ترجمة وتقديم زاهر السالمي *
مقدمة:
القصيدة الأشهر لجون آشْبيري «بورتريه شخصي في مرآة محدبة»، والتي أدخلته بعد نشرها مباشرة (1975) في قائمة الآثار الأدبية المعتمدة من خلال الفوز «بالتاج الثلاثي» للأدب الأمريكي الحديث: جائزة بوليتزر، وجائزة الكتاب الوطني، وجائزة الدائرة الوطنية لنقاد الكتب في 1976. وهو أول كاتب يفوز بالجوائز الثلاث الكبيرة في السنة نفسها وعن العمل نفسه. وقد كُتب عن هذه القصيدة عدد كبير من الدراسات الأكاديمية والكتب، ومن مختلف الزوايا الشعرية واللغوية والفلسفية، مما يدل على عمارتها الشاهقة، التي صارت أحد الشواهد الأصيلة في تجسيدها لما بعد الحداثة الإنسانية شعريا.
كُتبت القصيدة بأسلوب ولغة توصف عادة بالتعبير الشفهي(1)، وهذا ربما كان أحد أسباب تفاعل الجمهور معها وشعبيتها متمايزة عن أعماله الشعرية الأخرى التي توصف بأنها صعبة وغامضة. وهي مُستوحاة من لوحة تحمل ذات الاسم: «بورتريه شخصي في مرآة محدبة»، أنجزت في 1524، على يد فنّان عصر النهضة فرانسيسكو مازولا (Francesco Mazzola: 1503-1540)، الشهير باسم بارميجيانينو. تعتبر القصيدة تأملاً (meditation) في اللوحة. المباشرة والفورية في افتتاحية القصيدة تمهد لما هو قادم: وصف مدهش للوحة، وفي مقاطع أخرى من القصيدة، وصف للقصيدة نفسها(2)، في استقصائها للأساليب الكتابية عن الذات في «بورتريه شخصي للشاعر». ومن هذا الوصف المتبادل للوحة وللقصيدة التي يكتبها، يذهب المؤلف إلى التعليق على مفهوم الشكل، الشكل الفني: لوحة، تمثالا.. وعلاقته بثقافة المجتمع الذي أنتجه. يذهب أيضاً إلى التعليق على الأساليب الشعرية، كشكل يتمدّد فوق ورقة، ومدى صلابة المعنى: معنى الكلمة، النص، أو القصيدة، عبر تنقله في الزمن، وبين المجتمعات.
في افتتاحية القصيدة، يورد آشْبيري مدخلاً مختصراً على لسان المؤرخ الفني جيورجيو فاساري، لتعريف القارئ بهذه المرآة المحدبة المصنوعة من نصف كرة خشبية، والتي استعملها بارميجيانينو ليرسم انعكاسه، مجسداً المدرسة النمطية في ذروتها. والفن النمطي/التصنعي (Mannerism)، مدرسة ظهرت في عصر النهضة الإيطالية المتأخرة، وذهبت إلى صنع أشكال إنسانية غير مُتّسقة الأبعاد والملامح، من أجل الإبهار، متجاوزة المدرسة الفنية التي جاءت قبلها (دافنشي، ميكل أنجلو) والتي كانت مُذهلة في تجسيد الإنسان في ملامحه المثالية. هذه المدرسة الفنية -حسب تفسيراتها- تنفي الثبات في المبادئ والنظريات الفنية، وتجسد هذا النفي في إبداعها الحُر. ومن أشهر ممثليها بارميجيانينو. وكما جاء في سياق القصيدة: «… نشأتْ عن التوترالتصنعي/ لكن هنا المفاجأة، كما أشار إليها فريدبرغ/أن التوتر يقع في المبدأ/وليس في تجسيدها». وما يقصده آشْبيري هنا -وحسب فريدبرغ- أن التوتر التبايني يتأصّل في المبدأ، والمبدأ في تصور الأشكال هو نسبي مثلما هو المعنى في الجملة اللغوية، حيث يتم فهمها حسب الخلفيات المعرفية والثقافية، أي أن معناها منزلق-غير ثابت (وهذا نفي لثبات المبدأ في الحالة الفنية)(3). ومن هنا نشير إلى أن آشْبيري انطلق من هذا المفهوم الفني ومقاربته بمفهوم المعنى وتأويلاته في الأدب.
في سياق القصيدة، نجد نقداً للنقد الفني. حيث إن النقد الفني للوحة -الذي اقتبسه من فريدبرغ وفاساري- ليس حقيقة صلبة غير قابلة للنقاش. ومن هنا يأتي آشْبيري بقراءته الخاصة وتأملاته في اللوحة، مُضمِراً هدفه الذي هو استعارة مظهر الحقيقة الموضوعية ومنحه تأويلاً شخصياً يعود للفرد(4)، حيث أن بارميجيانينو: «هيّأ نفسه لينسخ كل ما رآه في المرآة بفن عظيم/… اختارت المرآة أن تعكس فقط ما يرآه هو».
يُفهم التعبير الشفهي في سياقاته الأدبية المعاصرة على أنه يقابل «الفن التجريدي» في الرسم، وأهم ممثلي الفن التجريدي جاكسون بولوك وبابلو بيكاسو، وكانت الخمسينات من القرن الماضي، في نيويورك مسرح ظهوره. يعرف الفن التجريدي بأنه استخدام متعمد لعناصر تحريفية في موضوع اللوحة لخلق تأثير انفعالي معين. وهنا يكمن اختلافه عن الفن النمطي في مرحلة عصر النهضة؛ في غايته، وفي تجسداته السريالية. وبلغة أبسط، التعبير الشفهي هو ما يكتب أدبياً بلغة تقترب من المحكي في حواراتنا اليومية بانقطاعاتها وشطحاتها وفراغاتها التعبيرية، بينما المعنى المقصود إيصاله يجد طريقه للآخر. وليست الغاية إيصال حقيقة تقريرية، بمفهومها الأفقي التقليدي، في جدل منطقي للأفكار. إنما إيصال حقيقة انفعالية تنسب إلى اللحظة والتجربة العاطفية(5): «نقيّ ذاك الذي لا يؤكد شيئاً». وفي قصيدة «بورتريه شخصي..» يناقش آشْبيري بحذق لوحة بارميجيانينو، مقدماً لمحة عن العواطف والانفعالات التي تشي بها اللوحة، طارحاً التعبيرية الشفهية كمقابل للتجربة البصرية عند مشاهدة اللوحة. وهو بهذا يتجاوز الوصف الصرف للوحة، ذاهباً إلى تحديد الاحتمالات والإمكانيات التي تقدمها الأساليب التعبيرية الشفهية والبصرية(6).
