تقديم:
يخصص جيل كيبل كتابه «يوميات حرب الشرق» لرحلته التي قام بها إلى عدة دول عربية، قصد التقاط شهادات واعترافات من الطلاب والأئمة والمناضلين الإسلاميين من أجل فهم حقيقي لما جرى يوم 11 سبتمبر 2001، وإلى أين انتهت كارثة الجهاد الإسلامي التي بدأت بمهاجمة نيويورك وآلت إلى انسحاق الطالبان ومطاردة ابن لادن والانحدار السياسي للتيار الإسلامي. يتأمل كيبل كل شيء في المدن الإسلامية التي زارها منذ عشرين سنة وعاد إليها ليجدها تتخبط في عصر ظلام غير مسبوقة. وشيء واحد لا يفارق فكره: هذه المدن هي العش الذي ولدت وترعرعت فيه أفكار التطرف الإسلامي. هذه المدن هي المقدمة الأولى التي أنتجت 11 سبتمبر وبداية استيلاء ابن لادن على خيال الشعوب الاسلامية. نقدم هنا فصلا من كتاب كيبل الشيق.
السبت 13 أكتوبر 2001. مند أربع سنوات لم أعد إلى القاهرة . عندما حلقت طائرة المساء فوق المدينة، قبل الهبوط،تعرفت على شوارع هليوبوليس المألوفة، وعلى اللافتة المضيئة المكتوبة بالعربية للمحل التجاري لعمر أفندي . كما لاحظت مصابيح النيون الأخضر المعلقة في منارات نحدس وجودها في الليل. عندما اجتزت بوابة الخروج من المطار لفحني الهواء المحمل بالروائح والعطور المميزة- الضغط العابر الذي يتبدد سريعا بفعل التعود. مصر توزع فصولها حسب روزنامة استنشاقية حميمية تمتزج مند الأزل بفيضان أو بأدنى هبوط لمستوى ماء نهر النيل. عندما أعود من الخارج، وأنا أشم الهواء مغمض العينين، أميز بلا تبصر الربيع من الخريف، فأعرف أنني حتما وصلت. مصر تستنشق نفسها. العيد الكبير الذي يجمع المسلمين والمسيحيين، عند عودة الربيع، يسمى «شم النسيم». وحدهم الإسلاميون المتطرفون يقاطعونه: لأنه يحيد المؤمنين عن الحب المقتصر على الله. لكن تحريماتهم لا يمكن أن تطال ما يأتي بعد نهاية الشهر حيث يكون الهواء محملا بفوحان قصب السكر المسحوق في الطاحونة، و ثمر الغوافة دو الرائحة الخانقة، والمنجا الناضجة، والبرسيم الرطب الذي تولع به الجواميس. أحاول سدى أن أتذكر أي نفحة عطرة احتوتني داخل زوبعتها عند خروجي من المطار في تلك الليلة من 13 أكتوبر: لقد غادرت البلد مند زمن بعيد.
لم ألاحظ أي انتشار ظاهر لقوات الأمن داخل قاعة الوصول، رغم ابن لادن وكل التوتر الذي نتخيله مند باريس. حتى أنني خرجت بسرعة، قبل صديقي أبو إسكندر، الذي حسب بدقة الزمن الذي تستغرقه إجراءات الجمارك والشرطة حتى يأتي لاستقبالي. لم يصل بعد، فبقيت وحيدا في الليل، أستنشق هده الرائحة التي أجهلها. الهواء مشبع بأدخنة البنزين ومثخن بضباب رمادي: يشكل هالة لأضواء السيارة العتيقة «بولونيز» التي وصلت أخيرا واندفعت داخلها. لم نكن نعرف هده الرائحة سابقا، أكد لي صديقي. إنها أدخنة ثقيلة لا يمكن استنشاقها ناتجة عن حريق قش الرز. لقد تم تحرير الفلاحة مند ثلاث سنوات في دلتا النيل، والفلاحون انكبوا على زراعة الرز المربحة كثيرا. ثم يحرقون القش قصد زرع الفول والقرنفل والشعير مكانه. وحملات منع الحكومة، وآلات رص الأرض يسخرون منها. وفي كل فصل خريف يخنقون بكل هدوء سكان المدينة. إننا نجتاز أياما كاملة وسط هدا الضباب الرمادي بمذاق السكر والمنفر، الذي يجعل القاهرة شبيهة بمدينة شبحية، في انتظار انتهاء المزارعين.
