محمد سليم شوشة
لم يصادف إعلان فوز الكاتب النرويجي جون فوسه المولود في 1959 بجائزة نوبل في الأدب استغرابا أو تعجبا على نحو ما كان يحدث أحيانا في مرات سابقة من إعلان الجائزة، فهو كاتب متنوع وغزير الإنتاج ويكتب في أشكال عديدة بين المسرح والشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالات النقدية أو الفكرية حول الفن والأدب وتصوراته حولها. وأعماله تم ترجمتها إلى ما يقرب من خمسين لغة وأعماله المسرحية حظيت بالعديد من العروض والنجاح، كما أنه حقق عددا من الجوائز السابقة في النرويج ووصل إلى القائمة القصيرة في جائزة الـ(مان بوكر) العالمية في الرواية، وحظي بجوائز النقاد في أكثر من مناسبة وأكثر من عمل. ولكن كيف يمكن أن نتعرف على إبداعه لدينا أو نستقبله في الثقافة العربية وكيف يمكن أن نتصور خصائص إبداعه وما يمثل اختلافا جوهريا ومصدرا للخصوصية لديه؟ أتصور أن هذا ما يمكن أن يشغلنا أو يهمنا في محاولات التعرف على أي إبداع عالمي جديد بشكل عام أو الإبداع المتوج صاحبه بهذه الجوائز الرفيعة على نحو خاص.
في روايته ثلاثية مثلا كما في بعض مسرحياته نجد أن فوسه يركز بدرجة كبيرة على المساحات السردية الجديدة والخصبة التي تتيحها الأحلام أمام الإبداع السردي، وقدر ما توافر له من العبقرية والذكاء والموهبة في استثمار الأحلام على نحو يبدو مغايرا للسائد في الإبداع العالمي ويشكل تصورا مختلفا وينبه إلى حسابات جديدة حول علاقة السرد بالواقع وتصوير الحياة أو صناعة النموذج الدال أو الذي يوظفه الفن ليكون وسيطا تعبيريا يشكل من خلاله رسالته أو يطرح عبره أفكاره بعيدا عن المباشرة، بأن يتجاوز الدلالات الصريحة والمباشرة والمكشوفة إلى مساحات جديدة من البحث في المطمور والمختفي تحت طبقات اللاوعي، ويصنع حالات جديدة مختلفة تماما من المزج بين الواقعي والسوريالي أو الفنتازيا الجديدة أو غير التقليدية.
يركز جون فوسه بدرجة غير مسبوقة على الأحلام وهذا ما نجده مثلا في روايته ثلاثية التي قرأتها في اللغة الإنجليزية بترجمة ماي-بريت أكيرهولت وهي تقع في 140 صفحة تستحوذ الأحلام فيها على ما يقترب من ثلثي الرواية وهذه مساحة طريفة ونادر حدوثها أو توافرها في الكتابات السردية، وسرد الأحلام بحسب تصورات جون فوسه يبدو بأخصب صورة له وبكل إمكاناته وطاقاته الجمالية والدلالية في الوقت نفسه، فعبر هذا الاستثمار الفني والجمالي نجد أن الخطاب الروائي يكشف عن طاقات الأحلام في إنتاج التشويق والغرابة وكسر الرتابة وصناعة نموذج سوريالي يخلق علاقة جديدة مع الواقع، حيث تصبح الأحلام مجالا لتصوير مغاير للواقع، وكشف طبقات اللاوعي وتصوير الشخصيات من الداخل عبر تصوير سردي جديد وأنماط مغايرة من تشكيل الحركة وأنساق التفاعل الدرامي بين الشخصيات، حيث نجد أن سيرورة الحلم واستراتيجياتها السردية تنعكس على كل عناصر التشكيل السردي بداية من الشخصيات والمكان والحدث والطبيعة وتصوير الرغبات والآمال وتصوير المخاوف والهواجس وحتى التقدم في الزمن أو أنماط تشكيل الزمن وحضوره في الخطاب الروائي، كلها تتأثر بهذه السيرورة الحلمية أو أنساق تشكيل سرد الأحلام.