وفي مقاربته للتجريد الفني، ولخلق انحراف تجريدي وكسر في انسيابية القصيدة، نجده يأخْذُ اقتباسات طويلة من النقد الفني -التي تعتبر عادة بعيدة كلية عن الشعرية من الناحية اللغوية- يلحمها بشكل مدهش وبسهولة تامة في قماشة قصيدته(7). هناك أيضاً اقتباسات من النقد الموسيقي (شخصيات هوفمان) ومن المسرح الشكسبيري: (إيموجين في مسرحية سيمبيلاين). وفي محاذاة هذه الاقتباسات، يُدخل بعض الكلمات الأجنبية مطبوعة بشكل منحرف، مثل (speclum)، و (bizarria)، و (le temps)، و (en permanence). هذه كلمات تُعرف بأنها غريبة عن اللغة الانجليزية! وهناك مجموعة أخرى من الكلمات يضعها آشْبيري بين مزدوجين للدلالة على الاقتباس، وهي ليست غريبة، إنما كلمات وعبارات متداولة ومعروفة في الانجليزية. هاتان المجموعتان تمثلان النقيض لغويا: الغريب ونقيضه المستعمل والمتداول. نلاحظ هنا أن آشْبيري لا يدخل المفردات الأجنبية كتعابير جديدة، ولا يحاول تأهيل المفردات والتعابير المتداولة ليصل بها إلى الشعرية، إنما يستعملها كما هي في أصلها، وذلك لتفعيل الانحراف وتفكيك الانسيابية في سياق القصيدة(8)!
«بورتريه شخصي في مرآة محدبة» عمل يستقصي فيه الشاعر فعله الإبداعي في تأليف الشعر. وتعرف هذه العملية بالانعكاس الذاتي. فالقصيدة هي انعكاس لذاتها، حيث يناقش الشاعر، مراراً وتكراراً، عبر مراحل القصيدة، ليس الإبداع الفني فحسب، إنما إبداعه الشخصي في تأليف هذه القصيدة. عملية خلاّقة استخدم فيها تكتيكات أسلوبية مُختلفة، كالمونولوج، والاقتباسات الطويلة، واللغة العامية. أساليب لغوية وفنية جديدة، استقاها من معرفته العميقة بالرسم والموسيقى والتجريد الفني، وغرسها في شعره. وما يلفت الانتباه هو أن اللوحة والقصيدة، كلاهما تجسيد لانعكاس الذات. بينما بارميجيانينو يُبهر في لوحته عبر المبالغة التصويرية – وقليل من الـتأمّل من قبل القارئ في اللوحة، يُمَكّنه من تلمّس نرجسية الذات عبر هذه المبالغة التصويرية – فان آشْبيري يشدنا عبر عرض واستقصاء لأسلوبه في قطعته الشعرية. وبحسب النقاد، لم يتمكن أحد لأن يصل إلى إعادة صياغة التأثير الجمالي لمرآتين مزدوجتين كما فعل آشْبيري: الإرباك المُحيّر للأعماق المخادعة، والإحساس المتناقض في الشَرَك المكون من نطاقات غير محدودة، أو الطريقة التي تُقدِّم بها وجهات النظر المختلفة موضوعًا(9).
عزيزي القارئ؛ نقدم هنا ترجمة مُغايرة، وتجربة مختلفة للمتلقي العربي. وما تعدد الترجمات إلا دليلاً على أهمية العمل وإثراء له. ونشير إلى أن هذه القصيدة قد تُرْجمت سابقا، في كتاب «جون آشبري: صورة ذاتية في مرآة محدبة وقصائد أخرى»، لغسان الخنيزي، الصادر عن سلسلة روايات، الشارقة، الامارات 2019.
قصيدة «بورتريه شخصي في مرآة مُحدّبة»
كما أنجزها بارميجيانينو، اليد اليمنى أكبر
من الرأس، تدفع الناظر ثم انحراف سهل
للبعيد، كما لو أنها تَحْمي ما تُعْلن عنه.
بعض الألواح الزجاجية المُرصَّصة، عوارض
قديمة، فِراء، موسْلين مَطْوي، خاتم مُرجان،
تلتقي معاً في حَركة تَسْنُدُ الوجه، الذي يسبح
مقترباً ومُبتعداً مثل اليد ما عدا أنه
في استرخاء. هو ما هو معزول.
يقول فاساري(10): «ذات يوم هيّأ فرانسيسكو نفسه
ليرسم بورتريهاً لشخصه، ناظراً إلى نفسه لتلك الغاية
في مرآة محدبة، مثل التي يستخدمها الحلّاقون…
لذلك صنع كرة من خشب عند عامل خراطة،
مقسومة إلى نصفين، وجعلها في حجم مرآة،
هيّأ نفسه لينسخ كل ما رآه في المرآة بفن عظيم».
بالأخصّ انعكاسه، حيث البورتريه هو الانعكاس،
حيث البورتريه هو الانعكاس وقد أزيل.
اختارت المرآة أن تعكس فقط ما يراه هو
والذي كان كافياً لغايته: صورته
مصقولةً، مُحنّطة، مُسْقطةً بزاوية 180 درجة.
الوقت من اليوم أو كثافة الضوء
المُتشبّث بالوجه تبقيه حيّاً، وكاملا،
في موجة تُعاود الوصول. الروح تُقِيمُ ذاتَها.
لكن إلى أي مدى تستطيع السباحة بعيداً خلال العيون
ومع ذلك تعود بأمان إلى عشّها؟ سطح المرآة
كونه محدبا، تزداد المسافة بشكل بَيِّن؛
هذا يكفي لبيان وجهة النظر بأنّ الروح
أسيرة، تُعامل بإنسانية، موضوعةً
في حالة مُعلّقة، غير قادرة على الابتعاد أكثر
من نظرتك وهي تتقاطع مع الصورة.
حسب فاساري؛ البابا كليمنت وحاشيته «بُهروا»
بها. ووعدوا بأعطية لم تُدفع أبدا.
