مقدمة
عندما بدأ (1933) المؤرخ جواد علي الدِّراسة العليا بألمانيا، وانتهى منها(1939)، كانت النَّازية طاغية، ومؤثرة داخل ألمانيا وخارجها، والكثيرون أُعجبوا بهتلر (قتل 1945)، وبشكل عام مَن عارض الاحتلال يومها والهيمنة البريطانية بالعِراق حُسب على تلك الحركة، وليس لدينا ما يشير إلى إعجابه بالنَّازية بقدر ما أنه عاد إلى العراق، وتجند في الجيش العراقي برتبة ضابط احتياط، معارضاً، بل كارهاً للإنكليز، وحينها حُسب على حركة رشيد عالي الكيلاني (ت 1965)، والأخير كان رئيساً للوزراء، وقام بانقلاب بالتعاطف مع ألمانيا (1941)، وبعد فشلها اعتقل المؤيدون لها، وبينهم المؤرخ جواد علي لفترة وجيزة، وكان في شهر العسل(1).
حضر مؤتمراً صحفياً لهتلر بمدينة نورنبرك الألمانية (1936)، كونه كان مراسلاً، خلال دراسته، لبعض الصُّحف العراقية كـ”الزَّمان»، و«الأخبار». قال: «سنحت لي الفرصة أن أحضر أحد المؤتمرات الصَّحفية لهتلر باعتباري مراسلاً لصحف عراقية»(2).
لكنَّ هناك مَن أشار إلى أنه استغل وجوده قريباً مِن مقعد هتلر، «ولما انفض المؤتمرون أمسك بهتلر، وأجرى معه حواراً مطولاً عن سياسة ألمانيا إزاء الشَّرق الأوسط، وحديث التَّاريخ وشؤون الأعراق، وكتب جواد علي بلغة المؤرخ ما تحدث به هتلر في مقالة عنوانها: هتلر كما رأيته، نُشرت في جريدة الطَّريق العراقية، وفي الثمانينيات قال جواد علي بصدد هذه المسألة: حين انتقدتُ الإنكليز لا يعني أني جعلتُ نفسي في جانب أعدائهم»(3). فلجواد علي أكثر مِن مقالة في العقيدة النَّازية الدِّينية(4)، ويتضح منها أنه كان ناقداً لها(5).
كان أستاذه في جامعة هامبرج (1936) المستشرق شروتمن، الذي زار اليمن وألف كتاباً عن الزَّيدية، واتصل بالإمام يحيى حميد الدِّين(اغتيل 1948)، وكان يقرأ خط المسند، وقد تعرف جواد علي عن طريقه على أمور تتعلق بتارخ اليمن القديم، لذا مال إلى دراسة تاريخ اليمن، بعد الدِّراسة، وكذلك نهل مِن المستشرق راتجن، الرَّحالة وصاحب المؤلفات عن جغرافيا اليمن الآثارية، مما أفادته تلك التجربة في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». هذا، ولمؤرخنا، المتوفى سنة 1987، مؤلفات عديدة، منها المطبوع ومنها ما زال مخطوطاً.
تاريخ الطَّبري
حرصاً منه على المصدر، إن كان وثيقة أو نصاً أو حجراً، سعى المؤرخ جواد علي إلى الكشف عن موارد مؤرخين بارزين: أبو الحسن المسعودي (ت346هـ) في تاريخيه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، والتَّنبيه والإشراف»، وقد سبقه بدراسة قيمة عن موارد تاريخ الطَّبري، فقد شمل التَّاريخ الأخير عصر ما قبل الإسلام، وغطى نحو ثلاثة قرون من بعده، أي استمر محمد بن جرير الطَّبري (ت 310هـ) يدون التَّاريخ حتى قُبيل وفاته بثماني سنوات. لا يفوتنا التَّذكير بأن الطَّبري المؤرخ ليس أقل باعاً مِن الطَّبري المفسر والفقيه، ويكاد يلتقي التَّاريخ والتَّفسير في العديد مِن الإحالات والرّوايات. صحيح أنه لم يكن الأول في كتابة التَّاريخ، لكنه الأول في كتابة التَّاريخ بهذه السِّعة والعموم، وقد نهج في كتابة تاريخه منهج التَّحقيب الزَّمني، موزعاً تاريخه على السِّنين.
