هنا محاولة للاقتراب من عوالم الشاعر جودت فخر الدين عبر شهادات تُحاول أن تبني جسرها مع تجربته. كونه واحدا من الشعراء القلائل الذين يفصلون بين لحظة الكتابة ولحظة النقد. شاعر لا يكرر نفسه ، بل يتجاوزها ، لكونه مسكونا بالشغف والمغامرة الكتابية. كما أنه حافل بالتجريب على المستوى اللغوي والبنائي والرؤيوي … كونته اللغة التي شب عليها في بيته والطبيعة في قريته الجنوبية ، وليس أخيرا مدينة بيروت.
[divider]
«لا تسترح كي تظلّ طليقاً»
خالدة سعيد
التماس الجمال والحياة في الطبيعة عند جودت فخر الدين، هو بمثابة حجاب يظلل متاه الوحدة وإيقاع الأسى واحتضان الأسرار. إنه التماس المشاهد والرؤى لتتفتّح في أروقتها خفايا المشاعر وظلال الحكايات.
فعالم جودت فخر الدين يتحجّب أو يتوارى فلا يلوح إلا في المرايا. والغيمُ مرآة هذا الشاعر ونافذته على الممكن والمحتَمَل، في كتابيه ليس بعد وفصول من سيرتي مع الغيم(1).
الشعر في هذين الكتابين نداءٌ للخيال واستدراج للحوار. فيه يرى الشاعر إلى عبور الزمن وتحوّل المصائر. وفيه تتمرأى نفسُه وتومىء إلى خباياها.
حتى أكاد أن أقول إنه كتاب المرايا. فالشاعر لا يتوقف عن مخاطبة نفسه عبر مرايا الطبيعة لتتوالى الصور وتتلامح الأحزان السرية.
« أطبق الشاعر في الوادي جناحيه ومال…»
(فصول من سيرتي مع الغيم، « مرثية شاعر»، (ص 36).
لكن، كيف نفهم حضور المراثي في كتابين متواليين على هذه الدرجة من الحميمية؟ ولا أعني هنا حصراً القصيدة التي خصّ بها جودت الشاعرَ الراحل صلاح عبد الصبور، ولا تلك التي رثى بها والده. (وهل المرثيّ هو دائماً من يحضر في العنوان؟).
أستطيع القول إن حضور المراثي لا ينفصل عن حضور الشاعر عبر مراياه. ومرايا جودت متعددة، بينها المرثيون هم أنفسهم، ولا سيما الوالد. عبر هذه المرايا تنعكس هواجس الشاعر، ومن خلالها تحضر صوره وبنات خياله، ويخاطب قرينه، وعبر ذلك يكون الإلماح إلى علاقته الخاصّة بالعالم. حتى ليمكن القول إنّ أبطال الشاعر هم على صورته، أو أنه على صورتهم.
إننا في قراءة هذين الكتابين بإزاء دعوة لتأمّل مشاهد الدواخل. لكنه الفنّ العالي يلتفّ بالأسرار إذ يرمّز الشخوص ويشخّص المجرّدات والأحوال. الأفق هنا مفتوح تعبره مواكب الأخيلة التي تلبس الغيم، أو الغيم الذي يبعث الأخيلة؛ ومع عبور المواكب تولد المشاهد ويولد حوارٌ خفيُّ بين الشاعر والطبيعة، حوارٌ يوشّحه الخفر والأسى؛ مع ذلك تطلّ عبره سوانح الدعابة الخفيّة.
هل الغيم هنا مرآة لخواطر جودت أم حجاب؟ أم هو كليم الوحدة وراعي الذكريات؟ التساؤلات التي تثيرها هذه الأشعار تؤسس لموقف البحث عن المعنى وعن بلاد المعنى عند جودت فخر الدين: هل يقيم المعنى في حيّز مضمَر أم حيّز مرئيّ؟ في حيّز الداخل أم في العالم المحيط؟ هذا هو السؤال الأوّل الذي يلوح في هذه الأشعار.
عند جودت فخر الدين لا يقيم المعنى أو يوجد في أي حيّز مستقلّ. يقيم أو يقوم في العلاقة والحوار والتبادل بين الشاعر والعالم، طبيعةً وأحبّةً. المعنى هنا طريقٌ ومسار، سؤالٌ وحوار ماهيّات وتبادل صور وأصوات. هكذا نصغي إلى الشاعر يخاطب الغيمَ وإلى الغيمِ يخاطب الشاعر أو يشيح عنه. ويتراءى الغيم صورةً للشاعر، ونرى الشاعر يصطفي الغيمَ كليماً. فكأنّ الغيم، حتى في صمته ولامبالاته، يقول للشاعر: أصغِ إلى أنوار نفسك، أو يقول: مرآتك في ذاتك. يتركه الغيمُ للوحدة أو يستدرجه للكلام.
غيومٌ رأتني أجوب السماءَ بعينيّ
لم تكترث، / ومضت نحو أهدافها. / غيرَ أنّي تشرّبتها،
أو تشرّبتُ ظلاًّ تساقط منها بلا هدفٍ
وبنيتُ سماءً له في كلامي، / وفي خطواتي، وفي وحشتي. (« فصول»، ص 47).
الغيم هنا أكثر من مرآة لخواطر جودت. الغيم كليمٌ يبثّ المعنى ويضيء الدواخل. والشاعر المقيم على شرفة الوحدة يشخّص الغيم ويُسقط عليه رؤاه. إنه مرآة أو وسيط استحضار لأحوال ذاتيّة، بما أنّ الذات اللاهفة المتسائلة تتلامح خلف ظلال الغيوم.
« تجيء الغيوم وتمضي كأمنية حائرةْ.
وفي كلّ يومٍ تجدّدني، / وأراها تجيء وتمضي بلا ذاكرهْ. (« فصول»، ص 48–49).
فكيف تجدِّده الغيوم، إن لم تكن من بعض نفسه؟ أم لعله هو من يجدّد حكاياتها؟
هذه الأجواء والمساءلات تشجّع على القول إنّ جودت فخر الدين يحلم ويكتب خارج الجحيم التي غامر فيها الشعر الحديث خلال العقود الأخيرة. ندخل في شعره كنزهة في الحلم، في أفق سحري، مهما غرق هذا الحلم في الأسى.
إنه تأمل في الشعر والمشاعر والمصير. إذ يتقدم هنا عالم يبدو غير مجروح، تصونه الموسيقى وأحلام المثال. لكنه عالم يصبو إلى كمال لا يُنال. وكلما تمظهرت الخواطر انكشفتِ العزلة. هذا الحوار والتبادل بين الصميم الصامت الحميم وبين الفضاء المفتوح والغيم المتحوّل الراحل، يخلق صوراً ويكشف أحوالاً. يكشف ارتماء في حضن المعاني الكونيّة الغامضة.
فالمعنى يأخذ هنا مداه من حركة المرايا بين الذات والعالم، حيث يتأنسن العالم وتتحوّل الدواخل إلى مشاهد، ومشاهد العالم إلى دخائل وأحوال. لكن هل هي صورة الشاعر في الغيم ما يطالعنا هنا؟ أم الغيم مرآة ذاته؟ أهو الغيم كمسرح للخيال وصديق في الوحدة أو كليم المتوحّد؟
إنها طفولة الروح، بمعنى لألأة البدايات، واكتشاف العالم، اكتشاف الطبيعة والوحدة، وقراءة الأفق. إنها صداقة الشفق، والرحيل مع تحولات الضوء.
هذه الصورة «الغيمية» التي لا تستقرّ ولا يُقبَض عليها، هذه اللطافة، بل الهشاشة التي تفلت من الشكل والتماسك، وتعانق النسيم والظلال؛ هذه الصور النابعة من المصادفة، من انعدام القوام، من الاستسلام لتحوّلات الشكل ورسالة الأنواء، هي عالم يتأنسن وتثقله الهواجس وتغنيه الصور؟ لكن ما لسحائب الكآبة تفاجئنا؟ وما لهذا الفردوس الذي ملأنا حنيناً يرسل طيور الأسى وبروق الارتياب؟
هنا كلما تمظهرت الخواطر أو لبست الغيم انكشفت عزلة صاحبها وكآبته.
على هذا المسرح يعرض جودت مشاعره ورؤيته للعالم.
يتمحور شعر جودت، في المجموعتين المذكورتين، حول الزمن الذي تُلْتَمَس صورتُه في رحيل الغيم، وحول القلق وغياب اليقين غياباً يتمثّل في عبور الزمن وتحوّلاته. ففي الغيم يبصر ظلال العالم العابر والزمن الغائب الذي «لم يجىء بعد» و«الزمن الذي لم يَعُد»، ما يذكّر بقراءة هيدغر لشعر هولدرلن وكلامه على «الفقدان المزدوج» و«النّفي المزدوج»(2). أي الوجود على شفا الغياب، ووجود الغياب في مستوى الهاجس والمنتظر. في هذا البرزخ البَيْنيّ يقيم إنسان جودت. الإنسان الذي يتخيل ويبتدع ويأسى ويسائل ويرجو ويحلم ويُسقط على الأشياء ظلّه ورؤاه. إنه الإنسان الذي يتمرأى في الكون – ممثّلاً هنا بالغيم. فيغدو العالم مسرح الرؤى، أي مسرح الولادات ومهد التحوّلات. ويصير الغيم كليماً للشاعر تُسقَط عليه التصورات وترتسم المعاني، لأنّ عناصر العالم عند جودت، يتمرأى بعضها في بعض وتتبادل النجوى.
فالمسألة في كتاب فصول من سيرتي مع الغيم هي أكثر من وصف للوحدة. كما أنها تتخطّى الدعابة العابرة حول طول القامة، إلى المعنى الجوهري لسرّ الحضور في العالم أو المعنى الجوهري للمصير.
ولا ينفصل عن هذا المعنى ما يطبع أشعار جودت من مناخ الأسى الشفيف والتماس زمن آت. الغيم هنا مرآة ذات متوحّدة، تقرأ ذاتها في مرايا الطبيعة وتسائل صورها العابرة وتلك الصورة العزيزة الراحلة، صورة الأب. الأب هنا ظلّ بل مرآة حميمة تكشف ما يتوارى في أحزان الشاعر المكتومة. حتى هذا الوالد، في المرثية العذبة المؤثرة الموجَّهة إليه، في كتاب فصول من سيرتي مع الغيم، يبدو أقرب إلى شريك في الوحدة والطفولة والحيرة. كأنه كليم آخر للطبيعة والمغيَّب. شريك آخر في مرايا الغيم ومرايا الوحدة. فالشاعر يختار من سمات الأب الراحل ما يبدو صورة أخرى من صوره، وربّما الصورة الأكثر طفولةً وارتباكاً وحناناً وعذوبة. هكذا، مرة أخرى، يلتقي ظلاً له، فيستريح إلى البوح المقنّع.
