عزيز الحاكم
كاتب مغربي
لم يكن كارلوس لدى مجيئه إلى هذا الزقاق المشمس يعرف أن مصيره سيتحدد هنا، خلف هذه البوابة الزرقاء التي تستقبل الغرباء وتجار الخردة بعد أذان المغرب وتلفظهم قبيل الفجر، يدخلون تحت جنح الظلام كالأشباح، لا تربطهم بأهل الزقاق آصرة أو سلام، ولا يمكثون في المقام إلا قليلا ثم يغيبون، تاركين وراءهم أكثر من سؤال: من أين جاؤوا؟ وإلى أين يمضون؟ يقيمون حين تهاجر الخطاطيف ويرحلون مع اشتداد الحر.
لا أحد كان يعلم بالسر إلا كارلوس، هو الذي كان يجلب لهم الطعام من السوق المجاور ويشتري لبعضهم الكيف والخمور، ويفاجئهم أحيانا بامرأة تائهة. وكانوا يقدمون له مقابل ذلك بعض الثياب البالية أو يطعمونه أو يدخلونه إلى السينما أو يهبونه ريالات ينفقها عند الحاجة، وكانت حاجاته تفوق الحصر .
كان وسيما مثل قمر ضال، رأسه مكور وعيناه براقتان، مدكوك القامة كهندي أحمر. حين يضحك تصفع الشمس أسنانه المفلوجة فيبدو وكأنه ملاك مقذوف من سماء بعيدة، لكنه لم يكن مأمون الجانب، على جليسه أن يخيط جيوبه بالسبيب وإلا ضاع منه ماله في غفلة موقوتة. كانت يده خفيفة وأصابعه رقيقة ومتساوية، تستل الفلس من الجن والإنس على السواء. ورغم أنه كان نشالا خطرا إلا أنه كان لطيف المعاشرة، روحه مرحة ولسانه لا يفتر عن النكتة. لا يهدأ، يرقص رقصا غريبا كأنه ينفض جسده من ذنوب ضحاياه، وحين يرى امرأة جميلة تتعثر في جلبابها يهب إليها ويسير بجوارها وهو يقلدها، ثم يحاول نزع لثامها أو يطبطب على ردفها أو يضع على برنسها صرصورا ويحوم حولها متغزلا بأغنية هندية وهو يقفز ويسقط ثم يضع يده على قلبه كاشفا لها عن ألم التوله، ولا يبرحها حتى يظهر “الشاف” رئيس العسس، بشاربيه المعقوفين، كنازيٍ كريه، عند مدخل الزقاق، فيهم بالفرار والعودة إلى عتبته دون أن يهمد أو يكف عن الغناء. لكنه يغير النغمة، تغدو شجية، مثقلة بضيم لا يقوى على حمله، ثم يشير لأقرانه كي يلحقوا به، ويدخلون تباعا إلى سوق الخضر متراكضين كحشد من الكاوبوي، يتنقلون من دكان لآخر وهو يتزعمهم ويحثهم على إلهاء الباعة واختلاس الفواكه، فتزداد حميتهم وتنتعش أصابعهم وينتشلون نصيبهم تحت وابل من اللطمات واللكمات الخاطفة التي لا ينقذهم منها سوى الاحتماء بالسابلة أو الهرب السريع واللحاق بكارلوس الجالس فوق العتبة وهو يقضم التفاح أو يمتص البرتقال ضاحكا ممن لم يغنموا إلا الزجر، قبل أن يقذف لأحدهم بثمرة طماطم عفنة أو ليمونة ذابلة.
كان غريب الأطوار، يكون في ذروة الانشراح، وفجأة ينقلب إلى خنزير هائج، يخرج السكين من تحت جوربه ويصيح في وجوههم:
لعنة الله عليكم.. اغربوا عن وجهي…
فينفضون من حوله مثل شياه مذعورة، ويمضي كل إلى حال سبيله، من دون أي تذمر أو تلكؤ، لأن كارلوس لا يعرف المساومة، يزرع السكين في أحشاء من يدنو منه ويتهيأ لقضاء بضعة أشهر في “المونفلوري” سجن الأحداث، وفي كل مرة يعود إلى نفس العتبة بنفس الاندفاع والتوثب، مشحونا بمجازفات تمرس بها خلال مقامه في”دارنا” كما كان يحلو له تسمية ذلك السجن الهازئة.