على الروح أن تبقى حيث هي، وإن كانت قلقة،
مُصغيةً إلى قطرات المطر فوق المِزْراب،
تَنهُّدُ أوراقِ الخريفِ مجلودةً بالريح.
توّاقةً للحرية في الخارج، لكنها يجب أن تبقى
مُسْتوضِعةً في هذا المكان. يجب أن تتحرك
بأقلّ قدر ممكن. هذا ما يقوله البورتريه.
لكنْ هناك مزيجٌ في تلك النظرة
من الرقّة، واللهو، والحسرة، قويةٌ جداً
في رَدْعِها فلا يستطيع المرء أن يُعاين طويلا.
السَرّ بيّن جدا. حنان ذكائها، يجعل الدموع
الساخنة تتدفق: أنّ الروح ليست روحاً،
دون سِرّ، ضئيلة، وتلائم تجويفها
على أكمل وجه: حُجرتَها، لحظةَ انتباهنا.
j h j
هذا هو اللحْن إنما لا كلمات.
الكلمات ليست غيرتخمين،
(من speclum باللاتينية، مرآة)(11):
الكلمات تسْعى ولا يمكنها العثور على معنى الموسيقى.
نشاهد فقط وضْعيّات الحُلم،
راكبو حركةٍ تُأرْجحُ الوجه،
في مَنْظرٍ تحت سماوات المساء، بلا
فوضى خادعة كدليل على الأصالة.
لكنها حياة مُبْتَلعة.
يودّ المرء أن يُبرز يده
خارج الكرة، لكنّ ما يحملها
هي أبعادها، التي لن تسْمح بذلك.
لا شكّ أن هذا هو، وليس الانعكاس
لإخفاء شيء ما، الذي يجعل اليد تبدو كبيرة
وهي تتراجع قليلا. لا توجد طريقة
لتشكيلها مُسطّحة مثل جزء من جدار:
يجب أن تنضمّ إلى مقطع من دائرة،
تَجُولُ عائدة إلى الجسد الذي على ما يبدو
من المستبعد جداً أن تكون جزءً منه، تُحيط
وتسند الوجه حيث جهد هذه الحالة يُقْرأ
كمثل غمّازة ابتسامة، ومْضة
أو نجمة غير مُتَيقَّن مِن أن المرء قد رآها
مع استئناف الظلام. ضوء جانح
رقّة هلاكه حتمية تستبق زهْو اشتعاله:
غير مهم لكنه مقصود.
فرانسيسكو، يدك كبيرة بما يكفي
لتُحطّم الإطار، أكبر كثيراً
من تَصوّر المرأ لتَنْسُج شبكات رقيقة
تجادل فقط مزيداً من اعتقالها.
(كبيرة، إنما ليست غليظة، مُجرّد مقياس آخر،
مثل حوت غافٍ في قاع البحر
نِسْبة إلى سفينة فوق السطح، بالغة الصغر
مُعجبة بنفسها) لكن عيونك تعلن
أن كلَّ شيء هو سطح. السطح هو ما هو هناك
ولا شيء يمكن أن يوجد إلا ما هو هناك.
لا توجد فُرَضٌ في الغرفة، فقط تجاويف،
ولا أهمية كبيرة للنافذة، أو شِقّة النافذة تلك،
أو المرآة على اليمين، حتى كمعيار للطقس،
الذي هو le temps بالفرنسية(12)، مفردة الزمن،
والتي تَتْبع دورة حيث التبدّلات مَحْض خصائص للكل.
الكل مستقرّ في اللاقرار، أرض كأرضنا، تستريح
على قاعدة الفراغ، كرة طاولة حصينة في مائها الفوّار.
ومثلما لا توجد كلمات للسطح، هذا هو،
لا كلمات لتقول حقّاً ما هو، ذلك هو ليس بالسطحي
لكن جوهر مرئي، ثم لا سبيل للخروج من مشكلة التفخيم
الدرامي للحزن مقابل الخبرة.
سوف تبقى، متململا، هادئاً في إيماءتك
التي ليست تحديقاً ولا تحذيراً
لكنها التي تحمل شيئاً من الاثنين
في تأكيد نقيّ ذاك الذي لا يؤكد شيئاً.
j h j
يتفرقع البالون. يتبلّد الانتباه
متحولاً إلى البعيد. سُحب في البُريْكة
الموحلة تتحرك في قِطَع مُسنّنة.
أفكر في الأصدقاء
الذين جاءوا لرؤيتي، وفي الأمس
ماذا كان يشبه. ميل غريب للذاكرة
التي تتطفّل على موديل يحلم
في سكون الأستوديو وهو يقرر
رَفْع قلم الرصاص نحو البورتريه الشخصي.
كم من الناس جاءوا ومكثوا لبعض الوقت،
قول خفيف أو أحاديث سوداوية، التي صارت جزءً
منك مثل ضوء خلف ضباب ورمال تذروها الرياح،
مُصفّى ومُتأثَّرٌ به، حتى لا جزء يبقى حقّاً أنت.
تلك الأصوات أخبرتك كل شيء في الغسق
وما زالت الحكاية تمضي على شكل ذكريات
مترسّبة في كتلِ كريستال غير منتظمة.
بمن تتحكّم اليد المعقوفة، فرانسيسكو،
المواسم المتقلّبة والأفكار التي تنسلخ
وتطير بعيداً في سرعات لاهثة
مثل الأوراق الأخيرة العنيدة المقلوعة
من فروع رطبة؟ أرى فقط في هذا
فوضى مرآتك المقوسة التي تنظّم كل شيء
حول ما تنظر إليه عينيك التي هي فارغة،
لا تعرف شيئاً، تحلم لكنها لا تكشف شيئاً.
أشعر بدولاب خَيْل الملاهي الدوّار يبدأ في بطء
ثم يتسارع أكثر فأكثر: مِنْضدة، أوراق، كتب،
صور الأصدقاء، النافذة والأشجار
تندمج في رابط واحد مُحايد يحيط
بي من كل صوْب، أينما نظرت.
ولا أستطيع شرح فعل التوازن،
لماذا يجب أن تُختزل كلها إلى مادّة
واحدة مُتّسقة، صهارة الباطن.