البيت حيث يقيم أبو اسكندر مضاء كليا بواسطة واصل كهربائي مليء بالمصابيح الملونة التي تجعل هدا الضباب الدافئ مليئا بالثقوب. جنرال في الشرطة يقيم زفافا لابنته، وفي السلم تقاطعنا مع مجموعة من القباطنة، البطن محبوس داخل القميص الأبيض للباس العسكري، وجهاز الإرسال توكي-ووكي في اليد، ترافقهم زوجاتهم بوجوه مزينة بعناية، وأغلبيتهن يضعن وشاحا على الرأس. من المسجل تنطلق صرخات الأغاني الشعبية. الصنف المنتشر هده السنة، مند بداية الانتفاضة الفلسطينية، اسمه «أنا بكره إسرائيل». نفس الفعل العربي«أكره» يعني «أجبر» في شكل نحوي آخر. فهو يدل على استشهاد من القرآن يتم اللجوء إليه في حالة المواجهات الدينية مع مؤمنين آخرين بدين آخر: «لا إكراه في الدين». لكن ربما، في المأساة الأرضية التي تجري مند تدمير مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، و اتهام ابن لادن ومن يحميه، لم يعد الدين سوى تعليق للصراعات الأكثر اتساعا، اللغة التي يقال فيها، إذا لم يكن هناك ما هو أفضل، الانزعاج الكبير السائد في المجتمعات الإسلامية، والعلاقة الحميمة والصراعية في نفس الآن مع العالم الغربي الذي تتشابك معه.
استيقظت في الفجر مذعورا بسبب مكبر الصوت المشدود على جدار قريب جدا، والذي ينادي إلى صلاة الفجر. الصوت في أقصاه، مشبع بالتشويش. لقد نسيت المؤذن. خلال ليلتين أو ثلاثا، مثلي مثل جميع الناس، أدخلته في نومي ولم أعد أسمعه.
الأحد 14 أكتوبر. عناوين الصحف الثلاث الكبرى التي تعكس وجهات نظر النظام، تمسك العصا من الوسط بين اتهام الإرهاب والتفجيرات التي استهدفت المدنيين في أفغانستان. هناك في نفس الآن مراعاة للحليف الأمريكي الكبير الذي يعطي كل سنة لمصر مليارين من الدولار كمساعدة حيوية، وبين الشعور الشعبي. لكن القسط الأوفر من الصفحات مخصص، هذه الأيام، للاحتفال بعشرين سنة من حكم الرئيس مبارك. ضمت جريدة «الأخبار» ملفا خاصا، فيه غزارة من الصور، ينشد المدائح للرئيس في كل المجالات الممكنة. الشركات التجارية تتنافس على ملء الصفحات بالتهاني. الموظفون الكبار والمنتخبون، الجنود والجامعيون، المهندسون والأطباء،الفلاحون، النساء، الطلبة والصحفيون، الكل يصرخ بالتقريظ للاحتفال بانجازاته في المجال الخاص بكل واحد.