لكن، من جهة ثانية، الشاعر هو بدوره مرآة للأب الراحل. يمضي جودت في هذه اللعبة بكثير من اللطافة والحنان والأسى: يلبس دور الأب إزاء أبيه، ويُظهِر أباه في صورة ابنٍ له، ويمضي في وصف حنون مؤثر لنوع مدهش آسر من التواصل والتبادل.
« كأنّك فارقت بالموت داءً / ( ألمّ بنا فترةً )(3)
(…) وحدك الآن (…) آلامُك انطفأت، /
غير أنّي سأحضنها أملاً في طريقي إليك.» («فصول»، ص 79).
« ترى هل تداويتَ بي، / أم أنا قد تداويتُ بك؟» («فصول»، ص 82).
عبر هذه اللغة العذبة يصيد جودت فخر الدين الرؤى والهنيهات، يرسم دربه بالأخيلة في لوحة الأفق، يسقط على الغيم أحلامه والأمنيات، يتيه وحيداً، ترفرف في مساره الذكريات الصامتة.
هذه صورة شاعر يسائل المكان ويسائل حضوره في المكان، ويلتمس للإقامة في الأرض رفيع المعاني:
« وأقِمْ في مهبِّ احتمالات هذا الزمانِ
ولا تتوسّمْ به أيّ وجهٍ لأيِّ احتمالْ » (« ليس بعد »، ص 85).
وفي النص نفسه: «… لا تسترِحْ كي تظلّ طليقاً».
هذا الحوار والتبادل بين الصامت الحميم وبين التضاد المفتوح والغيم المتحوّل الراحل، يتمثل ينبوعاً للصور وولادة الأحلام. هو عالم غير مجروح، لكنه عالم المستوحد وخياله المسافر في صحبة الأفق وموكب أضوائه الغروبية.
« والغيمُ يمضي ويمضي…
أحدّثه، لا يحدّثني،
غيرَ أنّ الظلالَ التي تتساقط منه،
تجالسني، وتسير معي، وتعانقني،
ثمّ تمضي بلا هدفٍ في سمائي. « (« فصول »، ص 48)
ونجد عند جودت فخر الدين تصريحاً بالأسماء والحالات الفردية، ومحاورةً للطبيعة، ولا سيما الغيم والحور والموج والمدى. إنها إقامة المرآة بين الشاعر وعالمه، في نوع من سحرية تبادل الصور.
يهيّئ هذا النصّ للقارىء إمكان التماس الفِكَر المجردة في حلة المحسوس والمشهدي. فالشاعر هنا مأخوذ، رغم الصور العينية، باللانهاية؛ وفي هذه الصور يقرأ رحيل المرئيّات والأحوال. إنه مأخوذ بعبور الزمن وإيقاع العودة، عودة الغيوم أو عودة الأب في صورة ابنه، أو عودة الموج في تجدّد هجومه، وعودة الأمل في تجدّد وعوده، وحتى عودة القافية بعد خفاء وخفر.
يستدرج جودت فخر الدين الفِكَرَ والهواجس إلى العينيّ التاريخيّ تمسُّكاً بحيوية اليوميّ المعيش مهما فتح له منافذ على الفكريّ أو مهما التمسه في مرايا الفكريّ.
فالخصوصيّ المعيَّن حاضر هنا، حتى في البيت في الجنوب الذي دمّره القصف وأعيد بناؤه. المعيّن هنا حاضر؛ لكن هذا المعيّن واقف على شفا: جناحٌ في الواقع وجناح في الرمز والكناية، يسبح في مناخ فكريّ يروم اصطياد المعنى في شبكة المعايَن.
لا تنكسر في شعر جودت فخر الدين الرواسخ ولا تهتز القوانين والشرائع. لا مساءلات محمومة أو غاضبة على قدَر البشر. الشعر هنا ملاك المستوحِد ولغته السرية مع العالم.
«ولأنّك ما زلتَ تجهل دربَكَ / ها أنت تمضي طليقاً
وخطوُكَ يفتح بابَ الفضاءْ.» (« ليس بعد »، ص 87).
إيقاعٌ هادىء ومسار حالم، ووحدة تتنزّه في أحوال الطبيعة وتتمرأى في العناصر. نفس تبحث عن نفسها في مرايا الكون. نفس تبحث عن غائب موعود، وتلتمس الأنس في البرّيّ الصامت كأنما لتقبض على ظلّ أو تفتح في الأفق ممرّاً.
هكذا تكثر الأسئلة الموجَّهة إلى الذات كأنما تستفهم عن الطرق التي افتتحتها وعن حصاد المعنى، ولا سيما في قصيدة « ليس بعد…» (ص ص 63–87).
إنه التماس الدروب المجهولة والمصائر الغامضة. لأنها رحلة البحث عن طريق إلى المعنى، البحث عن صورة للذات المبعثرة في مرايا الغيم وعلى شرفات الوحدة، حيث تتعدّد ظلال الذات المستوحدة بتعدد المرايا وتوالي الغيوم وحكاياتها.
[divider]
«مسكون بالتجاوز والشغف والعلو»
عبدالعزيز المقالح
عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر والأكاديمي الدكتور جودت فخر الدين، «فصول من سيرتي مع الغيم» والإشارة إلى الأكاديمية، في هذا المستهل، لا تعني إضافة إلى الشعر، أو انتقاصاً من شعرية هذا الشاعر المبدع، الذي يذكرني شعره بعبارة في غاية الجمال للمفكر الهندي الأشهر «أوشو» التي تقول: «يحصل الشعر حينما لا تكون موجوداً»، أي عندما يكون الشاعر خارج الوعي في لحظة كتابة القصيدة. وجودت من بين أهم الشعراء الذين يتمثلون هذه الحالة، كما أنه من الشعراء النقاد القلائل، الذين يفصلون بين حالة لحظة النقد، ولحظة الكتابة الشعرية، وهو واحد من شعراء الجنوب (جنوب لبنان طبعاً)، وشعراء هذا الجنوب كثار، ولكل واحد منهم أسلوبه ونهجه الإبداعي، وحضوره في المشهد الشعري اللبناني والعربي، لكن ثلاثة منهم فقط، هم -من وجهة نظري- من يحتلون مكانة كبرى في ساحة الشعر العربي بما قدموه من إبداع شعري فائق وعميق، والثلاثة هم: محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وجودت فخر الدين ، وللأخير من سلاسة الإيقاع وعذوبة الغنائية ما يجعل شعره قريباً إلى وجدان المتلقي وباعثاً لبهجته.
تضم المجموعة موضوع الحديث، خمسة نصوص شعرية مطولة هي: «لم أجد غير نفسي»، «ورق لفصول خريف كثيرة»، «يوميات بيضاء» «فصول من سيرتي مع الغيم»، و«ربما نتذكر يوماً». والمجموعة من منشورات دار رياض الريس، بيروت عام 2011م.
واللافت في عنوان الديوان «فصول من سيرتي مع الغيم»، هذه المقدرة على التماهي مع مفردات الطبيعة، وهي نقطة الارتكاز في شعر جودت ابتداءً من مجموعته الثانية «أوهام ريفية»، الصادرة عن دار الآداب في بيروت عام 1980م، إلى هذه المجموعة الأحدث. وهذا التماهي يعكس عمق التواصل الحميم القائم بين الشاعر والوجود في فترة برزت فيها القطيعة بينهما بوضوح تام، بعد أن ذهب الشعر العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إلى القضايا السياسية والاجتماعية والتشابك مع اليومي المباشر، مما أخرج الشعر، أو كاد يخرجه، عن المجال الإبداعي الرحب، المليء بالصور الجمالية، والأحاسيس الذاتية، الخالية من التشابه والتكرار. وكأن الشاعر من خلال كلمة «سيرتي» المثبتة في العنوان يشير إلى أن هذا الديوان ليس وحده الذي يطل الشاعر من فضاءاته الواسعة على مشاهد لا تمل العين رؤياها، ولا النفس من التغني بأسرارها، وما يزخر به الكون الفسيح من حالات جمالية خلاقة.
ولعل أول ما يكتشفه الدارس الأدبي لشعر جودت فخر الدين، أنه شعر لا يعرف التكرار، ولا يتوقف عند أرض بعينها مهما كانت بكراً إلاّ لكي ينتقل منها إلى أرض بكر أخرى، وكما أدهشني بنقلته الهائلة في ديوانه الخامس «سماوات» وما تكشف عنه تجربته الفريدة من طموح وتطلع إلى الأعلى والأجمل، فقد أدهشني كذلك تواصله المتقدم والمتطور في «فصول من سيرتي مع الغيم» هذا العمل الشعري الباذخ، فنياً ولغة وشكلاً وإيقاعاً، وما رافقه من استخدام بديع لهذه الكلمة العذبة «الغيم» وما ترمز إليه من دلالات التطلع المتجدد نحو الأفق المفتوح على عوالم من البراءة والنقاء والرواء. وكأن الغيم في هذه الحالة الشعرية، ليس سحابة تتجمع فيها قطرات المطر قبل أن تستقبلها الأرض، وإنما هو مشهد حلمي تتجمع فيه الكلمات، قبل أن يلتقطها الشاعر، في نص شعري بالغ العذوبة والصفاء:
غيوم رأتني أجوب السماء بعينيّ،
لم تكترث،
ومضت نحو أهدافها.
غير أني تشربتها،
أو تشربت ظلا تساقط منها بلا هدفٍ،
وبنيت سماءً له في كلامي
وفي خطواتي، وفي وحشتي…
كان ذلك يحدث منذ الطفولة،
والآن مازال يحدث بعد الكهولة،
والغيم يمضي ويمضي…
أحدثه، لا يحدثني،
غير أن الظلال التي تتساقط منه
تجالسني، وتسير معي، وتعانقني،
ثم تمضي بلا هدف في سمائي(1).