حذا حذو الطَّبري، وبهذه الطَّريقة، عدد كبير مِن المؤرخين، بل اعتمدوا تاريخه نفسه وأكملوا عليه، مثل عزِّ الدِّين بن الأثير (ت 630هـ) صاحب «الكامل في التَّاريخ»، فهو المعترف بفضله، في مقدمة الكامل: «فابتدأتُ بالتَّاريخ الكبير، الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطَّبري، إذ هو الكتاب المعوَّل عند الكافة عليه، والمرجوع عن الاختلاف إليه، فأخذتُ ما فيه مِن جميع تراجمه. لم أخل بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عددٍ، كلُّ رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها، وربَّما زاد الشَّيء اليسير أو نقصه، فقصدت أَتم الرّوايات فنقلتها، وأضفت إليها مِن غيرها ما ليس فيها»(6).
لأهمية تاريخ الطَّبري، الذي ختمه عند حوادث سنة (302هـ) (7) أُلحق بـ”صلة تاريخ الطَّبري» لعريب بن سعد القُرطبي (ت 369هـ)، ثم «تكملة تاريخ الطَّبري» لمحمد بن عبد الملك الهمذاني (ت 521هـ)(8). بدأت التَّكملة سنة (295هـ)، وحسب قول المؤلف نفسه: «ولما ختم ابن جرير تاريخه سنة اثنتين وثلاثمائة، وهي السنة السَّابعة مِن خلافة المقتدر بالله رضي الله عنه، وأشار إلى الأمور إشارة خفية، رأيتُ أن ابتدئ بخلافته ووقت بيعته، وبالله التَّوفيق»(9).
يرهق الطَّبري القارئ بالرّواية مِن عدة وجوه، في معظم كتابه، بتكرارها وأسنادها إلى سلسلة أسانيد مختلفة في كلِّ رواية. مع ذلك مَن لم يصبر على قراءة كتاب «تاريخ الأُمم والملوك» فلا يتورط في التّخصص في التَّاريخ والتُّراث الإسلامي أو سواهما، مِن تراث الأمم والبلدان، لأن الصَّبر على تقليب الرِّواية وفحصها، وطول البحث عن مصدرها، أراه الامتحان الأول للوالج هذا المجال.
لهذا، لو لم يكن عند المؤرخ العلامة جواد علي (ت 1987) طول صبر، وباع في التَّدقيق، ما حدب أربعين عاماً على تأليف سِفره «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»(10 مجلدا وصدر بـ 13 مجلداً أيضاً). ذَكر جواد علي، في مقدمة سِفره المذكور، أنه تحمل المشقة بمفرده لم يعنه عليه أحد، وهنا تكمن قوة التَّأليف، لأن العمل البحثي سيناله الضَّعف لو قامت به جماعة أو لجنة، فلكلِّ باحث طريقته ومنهجه في إدارة بحثه، ربَّما يعمل في اليوم مدى عشرين ساعةً، ويوم آخر لا يعمل ولا ساعة، بينما إذا كان الأمر عن طريق مراكز بحوث، أو دوائر، فسيتحول الأمر إلى إلتزام بالسَّاعات، لهذا أن المراكز التي تحترم نفسها لا تُحاسب باحثيها على ساعات الدَّوام، لأن الكتابة رغبة واستفزاز، شأنها شأن القصائد ورسم اللوحات.
لقد كُتب التَّاريخ وصار حقيقة في أذهان الأجيال، ومَن يقرأ تاريخ الطَّبري المعروف بـ”تاريخ الأمم والملوك» يدخل إلى مسرح حياة أولئك القدماء، ويعيشها حقيقةً، بل إن الكثير مِن الصراعات المذهبية تأسست على ما كُتب في صفحات تاريخ الطَّبري أو غيره، مع أن الأخير اجتهد بالتوثيق بإسناد الرِّواية، «فلان عن فلان».