والحقيقة أيضا أن هذه التجربة السردية لتكشف بجلاء عن أن سرد الأحلام ليس بالأمر الهين وأنه بقدر ما يتيح من الطاقات والمساحات الغنية والثرية التي يمكن استخدامها فهو كذلك يمثل مزالق خطرة وفخاخ سردية إن لم يكن لهذا السرد الحلمي نظامه وأنساقه وأهدافه التي تحكم وتحجم الجموح والاندفاع السردي، فهذا السرد القائم على الأحلام إن لم يكن مدعوما بهذه الموهبة الضخمة يصبح من الصعب السيطرة على مساحات طويلة أو ممتدة منه. فلا يقدر أي كاتب على أن يتمادى في تتبع سرد الأحلام على هذا النحو دون أن يكون مدعوما بموهبة كبيرة تقود هذا السرد وتجعله خاضعا لاستراتيجية الخطاب الروائي الجمالية والدلالية. ويصبح سرد الأحلام جزءا من كل ويبقى ضمن السيرورة الشاملة لخطاب الرواية التي يتم توظيف الأحلام فيها.
فإذا دخلنا تدريجيا مثلا إلى عالم رواية (ثُلاثية) وتشكيل شخوصها وتكوينهم وأحداثهم فنجد أن هذا الثلاثي المكون من الأب والأم والجنين الذي يصبح بعد ذلك مولودا حديثا، يصبح هذا الثلاثي مطاردا أو مطرودا أو هاربا من ماض غامض وغريب، وهذا الثلاثي قابل لأن يتم تلقيه أو استقباله بشكل رمزي عبر تمثيله لكل مكونات البشرية، الأب والأم والابن، أي كأن البشرية كلها يتم تجسيدها فيه هاربة من الماضي، محاصرة بالمخاوف والرغبات والآمال ويكافح هذا الثلاثي كفاحا صعبا ليستمر في الحياة، ويعيش قلقا وجوديا دائما، ولكن هذه القصة الأزلية ذات الطابع الإنساني يسلك الكاتب نحو سردها وتشكيل خطابها مسالك غير تقليدية على الإطلاق؛ لأنه أولا مال إلى التكثيف واللغة الشعرية والرمزية وبرغم ذلك يتراكب ذلك كله في فن سردي يتسم بعفوية شديدة، إذ إن هذه القصة الرمزية لهذين الأبوين الهاربين من مدينتهما القديمة أو من قريتهما والأم في آخر أيام الحمل يحملان كل ما يملكان من المتاع في حزمتين وكيس به آلة كمان ورثها عن أبيه، هذه القصة تصبح قصة ذات طابع إنساني عام ومنفتحة على آفاق التمثيل الرمزي الشامل لكل البشر، وكل أنماط المتلقين يصبحون في تقديرنا قابلين للتماهي معها وأن يجدوا أنفسهم فيها وهذا هو المختلف، فكل أمّ يمكن أن تشعر أنها هي أيليدا وكل أب يمكن أن يشعر أنه هو (أسل)، وهما في حال بين الارتباط الرسمي/الزواج وعدم الارتباط، في حال بينية بين الزواج الرسمي المعترف به وبين ذلك الارتباط الاختياري الذي لم يكتمل بعد ليصبح زواجا عبر طقوس مفقودة مثل الخاتم والإشهار في الكنيسة، وهما يعيشان حالا من البحث الدائم عن الاستقرار والسعادة ويسيران في الحياة مفعمين بالأمل والحلم والرغبة في الحياة والعمل والتقدم نحو مستقبل أفضل، ولكن هناك مخاطر ومزالق وأقدار غريبة تطاردهما، وكل هذا يتم تصويره أو تشكيله عبر الأحلام أو رصده في مرآة سرد الأحلام بما لها من التعقيد والرمزية والتراكب النفسي الدال على ما في الأعماق من هواجس ومخاوف. في أحلامهما يهيمن الأغراب بحضورهم وثقلهم وأسئلتهم ومطاردتهم، وفي مرآة الأحلام كذلك يقارب الخطاب الروائي مظاهر النقص والقصور والضعف لدى الشخصيات، وينقب في اللاوعي عن الهواجس والمخاوف والقلق الأبدي أو الأزلي، والرغبة في الاستقرار والحياة الهانئة. في مرآة السرد الحُلمي نرى أن الشخصيات تصبح في أكثر صور حضورها ثقلا وأكثر صورها تحققا وأكثرها قربا من النموذج الواقعي أو الحقيقي وأكثر قابلية لأن تعبر عن الإنسان بشكل مطلق أو عام، فهذه الأسرة مطاردة بالماضي، وإن لم يكن واضحا بدقة الجرائم التي اضطرا إليها من القتل مرة أو اثنين فإن أثر هذا يبدو واضحا في الأحلام حيث تطاردهما العدالة والجلاد والحارس أو الرجل العجوز الغريب الذي تتبدل أدواره في الحلم بشكل طريف وسوريالي مدهش.