أكاد أقرأ في ظلال هذا الغيم السماوي، ظلالاً لغيم الزمن، هذا الذي يرافقنا منذ طفولتنا، وإلى ما بعد كهولتنا، وهو صامت لا يقول شيئاً، بل يجعلنا نحن من نقول. ثم كأنه يستكثر الحديث معنا ويترك هذه المهمة لظلاله التي تبدو أكثر حناناً وعطفاً ولا تأنف من مجالسة الشعراء، بل ومن معانقتهم. اللغة هنا صافية بسيطة تساعد على التدفق الهائل للصور الشعرية، المركبة والمتوالية، في شعرية عالية، لا يحدّ منها الالتزام الثابت باشتراطات قصيدة التفعيلة وقواعدها التأسيسية، ورغم ما يلحظه القارئ من التقسيم الشكلي للنص وتوزيعه إلى مقاطع متتابعة، متعددة المعاني والمواقف إلاّ أن كينونته، القائمة على التجربة الموحدة، لم تخرج به عن المركزية الموضوعية التي تمحورت حول مفردة الغيم، وما أنتجته من تشابكات وتداخلات مشتركة، وبعيدة كل البعد عن القصدية والتصور المسبق.
وهذا هو المقطع الثالث من النص الذي صار عنوانه اسماً للمجموعة وعتبة لافتة عند مدخلها:
أسائل نافذتي:
كم مضى والغيوم تمر بنا؟
تمر بنا، فأراقبها
وهي ترسم لي قدري في السماء البعيدة
في كل يوم أراقبها
وهي ترسم لي قدري من جديد.
أسائل نافذتي وهي تشهق نحو السماء
إلى مَ تظلين مثلي
أليس لنا قدر غير هذا الخشوع؟(2)
هناك شعرٌ يلمع ثم ينطفئ، وشعرٌ يضيء ويبقى ضوؤه عصياً على الزوال والانطفاء، الأول يرتبط بالمناسبات العابرة ، وبدغدغة العواطف السياسية والاجتماعية الآنية، والآخر يكتب الحلم، وينفتح على فضاءات زاخرة بكمّ لا يحصى من الدلالات التي لا تفيض عن المعنى، بل تضيف إليه وتثريه سواء عن طريق البياض أو الفراغات المتروكة، أو إجادة تكرار الصور بعد تغيير دلالاتها كما حدث في المقطع السابق من تكرار يعمّق الرؤية ويوسِّع من فضاء الصورة. وفي المقطع التالي، وهو السابع عشر من النص نفسه، يسجل الشاعر نقلة أخرى تسهم في تشكيل مجموعة جديدة من الدلالات والصور البديعة، وثيقة الصلة بتجليات الغيم وتحولاته على مدار ساعات الليل والنهار:
… وفي الصيف لا يسهر الغيم
لا يتوقف فوق الذرى
قد يمر سريعاً، ليخطف ما يستطيع من الضوء
يمضي وتبقى الكواكب ذاهلةً…
قد يمر سريعاً ويمضي إلى النوم
يرقد ملء الوهاد
وفي الصبح يصحو ضباباً…(?)
هكذا تحول الغيم في النص إلى أيقونة تختزل الطبيعة، وتحشد حولها أكبر قدر من المفردات ذات الصلة في تشخيص شعري، تتحول فيه المجردات خارج عالم المألوف إلى قوى تحاور وتلهو وتنام . ولن نترك هذا النص المثير بتداعياته وحالاته الشعورية ودورانه الفاتن حول الغيم قبل أن نقترب من المقطع التاسع عشر من النص نفسه، وفيه يستعيد الشاعر من الذاكرة جلسة تمت ذات يوم في مدينة «كوكبان» اليمانية . والألف والنون في «كوكبان»، كما يقول علماء اللغة القديمة، شأنها في بقية الأسماء التي تأتي على هذه الصيغة ، تؤدي دور أداة التعريف «الألف واللام» وتقع في آخر الكلمة لا في أولها و«كوكبان» وفقا لهذا المفهوم تعني الكوكب، وهو اسمٌ لمدينة معلّقة في الفضاء على حافة جبل عالٍ يطل على مدينة تسمى «شبام» كما يطل على القرى والوديان والهضاب المجاورة التي تبدو في معظم فصول العام مغطاة بالغيوم . وعندما نكون في واحدة من غرف أحد المنازل المبنية على حافة القمة في هذه المدينة التاريخية، نشعر كأننا في طائرة توقفت عن الحركة، مبهورة بما تراه على الأرض، في البعد السحيق، من أشكال البشر والبيوت والأشجار والنباتات والغيوم التي تتناوشها الرياح:
هل جلسنا طويلاً؟
هنالك في «كوكبان»
على شرفةٍ هي أعلى من الغيم
والغيم من تحتنا هائمٌ
ليس يدري أيصعد،
أم يرتمي فوق أرض تهيم بهِ،
لم نكن نتحدث،
كان المكان يطير بنا في فضاءٍ حميمْ
لم نكن نتحدث،
كان البهاء يحدثنا
والثرى يتراءى من الفسحات القليلة،
مستبشراً مثل حلمٍ قديمْ.
لم نكن نتحدث،
كانت أحاديثنا مطراً
يتساقط فوق الغيومْ.(?)
ليس صعباً ولا مستحيلاً على الشاعر الكبير الموهوب، أن يلتقط المواقف ويحتجزها في ذاكرته لكي يستحضرها في اللحظة المناسبة، ويضعها على الورق ساخنةً طازجة، وبكامل تفاصيلها وأبعادها، في لغة شعرية ورؤية إيحائية تخلو من التمثل الفج والتصوير المباشر. وبما أنني كنت واحداً من شهود تلك الجلسة الجميلة التي تمثلها الشاعر جودت فخر الدين ودوّنها في ذاكرته الحُلُمِية، إلى أن وضعها في هذا المقطع الجميل، فقد وجدت نفسي في حالة استعادة لتلك الجلسة بعد أن صارت شعراً بديعاً، متذكراً معه ذلك المكان الشاهق ورفاق الجلسة وكأنها تمت منذ دقائق معدودة ، وتلك واحدة مما يجود به علينا الفن القولي من الوظائف التي لا يؤديها غير الشعر ولا تصدر في صورتها الباذخة المشتهاة إلا من شاعر يعرف كيف يستذكر الأشياء ويفلسف الحلم.
جميل أن يكون الشاعر مسكوناً بالتجاوز والشغف بالعلو. ومن الثابت أن الشعراء الذين لا يمتلكون هذه الخاصية وهذا الإحساس بالعلو والتجاوز، إما أن يظلوا أسارى لشعر ذابل مكرور، أو أن يتوقفوا عن كتابة الشعر. وما يدهشنا في سيرة الشاعر جودت فخر الدين مع الشعر وغيوم الأخيلة أنه يعيش في حالة إبداع مستمر، وفي حالة رغبة تطمح في تجاوز الأمس واليوم بحثاً عن غدٍ تتجاوزه إلى ما بعده في رهان على شعر يتجدد بتجدد الحياة والأيام. وإذا كانت قراءتي -كما أسلفت في المستهل- ستكون مشروطة بالحديث عن العمل الشعري الأحدث صدوراً، وهو «فصول من سيرتي مع الغيم» فإنني أستسمح القارئ بأن أخرج قليلاً على هذا الشرط، وأعود إلى مجموعة سابقة، هي «سماوات»، لنقرأ معاً مقطعاً من نص تحمل المجموعة عنوانه ، وفيه تتكرر مفردة العلو بمدلولها التجاوزي الرحب، ولم يكن ذلك النص يخلو من الشغف بالغيوم والإشراقات الضوئية التي تمنحنا إياها تبدلات الفصول:
في البيت أشجارٌ وشمسٌ.
والسماء العائلية لا تنام،
تظل ساهرة لتحرس نومنا،
وتظل ساهمةً لتحرس صحونا،
تدنو كثيراً كي تلامس صمتنا،
وتروح تعلو ثم تعلو كلما انطلقت نجوم من رؤانا
ليس من حُجُبٍ تحدّ سماءَنا
تدنو وتعلو دون حدٍ أو حجابْ.
وتشوقنا في كل آونة بنافذة ونافذة… وبابْ
هذي السماء قريبة في بعدها
وبعيدة في قربها
والشمس فيها توقنا نحو الجهات النائيات.(5)?
في هذا المقطع تبرز رغبة الشاعر، وتوقه، إلى الكشف عما وراء الحُجُب الكونية والشعرية، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يكفي أن تكون لغة الشاعر نافرة وباحثة لشعره عن مناخات وسماوات وغيوم، إذا لم يكن الشاعر نفسه معتمداً على اقتدار موهبته على التحليق فيما وراء المسافات البعيدة، وقد أثبت شاعرنا أن موهبته العالية قادرة على التجاوز والتصاعد والعلو، وكتابة نصوص توقع المتلقي في غواية الشعر والانكباب على تتبع ما يقدمه من غبطة واكتشاف، وما يثيره من تساؤلات:
… وكنت أرى كل شيء قليلاً
فقال لي الشعر: هذا طريقي،
عليك إذا سرت أن تتلمسه دائماً،
أن تضيّعه دائماً،
أن تراه وأن لا تراه،
عليك إذن أن تهيم معي.
… وانطلقنا…
وكان السمير وكان الضياء
وكان النداء القريب،
وكان النداء البعيد،
وكان الهوى والردى، والنشور،
وكان السماء العصية حيناً،
وكان السماء السخيّة حيناً
وكان الجموح وكان السكينة…(6).
هذا المقطع مجتزأ من النص الأول في المجموعة، وعنوانه «لم أجد غير نفسي» وهو من النصوص الشعرية العربية المعاصرة التي ترقى إلى مستويات جمالية ولغوية رفيعة، وفيه يطلق الشاعر العنان للبحث عن نفسه، وقد بدأه بالسطرين الآتيين:
لم أجد غير نفسي
فكيف تنكرتُ لي!