دليلي هو نَفْسك في هذه الأمور،
راسخ، منحرف، قابل لكل شيء
بذات طيف الابتسامة، ومع تسارع الزمن
حتى يكون عاجلاً في وقت لاحق أكثر من ذلك
بكثير، يمكنني فقط معرفة الطريق المباشر للخروج،
المسافة بيننا.
منذ زمن بعيد والأدلة المنثورة كانت تعني شيئاً،
الحوادث الصغيرة وملذات اليوم وهو يمضي بوقاحة،
ربّة بيت تقوم بالأعمال المنزلية. من المستحيل الآن
استعادة هذه الميزات في ضباب الفضة
الذي هو سجلّ ما أنجزْتَه وأنت جالس
«تنسخ بفن عظيم كل ما رأيتَه في الزجاج»
حتى تُبدع مُستبعداً الدخائل للأبد.
في دائرة نواياك تبقى نِزاعات معينة
التي تُديم فتنة النفس بالنفس:
أشِعّة عين، موسْلين، مرجان. لا تهم
لأن هذه هي الأشياء كما هي اليوم
قبل أن يكبر ظل المرء خارج الإطار
نحو أفكار الغد.
j h j
الغد سهل، لكن اليوم مجهول،
موحش، متردّد مثل أي منظر ريفي
يُسْفرعن ماهية قوانين الرسم المنظوري.
بعد كل شيء، عدم ثقة الرسّام العميقة،
أداة ضعيفة وإنْ لازمة.
بالطبع بعض الأشياء ممكنة، إنها تعرف،
لكنها لا تعرف أي واحدة منهن.
في يوم من الأيام سنحاول القيام بأكبر قدر
ممكن من الأشياء وربما سننجح في بعضها،
لكن هذا لن يكون له أي شيء
في فعل ما هو موعود به اليوم، مناظرنا
الريفية تُجرف بعيداً عنا لتختفي
في الأفق. اليومُ كافٍ لتلميع الغلاف
مُحافظين على مزاعم الوعود معاً
في قطعة واحدة من سطح، تاركة المرء يتسكع
-بعيداً عنهنّ- إلى البيت حيث يمكن
حتى لهذه الاحتمالات الأقوى
أن تبقى كاملة دون اختبار. في الواقع،
جلد حُجرة الفقّاعة في قساوة بيض الزواحف؛
كلّ شيء يصبح «مُبرمَجاً» هناك في الوقت المناسب:
المزيد من المخزون يصبح مُدْرجاً
دون أن يُضاف إلى المجموع،
وفقط كما يعتاد المرء
على الضوضاء التي أبقته مستيقظاً
لكنها الآن لم تعد تفعل ذلك،
لذا تحتوي الغرفة على هذا الانسياب
مثل ساعة رملية
دون اختلاف في المناخ
أو الجودة (ربما باستثناء سطوع
قاتم ومخفي تقريبا، في تركيز مُسنّن
نحو الموت – مزيد
من هذا لاحقا). ما ينبغي أن
يكون تفريغاً للحلم
يصير على الدوام زاخراً كمصدر للأحلام
يتم طرْقه حيث هذا الحلم الواحد
ربما يُلمَّع بالشمع، يزدهر
مثل وردة كُرُنْب،
متحدياً قوانين تحديد النفقات، يغادرنا
للاستيقاظ ومحاولة البدأ في العيش في ما
صار الآن حيّاً فقيرا. قال سيدني فريدبرغ(13)
في كتابه عن بارميجيانينو:
«الواقعية في هذا البورتريه لم تعد تنتج
حقيقة موضوعية، إنما (bizarria) (14) ..
مع ذلك فإن تشويهها لا يخلق
شعوراً بالنشاز… تحتفظ الأشكال
بمعيار قوي من الجمال المثالي»، لأن
أحلامنا كانت تُغذّيها، وذلك غير منطقي
حتى اليوم الذي نلاحظ الحفرة
التي تركتها. جليّةٌ أهميتها الآن
إن لم يكن معناها. لقد كانت قُوتَ حلمٍ
يشملها جميعا، بينما تنْعكس أخيراً في المرآة المتراكمة.
كانت تبدو غريبة لأننا لم نتمكن
من رؤيتها حقّاً.
وندرك هذا فقط عند النقطة التي تنتهي فيها
مثل موجة تنكسر على صخرة، تاركة
شكلها في إيماءة تُعبّر عن ذلك الشكل.
تحتفظ الأشكال بمعيار قوي
من الجمال المثالي
بينما تعْلِفُ سِرّاً من فكرتنا عن التشويه.
لماذا تكون غير سعيد بهذا النَسَق، بما أن
الأحلام تُطيلنا إذْ يتم امتصاصها؟
شيء مثل الحياة يحدث، حركة
خارج الحلم إلى حيث تَقْنينها.
j h j
إذْ أبدأ في نسيانها
تعرض صورتها النمطية من جديد
لكنها نمطية غير مألوفة، الوجه يَطْفو
مُثبّتاً بمرساة، صادراً عن أخطار،
قريباً سيُفاتح
آخرين، «بالأحرى ملاك أكثر منه إنسان» (فاساري).
ربما ملاك يبدو أشبه بكل شيء
كنّا قد نسيناه، أقصد أشياءً منسية
لا تبدو مألوفة عندما نلتقيها مرة أخرى،
ضاعتْ في ما وراء الحكاية، الأشياء
التي كانت لنا ذات مرة. هذه ستكون النقطة
التي نغزو فيها خصوصية هذا الرجل الذي
«تبلّل بالخيمياء، لكن لم تكن
رغبته هنا فحْصٌ مُفصّل لأجزاء
الفن بروح علمية: رغِب من خلالها
نقْل الإحساس بالإبداع والدهشة إلى الناظر»(فريدبرغ).
البورتريهات اللاحقة كالتي في يوفيزي(15) «جنتلمان»،
والتي في بورجيس(16) «الأسقف الشاب»(17)
والتي في نابْلِسْ(18) «أنْتيا»(19)، صدرت عن التوتر
العائد للمدرسة النمطية(20)، لكنْ هنا المفاجأة،
كما أشار إليها فريدبرغ،
أن التوتر يقع في المبدأ
وليس في تجسيدها.
انسجام عصر النهضة العُليا حاضر،
وإن حُرّف بالمرآة.