: كانوا يسألونه
ـ ما اسمك ؟
: فيجيب وهو ينظف منخره أو يحك ظهره
ـ كارلوس.
ـ حسنا، ولكن، ما هو نسبك؟
ـ كارلوس
وبذلك تنمو حيرة السائل فينصرف عنه ويتحول وجود كارلوس إلى كومة من الغموض. أما هو فإنه يزداد زهوا ويشعل سيجارة “فافوريت” أو “كبير” ، يعب منها نفسا عميقا لا ينفثه إلا بعد أن “تحترق الغابة” أو تجحظ العيون، حينها يقترب من أحدهم ويأمره بأن يغلق منخريه لكي يخرج الدخان من عينيه، ثم يطيل في سرد حكاية الغابة:
ـ الغابة تحرقت ويلا كدبتيني ها دخانها
.. حتى يتسنى له من الوقت ما يكفي لتنظيف جيب الضحية.
بهذا المال المنتشل كان كارلوس يشتري قشدتين، يقدم إحداهما لسلوى بنت صاحب الفرن، قطعة الجبن التي تسيل لعاب أطفال الحي وتبذر الغبن في عيون المحرومين، لا تخرج إلا لمامًا، تقود أمها العمياء إلى الحمام أو إلى المسجد صباح الجمعة، فيراها كارلوس ويفتح علبة أغانيه الهندية محولا الزقاق إلى شاشة سينمائية، يرقص بانفعال فائق والأطفال يتفرجون عليه من بعيد وهو يراود الفتاة الحسناء التي تبتسم لمرآه فتورد الحشمة وجنتيها فيصاب ببهائها وتتأجج رغبته. يحاول لمس يدها الناعمة فتجفل منه وتصدر عنها آهة تثير انتباه الأم فتسألها:
ـ ما بك يا سلوى؟
.. تشير البنت للولد الشقي بالابتعاد، وتجيب أمها بنبرة مطمئنة
ـ لا شيء.
وعندما تغيب سلوى وأمها عن نظره في نهاية الزقاق، يضع كارلوس رأسه تحت النافورة العمومية وكأنه يطفئ نار الرغبة بمائها، ثم ينفض شعره ناثرا قطرات الماء على العابرين، ويمضي راكضا، متعقبا أثر الفتاة لاستئناف المراودة. وأمام باب المسجد ينحني إجلالا لسلواه كناسك بوذي متيم، فيما تعرج البنت ذاهلة بأمها على مصلى النساء، تجلسها بجوار الشباك الخشبي المخرم وتشرد في تأمل زخارف السقف ثمانية الأضلاع وزجاج القبة العراقي . وحين يتردد صوت المؤذن الرخيم في أرجاء المسجد الكبير تفزع الفتاة من شرودها وتدور بها الأرض دورة مدوخة وتغيم الأشياء والكائنات في عينيها فترى أشباحا بيضاء تتوضأ والصواري تتراقص ووجه كارلوس من خلف الشباك ينتفخ كمنطاد وفمه ينفتح فتخرج منه ثعابين خضراء تتوعدها بألسنتها الممطوطة وهي تصرخ ولا يسمعها أحد، حولها رؤوس ملفوفة في الأبيض تتحرك في بطء رهيب وأمها تصغي إلى صوت المؤذن بخشوع جواني حتى تتساقط عيناها وأسنانها فتتلقفها أسراب من الديدان القرمزية وتحيط بها جماجم المصليات ضاحكة بشكل هستيري.
تشعر سلوى بوخز حاد يدغدغ أسفلها ثم تهوي فوق حصير المصلى.
بعد انتهاء الصلاة يقف كارلوس أمام باب المسجد في حالة تأهب قصوى، يلعق القشدة وينتظر، والقشدة الثانية في يده على وشك الذوبان. كان المصلون يخرجون وهم يتمتمون بآيات الحمد ويودعون بعضهم. كان قلبه يخفق بسرعة. ستخرج النساء بعد الرجال وسيراها بوجهها المشرق وسط الوجوه وثغرها الباسم الذي يضيء له الكون. سيغني لها في الطريق إلى البيت أغنية الفيلم الهندي “جانوار” في مشهد النهر الشهير، حيث يتظاهر الممثل سامي كابور بإغراق نفسه بعد أن صدته معشوقته آشا باريخ، ولا يعود للظهور ثانية من خلف الجبل المجاور إلا بعد أن تعض شفتيها من فرط الندم، وحينها يصدح صوته بالغناء فتنبسط أساريرها. وكارلوس يحفظ هذا المشهد بكل تفاصيله. سيكرره عند أول منعطف مجاور للمسجد، لن يقفز في النهر، سيتمرغ فوق الأرض وهو يلهج باسم سلواه، وستبتسم له باحتشامها المعهود فتلمع أسنانها المرمرية، ولدى اقترابها من البيت سيدس قطعة اللبان الحر في يدها ويقبل الأرض من تحت قدميها، ثم يعود إلى عتبته في انتظار أن يستمتع برفقتها صباح الجمعة القادمة.