في هذين السطرين، تكمن حقيقة الشعر، وأسلوب كتابة الشعر، وكيف تستطيع كلمات معدودة أن تصنع بكثافة تعبيرية غير مسبوقة فضاءً شعرياً غائماً وملهماً لا حدود لأسئلته، وما يثيره من تأملات وانشغالات. ولا يستوقفني في هذا النص المشار إليه هذان السطران فقط، بل يستوقفني بمقاطعه الخمسة الجديرة بالتوقف، لكنْ هناك نصوص أخرى في المجموعة تدعوني إلى الوقوف عندها والنظر فيما تطرحه من الشعري والجوهري في المبنى والمعنى، ومنها نص بعنوان «ربما نتذكر يوماً»، وقد أهداه الشاعر إلى أبيه في غيابه، ومنه:
وحدك الآن من دون خوفٍ
دع الخوف لي.
وحدك الآن من دون يأسٍ
دع اليأس لي.
غير أنك أورثتني نبل خوفك،
أورثتني طهر يأسك،
آلامك انطفأت،
غير أني سأحضنها في طريقي إليك،
لقد هدَّك الداء،
لكنك الآن أفلتّ منه،
شُفيت، وآلامك انطفأت
وأنا ما شُفيت(7).
وداعٌ هادئٌ ، وغيومُ حزنٍ عميقة مفعمة بما لا يُحدّ من الذكريات الباهظة في حضرة الموت وما لا يُحدّ من أسئلة المصير المحتوم، وما يتركه غياب الأحبة من اضطراب، وشعور حاد بالفقدان ومَجَازية الحياة.
وهنا أتوقف لكي أعتذر للقارئ عن أن هذه الإطلالة الموجزة لم تكن قراءة بقدر ما كانت إشارة إلى ما لا يحصى من التجليات، على أمل أن تتبعها قراءة موسعة لعمل إبداعي ينفتح على فضاء تجربة شعرية يصعب تتبع أبعادها ودلالات مفرداتها في صفحات قليلة.
هوامش:
1. فصول من سيرتي مع الغيم: ص35.
2. نفسه: ص37.
3. نفسه: ص52.
4. نفسه: ص54.
5. سماوات: ص72.
6. فصول من سيرتي مع الغيم: ص8.
7. نفسه: ص66.
[divider]
سلاسةُ اللغة ورهافةُ الإيقاع
عبدالقادر الحصني
صعبةٌ مقاربةُ شعرِ جودت فخر الدين. لكأنّه نأى بشعره عن معظم السائد حتّى باتَ متعذِّراً الاقترابُ منه إلاّ به. وعلى الرغم من وَلعي بمثل هذا التقرُّبِ على طريقة الصوفيين الذين قال غيرُ واحدٍ منهم: «ما دلّني أحدٌ عليك»، إلاّ أنّني واجهتُ، على ما يبدو، ما واجهوه، أعني: تلك المسافةَ المستحيلةَ العبور بين ما يعتريكَ من حال ما اقتربتَ منه وبين ما يسعفُكَ التعبيرُ عنه. فكلَّما تقصّدتَ الأنأى والأشفَّ قلَّتْ الأدواتُ، وانزاحتْ الكلماتُ، واستدرجَ البعيدُ القريبَ إليه في الوقت الذي كان يظنُّ القريبُ فيه أنّه ذاهبٌ إلى تقريبه.
محاولاً، أعدتُ قراءةَ ما سبق وقرأته من شعره، لا سيما في مجموعتيه الشعريتين الأخيرتين: (ليس بعد…) 2006 و(فصول من سيرتي مع الغيم) 2011. ودوّنتُ بعضَ الملاحظاتِ والأنظارِ، ثم مضيت إلى الورق لأريَهُ ما رأيتُ.
على عتبة أن أهمَّ بذلك استوقفني إيقاعُ الحياةِ الذي وضعني فيه هذا الشعر، وأنا لا أستطيعُ أن أرى إلى كلمة الإيقاع في عزلتها الموسيقية، أراها في عالم من المفردات المشتقّة من جذرها اللغويِّ نفسِهِ: الوقيعة، والمواقعة، والوقوع، والتوقيع…إلخ. وبذلك يغدو طيفُها أوسع مما نتوقَّعُ. فما استوقفني؛ إذًا، إيقاعٌ (صوتٌ، شكلٌ، معنى) ممتلئ بما فيه من هدوءٍ متأمِّلٍ.. ولستُ أنا غيرَ وهْمٍ يحاولُ أن يتشكَّلَ قلبًا لهذا السكون»(1) هدوءٍ أخلدَ إلى الصامت من قلب الأشياء، متخفِّفًا من ذاته، آخذًا بالتلاشي فيه، حدَّ تَوَهُّمِ أنّه الوهمُ، فلن يكون تعبيرُه إذًا إلا حالَهُ الذي يحاولُه الكلامُ. وهدوءٍ رهيفٍ «وسِرْتُ يلامسني ثوبُهُ»(2)، في حساسيّة خاصّةٍ تجمع بين فعلِ اللمسِ ووزن المشاركة منه: يُفاعِلُ (يلامسُ)، في اشتقاقٍ طالما شغلَ المفسِّرين والفقهاءَ والبلاغيين مسألةُ ما فيه من حقيقيّةٍ تلمس الظاهرَ ومجازِيّةٍ تولج الكثيرَ مما في المتلامسين في بعضهما بعضًا. وهدوءٍ حياديٍّ حياديَّةَ مَن تاخم ماهيّةَ الأشياءِ متاخمةَ مَن كانها وكانته إلى درجةٍ كبيرةٍ:
«يقولُ ليَ الثلجُ: لا لونَ غيري.
وما أنا لونٌ.
وفي ألقي كلُّ لونٍ…
يقولُ ليَ الثلجُ أيضًا:
سريرتُكَ اليومَ مثلي…
يخالطُها الهمُّ من كلِّ لونٍ
فإذْ هي بيضاءُ بيضاءْ…»(3).
ثمّةَ في الأسطر الثلاثة الأولى ما يذكِّرنا بتقنية النفّريّ في (المواقف).. وفي مضمون المقبوس ما يحيلُ على ما هو أبعد من التقنية.. إنها محاولةُ رأب ما وقفت (الوقفةُ) النفريّةُ دونه، وحالتْ دون معانقة المطلق.. ولكنّها، هنا، محاولةٌ منقولةٌ إلى إطار الطبيعة، بل إلى ما هو أكثر حياديّةً وهشاشةً قواماً ولونًا وتحوُّلاً.. إلى الثلج في ممازجةٍ بين ما هو في سرير ذلك القوامِ واللونِ وبين ما في السرِّ والسريرةِ من معنى يشاكلهُما على مفردة البياض الموغلِ في حياديّته كلونٍ والجامع للألوان جميعًا كما هو فيزيائيًّا. وهدوءٍ بسيطٍ إلى درجة اللاعاديّة: «عاد الطيرُ الأبيضُ، /كان أتى بالأمسِ، /وحامَ قريبًا/أبيضَ، أبيضَ، أبيض…/ها قد عادَ اليومَ،/وها هو يقتربُ الآن، يحومُ قريبًا/أقربَ، أقربَ، أقرب…/من أين يجيء الطيرُ الأبيضْ؟/»(4).
لقد ذهب السؤال إلى إضفاء ما يشبه الرمزيّة على هذا الطائر، وما يشبه الأسطرة على فعله ما دام سؤاله قد جاء مرسَلاً في هذا الفضاء المعنيِّ حاضرُهُ بغائبه الذي يجيء منه الطائر.
ما سبقَ من نظرٍ في طبيعة إيقاع هذه التجربة الشعريّة في آخر ما أنجزته في مجموعتين شعريتين، أجابني على سؤالٍ طالما راودني حول تجربة جودت فخر الدين الشعريّة، هو: لماذا كانت هذه التجربةُ خافتةَ الأضواءِ والأجراسِ مقارنةً بتجارب شعريّة أخرى لبنانيّةٍ وعربيّة جايلتها، وما كانت، في رأيي، أكثرَ اكتنازًا بالشعر؟! (وأعني بالأضواء والأجراس الحضورَ الإعلاميَّ الإعلانيَّ المنبريَّ الجماهيريَّ…إلخ).
كلُّ ما في الأمر أنّ تجربة شاعرنا كانت معنيَّةً بالاستغراق في البرهة الشعريّة التي تعبِّرُ عنها، كما هي فيه، عنايةً جعلتها تميل إلى أن ترتديَ من أثواب الشكل ما هو متخفِّفٌ من شيات تشدُّ القارئ إلى تفاصيل ينجزها الشكلُ من خارجه. وقد تبدّى هذا في ملامح كثيرة في هذه التجربة لعلّ أبداها:
1 ـ تنحية التقفية:
اعتمدت قصيدةُ التفعيلة في أنموذجها الأكثر شيوعًا نظام تقفية عام، استقرَّت قوافيه في خواتيم المقاطع الشعريّة في هذه القصيدة، فبدا كما لو أنّ المقطع حلَّ محلَّ البيت الشعريّ، أو استقرّتْ في نهاية السطر الشعريّ المفتوح بعدد تفعيلاته. وقد تخلّل نظام التقفية العام في المقطع نظامُ تقفية ثانويّ، يذهبُ إلى تقفية سطرين أو أكثر بقافية مغايرة لقافية خواتيم المقاطع.. وربما تخلّل المقطع الواحد أكثر من تقفية ثانوية في المقاطع الطويلة نسبيًّا.
هذه الاعتبارات على صعيد التقفية تجاوزها الشاعر جودت فخر الدين في معظم قصائد المجموعتين اللتين هما محلُّ المقاربة. فهو لا يولي عناية لهذه الأجراس التي ترنُّ في خواتيم المقاطع رنينَ الأساورِ التي ينتظر المتلقّي وقعها، مؤذنةً بتكامل مدماكٍ من مداميك البناء، ولا لهذه الخلاخيل التي تتخلّلُ المقطعَ، فتصدر رنينها مع سير الجمل الشعريّة داخله، اللّهمّ إلا ما يبدرُ على ندرةٍ وتباعدٍ من تقفية يشعر القارئ أنّها جاءت متوافقةً ولا أثرَ لشغلٍ وفَّقَ لترد على ما وردت عليه، تمامًا مثلما يمكن ان يردَ مثلُ هذا في أثناء الكلام النثريّ على غير تعمُّد.
ومع أن قصائد المجموعتين، على وجه العموم، هي شواهدُ على ما ذهبتُ إليه، فلا بأس في أن أعرض، على سبيل المثال، خواتيم مقاطع قصيدة (عبث)(5) التي جاءت مرقّمةً في خمسة مقاطع، وجاءت أسطرُها الخاتمةُ كالآتي:
«لا أغنمُ إذ ذاكَ سوى النصفِ الضائعْ»
«لا شيءَ سوى صيفٍ ملهوفٍ وسحاباتْ…»
«من أين يجيء الطيرُ الأبيضْ؟»
«خلف الأفق النائي متّشِحًا برمادٍ كالغيمْ..»