في هذا السرد الروائي نكون أمام حال مثالية من استيلاد أكثر ما يمكن أن يكون متاحا من المعاني والقيم الدلالية من الشخصية، فالشخصيات في الرواية عموما قليلة أو تكاد تكون محدودة وبخاصة في الأحلام حيث يهيمن على الأحلام أربع شخصيات من الأغراب هم الرجل العجوز والمرأة العجوز وابنتها ذات الشعر الناعم المستوي الطويل التي تبيع اللذة وتطارد الرجال في الأزقة بين البيوت، والجواهرجي صاحب الكشك على رصيف المضيق البحري، وهو عدد قليل من الشخصيات التي يتم استثمارها على نحو طريف وذكي يجعلها قابلة للتحول وفق نسق نفسي وبحسب أوتار خفية تحكم تسلسل هذه الأحلام في تدفقها وترتيبها وهي تنبع من مؤشرات الواقع أو مكونات الشخصية الواقعية ومحدداتها، فالرجل الغريب مثلا يكشف عن نقطتين مهمتين أو يكون مجالا لتوظيف سردي يجعله مجالا لمقاربة حالتين هما الرغبة في استكمال الزواج وجعله أقوى، وكسب المال والذهب وذلك عبر الأسورة الذهبية المبهرة ذات فصوص اللؤلؤ الزرقاء التي يحملها في الحلم، ويقود البطل إلى امتلاك واحدة مثلها لزوجته ليقدمها لها مع خاتمي الزواج أو بديلا عنها، فيكون هذا المسار دالا على هاجس الثراء والارتباط والاستقرار والكسب وتقوية الزواج أو ترسيخ الارتباط، كما يمثل الرجل العجوز نفسه مخاوف الماضي والهرب من العدالة، والقانون الذي حتما سيطبق عليه بأن يقتل البطل لأنه في نظر هذا العجوز قاتل ومن قتل حتما لابد أن يُقتل.
المكان/الفضاء كذلك يتأثر بهذه الاستراتيجية الحُلمية في السرد بما يجعلها تنعكس على المساحات والشوارع والطرق والبيوت وحركة الشخصيات في هذه الأماكن، كما تتأثر كذلك الطبيعة أو البيئة والطقس بهذا التشكيل الحلمي وبنية السرد المحكوم بفضاء الحلم وأنساقه، وتتشكل في المجمل ملامح عالم يتسم بالسوريالية أو يجاوز السيمترية التي تحكم الواقع أو تتجاوز قوانين الواقع بما يجعل السرد أكثر تشويقا وأكثر غرابة، وهذا السرد الروائي أقرب إلى حالة المزج التي تكون في الرسم السوريالي وحالة التداخل بين قوانين الواقع وبين العبثية المحسوبة أو المقصودة.
وفي هذا السرد المكثف كذلك يتم تحطيم الخط الدرامي التقليدي الذي تتقدم فيه الأحداث بشكل تقليدي من نقطة بداية إلى نقطة نهاية، بل يهيمن السرد التعبيري أو السوريالي الذي يركز على أنماط من الحركة المحكومة في تدفقها وترتيبها باللاوعي وما يثقل الذاكرة وما يموج بداخل الشخصيات من المشاعر والمخاوف والهواجس أو الطموحات والآمال. ويصبح هذا العالم الروائي الذي يطرحه خطاب جون فوسه عالما حافلا بالرمزية وكل شيء فيه قابل لأن يتم تفسيره ضمن سيرورة للتحليل والتفسير الرمزي، فخاتم الزواج أو السوار لهما دلالتهما على التقدم نحو الاستقرار والكسب والعمل وامتلاك المال وتقوية الزواج وتقوية الارتباط بين الزوجين عبر التهادي أو عبر هذا الرمز الطقسي أو الموروث المتمثل في الخاتم أو السوار.