ما هو مبتكر هو العناية القصوى
في استخلاص
الإرادة الباردة للسطح الدائري العاكس
(إنه أول بورتريه من مرآة)،
بحيث يمكنك أن تنخدع للحظة
قبل أن تدرك أن الانعكاس ليس لك.
تشعر بعدها كأنك أحد شخصيات هوفمان(21)
الذين كانوا قد جُرّدوا من الانعكاس،
ما عدا أني بكُلّيتي أبدو مخلوعاً بالآخَرَية
الصارمة التي للرسّام في غرفته الأخرى.
لقد فاجأناه في العمل. لكن لا، لقد فاجأَنا
بينما هو يعمل. اكتملتْ الصورة تقريبا،
انتهت المفاجأة تقريبا، كما هو الحال عندما ينظر
المرء إلى الخارج، مذهولاً بتساقط الثلج الذي ينتهي
حتى الآن في بُقع وبريق ثلج.
يحدث هذا بينما أنت في الداخل، نائما،
وليس هناك سبب لماذا يجب أن تكون
مستيقظاً لذلك، ما عدا أن النهار
ينتهي وسيكون من الصعب عليك
النوم هذه الليلة، أقلّها حتى وقت متأخر.
ظل المدينة يَضُخّ ضرورته الذاتية:
روما حيث كان فرانسيسكو
يعمل أثناء التَسْريح: ابتكاراته
أدهشتْ الجنود الذين انفجروا فيه،
قرروا الإبقاء على حياته، لكنه رحل سريعاً
بعد ذلك؛ فيينا(22) حيث اللوحة هي اليوم، حيث
رأيتها مع بيير صيف 1959، نيويورك
حيث أنا الآن، التي هي لوغارثْم
لمدن أخرى. مناظرنا الريفية(23)
زاخرة بأواصر القربى، التنقّلات؛
تُنجَز الأعمال من خلال نظرة، لَفْتة،
إشاعة. إنها حياة أخرى للمدينة،
دعامة الزجاج العاكس للمجهول
إنما بدقّة مُسَوَّدة تخطيطية لمَرْسم.
إنها تريد أن تشفط بالسيفون حياة المرْسم،
تشفطه إلى تشريعات تُقلّص فضاءه المُخطط،
تعزله في جزيرة.
تلك العملية توقفت مؤقتاً
لكن شيئاً جديداً في الطريق، حذلقة جديدة
في الريح. هل تَقْدر على تحمّلها، فرانسيسكو؟
هل أنت قوي كفايةً لها؟
هذه الريح تجلب ما تجهله، إنها
ذاتية الدفع، عمياء، لا فكرة لها
عن ذاتها. إنه السكون الذي اعترف
ذات مرّة بعصارات كل نشاط، سِرّ، شائع:
همسات الكلمة التي لا يمكن فهمها
لكن يمكن الشعور بها، قشعريرة، لَفْحة
تتحرك للخارج بمحاذاة رؤوسٍ بحرية وأشباه
جُزرِ أعصابكَ وبالتالي إلى الأرخبيلات
وإلى المغمور، السِرِّ المفتوح على الهواء، للبحر المفتوح.
هذا جانبها السلبي. جانبها الإيجابي
يجعلكَ تلاحظ الحياة والتوترات
التي تَراءتْ فَحسْب أنها ذاهبة بعيداً، لكن الآن،
كما يُنظر إلى نسق الأسئلة الجديد هذا، ليكون
تسريعاً خارج الأسلوب. إذا أرَدْن أن يُصبحنَ كلاسيكيات
يجب أن يقررن على أي جانب هُن(24).
قد قَوّض تكتّمهن المشهد الحضري، جعل غموضه
يبدو مُتعمّداً ومُتعَباً، ألعاب رجل عجوز.
ما نحتاجه الآن هو هذا المُتحدّي
غير المُحتمل يطرق على بوابات قلعة
مدهشة. حُجّتكَ، فرانسيسكو،
قد بدأت تنمو مُبْتذَلةً عندما لا إجابة
أو أن الإجابات كانت قادمة. إذا ذابت الآن
في غُبار، هذا يعني فقط أن وقتها قد أزِف
منذ بعض الوقت، لكن انظر الآن، واسمع:
قد تكون حياة أخرى مُخزَّنة هناك
في استراحة لم يكن أحد على علم بها؛ تلك هي،
ليس نحن، هو التغيير؛ ذلك في الواقع أنّنا
كما لو كان في مَقْدورنا العودة إليها؛ أن نعيش ثانية
بعض ما كانت عليه، أن نعطف وجوهنا
نحو الأرض كما سُوّيتْ ولم تزل تظهر
على أنها على ما يرام:
الأعصاب عادية، التنفس طبيعي. بما أنها استعارة
خُلقتْ لتشملنا، نحن جزء منها
وبمقدورنا أن نعيش فيها كما كُنّا في الواقع قد فَعلْنا،
أن نترك فقط عقولنا عارية للاستجواب
حينها نرى أننا لن نتموضع بشكل عشوائي
بل بطريقة منظمة لا تقصد تهديداً
لأحد – الطريقة العادية لفعل الأشياء،
مثل النمو المركّز للأيام
حول حياة، بشكل صحيح، إذا ما فكرت في ذلك.
j h j
مثل قَلْب صفحةٍ نسيمٌ يُعيد وجهك: اللحظة
تأخذ قضمة كبيرة كهذه من ضباب حدْس
لَطيفٍ يأتي لاحقا.
العزل في مكان هو «موت بذاته»،
كما قال بيرج(25) عن سيمفونية مالر(26) التاسعة؛
أو، أن تقتبس من إيموجين في مسرحية سيمبيلاين(27) :
«ليس هناك من قبضة للموت أشدّ حِدّة من هذه»، لأنه،
ولو أنه تدريبٌ أو تكتيك، فإنه يحمل
زَخَم الإقناع الذي كان في تَشَكّل.
النسيان الخالص لا يقدر على إزالته
ولا التمني يُعيده، طالما بقيَ
الترسّب الأبيض لحلْمِه
في مناخ التنهدات الملقاة عبر عالمنا،
قُماشة فوق قفص عصافير. لكن من المؤكد
أن ما هو جميل يبدو جميلاً فقط لأنه
في علاقة بحياة معينة، مُجرّبة أم لا،
مُوجّهةٍ إلى شكلٍ ما
منقوعٍ في حنين ماضٍ جماعي.