نعم كُتبت، قبل الطَّبري أو متزامنة معه، السِّيرة النَّبوية وتدوين الحديث وكتب الأدب كمؤلفات الجاحظ (ت 255هـ) وابن قتيبة (ت 276هـ) والمبرد (286هـ) وغيرها، لكنَّ معظمها دونت كأعمال أدبية (أخبار الأدب العام)، منها ما دون على نهج الأمالي (جمع أملاء) أو نقل الرواة، أما الطَّبري فكان له السِّبق في كتابة التَّاريخ العام، وتسجيله على السنين، ومِن موارد متعددة، كالأسانيد والمصادر التي توفرت له آنذاك في التاريخ القديم، وجاء نقد جواد علي له، أنه لم يحول التاريخ إلى عِلم فظل معتمداً على الرواية في السَّنوات التي عاصرها والأحداث التي عاشها.
موارد الطَّبري
نشر جواد علي كتابه «موارد الطَّبري» في «مجلة المجمع العلمي العراقي» على دفعات (1950) و(1951) و(1954) و(1961)، تشكل مِن هذه الأجزاء كتاب الموارد. تقدمت المجلة «العربية» الصَّادرة بالرياض (رقم الكتاب 42 السنة 2012 عدد الصَّفحات 319) بجمعها وتحقيقها وإصدراها تحت العنوان نفسه «موارد تاريخ الطَّبري» قدم له الدُّكتور محمد صامل السُّلمي، أُستاذ التَّاريخ الإسلامي في جامعة أُم القرى، بسيرتين وافيتين للمؤرخ والمفسر والفقيه الطَّبري ولمؤلف الكتاب جواد علي.
بعدها قامت مكتبة الإسكندرية بجمع ما نشرته مجلة «المجمع العلمي العراقي»؛ وأصدرته ضمن مجلدين تناولتا سيرة وأعمال المؤرخ جواد علي، وقد شغل كتاب «موارد تاريخ الطَّبري» الجزء الثَّاني مِن كتاب التَّكريم، والذي صدر تحت عنوان «الآثار العربية منتخبات مِن أبحاث المؤرخ الدُّكتور جواد علي»(الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، مركز المخطوطات 2014) مع تقديم وافٍ للمحقق العراقي بشار عواد معروف.
لم يصدر جواد علي ما نشره في مجلة «المجمع العلمي» كتاباً، فقد تم نشره في فترات متقطعة ومتباعدة جداً، وأغلب الظَّن أنه كان مشغولاً في كتابه السّفر «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، والذي شغله لأربعين عاماً. كذلك لم يصدر ما كتبه في «موارد تاريخ المسعودي» في كتاباً في حياته، والذي كان قد نشره في مجلة «سومر» العراقية (1964)، وقامت بنشره أيضاً مكتبة الإسكندرية، بمناسبة تكريمها لمؤرخنا ضمن المجلدين المذكورين.
نشر الجزء الأول من بحثه موارد تاريخ الطَّبري في العدد الأول من مجلة «المجمع العلمي العراقي»(1950)، شاغلاً معظم صفحات العدد(144-231). يغلب على الظَّن أن عمله في «المفصل…» قاده إلى النَّظر في الموارد، فمؤرخنا كان مِن الدِّقة في اعتماده على مصدر من المصادر، وكيف إذا كان تاريخ الطَّبري مِن بين أهم مصادره في البحث.
كتب مستهلاً بحثا في الموارد: «إن مسألة المصادر في تدوين التَّاريخ عند العرب، لمَّا تحلُ حلاً علمياً نهائياً، ولمَّا تُدرس دراسة كافية، على الرَّغم مِن الجهود التي بذلها نفر مِن المستشرقين، مثل وستنفيلد لتدوين تأريخ، علم التَّاريخ عند العرب، وبيان الاتجاهات التي سار عليها المؤرخون، وتعيين صِلات بعضهم ببعض، وإذا كان الموضوع واضحاً، كما يُخيل لمَن يريد الكتابة في تطور علم التَّأريخ عن العرب مِن القرن الرَّابع للهجرة، فيما بعد، فإن هذا الوضوح لا يمكن بالنسبة للقرون الثَّلاثة الأولى للهجرة، ولا سيما القرن الأول والثَّاني»(10).