«أو شجرًا في الوديانْ»
فلا تقفيةَ مقطعيّةً كما هو واضحٌ، والكلمات الخاتمة على تباعد كبير من حيث بنيتها الوزنية ومخارج الحروف التي كان يمكن لتقاربها أن يترك أثرَ شُبهة تقفية عندما يتقارب حرفا رويّ.
في التقفية داخل المقطع في هذه القصيدة نقعُ على:
في المقطع (2): «بين سماءٍ تمضي
وسماءٍ تأتي»(6)
في المقطع (4): «أخبرني أنّ العمليّةَ لا بدّ ستُجرى
يومًا أو يومين.. وتجرى»(7)
في المقطع (5): «وأنا لا أدري هل أبصر شيئًا يدعوني؟
هل كنتُ أرى شيئًا مثلي أو مثل ظنوني؟»(8)
ملحوظ هنا قلَّةُ ما ورد من تقفية ثانوية داخلية في ثلاثة مواضع من قصيدة ذات خمسة مقاطع، وملحوظ أيضًا أنها ليست تلك القوافي التي تتعمّدُ تواطؤَ الحروفِ لإحْداث الوقْعِ، فهي هنا تابعة لسياق المعنى في الجملة الشعريّة أكثر مما هي تابعة لتواتر الورودِ الموطّأ له بما يسوغه.
أذهب إلى أبعد من ذلك إذ أرى أنّ جودت فخر الدين لا يتعمّدُ القافية، ويعمد إلى أن يختم الكثير من مقاطع هاتين المجموعتين الشعريتين بقَطْعٍ يوقفُ الجملةَ الشعريّةَ عند كلمة… كما يظهر في ما يأتي:
«لأيلول بين الشهور غيومٌ
تبعثرُ كلَّ الشهورِ، وتجمعها.
ربّما هو معنًى تسيرُ إليه الشهورُ، وتخطئه دائمًا.
ربما هو روحٌ لكلِّ الشهورِ التي استسلمتْ.
هو شهرٌ من الغيمِ،
روحٌ لكلِّ الشهورْ»(9)
الأبرز في هذا المقطع في خواتيم أسطره هي النقطةُ كعلامة ترقيم، فقد أدّت دورًا باترًا في قطع الجملة الشعريّة عمّا يليها في السطور التي اختُتمت بـ (تجمعها. دائمًا. استسلمتْ. الشهور). بدا الأمرُ كما لو رصف الشاعر جملاً مفيدةً، ركّزَ فيها على ما أفادته، مكتفيًا بموسيقى التفعيلة، منحّيًا لأيّ إضافةٍ يمكن أن تضيفها القافية.
ويقول: «نهارٌ فسيحٌ
صفا الجوُّ فيه، ولم ينجلِ البردُ،
واحتلّت الشمسُ كلَّ الصقيعِ النهاريِّ،
فانطلق الثلجُ مبتهجًا…
عانقَ الشمسَ في قوّةٍ…»(10)
في السطرين الأخيرين نرى إيقافًا للقول، وتعويضًا بثلاث نقاط متتالية كعلامة ترقيم، وإبقاءً لحركتي التنوين الصارمتين في الكلمتين الخاتمتين (مبتهجًا، قوّةٍ)، ما يؤكّد تأكيدًا لا لبس فيه تعمُّدَ القطعِ. وإنّه لقطعٌ يتبدّى أحيانًا فوق طَوْقِ أن تحتمله الجملة النثريّة، في أكثر أحوالها، كما في السطر الأخير «عانقَ الشمسَ في قوَّةٍ…»، إذ غالبًا ما تذهب الجملةُ إلى صفةٍ، لنقُلْ (في قوّة… فاعله) مثلاً، ليستقرَّ بها القول.
إنّ ملمح تنحية التقفية في هاتين المجموعتين يضمر بيانًا داخليًا مفاده أن الشاعر ينأى عن معلم من معالم بناء قصيدة التفعيلة على صعيد الشكل نأيًا متعمّدًا، أو لنقل نأيًا تمليه طبيعة تجربته لينأى عمّا في هذا المعْلَم الذي هو التقفية من رنينٍ يمكن أن يُصنع ويُتقن، ومجنّبًا قصيدته ما يمكن أن يكون مشوِّشًا على ما يريده لها أو تريده لنفسها من ابتعادٍ عن البرق والرعد واكتفاءٍ بما تسحُّ ديمُها على أناةٍ ومهل، فهي مستغنيةٌ بجمالها عن زينتها وحليّها.
2 ـ تخفيفُ حِدَّةِ الموسيقى:
مثلما نحّى جودت فخر الدين رنين القوافي عن مجموعتيه الشعريتين مالَ أيضًا إلى تخفيف حدّة الموسيقى في قصائدهما.. وأعني بالموسيقى، هنا، تلك التي يصنعها الوزن بتواتر تفعيلته أو تفعيلاته، إذ نلحظ في هاتين المجموعتين الشعريتين:
(أ) الابتعاد عن الوزن المركّب من تفعيلتين، هما غالبًا من الطويل والبسيط: فعولن مفاعلين، مستفعلن فاعلن (مع جوازات تفعيلاتها).
(ب) الابتعاد عن التفعيلات المؤلفة من أكثر من مقطعين صوتيين: متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتن…إلخ.
(ج) اكتفى بالتفعيلات ذوات المقطعين الصوتيين: فعلن، فعولن، فاعلن. (ندّت عن هذا قصيدة واحدة، هي (إنّه الشاعر… إذ غاب)(11).
على عكس ما تبديه هذه المعطيات من فقر في الموسيقى في وهلتها الأولى. وعلى عكس ما رأى القدماء في ثلاث التفعيلات التي اعتمدها الشاعر من موسيقى سريعة، تصنعها ضرباتٌ متتاليةٌ متشابهة (الخبب، مثلاً) أرى أن هذه التفعيلات بعد أن صارت مفتوحة العدد مع جوازاتها قد صارت أقرب إلى نثر الكلام وسرده.. وأقربَ إلى ما يجري مجرى الكلام العاديّ في تواليه. ولعلّ الماهر في لعبة الوزن لا يعوزه إلا حذفُ أو تغيير بعض حروف أدوات الربط هنا أو شيءٌ من التقديم والتأخير هناك حتى يجعل من نصٍّ نثريٍّ نصًّا مفعّلاً على هذه التفعيلات مع جوازاتها.
على هذا أرى أنّ موسيقي هاتين المجموعتين الشعريتين جاءت غنيّةً، فهي خافتة متوائمة مع ما في المضمون ومعالجته من هدوء متأمّلٍ ورهافةٍ في رسم خطوط رؤى الشاعر التي لم تقدِّم نفسها صاحبة مقولات أو شعارات أو مستقرات تستولي على المتلقّي. إنها، في بساطة، تدعو قارئها إلى مسايرتها إذا أحبَّ هذه المسايرة على إيقاع من هذه الموسيقى وإيقاع من هذا التأمُّل.
لنصغِ لموسيقى هذا المقطع:
«في حديقة بيتي صَنَوبرتانِ،
أحيّيهما، فتردّان في خجلٍ،
ثم أسمع همساً إذا ما اقتربتُ…
تلفُّهما غيمةٌ حين تعتنقانِ،
وحين يلفُّ الحديقةَ حرُّ الظهيرةِ،
تنفصلانِ قليلاً، وتنكمشانِ،
وتنتظرانِ الغيومَ التي انهزمتْ…»(12)
وزنًا، ينطلق المقطعُ من (فاعلن)، ويمضي في هدوء، تعزِّزه حروف العطف (الفاء، ثم، الواو) كأدوات ربطٍ، لكنّ موسيقى هذا المقطع لا يبدو الوزن صانعاً لها بقدر ما تبدو التثنيةُ في الأسماء والأفعال هي الصانعة (صنوبرتان، تردّان، تعتنقان، تنفصلان، تنكمشان، تنتظران)، فقد ركّز الشاعر تركيزًا واضحًا على الإيقاع المتولِّد من التثنية، وعوَّل عليه في داخل موسيقى الوزن الخافتة، ربما في تعويض عن هزيمة الغيوم التي قرّرتها نهاية المقطع… الغيوم التي تلفّ اعتناق الصنوبرتين الذي يريده الشاعر، بينما يباعدهما حرُّ الظهيرة. وهكذا يصير المشهد المرسوم للرؤية بابًا إلى رؤيا ترى أن اعتناق الأشياء يحتاج إلى ما يلّفه ويغشّيه ويغشاه كما الغيوم في خفّتها ونداوتها وحنوّها… ولكنّ الغيوم انهزمت …
ففي موسيقى هذا المقطع الهادئةِ الخلوِ من ضجيج التفعيلات ورنين القوافي ـ في ما أرى ـ معادل موضوعيّ لما أراد أن يقوله الشاعر… ولعلّ كلمة (يقوله)، هنا، ليست هي ما يعبِّر تمامًا كما لو قلت يبثُّه، أو يوصل فحواه.
