صفحة من مذكرة 1930
على السيد «سين» أن يتذكر جيدا أنَّ الخيار هو للطبيعة وحدها وأنَّ الوضع الراهن في العالم … استنفارنا، ذعرنا، كراهيتنا : خطوات متعثرة تستعملها الطبيعة وتؤدي إلى الهدف الذي …
يعتري الغموض الكون في الخريف وتدق الساعة الخامسة صباحا فيتبخّر مفعول الخمر … ها أنا أسترد نشاطي … يتسرب الضوء عبر النافذة، رمادي، جميل، وديع وملاطف ويملأ سجْع الحمام الحوش الخلفي صدىً، وهو ليس في موسمه … وفي الشارع، تخلَّت وجوه القلة من المارة عن خطوط دفاعاتها، فلا يفكر أحد في إيذائي بنظراته … أختبئ وراء ظهر الطبيعة وكأنها عملاق شفاف، وأرى كيف يستبيح لنفسه المدينة بحرية وبراءة … يقفز غراب العقعق على أرض هُمليجورد المعشوشبة لاويا عنقه متأملا، فقد حان وقته، ويمر فجأة سرب هائل من «غراب الزيتون» فوق البيوت الناعسة في طريقه إلى برج كنيسة أو جامعة، أو لعله متوجها إلى الشرق أو إلى مصر… ما أدراني؟ ضوضاء السرب كهدير شلال من نسوة عجائز واحمرار الصباح ذو بلاغة ولكنه مع ذلك لا يوقظ أحدا
كلود لورين
الغابة رطبة مظلمة وقد صمت رنين أبواق الصيد
مع اختفاء مطاردي الخنزير البري في الشمال المزرورق
تغرق الشمس صفراء كصليل بوق أخير
في هدير الموج المذعور وتختفي الجزر عن الأنظار
يتمدد البحر بأطرافه ويتنفس في ضباب الأفق
يتقلب مثقلا بأحلامه ويميل برأسه على شاطئ
ترنيمة
ينبثق الصباح، ويا بطء الانبثاق
فيذرف الليل دمعته الأخيرة
ما زلن سافرات للرائي، بنات الصباح تلك
حين تتجمعن بين الأشجار
بعيون دامعة، محجوبات وراء ثياب من ضباب
ملكات الغيث يستكشفن البحر بنظراتهن
يستكشفن في صمت، بأعين صافية كقطرة ماء
باحثات في صحراء الأرواح … نادبات:
«مرَّ الإله علينا خفية ولم نره»
اخضرار
انظر الآن إلى هذه الأيادي الجميلة
بمئات الأصابع الشفافة المتوهجة الاخضرار
ترفرف كأجنحة تنبثق من لا شيء:
آه، أن أستريح في ظلها …
أن أكون ظلا لهذا الخنشار
حيث تتمدد الراعية لتستريح
على سرير أخضر من الطحالب،
في بقع بيضاء من أشعة الشمس
فيداعبها النهار بتأنٍ، ملاطفا
بآلاف الأصابع المتلألئة في حقول الربيع
أياد من ظلال
ولو كنت الموجة الصافية أو الرداء
الذي تتغطى به بعد استحمام لضممتها إلى حضني
يتساقط ندى المساء
كالقيظ يوم صيف
بعيدة، بعيدة هي
تلك الأصوات ولمعان المناجل
استشفاء، فقيامة
نسيج
رأيت خرائب غبراء في حديقة مزهرة
وفيها بشر يتجولون من جيل إلى جيل
واجهة متآكلة لا تخبئ شيئا وراءها
إلا سماء وغيوما وحفيفَ أشجار
بشر يحملقون أمامهم بأعين فاغرة
يتقدمهم المحبون وكأنهم يتساندون
وما كان للربيع أن يَشُبّ إلا على مشارف تلك الخرائب
وما كان للخريف بقفره وزوابعه
ولا أن تشتعل السماء دموية باحمرارها إلا عندما
يراها المرء من خلال النوافذ المفتوحة