يُحدد جواد علي مناهل تاريخ الطَّبري بالآتي:
– المواد التي ابتدعتها العاطفة، واختلقها الخيال، واقتضتها الأحوال، التي مرت على الأمة، أعني بها الرّوايات التي تجمعت على مرور السنين، وكانت تتكيف كلما تقادم بها العهد(11).
– التَّاريخ المأثور عن عهود ما قبل الإسلام والمنقول بالسِّماع والرواية لشبه الجزيرة، ويتألف مِن قصص وأساطير رواها رجال معدودن، ويحتل الشّعر فيها مكانة بارزة، فلا تكاد تخلو قصة منه.
– مراجع شفاهية أخذها سماعا من أشياخه، وكذلك أخذ مِن مؤلفات، وفي المحصلة جمع كتابه مِن مصادر كثيرة، «فأظهر مقدرةً بالغة في الجمع بين المصادر، والإطلاع على الكتب التي أُلفت قبله». كذلك أخذ من أهل الحديث ومن الفقهاء، سوى كان ذلك في تاريخه أو تفسيره أو كتابه «اختلاف الفقهاء».
– يذكر جواد علي أن نقلة الأساطير، وكانوا رجالاً مِن أهل اليمن، ادعوا العلم والمعرفة، ليس على تاريخ اليمن فقط، وإنما على أخبار الأُمم السَّالفة كافة، والكُتب المنزلة، واللغات والكتابات القديمة، ولم يأت هؤلاء بأي دليل كان يؤيد صحة دعواهم. بينما أصبحت رواياتهم أسانيدَ للمؤرخين، وفي المقدمة بطبيعة الحال الطَّبري، في تاريخه عن الخليقة وقصص الأنبياء وما قبل الإسلام. والسؤال: هل كان هؤلاء يعرفون قراءة كتابات اللغات القديمة كالمعينية والسبئية مثلاً؟ هناك مَن يقول إن البعض كان يعرف قراءة تلك الحروف، ولكن هذا الأمر أيضاً وصل عبر الرواية، وليس هناك نص مترجم وصلنا مِن تلك الفترة.
– هناك إخباريون ومؤرخون قد سبقوا الطبري، وربما كتب بعضهم لم تصلنا، لكنَّ رواةً يذكرونها، ويذكرون أطلاعهم عليها، وبعضها وصلنا، كالإخباري عوانة بن الحكم الكلبي (ت147هـ)، والإخباري علي بن محمد المدائني (ت 225هـ)، وكأنساب وفتوح البلدان لأحمد بن يحيى البلاذري (ت 279هـ)، الذي على الأرجح أنه عاصره. كذلك في الحديث عن الطبري فكثيراً ما كان ينقل عن الكلبي بما يتعلق بأهل الشَّام «وكان بها بصيراً»، بينما المدائني كان مهتماً بتاريخ البصرة وخراسان فاعتمده في رواياته عن حوادث المكانين. على أن السياسة كانت مؤثرة في كتابة التاريخ، فالمدائني مثلاً كان متأثراً بالعباسيين، وبهذا التأثير كتب في سقوط الدَّولة الأموية.
– كذلك من موارد الطَّبري ومناهله في كتابة تاريخه، وعلى وجه الخصوص في الأجزاء الأخيرة منه، ما حدثه به أصحابه مباشرة، وذلك وفق عبارته: «ذكر لي بعض أصحابي».