لكن “قطعة الجبن” لا تخرج من المسجد. يلتهم كارلوس ما تبقى من القشدة الثانية التي لم يعد لها أي طعم، ثم يحك رأسه ببلاهة ولا يصدق عينيه. تخرج بعض المصليات العجائز في بطء وكأنهن ذاهبات إلى قبورهن. يفكر في الدخول إلى المسجد، لكنه يعدل عن ذلك، عليه أن يخلع صندله وقدماه وسختان، وربما كان على جنابة من حيث لا يشعر. فلينتظر إذن، لعلها تتعمد البطء حتى يخلو لها السبيل وتستلذ وحدها ببهلوانيات الولد الهندي الظريف. أو فليدخل، سيغسل قدميه، هو لا يعرف الوضوء، ثم يقتحم باحة الرجال قبل أن يتسلل خلسة إلى مصلى النساء ويسترق النظر من خلف الشباك.
.. عند الباب يوقفه حارس المسجد
ـ سر تلعب.
.. ويغلق الباب في وجهه
ماذا جرى؟
جمعة، جمعتان، ثلاث، ولا يظهر لسلوى أثر. يصاب كارلوس بحزن لم يعهده فيه أحد من قبل، وحين يسأله الباعة عن حاله لا يجيب، يحمل لفافات الخردة ويشق السبيل في صمت، والأطفال والمريدون يهتفون باسمه وهو لا يسمع.
هل خرجت قبل انتهاء الصلاة، في غفلة منه؟ ولماذا؟
ـ ما بك يا كارلوس؟ هل بلغك نبأ غير سار عن والديك؟
يشعل كارلوس سيجارة ويحدق في السائل باستياء ولا ينفث الدخان، يحتفظ به في رئتيه. ما جدوى البقاء في غياب البنت الناعمة التي تطهر الهواء في عبورها؟ هذه الليلة سيحاول أن ينسى كل شيء، سيشرب كثيرا وسيصطاد أول امرأة تائهة يصادفها في طريقه الليلي، ولربما وجب عليه، في هذه الليلة بالذات، أن يقترف جريمة صغرى تعيده إلى سريره الحميم في المونفلوري، سيقف تحت شباكها ويصرخ كآخر مغرم هندي على وجه البسيطة:
“ميري مهاباتي ،،،”
أو يقفز من سطح الفندق عابرا السطوح المجاورة حتى سطحها، يحطم باب غرفة نومها ويختطفها من سريرها ويهرب بها إلى مكان بعيد، إلى الهند مثلا، ولم لا؟
“ميري مهاباتي ،،،”
الأرض تدور، والقنينة تدور، وعيناه تدوران وتسقطان على هامة قادمة تترنح
“ميري،،،”
تحتبس الكلمات في حلقه. من القادم؟ هل يكون الشاف بوشلغام يقود دوريته الليلية؟ ولكن أين الشاربان المعقوفان؟ وأين البيريه الكمونية؟
يشرب كارلوس من القنينة مثل رضيع ظمآن كي تتضح له الرؤية، والهامة تقترب بنفس الخطوات. يتحسس سكينه “بونقشة” تحت جوربه ويتكئ على الحائط في حالة استنفار قصوى. يشرب وينتظر وقد أحكم قبضته على السكين. هو بارع في بقر البطون.
ـ قل لي يا ولدي، أين محطة الحافلات؟
.. أخرجه السؤال من قعر القنينة ووضعه على حافة الطوار. أخرج سيجارة
– هل لديك عود ثقاب؟
في مثل هذه الحالات يحتاج كارلوس إلى فسحة زمنية يرتب خلالها أموره الخاصة ويبشر أصابعه.
ـ لا أدخن بالليل، أين المحطة ؟
كانت النبرة ممهورة بخشونة أنثوية، وكان عليه أن يعيد ترتيب احتمالاته. رفع عينيه المكورتين فرأى وجها غريبا من تلك الوجوه التي طالما صادفها أثناء بحثه عن خمور السوق السوداء.