يغطسُ الضوءُ اليومَ بحماسٍ قد عرفته
في مكان آخر، ومعروف لماذا بدا
أنه ذا معنى، أن الآخرين شعروا بهذه الطريقة
سنين مضت. أذهب لاستشارة هذه المرآة
التي لم تعد ملكي لأجل أكبر قدر من الفراغ
النشيط كأنها تكون من نصيبي هذه المرّة.
المزهرية ممتلئة دائماً
لأنه لا يوجد سوى الكثير من المُتّسع
وتسْتوعب كل شيء. العيّنة التي يراها المرء
لا ينبغي أن تُأخذ فقط مجردة هكذا
-لكن ككل شيء يمكن أن يُتَخيّل خارج الزمن-
ليس كإيماءة، إنما ككل، في حالة مُنقّاة ومُغذِّية.
لكن ما هو هذا الكون سقيفتنا
الذي ينحرف للداخل والخارج، إلى الخلف
وإلى الأمام، رافضاً أن يُحيط بنا وما زال
الشيء الوحيد الذي يمكن أن نراه؟ الذين نحبهم
رَجّحوا الميزان لكنهم الآن مُظلّلون، غير مرئيين،
على الرغم من حضورهم الغامض، في مكان ما.
لكننا نعلم أنه لا يمكن حشره بين لحظتين مُتلاصقتين،
هذه تعاريجه تؤدي إلى لا مكان سوى إلى مزيد من الروافد
وأن هذا يُفرغ ذواتهم إلى إحساس مُبهم
لا يمكن أبداً معرفته على الرغم من أنه يبدو
تقريباً أن كل واحد منا يعرف ما هو، وقادر
على توصيله للآخر. لكن النظرة
التي يرتديها البعض كعلامة تجعل المرء يرغب
في الدفع إلى الأمام مُتجاهلاً السذاجة
الظاهرة للمحاولة، غير آبهٍ بأن لا أحد
يُصغي، منذ أن أُضيء
النور مرة في عيونهم وإلى الأبد
وهو بَيّن، سليم، مُنحرفٌ أبداً،
يَقِظٌ وصامت. لا يبدو أن هناك،
على السطح منه، سبباً استثنائياً لماذا يجب
على ذلك الضوء أن يكون مُركّزاً بالحب، أو لماذا
تنهار المدينة بضواحيها الجميلة
إلى فضاء أقلَّ وضوحاً دائما، أقلَّ تحديداً،
يجب قراءته على أنه الدعامة لتقدّمها،
الحامل الذي تكشّفتْ عليه الدراما
على تشبّعها الذاتي وعلى نهاية
أحلامنا، كأنما لم نتخيل أبداً
أنها ستنتهي، في ضوء النهار التالف مع الوعد
المرسوم يبرز كضمان، كقَيْد.
هذا الغير موصوف، النهار غير المُحدّد أبداً
هو سِرّ المكان الذي يحدث فيه
ونحن لم يعَدْ بإمكاننا العودة إلى مُختلف
الأقوال المتضَاربة مُجْمَلةً، إلى انتكاسة الذاكرة
للشهود الرئيسيين. كل ما نعرفه
هو أننا بَكّرْنا قليلا، أن اليوم
لديه تلك الاستثنائية، صاقلُ ماسٍ
بروح اللحظة الذي يُعيد إنتاج ضوء الشمس
بإخلاصٍ صابّاً ظلال غُصيْن على الأرصفة
المرحة. ما من يوم سابق كهذا.
اعتدتُ على الاعتقاد أنهم جميعاً كانوا متشابهين،
أن الحاضر في عين الجميع بَدا مُتشابهاً
لكن هذا الارتباك ينصرف بعيداً كامرئ
يُتوّج دائماً فوق حاضر امرئ.
ومع ذلك، فإن المساحة «الشِعرية» بلون القشّ
من الرواق الطويل يؤدي عائداً إلى اللوحة،
نظيرتها المعتمة -هل هذا بعض تلفيق «للفنّ»،
لا يمكن تصوره كحقيقة، ناهيك عن التمَيْز؟
أليس لها هي أيضاً مخبأها
في الحاضر هاربين منه دائماً
وساقطين فيه مرة أخرى، كما ناعُورَة الأيام
تتابع دورتها بشكل هادئ، وحتى مُطْمَئن؟
أظن أنها تحاول أن تقول أنه اليوم
ومع ذلك يجب أن نخرج منه كجمهور
يتدافع حالياً عبر المتحف لأجل أن يكون في الخارج
وقْتَ الإغلاق. لا يمكنك أن تعيش هناك.
الجميع يعلم كيف يهاجِمُ البريقُ الرماديُ للماضي:
أسرار الغسل والتشْطيب التي استغرقت العُمْرَ
للتعلّمِ والتي اختُزلتْ إلى مرتبة رسومات توضيحية
بالأبيض والأسود في كتاب عندما الألواح اللونية
نادرة. هذا هو، كل الزمن يُختزل إلى زمن
غير استثنائي. لا أحد يُلَمّح إلى التغيير؛
وإن فَعَل فلربما يتورط في لفت الانتباه
مما سيعزّز الرعب من عدم الخروج
قبل مشاهدة المجموعة بأكملها
(ما عدا التماثيل في القبو:
إنها في المكان الذي تنتمي إليه).
لقد أصبح زمننا محْجوبا، منقوصاً
لإصرارِ البورتريه على البقاء. إنه يُشير إلى
أماكننا، التي كنا نأمل أن تبقى محجوبة.
لَسْنا في حاجة إلى لوحات أو شِعر ركيك
كتبه شعراء راشدون عندما الانفجار
دقيق جدا، مُتّقن جدا.
هل هناك أي وجهة نظر حتى في الاعتراف
بوجود كل ذلك؟ هل يوجد؟ بالتأكيد أن الترفيه
انغماساً في التسالي الفاخرة غير موجود،
بعد الآن. لا تخوم لليوم، يصِلُ الحَدَث
متدفّقاً مع حوافّه، إنه من ذات المواد،
لا يمكن تَمْيِزُه. «التمثيلية» شيء آخر؛
إنها موجودة، في مجتمع مُنظّمٍ
على وجْه التحديد كاستعراض لِنَفْسه.