– في العديد مِن رواياته «يستعمل صيغاً تدل على أنه نقل ما سيقوله مِن مؤلفات بلا واسطة مثل قوله: قال ابن الكلبي، أو قال محمد بن إسحاق (ت 151هـ) صاحب السِّيرة، أو قال الواقدي أو ذكر ابن الكلبي، وأمثال ذلك، وهي صيغٌ ترد عند مؤلفين آخرين ممَن لم يتقيدوا بالسَّند». هذا، والواقدي هو محمد بن عمر بن واقد (ت 207هـ) صاحب المغازي المعروف.
– يرى جواد علي أن الطَّبري كان متشدداً في مصادر تاريخه، بينما بدا متساهلاً في مصادر كتابه «اختلاف الفقهاء».
– يرى جواد علي في كتابة تاريخ صدر الإسلام من المفترض أن تكون «أكثر حسَّاً من غيره، وفيها روايات أملتها عاطفة الرّواة أو السياسة، أو اختلاف وجهات النَّظر والفهم، كان هذا القسم موضع مناقشة وموطن جدل، فكان على الطَّبري، وهو مؤرخ محايد، اتباع طريقة جمع الأُصول وتكديسها بعضها على بعض، وتدوينها على صورة روايات، المسؤول عنها رجال السَّند. أقول: كان في رأيي عَرض كلَّ رواية عرضاً كاملاً مِن أولها إلى آخرها، كما أخذها مِن شيخه، فإذا انتهت سرد الرواية الثَّانية على نحو ما أخذها، ثم يشرع في سَرْد الرواية الثالثة عن الحادثة نفسها، وهكذا».
هنا يطلب جواد علي مِن الطَّبري أن يكون أكاديمياً، وهذا ليس في وسع عصره، فالمؤرخ المذكور لم يدرس طرق كتابة التَّاريخ، ولا درس ما تتطلبه الرِّسالة الأكاديمية، فمن الصَّعب أعتبار ذلك نقصاً على المؤرخ نفسه، فالرَّجل تجاوز الإخباريين والرُّواة إلى كتابة التَّاريخ، ولكن بحدود أدوات زمنه.
– يرى جواد علي أن الطَّبري بدأ حياته محدثاً، متأثراً بأسلوب رواية الحديث وتدوينه، وكان من المفترض أن يؤثر ذلك في كتابته للتاريخ، من ناحية تأكيد الثّقة ووصف الرواية.
نعطي عذراً للطبري في هذه النَّاحية، فما نراه أن كتابة الحديث لها قدسيتها، لأنها تتعلق بالدين وبالنقل عن النَّبي لا غيره، بما شَكل لدى المسلمين السُنَّة النَّبوية، أما التاريخ فيتعلق في أغلبه برواية حوادث، مع عدم تجاهل التَّعلم والممارسة من كتابة الحديث وعكسها على كتابة التَّاريخ.
– يرى جواد علي أن مذهب الطَّبري في كتابة التَّاريخ يقوم على الحفظ والرّواية، يهتم بالجمع دون عناية بالفائدة العلمية. أرى أن هذا، مثلما تقدم في الفقرة السابقة، له علاقة بعصره لا بذاته.
– يُقارن جواد علي بين الطَّبري وبعض المؤرخين، الذي يمكن ملاحظة طريقة علمية لديهم، كمسكويه مثلاً، فالأخير استخدم الطّريقة التجريبية، مما قاده إلى الاقتصار في تاريخ ما قبل الإسلام، ولم يذكر منه إلا المهم.
لنَّا القول: إن أحمد بن يعقوب المعروف بمسكويه (ت 421هـ)، صاحب «تجارب الأُمم ومناقب الهمم» اشتغل في الفلسفة، والجدل الفكري، لذا لم يتوسع في سرد القصص الشعبية والأساطير، مثلما هو الحال لدى الطَّبري، لبعده عن الطريقة القصصية والإخبارية، وتوجسه مِن ما يُقحم مِن غير المعقول.