ـ المحطة؟ تعالي
ألقى نظرة غائمة على نوافذ الفندق واندفع يجرجر جسده المدكوك وقنينة الشودسولاي في يده ترتطم بالحيطان ولا تنكسر. من حين لآخر يمد يده باتجاه الفراغ ولا يغني، ثم بدا له أن يلتفت ليرى هذا الوجه الغريب الذي سقط من سماء ما في لحظة ملتبسة. وعلى ضوء أحد الفوانيس تبين ملامحها.
ـ أوه، هذه أنت ؟
.. شرب قليلا وقدم لها القنينة
ـ أين كنت؟ متى غادرت المسجد؟
كانت المرأة تلزم الصمت، تنظر إليه باستغراب، تبحلق في الدروب المسدودة وتفكر في شيء ما، ثم تتوقف قليلا، تحك أسفلها وتحرك رأسها قبل أن تواصل السير خلفه.
ـ لم لا تشربين؟ لن تراك أمك، فهي عمياء.
أمام باب الفندق وقف كارلوس بشهامته المترنحة وفسح لها الطريق بانحناءة أكبر من سنه، لكنها لم تفهم قصده. كانت تحدق في الباب الأزرق وفي وجهه الصهدان من فرط الشرب وتتهيأ للانصراف.
ـ ما بك؟ لا تخافي، أنت برفقة كارلوس، حارس أميرات الليل.
ـ أين المحطة ؟
ـ هنا، هذه أحسن محطة، سوف ترين، كل شيء سيصلك هنا، لماذا ستسافرين؟ دعي اللذة تسجد لحضورك، لا تتعبي نفسك بالتفكير، تعالي.
ـ ولكني ،،،
احتسى كارلوس آخر ما تبقى في القنينة من الشودسولاي، دفعة واحدة، حتى احمرت عيناه وتدفقت بضع قطرات من شفتيه على ملابسه، ثم أحنى رأسه، كعادته حين يتحول إلى خنزير هائج، وشهر السكين في وجهها.
ـ كفى عنادا، هل تريدينني أن أعود إلى سريري هناك؟ طيب، فليكن دمك شرابي الأخير.
لكنها كانت تبدو في غاية الهدوء، كأنها قادمة للتو من جزيرة السفاحين. بدا لها تهديده مجرد لغو طفولي. ابتسمت ورفعت بصرها لتمسح البناية المهترئة بنظرة خاطفة ومركزة، والتفتت إليه تطمئنه:
– حسنا .. إذن، هذه هي المحطة؟
ثم دخلت، يتبعها كارلوس متعثرا في قدميه.
كان أغلب التجار قد ناموا. من أين سيجلب لها الطعام والسجائر. كانت لديه قنينة مدخرة، مدسوسة تحت الفراش. لابد من هذه المقبلات التي تفتح الشهية لكل شيء وتعبد طريق الشهوة. المهم أنها هنا، ستنتشر رائحتها في أرجاء الفندق ويستفيق كل من به حاجة لتفريغ الكبت، وبذلك يسهل عليه إيجاد حل.
ـ اجلسي، خذي راحتك، كأنك في بيتك،،
كانت الغرفة ضيقة، بالكاد تتسع لشخصين. من السطح المجاور ينبعث نسيم منعش. وكانت الحيطان مغطاة بملصقات الأفلام الهندية وصور بعض النساء العاريات. ابتسمت المرأة لكلامه وهي تجول ببصرها حول الغرفة الضيقة، فعاجلها بالسؤال:
ـ هل أنت جائعة؟ أنا أيضا لم آكل شيئا، شربت كثيرا ودخنت الكيف وتناولت الحشيشة، وتألمت كثيرا لغيابك،، انتظري، سأعود بعد قليل.
أخرج القنينة وناولها إياها؟
ـ اشربي قليلا ريثما أعود .