وما أكثر من لم يسمع رنين صوته
إلا في الأصداء المترددة الخابية تحت الأقبية
مدرسة اندلسية
شجر، حجر، أي قدر هذا الذي يجبر خطواتي
المعدومة الإرادة وإلى أية هاوية؟
يَرسم انهمار السيل خطوطا في أثير السماء المظلمة
ويتخيلُ البرقُ في التلال المحيطة بالوادي
وهي تتسابق في هلع نحو الأفق
مدينةً قديمة تبقى وحيدةً على المنحدر
اسمع! كيف يتصاعد خرير المياه المندفعة
تحت الجسر الحجري، ولا ترى إنسانا كائنا
في الشوارع أو في الميادين
جحيم بْرُويْل
جحيم هو نعم ولكنه متآنس
هناك ترى سكان القذارة والسوائل
يتضرعون بلغة النفايات والاستفراغ:
أمحملق أنا في دنيا الله؟
أم هو سلام الإرهاب
أضعه في النبتة شهوة متنامية؟
صقر أبيض
عين تشتعل كزجاج أصفر
والنظرات فارغة
سجينة في شئ أبعد
من ذا الذي هو موجود أو قد وُجِد
هنا، من قفصي، في قرية البشر
أراك من أعالي السماء
اقتربْ إن أردت، فلن تصلني
وأنا مالك لرؤية الغيب
وما همي أن تحملق فيَّ
قبعةٌ، مظلة وحذاء!
ألا تعلم أنَّ الأكثر حزنا
هو الأجنحة والمنقار والمخالب؟
وما همي إن كنت تدري
بعبث الأشياء والحياة!
أنت يا من تقف مهموما
أمام هذا وذاك وما تملك
إلا رسما دُرِسَ في لحاء شجرة البَتولا البيضاء
بطاقة بريدية
هاهو الربيع آت إلى اقصى الشمال
بحمرته الفقيرة
وكأنك تتوسل إلى الله كي يبعد عنك الصقيع، والضوءُ
ربيعٌ يقف متأهبا في الشفق كمُوات الأُكال على المَتْن
يكاد يلامس سطح البحيرة الأبيض الواسع حيث تضيع النظرة
وها هو الليل … والقمر ساطعٌ
في آثار متجمدة
مَثَلٌ في قطعة قماش
إناءٌ مملوء بزهور المرج
هو إناء الوحدة الصامتة :
اعرفُ هناك كوخا صغيرا
في الغابات البعيدة
اقتربُ منه عبر الحقول المبلولة بالليل
وهاهو يقبع هناك وحيدا في الظلام
أفتحُ بابه ورأسي تضج بالأفكار
ثم أتوقفُ لحظة وابتسم لنفسي
إذ يبدو كل شئ كما تركته
أخلعُ عني حقيبة الظَهْر
وأبدأ في إشعال النار
أغنية
تتلفت متبرما في ضوضاء
نحو قاع الشلال الحجري
جذوعُ الأشجار تنتأ بقوامها، ترتفع وتجنح
مصطدمة في هدير الدوَّام
بينما تجلس أنت في وسط الخرير
مذهولا بالمياه المتدفقة
غارقا في نشوة أشجار البَتولا الفضية
وفي عطورِ آسِ المستنقع
على صندوق من لحاء البتولا
ساهرة هي طيور الليل
وسطح الماء صفحة راكدة
في البحيرات وفي باطن الأمواج
أكثر منها سطوعا في الليل من النهار
تحت أقدام الشواطئ وألسنة الأرض
يستريح على وسادات غيوم
تشبه موان عذرية بيضاء
وتحتضن البحيرةُ أشجار القضبان
يا رسامين ، فلترسموا مراعي الفَرَس والمُهْر
أكواخا بيضاء وحمراء ورقع الجنائن بغلاَّتها
بحرُ شقائق النعمان في كل ربيع
حسناوات الغابة اللعوبات
غصونٌ مليئة بأغلفة الزهور والصفصاف:
هاك أنشودة الفقر السويدي
الربيع
أشجار القضبان ومن ورائها غروبٌ