كانت لمقدم كتاب «موارد الطبري» (طبعة المجلة العربية) السّلمي ملاحظته القيمة أيضاً، فجواد علي كتب ذلك في عقد الخمسينيات، من القرن الماضي، فبالتأكيد خرجت كتب جديدة، مما أُكتشف وحُقق مِن مخطوطات، وما ظهر مِن دراسات حديثة في عِلم التَّاريخ، وهناك فرق بين تسجيل الحوادث وكتابة التَّاريخ، التي يكون للمؤرخ رأيه ونظرته فيها، وعلى وجه الخصوص في الحوادث التي عاشها. لم يُنقِ الطَّبري مادته مِن الشَّوائب، ما يخص الخرافة التي تدخلت إلى المادة عن طريق القصاصين أو الإخباريين، وهذا لم يُلام عليه الطبري لوحده، فأغلب المؤرخين الأولين، إن لم يكن كافتهم، نهجوا هذا النَّهج.
خاتمة
أرى مَن يقرأ كتاب «موارد تاريخ الطبري» قبل قراءة تاريخ الطَّبري نفسه، لا يجني فائدة منه، لكنَّ هذا يحتاج إلى صبر الباحث، ومزاج المؤرخ المغرم في التَّاريخ، وإلا مَن له جلد، في عصر السَّرعة الضوئية، على قراءة حوادث 320 سنةً مِن تاريخ الإسلام، وما قبلها قرون عديدة، استغرقت تسعة مجلدات، وفي طبعات خمسة مجلدات ضخام؟
كان جواد علي في كتابة «موارد تاريخ الطَّبري»، و«موارد تاريخ المسعودي» أكاديمياً صرفاً، هاجسه التَّوثيق، وأن القيمة التي يجنيها الباحث، من قراءة كتاب الموارد بعد التَّاريخ مثلما تقدم، تجعله محاذراً مِن استخدام المعلومة بلا تمحيص وتدقيق، ليس في كتابة التَّاريخ القديم إنما في كتابة التَّاريخ الحديث أيضاً، فهو الآخر، وإن كان شهود العيان مازالوا أحياءً لكن رواية الحدث تختلف مِن شاهد إلى آخر، وما تنقص وتزيد عليها العواطف والمواقف المسبقة.
يغلب على الظَّن أن جواد علي في عمله على موارد التَّاريخ كان صاحب سبق فيه؛ مثلما كان صاحب سبق وتفرد في كتابة تأريخ العرب قبل الإسلام، وبهذه الموضوعية والشُّمولية. كي لا تتحول كتابات الرّوايات الأدبية التَّاريخية إلى تاريخ يُعتد به، مثلما هو الحال مع كتابات جرجي زيدان (ت 1914)، وأمين معلوف، فهذه مِن ضروب الأدب لا التَّاريخ، فلا شأن لها بتدقيق المصدر أو تمحيصه، بل ولا يشغل كاتبها المصدر مِن الأساس، لكن للأسف وجدنا مَن يضمنها لمصادره، وهي قصص يغلب عليها خيال الكاتب، وكان لجرجي زيدان السَّبق في هذا النَّمط مِن الكتابة.
نعم هناك مِن المستشرقين والمؤرخين العرب مَن جعل مقدمة كتابه، أو الفصل الأول منه، قراءة في المصادر، وبحدود ما يثبته منها في كتابه أو تاريخه، لكن ليس بالتوسع والدِّقة التي أصبح ميزة لمؤرخنا جواد علي، فالجديد أنه قام بفحص موارد أو مصادر أهم تاريخين مِن تواريخ الإسلام: الطَّبري والمسعودي. نجد في خاتمة الجزء الأخير من بحث «موارد تاريخ الطَّبري» مفردة «وللحديث صِلة»(12). بمعنى أن البحث لم يكتمل بعد، ومثلما تقدم أن جواد علي شُغل عنه بسِفر «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، وما لم يكتمل مِن تاريخ العرب بعد الإسلام. نشر الأجزاء الأربعة في المجلة المذكورة وتحت عناوين الموارد الآتية: موراد تاريخ الطَّبري (بمثابة مقدمة)، تاريخ قبل الإسلام، تاريخ الفرس والرُّوم، الخلافة.
رشيد الخيُّون *