منذ عشرين سنة، يوم 6 أكتوبر 1981، خلال استعراض خاص للاحتفال بحرب أكتوبر 1973، اغتيل السادات من طرف الإسلاميين الذين ينتمون لمجموعة «الجهاد». فخلفه مبارك، نائبه، الذي جرح فقط في يده أثناء الهجوم. مئات من النشطاء المعتقلين تم الإفراج عنهم فيما بعد سنة 1984، وتم تشجيعهم على مغادرة مصر، عن طريق أداء الحج بمكة، لاستكمال جهادهم في أفغانستان ضد الجيش الأحمر، وذلك تحت رعاية كل من المملكة العربية السعودية و المخابرات الأمريكية، اللذين موّلا هذه الحرب ضد الكفر الشيوعي. بالنسبة إلى المسؤولين المصريين كان الأمر نعمة: ملتحون من بين المتطرفين يغادرون الميدان، ويذهبون للحرب خدمة للحليف الأمريكي، وإذا حدث ولقوا حتفهم، سيكون ذلك بمثابة مشيئة إلهية…وكان على مكر التاريخ أن يفسد هذه الخطط البارعة جدا. نفس الملتحون الذين أصبحوا متمرسين عادوا لزعزعة النظام خلال هجوم إرهابي من الحجم الكبير بين 1992 و1997. واليوم، أحد هؤلاء المنفيين، الطبيب المصري أيمن الظواهري، سليل عائلة كبيرة، يجلس بالقرب من ابن لادن في شريط فيديو يجوب العالم كله بفضل القناة التلفزية الفضائية «الجزيرة».
في ذلك الخريف من سنة 1981، كنت أقيم بالقاهرة، حيث كتبت أطروحتي حول الحركات الإسلامية، من حيث خرج قتلة السادات. أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي اغتيل فيه الرئيس. المرأة الشابة التي تشتغل عندي، وهي فلاحة حيوية و جذابة متزوجة من شرطي دراج، جاءت فجأة وهي تجري، مباشرة بعد أن غادرت العمل في الساعة الخامسة. لم أرها أبدا مهتاجة. «سيد جيل- قالت لي بالدارجة- لقد أطلقوا النار على السادات.إن شاء الله يموتوه». ورغم ذلك أغدقت الصحافة الغربية المدائح على «رئيس السلم» الذي وقع اتفاقية مع إسرائيل. وكم من الإطراءات صدرت عن المتملقين الذين كانوا يحيطون به… واليوم وحدها الجريدة اليومية المعارضة «الوفد»، الناطقة باسم تنظيم يحمل نفس الاسم، تتجاهل إغداق المدائح على الرئيس، كما أنها اختفت من الموقف الرسمي، وكفت عن النداء إلى محاربة الإرهاب. وصفحتها الأولى تزينت بصور لأطفال أفغان جرحى، وباحتجاجات مضادة لأميركا في جاكرتا. في اليوم التالي نشرت مقالا مطولا على صفحتها الأخيرة تعلن فيه عن منح جائزة نوبل للآداب للكاتب «ف.س. نايبول»، وجائزة نوبل للسلام لـ«كوفي عنان»، وهما معا محقران لأنهما يعتبران عدوين للإسلام.
تقليديا «الوفد»، الذي تعود جذوره إلى ما بعيد الحرب العالمية الأولى، هو حزب لائكي يسيره الوجهاء والبورجوازيون المعتدلون، والأقباط والمسيحيون ممثلون فيه جيدا. وفي أيامنا هذه، أصبح لصحيفته اليومية نبرة عنيفة نجدها عفويا في عنوان إسلامي. لكن صحف الإخوان المسلمين غير مرخص لها، والحزب ينظر بطمع إلى هذه الفئة من القراء والناخبين. هل هذا الصنف من الإسلام المعمم من الأخلاق والعقليات، هو ما يظنه البعض أنه هو الأقوى؟ هل ذلك هو الترجمة الصحافية لهذا الحجاب الذي يغطي رأس الغالبية العظمى من المصريات اللواتي نصادفهن في الشارع، وهو لباس ترسخ، بل إنه لم يتراجع إلا قليلا، منذ آخر زيارة لي؟ سأذهب لأطرح السؤال على جمال الغيطاني. نعرف بعضنا منذ عشرين سنة. وهو يعتبر اليوم من أكبر الكتاب العرب المعاصرين. للوصول إلى مكتبه، في عمارة «الأخبار»، حيث يدير ملحق «أخبار الأدب»، يجب أن تمر بحشد من البوابين والمكلفين بالمصعد، وعبر قاعات واسعة حيث يجلس رجال ونساء يحتسون الشاي والقهوة، و يظهر انه لا يشغلهم أي شيء. مكتبه الصغير، بالعكس من ذلك، عبارة عن خلية مليئة بالطنين دائما، يلتقي فيها الزوار والمتعاونون بلا توقف، يجلسون على مقاعد مغلفة بجلد السكاي الأسود، وسط ملفات وكتب مكدسة في كل مكان.