كما أن الرجل العجوز المنحني يمثل الماضي أو القدر الذي يطارده، والكمان تمثل رغبة الإنسان في الغناء والحياة، والشخصيات التي تضيع أو تتوه أو تختفي تمثل الموت وترمز إلى الفقد الإنساني المتجذر أو الممتد أو الأساسي في حياة البشر. كما أن هذا السرد المكثف وبعالمه الذي قد يتصور المتلقي أنه محدود، هو في الأصل ينفتح على أسس وروافد ومنابع أسطورية وأركيولوجية كثيرة، مثل صراع الأم والابنة وتعبيره عن عقدة إليكترا أو عقدة أوديب، والإنسان القاتل تشير إلى ما هو راسخ في الأديان السماوية من قصة هابيل وقابيل وتجذر القتل في النفس الإنسانية وصراعات البشر حول المكان والمأوى أو صراعهم على الطعام والغذاء وهرب الإنسان وهجرته من مكان إلى آخر بشكل لا نهائي تقريبا.
تتشكل ملامح عالم سائل أو يتسم بالمرونة في صفاته بما يجعله قابلا للتعبير عن كل مكان في الأرض، كما هي مشاعر الشخصيات وأنماطهم وتكوينهم بما يجعلهم قابلين للتعبير عن العام والمطلق، والطريف أن الخطاب الروائي فيه كثير من أشكال التكرار التي تبدو غريبة من حيث قدرتها على توليد حال من الرسوخ والتأكيد للأحوال النفسية والنماذج الدالة التي يتم تمثيلها، وابتعاد هذا التكرار عن الترهل في الوقت نفسه، بل إن هذا التكرار ليأخذ في تقديرنا شكلا أو صبغة شعرية تجعله مجديا من حيث قدراته على ربط العمل الأدبي/ السردي أكثر تماسكا وأكثر إحكاما وارتباطا ببعضه في ذاكرة المتلقي وكذلك بما يجعله أشبه بقصيدة تنحى باتجاه الترديد الشعري الذي يشبه نغمة بكائية أو نغمة سردية مفعمة بالحيوية والنبض والانفعال.
وهكذا تتحدد سمة مهمة في سرد فوسه تتمثل في اللغة الشعرية التي هي أمر أساسي لديه في كافة كتاباته تقريبا وبخاصة وهو يكتب الشعر والمسرح بروح الشعر أيضا، إذ تبدو اللغة متناسبة مع تصوير الأحلام وطبيعتها السوريالية وكذلك عمدها إلى أشكال جديدة من الربط وتوظيف التكرار والإيقاع السردي وتنويع النغمات بحسب تسريع السرد أو تبطئته أو اللغة الحوارية المتفاوتة في نبضها وحيويتها المشحونة بالخوف والتوتر الدرامي والتوتر الجدلي والمستفيدة من حيوية النقاش والخلاف والتنوع في وجهات النظر، فتكون الرواية لديه مكتوبة بروح الشعر، وفي تعبير شعري كذلك عن مظاهر الطبيعة أو الفضاءات البيئية التي تأخذ تموقعا جوهريا ومركزيا في خطاب فوسه السردي، وقدرة هذه الأوصاف على صناعة المفارقات على نحو ما نجد من التحول بين الحلم والواقع بين الصيف والخريف وبين الطقس القلق المطرب وبين الطقس الهادئ الجميل بما يجعل من هذه الخلفية البيئية أو الطبيعية عضوا حيويا في هيكل السرد وبنيته ومنابعة أو روافده الإدراكية.
وأتصور أن البحث الأكاديمي اليقظ والمنهجي سواء المطبق للسيميولوجيا أو المطبق للإدراكيات يمكن أن يكشف بشكل منهجي وعلمي المزيد من مزايا إبداع جون فوسه وخصوصيات كتابته وبخاصة الإبداع السردي الذي اطلعت عليه ولاحظت اختلافه على مستويات عديدة ولاحظت قدر ما يتوافر له من التكثيف والثراء وأنه إبداع رمزي يحتاج إلى اشتغال تأويلي مكثف برغم ما يبدو في هذا الإبداع من العفوية والبساطة.