رؤوسٌ جعداء، ووجوهٌ
ممتنعة، حوريات الغاب
ينظرن إلى الغرب، مختفيات،
حيث ظمأ المساء
يظمأ المساء
آه، اسقني مما شربتم
من صمْغ الغروب
حينما أقطِّع قلبي إربا إربا
في لحاء البَتولا الفضي
ذكرى رائحة
سوداوية هي البحيرات في أقاصي الشمال
لطمات الموج الصغيرة المنتهية على الشاطئ
أتذكرها، والزوارق على شكل عناقيد البقول
أتذكر رائحة الطمبق في هواء البرد الصافي
مدينة دائرية
في لا نهائية المدينة الدائرية
تقف شجرة سقيمة تكاد تخلو من الأوراق
وما تبقى من أوراقها لا تسمع حفيفه
حور رجراج باقٍ في غبار الأسمنت بين منازل مترادفة
يلعب من حوله أطفال لعبة فقر الحياة:
يشترون الرمل بالدقيق
ويبيعون الخبز بالأحجار
والصيف على وشك الحضور
شارع في سْتُكْهولْم
فتاة بسيطة
مدينة أخرى
وغرفة أخرى
في منزل آخر
حيث لم أسكن أبداً
وزوايا أخَر
حيث لم أتوقف أبداً
وأبداً لم أنتظر أحداً
فتاة بسيطة
لغة أخرى
ووجهة نظر أخرى
على حياتها الوحيدة
عمل آخر
اسم آخر
وشوارع أخرى لتمش عليها
طرقات أخرى لتسترشدها
مفكراً في أشياء، أبداً
لن تَنلْها
ليالي حرب
ابعد عني كوابيسي الليلية ،
هيكل العظم الهارب، ولم يتبق
منه إلا الشتات
الوحش الزائر الضاري، من لا يمكن تفاديه
حررني من تلك الوجوه الملطخة
اغمرني في خدر ودعني اغطس
في التيار البارد
في أعماق الجليد، في مياه الثلوج، اللاسعة
والخالية من ديدان خشب المنازل
تتخدر فيها القدمُ من برودتها وتفقد اليدُ الإحساس
فكك لي أزرارَ وسيورَ الجسد
فلعل الروح تصعد من ثباتها عارية
إلى ساكني «منزل الشعب»
آخذاً في الاعتبار الشروط الجمالية المطروحة
(والتي هي في حد ذاتها شروط الملاءَمَة)
حوَّل المهندسون الغيوم إلى مربعات
تمتد إذن المدينة الدائرية بطول الغابات المقفرة
وتتراص مكعبات السحاب عاليا فوق المتون
عاكسة في عمق بحيرة الغابة الشاردة
طوابير مهيبة من نوافذ الفراغ
مضعَّفَةً بحمرة غروب اصطناعيٍ متحايل
هناك يلعب أطفالٌ أصحاء بين سحابات القَزْع العالية
وقد تم الحفاظ عليها بتقوى
(فلم تمسها يد إنسان أبدا)
وتطفو بين الأطفال مربياتٌ في مظلاتها الدوارة
ليتقاضين رواتبهن الضئيلة من الحكومة
ويأتي المساء بعد كل نهار،
فتندفع أفواج معقمة
من عُمَّال الفيتامينات
المجردة من الجنس، باتفاق مسبق،
نحو بيوتهم وحياتهم الخاصة،
وتُحْرس ملكة الهرمونات السويدية
من حراس في موضع الثقة وبغيرة لامتناهية
ويهبط الليل ومعه الصمت ،
فلا تتحرك إلا مروحية
عمال النظافة بأزيزها المكتوم
من باب إلى باب
يقودها منبوذ من المستقبل،
فوضوي وشاعر
حُكِم عليه مؤبدا بالتخلص
من أوساخ المُخيِّلة
يشبه عن بعد فراشةً عملاقة
تهدر أمام رحيقِ عناقيد
«صريمة الجدْي» المزهرة
عاليا، وأعلى من
غابات الرياضة الملهَمة
حيث لن يتصعلك متشرد بعد اليوم.