى، ويحلق في الفضاء مرعوبا، كان النخيل يقذف في الريح والغبار والنار وتصطك بالجدران.
عبدالله خليفة (قاص من البحرين)