3 ـ أنا هو، وغياب المخاطَب:
يسود المجموعتين الشعريتين محلَّ المقاربة ضميرا المتكلم المفرد والغائب المفرد، والغائب المفرد هو لشيء من أشياء الطبيعة او المكان، عدا قصيدتين هو فيهما للإنسان: قصيدة (إنّه الشاعر… إذ غاب)(13)، وقصيدة (ربّما نتذكّر يومًا)(14). ويغيب ضمير المخاطب في مفرده ومثناه وجمعه وفي مؤنّثه ومذكّره، عدا في قصيدة واحدة، هي ثانية القصيدتين المذكورتين المكرَّسة لتداعيات ما كان بين الشاعر ووالده في مرضه الأخير، حيث يحضر الـ (أنت) في حال غياب كبير، مروّيًا عنه أنّه قال، بسبب وضعه الصحيّ. وقصيدة (مساءٌ شتائيٌّ)(15) المهداة إلى صلاح عبد الصبور المخاطب فيها بوصفه غائبًا. وقصيدة (ليس بعد…)(16) التي يتوضّح من خلالها أنّ المخاطب هو الشاعر نفسه. تعطي فكرةً عمّا تدّعيه هذه الملاحظة نظرةٌ إلى فواتح القصائد في هاتين المجموعتين الشعريتين، حيث جاءت كالآتي:
_ فواتح قصائد (ليس بعد…):
«آخر الليل تأتي»، «تقول الطبيعة في بعض أحوالها:»، «عالمٌ، ليس ينفعه أن يموتَ بحسرة أنهاره»، «أطبق الشاعر في الوادي جناحيه ومالْ»، «أجعل أوقاتي نصفين:»، «إذا لم يكن لي عدوٌ»، «ليس بعدُ… تمهَّل» ، «أول الأمر كان الغروب رسومًا على الأفق»، «حين يندثر الآخرون»، «طريق إلى بيتنا في الجنوب»، «السماء التي…»، «شجرٌ…»، «نحلة…»، «إلى من تحدّث ذاك الضبابْ»، «شرفةٌ هزها العصف»،
_ فواتح قصائد (فصول من سيرقي مع الغيم):
«لم أجد غير نفسي»، «ورق ينتزع الشارع»، «يقول لي الثلج في أول العام»، «غيوم رأتني أجوب السماء بعينيّ»، «وحدك الآن من دون خوف».
ففي هذه الفواتح البالغ عددُها عشرين فاتحة نقع على ثلاث فواتح فقط، توجّه فيها الخطاب إلى مفرد، وهي فواتح القصائد التي ذكرتها: وذكرت أنّ المخاطب فيها كان غائبًا، وشبهَ غائبٍ، والشاعرَ نفسَه.
تُرى، لمَ غابَ المخاطبُ هذا الغيابَ؟!
لم غاب ضمير جمع المتكلمين (نحن)؟!
لم غاب حتّى ضميرا جمع الغائبين والغائبات: (هُم)، (هنَّ)؟!
أذهب إلى تعليل غياب هؤلاء بأن حضورهم كان يمكن أن يكون مشوِّشاً على إيقاع تجربة شعريّة هي في هاتين المجموعتين الشعريتين على ما وصفتها من الهدوء المتأمِّل الرهيف الحياديّ حدَّ اللاعاديّة. إنّ حضور أصحاب هذه الضمائر كان يمكن أن يكون مدعاةً لحضور الأخذ والردّ (الحوار)، والمعالجة الفكريّة للرؤى التي استخلصها الشاعر على هدأةٍ وأناة، فالآخرون هم الدراما على نحو ما، وشاعرنا قد حصّن نفسه بإزاء المواجهة حتى مع عدوّه، فثاب إلى «أواجه نفسي بنفسي إذن، /ليس لي من عدوٍّ/سوى فرحي بالتشفّي…»(17)، وقال: «لعدوّي الذي يتربّص بي/أن يموت هنالك في غيظهِ،/حيث لن أستعدّ لهُ،/حيث أتركه يتخبّطُ في كيده آمنًا،/أستخفُّ بما يستبدُّ به،/لعدوّي الذي يتربّص بي/أن يدبِّرَ لي ما يشاءُ،/فلن أستعدّ لهُ،/وسأتركه يتخبّطُ في كيده آمنًا»(18).
بالغ الوضوح هذا المقطع في إقصائه للمواجهة، وأتوقف فيه عند ثلاثة مواضع:
ـ تكرار الترك، وتكرار عدم الاستعداد.
ـ العدو سيموت هنالك، وليس هنا، وليس بالمواجهة.
ـ كلمة (آمنًا) التي أتاح البناء النحويّ لجملتها أن تكون حالاً للتارك والمتروك.
ـ لمَ كل هذا؟ لأن الشاعر رأى في إطار رؤيته أن المواجهة الأكثر استحقاقًا، والأكثر حقيقيّة هي مواجهة النفس… النفس التي ذهبت في هاتين المجموعتين الشعريتين إلى الإخلاد إلى الذات الشاعرة لتقرأ على إيقاعها الخاص مفردات العالم ومشاهده بعيدًا عن الجلَبَةِ والضوضاء، وكانت صادقة أعمق الصدق في ابتعادها عنهما حتى على صعيد ما يتراءى للآخرين أنه أضواء وأجراس على صعيد بناء النصّ وعلى صعيد استجلاب المتلقّي إلى إغرائهما.
تلك كانت ملامحَ من هذه التجربة الشعريّة في هاتين المجموعتين الشعريتين تؤكّد على ما أشرت إليه بداية من خصوصية الشاعر في نفي المؤثرات الخارجية إلى درجة كبيرة والتعويل على الداخليّ منها الذي توقّعه رؤية عميقة تباشر الأشياء بما هي عليه فيه. وأنا زعيم أنّ مقاربةَ ملامحَ أخرى على صُعد المعجم الشعري، وبناء الجملة الشعرية، والخيال، لا بدّ من أن تنعطف على ما ذكرت من ملامح وتؤكّد على ما ذهبت إليه من أسباب تولّدت عنها هذه الملامح.
ميزة جودت فخر الدين التي أراها فارقةً إلى درجة كبيرة هي أنّه يشيع بردًا ودفعًا طويلي الأمد، هما من جوهر طبيعة علاقته بالعالم وأشيائه، بعيداً عمّا يثير ويخلب ويسرع إلى زواله.
هوامش
(1) جودت فخرالدين ، فصول من سيرتي مع الغيم، دار الريس للكتب والنشر، بيروت، ط 1، كانون الثاني (يناير) 2011، ص 44.
(2) فصول من سيرتي مع الغيم، ص 16.
(3) فصول من سيرتي مع الغيم، ص 39 و40.
(4) جودت فخر الدين، ليس بعد، دار الريس للكتب والنشر، بيروت، ط 1، ك 1 ديسمبر 2006، ص 50 و51.
(5) ليس بعد، ص 47 ـ 54.
(6) ليس بعد، ص 49 و 50.
(7) ليس بعد، ص 52.
.(8) ليس بعد، ص 58
(9) فصول من سيرتي مع الغيم، ص 74 و75.
(10) فصول من سيرتي مع الغيم، ص 38.
(11) ليس بعد، ص 35 ـ 46.
(12) فصول من سيرتي مع الغيم، ص 50.
(13) ليس بعد، ص 35 ـ 46.
(14) فصول من سيرتي مع الغيم، ص 77 ـ 95.
(15) ليس بعد، ص 9 ـ 15.
(16) ليس بعد، ص 61 ـ 87.
(17) ليس بعد، ص 59.
(18) ليس بعد، ص 58.
[divider]
جودت فخر الدين:
الهدوء الذي ينطوي على
مخزون انفعالي مضطرم
يكتب الشاعر جودت فخر الدين قصيدته ولا يخرج الى الشّرفة،يبقى مع كلماتها وحروفها، يراقبها، يتابعها، ينقحها..وعندما يتأكد من امتلاء خوابيها، وجريان مساربها، واشتداد هواها، يأخذ نفساً عميقاً ويتنهّد، وفي قرارة نفسه أنه حقّق حضوراً لا يزول ولا يُمحى.
هكذا هو دائماً مع القصيدة واللغة.يسعى،دائماً الى تفسير المفسر والمستتر والغامض بتفسيرات أخرى لها وقعها ومعناها المفتوح على تنوعات التفسير أيضاً.كأنه يعتمد الإجتهاد والتأويل في كتاباته الشعرية.
تكمن في تجربته الشعرية التفاصيل والعوامل التي يمكن أن تكون ملاذاً آمناً للمعنى. وكذلك تأخذ على الشك الذي يؤجّج الأسئلة، فتتحول قصيدته إلى فضاء ممتلىء بالدهشة والأجوبة.
في هذا الحوار يفصح الشاعر أكثر عن جوّانيته، عن ما يعتمل في داخله وفي أعماق قصيدته، ويأخذ اللغة الى ، في كلامه، إلى مساحة وعي أخرى، حيث التفسير يجرّ التفسير والمعنى يجرّ المعنى، الى أن تكتمل الصورة ، أو الهرم الشعري المرتجى.
فماذا يقول الشاعر في هذا الحوار الذي أجريته معه في بيروت في مساء هادىء جداً؟
* من أوّل ديوان ٍلك إلى آخر ما أصْدَرْتَهُ، كيف ترى إلى تحوّلاتك الشعرية ؟
ــ تسعة دواوين صدرتْ لي حتى الآن. أوّلها «أقصِّرُ عن حبِّكِ» الذي صدرَ في العام 1979. بعضُها طُبِعَ أكثر من مرّة. كما أنّ الجزء الأول من «أعمالي الشعرية» كان قد صدَرَ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 2006، وبعده صدرَ لي ديوانان عن مؤسسة رياض الريس للكتب والنشر هما: «ليس بعد» و «فصولٌ من سيرتي مع الغيم». والآن أُعِدُّ لديوان ٍجديد من قصائدَ نُشرتْ تباعاً في الملحق الثقافي لجريدة «السفير».
كلّما كتبتُ قصيدةً جديدةً أشعرُ بأنني تقدّمتُ شوطاً جديداً في طريق البحث عن ذاتي، وبأنني أعمِّقُ معرفتي بنفسي وبالعالم من حولي. وأجملُ ما في الأمر أنّ هذه الطريق ليس لها نهاية، بل هي تبتدئ وتتمادى باستمرار. وكلما
ترامتْ أمامي، تزايدتْ مفاتنُها وإغراءاتُها.
إذاً، أستطيع القول إنّ مسيرتي الشعرية حافلةٌ بالتحوّلات، وذلك في مستويات ٍمتنوّعة، لغوية ٍوبنائية ٍورؤيوية ٍ … وغير ذلك. هذه التحوّلات هي التي بلورتْ شخصيتي الشعرية، ارتكازاً على نكهة ٍأصلية ٍمنبثقة ٍمن عناصرَ أصلية ٍفي كياني أو نشأتي. إنّ تحوّلات القصيدة شبيهةٌ جدّاً بتحوّلات الشاعر نفسه. فلديهما معاً لا بدَّ من التطوّر المستمرّ الذي يُبْقي على عناصرَ للتميُّز تُتيحُ للشاعر ولشعره أنْ يُشكِّلا تجربةً فريدة.