لا يوجد طريق آخر، وهؤلاء الضارِطون
الذين سَيُربكون كل شيء بألاعيب مرآتهم
التي يبدو أنها تُضاعف رهاناتها واحتمالاتها،
أو على الأقل يُربكون القضايا عن طريق الاستثمار
في نَسَمةٍ تُآكِل بُنْية عِمارة الكل في ضباب سخرية مكبوتة،
هؤلاء لا صلة لهم بالموضوع. إنهم خارج اللعبة،
التي لا وجود لها حتى يكونوا خارجها.
يبدو أنه كَوْن مُعادٍ جداً
لكن كما هو مبدأ كل شيء فردي
مُعادٍ هو الآخر، يوجد على حساب الآخرين
كما أشار الفلاسفة مرارا، هذا الشيء
على الأقل، الأبكم، الحاضر غير المُقسّم،
لديه حُجّة المنطق، التي في هذه الحالة
ليست بالشيء السيء، أو لن تكون،
إذا كان أسلوب السرْد لم يتدخّل
بطريقة ما حارِفاً النتيجة النهائية
إلى كاريكاتور لنفسه. هذا يحدث دائما،
كما هو الحال في اللعبة حيث العبارات
المهْموسة مرّت في أرجاء الغرفة
تنتهي كشيء آخر تماما.
هذا هو المبدأ الذي يجعل من الأعمال الفنية
على خلاف ما قصد الفنّان. غالباً ما يجد
أنه أسقط الشيء الذي بدأ في قوله
أول الأمر. مُغْوى بالزهور،
ملذّات جليّة، يلوم نفسه (على الرغم
من قناعته في السِرّ بالنتيجة)، مُتخيلاً
أنه كان له في الأمر رأي ومارس
خياراً بالكاد كان يَعِيه،
غير مُدرك أن الضرورة تُراوغ
مثل هذه القرارات، وذلك لخلق
شيء جديد في حدّ ذاته، ولا طريق آخر،
مضى فيه تاريخ الخلق حسب قوانين
صارمة، وأن تلك الأشياء تُنجز
بهذه الطريقة، لكن أبداً ليست الأشياء
التي أعْدَدْنا لتحقيقها ورغبنا باسْتِماتة
في أن نراها تأتي إلى الوجود.
لزوماً كان بارميجيانينو قد أدرك هذا بينما كان يعمل
على مهمته في عرقلة-الحياة. يُجبَر المرء على قراءة
إنجاز مقبول تماما، في سلاسته،
ربما حتى في ابتذاله (إنما مُبْهم جدا) في النهاية.
هل هناك أي شيء يكون جادّاً حول ما وراء
هذا الاختلاف يتمُّ تضمينه في أكثر الأشكال
عاديّةً من النشاطات اليومية،
تغيير كل شيء بشكل طفيف وعميق،
وتمزيق موضوع الإبداع من بين أيدينا،
أي إبداع، ليس فقط الإبداع الفني، لِغَرْزه
في بعض القبح، قريباً من القمّة، بعيداً جدّا
عن إمكانية تجاهله، بعيداً جدّاً عن المرء
ليتدخّل فيه؟ هذا الاختلاف، هذا الذي (ليس-نحن)
كله هناك للنظر إليه في المرآة،
على الرغم من أنه لا يمكن لأحد أن يقول
كيف جاء ليصير على هذا النحو. سفينة
تُطيّر ألواناً مجهولة قد دخلت المرفأ.
أنت تسمح لمواضيع دخيلة تبدّد يومك، سحابةٌ
تركيزُ الكرة البلّورية. مَشاهدها تنجرف بعيداً
مثل بخارٍ انتشر في الريح.
تداعي الأفكار(28) الخصبة التي جاءت بسهولة جداً
حتى الآن، لا تظهر من جديد، أو نادراً ما تظهر.
ألوانها أقلّ حَدّة، مَغْسولة بمطر الخريف والريح،
مُتْلَفة، موحلة، تُعاد إليك لأنها بلا قيمة.
مع ذلك، نحن مخلوقات العادة تلك
التي لم تزل آثارها تحوم
في (28) en permanence،
مواضيع مُرْبكة.
أن تكون جادّاً فيما يخص الجنس فقط
ربما هي طريقة أخرى، لكن الرمال تُهَسْهسُ
بنيما تقترب من بداية الانحدار الكبير
إلى ما قد حدث. هذا الماضي
هو الآن هنا: وجه الرسّام المُنعكس،
الذي نُطيلُ فيه، مُسْتقبلين الأحلام
والإلهام في تردّدات غير مُحدّدة،
لكن الأشكال تحولت إلى معدن،
الانحناءات والحوافّ ليست غنية بما فيه الكفاية.
لكل فرد نظرية واحدة كبيرة لتفسيرالكون
لكنها لا تقول كل الحكاية
وفي النهاية ما هو خارج الفرد
هو ما يهم، لشخصه وبالخصوص لنا
الذين لم يُقدّم لهم أي عون أياً كان
لفكّ شفْرة حصّتنا بحجم-إنسان
ويجب علينا الاعتماد على معْرفة مُستعملة.
مع ذلك أعلم أن لا ذائقة شخص آخر ستُقدّم
أي عون، ويمكن أيضاً تجاهلها.
وبمجرّد أن تبدو اللوحة مثالية جدا:
– لمعانٌ على البشرة الرفيعة المُنَمّشة،
تَرَطُّبُ الشفاه كما لو كانت على وشْك الإنفراج
لإطلاق خطاب، والمنظر المألوف
للملابس والأثاث الذي ينساه المرء.
هذه كانت من الممكن أن تكون جنّتنا: ملاذ
غريب في عالم مُسْتنفد، لكن هذا لم يكن
في أوراق اللعب، لأنها لم تَقْدر لأن تكون
الغاية. قد يكون التقليد الأخرق لتلقائية طبيعية
هو الخطوة الأولى نحو تحقيق السكون الداخلي
لكنها الخطوة الأولى فحسب، وغالباً
تبقى إشارة مُجمّدة من ترحيب محفور
في الهواء، مُجَسِّداً وراءه، معاهدة.
وفي الحقيقة ليس لدينا وقت لهذا، باستثناء
استخدامها للإشعال. كلما تم إحراقها بسرعة
كلما كان ذلك أفضل للأدوار التي يجب أن نلعبها.