حين خرج اكتشف للمرة الأولى بأنه سكران، كانت الردهة معتمة ورائحة النوم المنبعثة من الغرف المجاورة تخنق الأنفاس، وأصداء شخير متمدد تتردد في فضاء الفندق، لعله شخير “البهجة” صباغ الجلود الذي لا يسعفه النوم إلا بعد أن يبتلع خموره وخمور أصحابه المتعبين كي يخر كالثور. لكن، كيف صعد كارلوس بالمرأة الغريبة حتى غرفته في قلب هذه الظلمة؟ لا يهم، عليه الآن أن يجلب لضيفته من الطعام والشراب والسجائر ما يكفي لصرعها وبعد ذلك…
فتح باب إحدى الغرف. كان “البهجة” مسجى على فراشه ورأسه إلى الأرض، كأن النوم قد داهمه وهو يتريض. لعل رأسه كانت ترفض النوم وجسده لا يقوى على مقاومة العياء. كانت الصراصير تتفسح فوق قطعة خبز يابسة وعلى الأرض بقايا طعام. فكر كارلوس قليلا وأغلق باب الغرفة ثم التقط خرقة بللها ومررها فوق عنق النائم كي يتأكد من نومه. دس أصابعه في جيبه، لكنه لم يعثر على شيء، ثم دسها بسرعة ساحر في الجيب الآخر. نفس الخيبة. لم يفهم . أين وضع “البهجة” دخله اليومي؟ هل شربه؟ هل قامر به؟ حك عنقه والتفت على الفور نحو سترة ملقاة على حافة السرير، التقطها وتناول ما فيها من مال، ثم حمل الطعام وخرج.
بعد لحظات عاد إلى غرفته، محملا بالطعام، وعند الباب همس قائلا:
ـ انظري يا سلوى، وجدت أكلا، سأذهب لشراء السجائر والمزيد من الطعام.
كانت الغرفة خالية فظن أن الضيفة هربت. وضع الطعام أرضا وخرج إلى السطح. أطل على الزقاق. لا أحد سوى بضع قطط تحاصر هرة بيضاء مدللة. أغراه المشهد، لكنه شعر بخطوات تزحف خلفه في عتمة السطح.
– تأخرت، ولم أعرف أين المرحاض،،، قضيت حاجتي هناك،،،
ابتسم كارلوس وهو ينظر إلى بقعة بول صفراء، في ركن من السطح، تلمع تحت ضوء القمر، ثم قال لها بوداعة غير معهودة لديه:
ـ لا بأس، سأنظفها في الصباح. ادخلي.
سره جوابها وحرك رأسه كحكيم طاعن في التجربة، أما هي فقد بدا لها كل شيء غاية في الطرافة: غلام في الثالثة عشرة من عمره يملك غرفة في فندق ويتدبر أمره في آخر الليل، ويرسل نحوها نظرات شبقة تعجز أدهى النساء عن مقاومتها، ويصحو بعد سكر مميت حين يراها. ناولها علبتي السجائر وأخرج قنينة الشودسولاي من تحت الفراش..
رشف جرعة ومد إليها القنينة.
ـ اشربي، سأمضي لجلب المزيد من الطعام والسجائر
ثم خرج..
بقيت المرأة وحدها في هذا العالم الهندي. كانت كلما حطت عينيها على صور العري أحست بالأرض تموج تحت قدميها. تهرب إلى السطح فتنتابها رغبة غامضة، مزيج من الضيق والانشراح، ثم تعود إلى الغرفة، تشرب، تشعر بالحر، تخلع جلبابها، تحدق في صور النساء الملصقة على حائط الغرفة، تشرب، تشعر بيد تدغدغ كتفها، ترتجف، تسري في أوصالها رعشة لذيذة، ترفع رأسها، لا أحد، تتمنى لو يعود الغلام الهندي حالا، تشرب، تتحاشى النظر إلى صور النساء، تحمل القنينة وتهم بالخروج.
عند باب الغرفة تصادف كارلوس عائدا بالزاد الوفير.
ـ ما بك؟ هل خفت؟
ـ لا، فقط هذه..
انعقد لسانها وهي تحول بصرها في اتجاه الصور. حينها رأى كارلوس بما لا يخلو من ذهول حورا في عينيها فنسي كل شيء: الأغاني الهندية وانعطافات آشا باريخ وابتسامة سلوى، وأحنى رأسه، ودخل الغرفة. ثم أخرج من جيبه علبتي سجائر فافوريت وكازا سبور. وسألها:
ـ أيهما تدخنين؟
ـ لا فرق لدي،،
أعجبه جوابها، وجد فيه ما يفتح له باب الأنس ويملأ فراغ أيامه. ثم جلسا معا، جنبا لجنب،على حافة الفراش الوحيد. أحس بدفء أنثوي لم يحلم به أبدا. وشرع يتملى في محاسنها وهو يتلمظ فلا تسكن لواعجه. كانت تبدو له فاتنة في قفطانها الشيبي المخروم. ملامحها جنوبية وصمتها يوحي بالعراقة والكبرياء. ورغم أنها لم تتجاوز العشرين إلا ببضع سنوات فقد كانت أخاديد عنقها وعلو كتفيها وتسطح ردفيها، كل ذلك كان يشي بالغنج الطبيعي ويقذف بكارلوس في وهاد الضياع المستحب.