خلال زيارتي الأخيرة له، منذ أربع سنوات،كان يستقبل مجموعة من الطلبة من آسيا الوسطى، الفراخ المتخرجة من النظام السوفييتي، كانوا يهيئون بحثا حول إحدى رواياته. بتأثر التقطوا بعض الصور مع الأستاذ بواسطة آلة التصوير الروسية قبل ذهابهم في عطلة. كل العمل الروائي لجمال يريد تدوين الثقافة العربية في الحضارة العالمية. كان مضطرا إلى مواجهة المتدينين الأكثر تطرفا الذين يصادرون كتاب «ألف ليلة وليلة»بتهمة الفجور، والنضال من أجل اتهام الروايات الحديثة بمجرد أن تتضمن بعض التلميحات المنتقدة لبعض التقاليد الإسلامية. كما انه، ومنذ البداية، لا يكن أي تعاطف مع ابن لادن و أولئك الذين يتقاسمون مع نفس الرؤية للمجتمع. كل من يوجد في المكتب شجبوا هجوم 11 سبتمبر في نيويورك و واشنطن، ذلك العمل الإرهابي اللايعذر، الذي خلف آلاف الضحايا المدنيين الأبرياء. لكنهم يعودون بسرعة إلى اتهام السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. الصحفيون الشباب الذين اشتبكوا في النقاش تحدثوا عن الحصار المفروض على العراق، وعن معاناة المجتمع العراقي، وعن صدام حسين الذي خرج معززا من الحرب. وكانوا يثورون بحدة خصوصا ضد عدم تدخل الولايات المتحدة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، منذ انتفاضة الأقصى، في خريف سنة 2000. وهذه القوة الأمريكية المطلقة، التي ينتقد تدخلها هؤلاء القوميون، أو ينتقدها آباؤهم، باسم معاداة الامبريالية، هي اليوم متهمة بـ«اللامبالاة الناعمة». وبذلك هي تسمح للأقوى، إسرائيل، بالسيطرة على الخصم الفلسطيني. إنها علاقة غريبة مع أميركا، ومع الغرب عموما، نسجت في عالمنا المعولم: الحذر المعلن يلتقي مع جاذبية قوية. رفض النموذج مع الرغبة في الديمقراطية التي تفتقد إليها العديد من دول العالم الإسلامي.المطالبة بالخصوصية الثقافية مع الرغبة في الاعتراف والحاجة الملحة إلى المساهمة، على قدم المساواة، في الثقافة العالمية. وكانوا يسألونني لماذا، بدلا من أميركا، لم تتدخل أوروبا. لماذا لا تلعب القوات الاستعمارية القديمة،التي تعرف خصوصية بلدان جنوب وشرق المتوسط، دور المصلح لاجتناب القطائع الكارثية الكبرى بالنسبة للعرب والمسلمين بالدرجة الأولى، في حالة ما إذا تمكن ابن لادن والطالبان من الاستيلاء على خيال الشعوب.
ترجمة: محمود عبد الغني
شاعر من المغرب
إلى ميشيل ماريان
رجل الفكر