* كأنك تُعيرُ اللغةَ أهميةً في القصيدة ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ وضروريّ. ولكنْ ثمة من يقول إن الاهتمام باللغة يخفِّف من الشعر داخلَ القصيدة. ما رأيك؟
ــ «اللغة الشعرية» لشاعر ٍمعيّن هي التعبير الأفضل عن خصوصية تجربته. فكلّ شاعر ٍيسعى إلى أنْ تكون له لغتُهُ، لغتُهُ المميّزة القادرة على التطوّر. وتدخلُ في تكوين اللغة الشعرية عناصرُ العملية الفنية كلُّها، معنويةً كانت أو لفظيةً أو بلاغيةً أو بنائيةً أو إيقاعية …الخ. وبالنسبة إليّ، أقول: نعم، أنا أهتمّ باللغة وأعملُ دائماً على تطوير لغتي الشعرية، وأحسبُ أنّ هذا التطوير هو الذي يُغْني قصيدتي ويفتحُ لها آفاقاً رحبة.
* من عناوين دواوينك: «أقصِّرُ عن حبِّكِ»، «أوهام ريفية»، «للرؤية وقت»، «قصائد خائفة»، «منارةٌ للغريق»، «سماوات» …وغيرها. هل هذه العناوين هي اختصارٌ لمراحلَ من حياتكَ أردْتَ ترجمتَها بالشعر؟
ــ الكتابة الشعرية تنطلقُ من التجربة الحيّة (أو الحياتية)، ولكنّها لا تعملُ على نقْلها نقلاً حرْفياً، بل تعملُ على تحويلها أو تكثيرها أو تعميقها أو إغنائها. ولكنْ، مع ذلك، يمكن القول إنّ الشاعر من كتاب ٍإلى كتاب، وأحياناً من قصيدة ٍإلى قصيدة، يشعرُ بأنه ينتقلُ من مرحلة ٍإلى مرحلة، أو من عُمْر ٍإلى آخَر. وأشيرُ هنا إلى مجموعتي الشعرية «ما بين عُمْر ٍوآخَر»، التي هي عبارةٌ عن مختارات ٍمن شعري، صدرت في العام 2009 عن» الهيئة العامة لقصور الثقافة» في القاهرة، ضمن سلسلة «آفاق عربية». وقد اخترتُ هذا العنوان لأوحيَ بأنّ القصائد المختارة من كلِّ ديوان ٍمن دواويني تجسِّدُ عُمْراًمن أعماريَ الكثيرة التي عشْتُهافي حياتي. هكذا أردْتُ القول إنّ الكتابةَ الشعريةَ تجعلُ حياةَ الشاعر حافلةًبالتنوّع والتحوّل.
* في قصيدة جودت فخرالدين قلقٌ وجوديٌّ يقابلُهُ نبْضٌ هادئٌ يوحي بالطمأنينة. هل هذا الاستنتاج في محلِّه؟
ــ القلق، إنه مفتاحٌ من مفاتيح الشعر. القلق إزاء كلِّ شيء. أنا كثيرُ الهواجس.
أقلقُ إزاء أمور ٍأتبيّنُها، وإزاء أمور ٍلا أتبيّنُها. أراقبُ نفسي كثيراً، وأكابدُ الزمنَ في استمرار. ولكنني أعِدُ نفسي دائماً بالمفاجآت السارّة. أعِدُها بأنّ الآتي أفضلُ من الغابر.
أنزعُ دائماً إلى طرْح الأسئلة الكبيرة، أو بالأحرى الوجودية، ولكنْ على نحْو ٍ يتجنّبُ الافتعال ويبتعدُ عن التهويل. أنزعُ دائماً إلى التأمل في قضايا المصير والزمن والموت … وفي معاني الوجود وما إلى ذلك. وربّما بسبب ٍمن ذلك يسري في شعري ذلك النبضُ الهادئ الذي أشرْتَ إليه في سؤالك. وكثيراً ما تكلّم الذين كتبوا عن شعري على هدوء ٍفي النبرة أو خفوت ٍفي الصوت. إلا أنهم نادراً ما ربطوا ذلك بنوعية الإيقاع الناتجة عن طريقتي في التصرُّف باللغة وفي تشكيل صِيَغِها. ولكنّ البعض قد أشار إلى أنّ الهدوء في شعري ليس إلا ظاهرياً، وأنه ينطوي على مخزون ٍانفعاليّ ٍمضطرم، وكذلك على كثافة ٍمعنوية.
أقولُ أيضاً إنني أكابدُ إحساساً فاجعاً بالزمن . ويتجلّى ذلك في ما أكتبُهُ خوفاً أو ضجراً أو يأساً. لا أدري كيف بدأ معي هذا الإحساس وما مصدرُهُ.
ما أعرفُهُ هو أنني أراقبُ نفسي في كلِّ لحظة، وكأنني أراقبُ مرور الزمن وأحسبُهُ بدقائقه وثوانيه. ربّما كان وراء ذلك أو في أساسه موقفٌ من الموت، أو بالأحرى شعورٌ استثنائيٌّ حيال فكرة الموت. ذلك أنّ موضوع الموت له حضورٌ بارزٌ في شعري. ودائماً كنتُ معجباًبالشعراء الذين اهتمّوا بموضوع الموت وخصّصوا له مساحات ٍكبيرةً في دواوينهم. أذكرُ منهم أبا العلاء المعرّي وأبا العتاهية.
* هل الشعر مخلِّص؟ وما جدوى الكتابة؟
ــ نعم، كثيراً ما أشعر بأنّ الشعر مخلِّص. أنا أكتبُ الشعرَ لكي أغوصَ أكثر فأكثر في معنى وجودي. أكتبُ الشعر لكي أشعرَ بنفسي. القصيدةُ هي تجسيدٌ لشعوري هذا. إنها غايةٌ في حدِّ ذاتها. جدوى القصيدة يتمثَّلُ في تحقيق المتعة وتجسيد القِيَم الجمالية.
* أين أنت من الحبّ والمرأة؟
ــ الحبُّ مكوِّنٌ أساسيٌّ من مكوَّنات الفنّ. وهو أحدُ أهمِّ عناصر القوّة فيه وله. إنه بالنسبة إليَّ حالةٌ من الشغف هي التي تقودُني إلى الكتابة. وهو بهذا المعنى أعمُّ من الحبِّ الذي يتّجهُ في اتجاه شخص ٍ معيّن، أي أنه أعمُّ من الهوى أو الغرام. أنا أتكلم هنا عن حالة ٍ من الشغف قد تكون حيال اللغة مثلاً، أو حيال الطبيعة،أو حيال فكرة ٍأو موقف ٍأو أيِّ شيءٍ من أشياء العالم.
أما الحبّ بمعناه الذي يتبادرُ أولاً إلى الذهن، فهو أيضاً من منطلقات وحوافز الفنّ الأساسية، وإنْ كان في نظر البعض حالةَ ضعف، كما هو الشأن عند المتنبي، الذي نظرَ إلى الحبّ نظرةً متعالية.
أنا أقول إنّ الحبَّ ضروريٌّ للفنّ، وللشعر بخاصة. وهو موجودٌ في قصائدي على نحْو ٍليس سطحياً أو فاقعاً، وإنما له _ في ما أظنّ _ وجودٌ عميقٌ وراسخٌ فيها.
إنّ التحوّلات في الشعر تشبهُ التحولات في الحبّ. وإذا كان الشعر يحيا ويتطوّرُ على التجدُّد، فإنّ الحبَّ كذلك يحيا ويتطوّرُ على التجدُّد. لقد كانت الحبيبةُ ولا تزالُ ركناً أساسياً في قصائدي. ولكنَّ حضورها يتراءى للقرّاء خفيّاً أو رشيقاً أو عميقاً. وذلك لأنني لم أنظرْ يوماً إلى المرأة وإلى علاقتي بها نظرةً تقليدية. لم أجدْ في المرأة مجرّدَ موضوع ٍللشعر أو لغيره، وإنما وضعتُها في تصوُّري موضعَ التكافؤ مع الرجل. وتالياً باتت الحبيبةُ التي أخاطبُها أو أتحدَّثُ عنها في موضع المكمِّل لي، أو أنا في موضع المكمِّل لها. والعلاقةُ هذه بيني وبين الحبيبة
تتطوّرُ وتتجدَّدُ في شعري كما يتطوّرُ شعري نفسُهُ ويتجدَّد.
* المكان حاضرٌ بقوّة في قصائدك. ماذا عن علاقتك بالمكان؟ وهل هناك مكانٌ معيّنٌ تهتدي إليه أكثر من غيره؟
ــ عنصران أساسيان كان لهما، منذ طفولتي، دوْرٌ كبيرٌ في تكوينيَ الثقافي وفي تشكيل مزاجي الشعري: الأول علاقتي باللغة ونشأتي على حبِّها في بيت العائلة حيث كنتُ أسمع أجمل القصائد العربية من جدّي وأبي. والثاني علاقتي بالطبيعة ونشأتي على حبِّها في قريتي الجنوبية التي احتضنتْ طفولتي وصباي.
في قريتي هذه، في لبنان الجنوبي، تلقيتُ في بدايات تفتُّحي أجملَ الصُوَر والإيحاءات التي جاءتْني من مشاهد الطبيعة الساحرة، الطبيعة الريفية التي دخلتْ في كياني ، ولم تُفارقني أبداً.
في مجموعتي الثانية «أوهام ريفية» (صدرت في العام 1980) تعاملٌ شعريّ مع كائنات الطبيعة يختلف عن تعامل الرومنطيقيين. إنه تخاطبٌ بيني وبين كائنات الطبيعة في قريتي. إنه استنطاقٌ لأشياء الطبيعة، للشجرة والصخرة والنبع والقمر والوادي …الخ. إنه نوعٌ من الصداقة بيني وبين أشياء الطبيعة، حيث المكان الذي ظلَّ يحضرني أينما كنت، أينما ابتعدتْ بيَ الأمكنةُ التي قادتْني إليها الأقدار، وظللْتُ أكتبُهُ وأؤلفُهُ وأبتكرُهُ وأتذكّرُهُ وأعيدُ ابتكاره …
إنه المكان الذي أهتدي إليه دائماً، ودائماً يهتدي إليّ.
بيروت هي المكان الثاني الذي احتضنني وأثّرَ فيَّ، وما زال كذلك بكلِّ ما مرَّ عليه ولا يزال يمرُّ من تغيُّرات ٍوأحداث ٍتكون أحياناً ذات طابع ٍدراماتيكيّ.