ـ أنت جميلة
ضحكت بصوت عال، فهمس في أذنها:
ـ ستوقظين الجيران.
.. تناولت سيجارة عبت منها نفسا أثار سعالها، فضحك منها وقال:
ـ إذن، فأنت لست متعودة على التدخين
ـ أحيانا أدخن خلسة مع بنات خالتي في بعض المناسبات، لكن هذه سيجارة قوية.
ـ هذه سيجارة البنائين .
ضحكا معا، وصارت تتفحص وجه هذا الولد الهندي الذي يبدو أنه ثمرة مضاجعة في العتمة.
ـ ما اسمك؟
– سلوى.
– من أعطاك هذا الاسم؟
– أنت.. هل نسيت؟
ناولها القنينة وأشعل سيجارة عب منها نفسا طويلا، واحتفظ بالدخان في صدره ثم ردد لازمته المعهودة:
“الغابة تحرقت ويلا كدبتيني ها دخانها”
ونفث خيطا طويلا من الدخان أثار استغرابها، فوضعت عينيها في عينيه وقالت بصوتها الرخيم:
ـ أنت لست طفلا.
ابتسم كارلوس وأجابها برصانة وثبات:
ـ أنا طفل حولته المحن إلى رجل قبل الأوان.
ضمته إليها في حنو ومسدت شعره المنسدل ثم وضعت القنينة في فمه وكأنها ترضعه، فشرب منها بارتواء ونظر إليها متوسلا.
ـ لا أريد هذه الرضاعة. أريد،،،
.. ونظر إلى ثدييها البارزين فاستسلمت لرغبته.
كان الصمت يلف مداعباتهما وهما يشربان ويدخنان، وهي تبحث بعينيها عن شيء ما. قال لها بنبرة اعتذار:
– آسف، ليس لدي مذياع، بعته قبل أيام
.. ابتسمت وقالت:
ـ لا بأس ، فلنغن نحن.
في لكنتها البربرية تموسق أنساه كل المخططات الجهنمية التي وضعها في الطريق إلى الفندق. لن يدعو أحدا إلى هذه الوليمة السرية، الليلة سيخرج عن العادة، سيحتفظ بهذه الأنثى الناعمة لنفسه. عفا الله عما سلف: كان ذلك غالبا ما يحدث مع بائعات هوى متشردات، لا يملكن شيئا من بهاء ضيفته وسواد عينيها السائلتين وبياض بشرتها واتساق قوامها، وبسمتها، كل ما فيها يهدي إلى سبيل المتعة والاطمئنان.
ـ صوتك حلو، اشربي.
كانت كلما شربت وناولته القنينة لحسها ورشف ما تبقى فيها من ريقها العذب، وحين أطلقت موالها الشاهق تسرب الشلل إلى أوصاله وانتابه الذهول. فيما مضى كانت مملكة الغناء بالنسبة إليه لا توجد خارج الهند. كان يعتقد بيقين يستطع أن يقتل من أجله، أن الطرب الهندي وحده قادر على تحريك المشاعر، لكنه الآن يستطيب تغاريد معشوقته الجديدة.
ـ عجيب
ـ مم تتعجب؟
ـ من نفسي، في أي عالم كنت؟
ـ وهل تعرف أين أنت الآن؟
ـ تقريبا.. لكنك لم تقولي لي ما اسمك؟
ـ إيناس.
ـ الله أكبر
لن يتركها تغادر هذه الغرفة أبدا. لقد أضفت عليها ملامح الأنس والسرور، وهي الأخرى في ما يبدو له لا تفكر في الذهاب إلى مكان آخر. انتهت حكاية السفر. ولن يكون مجبرا على الاستيقاظ باكرا ومرافقة التجار إلى السوق، ومضاعفة العمل كرجل تنتظره زوجة جميلة. سيتفرغ لها ويخرج من حين لآخر لتشغيل أصابعه.
____________________
(*) فصل من رواية.