لذلك أستجديك، إسحبْ تلك اليد،
لا تقدّمْها بعد الآن كدرع أو تحية،
درع التحية، يا فرانسيسكو:
هناك مكان لرصاصة واحدة في الغرفة،
نظرتنا من خلال النهاية الخاطئة
من التلسكوب كما تسقط للخلف بسرعة
أكبر من تلك التي للضوء ليُطْفَأ أخيراً
بين معالم الغرفة، دعوة لم تُبْرَق أبدا،
مُتلازمة «كان كُلّه حلما»، على الرغم
من أن «كُلّ» تُخبر باقتضاب كاف
كيف أنه لم يكن. وجوده كان حقيقياً،
على الرغم من اضطرابه، والألم
من هذا الحلم اليقظ لا يستطيع أبداً أن يُغرق
الرسم الذي لا زال يُخَطّط في الريح،
مُخْتارا، مُراداً لي ومُتَجسّدا
في الألق المُتَستّر لغرفتي.
لقد شاهدنا المدينة؛ إنها الحدباء
عين حشرة معكوسة. كل الأشياء تحدث
فوق شرفتها وتُستعاد داخلها،
لكن الحدث هو البرد. انسياب غليظ
للموكب الفخم. يشعر المرء بأنه محاصر تماما،
يُمحص ضوء شمس إبريل لأجل دلالات
داخل ثبات صِرْف في يُسْر معياره.
اليد لا تحمل طبشورا
وكل جزء من الكل ينهار
ولا تعرف أنها تعرف، باستثناء
هنا وهناك، في برد جيوب
الذكرى، تهمس خارج الزمن.
المراجع والهوامش:
1. بورتريه شخصي في مرآة محدبة: مقدمة. شعر للطلبة. إنسايكلوبيديا. كوم (Encyclopedia.com).
https://www.encyclopedia.com/arts/educational-magazines/self-portrait-convex-mirror
2. وليم إلفورد روجرز (William Elford Rogers). تأويل التأويل: نصية التأويل باعتباره انضباطاً تقشفياً. الفصل الثاني: البئر والمرآة، صفحة 77. مطبعة ولاية جامعة بنسلفانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، 1994.
3. هارولد بلوم (Harold Bloom) وآخرون. بحوث شاملة ودليل دراسي: جون أشْبيري. بيت تشلسي للناشرين. 2004؛ الولايات الأمريكية المتحدة. الصفحة 60-65.
4. بورتريه شخصي في مرآة محدبة: التعبيرية. شعر للطلبة. إنسايكلوبيديا. كوم (Encyclopedia.com).
5. وليم إلفورد روجرز (William Elford Rogers). تأويل التأويل: نصية التأويل باعتباره انضباطاً تقشفياً. الفصل الثاني: البئر والمرآة، صفحة 76. مطبعة ولاية جامعة بنسلفانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، 1994.
6. جيورجيو فاساري (Giorgio Vasari: 1511-1574): رسام إيطالي ومهندس معماري معروف بكتاباته الشهيرة لسيرة الفنانين الإيطاليين.
7. speclum: جاءت هكذا في نص القصيدة الأصلي، حيث يترجمها أشْبيري: «من speclum باللاتينية، مرآة».
8. le temps بالفرنسية وتعني الزمن. سيلاحظ القارئ أن أشبيري يورد عدداً من الكلمات الغريبة -غير إنجليزية- في متن قصيدته مطبوعة بشكل منحرف، وذلك ليستدعي الانتباه إليها. ونعتقد أنه يستخدم هذا التكتيك ليخلق انحرافاً وكسراً في انسيابية الفقرة الشعرية في مقاربة للتجريد الفني (المترجم).
9. سيدني فريدبرغ (Sydney Freedberg: 1914-1997): مؤرخ وناقد فني تخصص في الأعمال الفنية التي تعود لعصر النهضة الإيطالية.
10. Bizarria هكذا جاءت في القصيدة الأصل بالبرتغالية وتعني غرابة.
11. Uffizi: صالة عرض يوفيزي في فلورنسا، إيطاليا.
12. Borghese صالة عرض للفنون في روما، إيطاليا.
13. الأسقف الشاب: Young Prelate.
14. نابْلِسْ (Naples): مدينة نابلس الإيطالية، وتضم عدداً من المتاحف التي تحتوي على أعمال فنية شهيرة.
15. أنْتيا:Antea
16. الفن النمطي/التصنعي (Mannerism)، مدرسة فنية ظهرت في عصر النهضة الإيطالية المتأخرة.
17. شخصيات هوفمان (Hoffmann characters): «حكايات هوفمان» أوبرا فنتازية ألفها جاكويس أوفنباخ (Jacques Offenbach) وهي مستلهمة من قصص قصيرة للألماني (E. T. A. Hoffmann). وحولت إلى فيلم في 1951.
18. مدينة فيينا عاصمة النمسا ((Vienna.
19. يشير أشْبيري هنا إلى الحياة الريفية في حميميتها ويُسرها وبساطتها، حيث تكون: «زاخرة بأواصر القربى، التنقّلات / تُنجَز الأعمال من خلال نظرة، لَفْتة / إشاعة» (المترجم).
20. يشير أشْبيري في هذا المقطع إلى الكلمات/الأدب، وإذا ما كانت ترغب في أن تكون ذات مرجعية أدبية (كلاسيكيات)، عليها أن تختار أحد نوعين من الكتابة، يُفَصِّلهما كالآتي، أولا: «همسات الكلمة التي لا يمكن فهمها / لكن يمكن الشعور بها، قشعريرة، لَفْحة / تتحرك…»، ثانيا: «يجعلكَ تلاحظ الحياة والتوترات / التي تَراءتْ فَحسْب أنها ذاهبة بعيداً» (المترجم).
21. بيرج: (Alban Berg: 1885-1935): مؤلف موسيقي أسترالي.
22. غوستاف مالِر (Gustav Mahler: 1860-1911) : مؤلف موسيقي وقائد أوركسترا نمساوي.
23. إيموجين (Imogen) ابنة الملك سيمبيلاين في مسرحية شكسبير «Cymbeline».
24. هنا إشارة إلى المدرسة السريالية (المترجم).
25. كتبت في القصيدة الأصل بالفرنسية: en permanence وتعني استمرارية.