إلى ذلك، عرفتُ أمكنةً كثيرة، وسافرتُ كثيراً، وعشْتُ مراحلَ من عدم الاستقرار. وكان لهذا كلِّه تأثيرٌ واضحٌ في شعري. وأحبُّ أنْ أقولَ هنا إنّ بعضَ
الأمكنة تحثُّ على كتابة الشعر أكثر من غيرها. وذلك تبعاً للعلاقة التي يمكن أنْ تقومَ بين المكان والشاعر نتيجةً لعواملَ مختلفة ٍ، طبيعية ٍأو شخصية ٍ أو ثقافية … أو غير ذلك. هنا أذكرُ اليمن، التي زرْتُها مرّات ٍعديدة، وكان لي فيها أن أكتب مجموعةً من القصائد، صدرتْ عن وزارة الثقافة اليمنية في العام
2004. وكان لي ذلك بفضل الدهشة التي تحصّلتْ لي إزاء الطبيعة اليمنية،
إزاء جبال اليمن التي أدهشتْني في زيارتي الأولى. ذكرْتُ هذا المثال، ولديّ أمثلةٌ غيرُهُ تحتاجُ إلى كلام ٍكثير. وهنا أحبُّ أن أقول إنّ الشاعر إذْ ينفعلُ إزاء مكان ٍ معيَّن، فيحتفي به ويعمل على تصويره، إنما يفعلُ فيه أيضاً، فيُعيدُ تشكيلَهُ في القصيدة، أو أنه يشكِّلُهُ على مزاجه.
* أنت شاعر وتمارس الكتابة النقدية. كيف ترى إلى حال النقد الأدبيّ اليوم؟
ــ ما يحرِّكُ حسِّيَ النقديَّ هو انخراطي في الكتابة الشعرية، إضافةً إلى هواجسي الدائمة حيال تطوير تجاربي في الكتابة. وأظنُّ أنّ هذا الأمر ينبغي أنْ يكون ماثلاً لدى جميع الكُتّاب. من ناحية ٍثانية، يدفعُني إلى الكتابة النقدية في بعض الأحيان شعوري بالحاجة إلى توضيح بعض المسائل، أو إلى إثارة بعض القضايا. هكذا تلاحظ أنني منذ مدّة ٍطويلة ٍأتناولُ في مقالاتي النقدية مسائلَ وقضايا أساسية، عازفاً عن الدخول في حومة المراجعات النقدية ذات الطابع الصحافي.
قضية النقد الأدبيّ اليومَ معقّدةٌ، ومشاكلُهُ كثيرة. وبتْنا نضجر من القول إننا نعيش حالةً من فقدان النقد الجادّ أو الفعّال. إننا نفتقر إلى حركة ٍنقدية ٍ تواكبُ الحركة الأدبية، وتطرح عليها أسئلةً عميقة. مشكلة النقد مزدوجة: في
التنظير وفي التطبيق. وقد بات في معظمه ضحْلاً أو متسرِّعاً. والنقّادُ الذين يسجِّلون اليومَ حضوراً في ساحتنا الثقافية لا يحقّقون فعاليةً ملحوظة.ومعظمهم يتجهون إلى نقد الرواية متجنّبين نقد الشعر، ربما لأنهم يجدون الثاني أكثر صعوبةً من الأوّل.
المشكلة عميقة. والنقد الأدبي يصعبُ عليه التقدُّمُ في غياب ٍللفكر النقديّ في ميادين الثقافة كافةً. كيف يمكن لفكر ٍنقديّ ٍحقيقيّ ٍأنْ ينموَ ويتطوّرَ في مثل أوضاعنا العربية الراهنة، التي تعاني من مختلف أشكال التضييق والكبْت، حيث الفضاء، فضاء التفكير والتعبير،مليءٌ بشتّى أنواع الممنوعات والمحظورات، بل المحرَّمات؟!
والإعلام الثقافي كثيراً ما يلعبدوْراً سيّئاً، من حيث يدري أو لا يدري. ذلك أنّ معظم العاملين فيه لا يملكون الوعيَ والكفاءةَ الكافييْن. وبسبب ٍمن ذلك، نجدُ التكاذبَ وتبادلَ المنافع بدلاً من النقد الصادق المرهَف.
هذا الواقع الصعب لا يُعْفي قلّةً قليلةً من أصحاب الذوْق والمعرفة والخبرة من العمل على خلْق مناخ ٍمؤات ٍللنقد، ومن العمل على إطلاق حركة ٍنقدية ٍ
فعّالة، تطرحُ على الأدب أسئلةً تساعدُهُ على التعمُّق في ذاته، وعلى تجديد طرائقه وآفاقه.
* نأتي الآن إلى كتابك «ثلاثون قصيدة للأطفال» الذي فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الثامنة. كيف حضرتْ هذه القصائد في مسيرتك الشعرية؟
ــ كانت لي تجربتان في كتابة الأشعار الموجّهة إلى الصغار. الأولى في مركز الأبحاث اللغوية والتربوية في بيروت، والثانية مع مجلة «توتة» الموجّهة إلى الصغار.
في المرة الأولى، عملتُ ضمن برنامج ٍلوضْع طريقة ٍلتعليم الشعر. وفي المرة الثانية كانت المجلة الشهرية الصادرة عن «دار الحدائق» في بيروت تطلبُ مني قصيدةً لكلِّ عدد ٍمن أعدادها. وقد استمرَّ ذلك على مدى أكثر من أربع سنوات، إلى أنْ صارت لديَّ مجموعةٌ من القصائد اخترْتُ منها ثلاثين قصيدةً، أصدرتْها دار الحدائق في الكتاب الذي فاز بالجائزة. وهو كتابي الوحيد في هذا المجال، أي في مجال الكتابة التي يُطلَقُ عليها إسم «أدب الطفل»، ويقصدون به الأدب الموجّه إلى الأطفال والناشئة.
* كتابة قصيدة موجَّهة إلى الصغار ربما تحتاج إلى جهد ٍ إبداعيّ ٍيفوق الجهدَ في كتابة قصيدة ٍموجَّهة ٍإلى الكبار. ما رأيك؟
ــ نعم، لا ينبغي أن نستسهلَ الكتابةَ الموجَّهة إلى الصغار. فالمسؤولية كبيرة عندما تكون مهمّةُ الكاتب ِأنْ يُنتِجَ أوّلاً أدباً جميلاً، يتقبّلُهُ الصغارُ ويُقبِلون عليه، وأنْ يحقِّقَ ثانياً من خلال أدبه هذا أغراضاً تربويةً أو تعليمية. إذاً، الأولوية _ في نظري _ ينبغي أنْ تكون للناحية الفنية الجمالية.
* هل تحاكي طفولتَكَ الخاصة في قصائدك الموجَّهة إلى الأطفال؟
ــ يتّضحُ من إجابتي عن سؤال ٍسابق ٍأنني كتبتُ القصائدَ الموجَّهةَ إلى الصغار بناءً علىتكليفيْن ضمن مشروعيْن خضْتُ فيهما تجربتيْن متباعدتيْن في الزمن.
وقد استفدْتُ في هاتيْن التجربتيْن من خبرتي في كتابة القصائد الموجّهة إلى الكبار. وقد توزّعت القصائد التي صدرت في الكتاب الفائز بالجائزة على مواضيع متنوّعة، لأنّ المجلة التي كلّفتْني بكتابتها أرادتْ أنْ تغطّي ما أمكنها من المواضيع. إذاً، كنتُ أكتبُ القصيدة في موضوع ٍيُحدَّدُ لي سلفاً. ولكنْ، مع ذلك، كان من الطبيعيّ أنْ أستعين بطفولتي على نحْو ٍتلقائيّ، فتأتيني منها
صُوَرٌ أو إيحاءاتٌ أو ذكرياتٌ … أو غير ذلك.
* كيف ترى اليومَ إلى «أدب الطفل» في عالمنا العربيّ؟
ــ أرى أنّ معظمه ضعيف. فالكثيرون يستسهلون الكتابة الموجّهة إلى الصغار، شعراً كانت أو قصةً … أو غير ذلك. والأخطر من ذلك أنّ الكُتُب المعتمدة
في تعليم اللغة العربية، خصوصاً في المرحلة الابتدائية ، مليئةٌ بنصوص ٍضعيفة ٍ
أو رديئة، ويعُدُّها القيِّمون على مؤسسات التعليم ومؤلّفو الكُتُب نصوصاً أدبية!
إنّ تراجع مستويات الأدب في أيامنا مرتبطٌ بتراجع اللغة العربية في الاستعمال، وخصوصاً في مؤسسات التعليم ومؤسسات الإعلام، حيث ينبغي
لها أنْ تستعملَ على نحْو ٍسليم وجذّاب.
إننا نحتاجُ إلى سياسات ٍتربوية ٍتعليمية ٍرشيدة، تعملُ على النهوض بلغتنا العربية في مراحل التعليم كلِّها، وبالأخصّ في مراحله الأولى. فالبرامج والمناهج المعتمدة في مدارسنا تدفعُ التلامذة، ويا للأسف، إلى النفور من اللغة العربية ومن أنواع الأدب كلِّها. وهذا أمرٌ في غاية الخطورة، وله انعكاساتٌ سلبيةٌ على مناحي حياتنا كلِّها.
«أدب الطفل» هو جزءٌ من هذا المشهد العام. فما يصدر عندنا من كُتُب ٍتحت عنوان»أدب الطفل» كثيرٌ جدّاً من حيث الكمية، ولكنه قليلٌ جدّاً بل نادرٌ من حيث النوعية الجيٍّدة.
إذاً، ينبغي البحث عن الكُتُب الجيِّدة في الأدب، وخصوصاً في «أدب الطفل». والجوائز التي تتمتّعُ بالمصداقية والنزاهة من شأنها أن تلعب دوْراً أساسياًفي هذا المجال.
الهوامش
1 ليس بعد، منشورات رياض الريِّس، بيروت 2006؛ فصول من سيرتي مع الغيم، منشورات رياض الريّس، بيروت 2011.
2 Martin Heidegger, Approche de H?lderlin (trad. H. Corbin,
M. Deguy, et J. Launay. Edit, Gallimard, 1962), p. 60.
3 ص 87، والقوس مثبتة في النص الأصلي.
—————-
أعد الملف والحوار: إسماعيل فقيه