محمد عبد السلام منصور
كنت واحدا، من بين الطلبة القلائل، الذين التحقوا ١٩٥٨م، بالمدرسة المتوسطة (الإعدادية) الوحيدة، في صنعاء، كان اللافت، من بين أساتذتها، أستاذ النصوص الأدبية عبد العزيز المقالح، ننجذب جميعا إلى قراءاته المميزة للنصوص، بصوته الإذاعي الهادئ، واضح الحرف، لطيف التعبير، سهل الإفهام، واستثارة الإعجاب بالنص ومبدعه، أكبرنا المعلم العشريني وأحببنا درسه، بما جعلنا مستعدين لقبول رؤى الأستاذ ومواقفه، التي تأتي على لسانه تلميحا، حول حياتنا البائسة، وعدم أخذ العرب بأسباب الحضارة الإنسانية الحديثة، رغم أنها استفادت من إسهاماتهم التاريخية فيها، بأسلوب هادئ، كان يبين لنا جوانب بؤسنا، بالمقارنة إلى الحياة في البلدان المتطورة، فيثير في أعماقنا، غريزة رفض الإنسان لحالته حين يدرك حقيقة بؤسها؛ تطلعت أشواقنا الشابة، إلى صنع الحياة الأكرم والأغنى.
ذات صباح ربيعي، أطل علينا أستاذنا الأثير، شرع يقرأ قصيدة (جمال الريف) لمحمود غنيم (١٩٠٢ـ ١٩٧٢)؛ لاحظت أنا وزملائي أنه كان يتمهل في التلاوة، حتى كاد أن يتغنى، بتلك الأبيات التي تصور لنا أثر المجتمع الريفي، في صقل القدرات الإبداعية، وتنشئة النفوس، بالقيم الإنسانية الرفيعة. كان عنوان هذا المقال هو، أحد أبيات القصيدة، الذي سكن مني الذاكرة، وجعلته مفتاحا؛ للتعرف على عبد العزيز المقالح الإنسان، كما اعتمدته منطلقا؛ لقراءة إنتاجه، الفكري والإبداعي الغزير.
أتى الصبي ذو الستة الأعوام من أعماق ريف بائس لتضمه صنعاء في أحد أحيائها الفقيرة، وظل كلاهما ـ الريف بمدرجاته المزروعة، والمدينة بفنها المعماري، يهمسان، لأعماق الصبي، أيام دراسته الابتدائية، أنهما توأما حضارة يمنية قديمة، تنامت في ذهنه الأسئلة، عن سبب تخلف اليمن، فلم يجد لأحدها جوابا.
غادر صنعاء إلى مدينة حجة واستقر فيها لمواصلة دراسته بجوار والده السجين مع نخبة من مثقفي اليمن الثائرين على تخلف اليمن وانغلاقه، وأثناء دراسته، تتابعت إلى ذهنه الإجابات على تلك الأسئلة التي حيرته، ظل يلتقطها من واقع سجن هؤلاء الثائرين، ومن خلال الدروس التي سُمِح لبعضهم إلقاؤها على الطلبة الذي كان الفتى واحدا منهم. أثناء سنوات الدراسة السبع، التي قضاها مع مدرسيه دعاة الحرية السجناء، تفتحت مداركه؛ استوعب حقيقة التخلف ومداه الواسع، وابتدأت تتكشف له أسباب هذا التخلف، ليدرك بوضوح أن الجهل، الذي فرضته، عبر التاريخ حروب المستبدين والغزاة على أغلب المجتمع الأعم، هو الذي هزم ثوار ٤٨ الدستوريين، وأفشل مشروعهم الإصلاحي، ورمى بهم إلى عذابات السجون وساحات الإعدام، الأمر الذي أوجع وجدانه، فاشتملته غلالة حزن شفيف لم يفارقه حتى الآن، غير أن فيه الوعي والضمير، فاشتاقت نفس الشاب إلى أن يكون واحدا من هؤلاء الثوار الداعين إلى تحرير الشعب من الاستبداد والاستعمار، وقد آمن مثلهم بأن مصدر السلطة هو الدستور الذي تضعه الأمة، كما آمن بأن القضاء على الجهل له الأولوية؛ فكرس معظم وقته وجهده لتلقي العلوم الأساسية بعامة، والأدبية منها على وجه الخصوص، كما اهتم بتكثيف قراءاته الحرة المتعددة، لإثراء فكره بثقافة موسوعية، تنير له دروب العمل سعيا لتحقيق مشروعه الأدبي والتعليمي؛ فما أطل عام ١٩٥٨ إلا وقد قرأ الأغلب من دواوين الشعر العربي قديمه وحديثه وكثيرا من كتب النقد الأدبي السالفة والمعاصرة، بما مكن هذا الشاب العشريني المثقف، من إجادة الكتابة الشعرية بامتياز، فضلا عن كونه كاتب مقال ومذيعا متفردا، وها نحن طلبة المرحلة المتوسطة رأيناه، في تلك السنة، أستاذا تنجذب إليه أسماعنا وأبصارنا. وناشطا سياسيا، هيأ نفسه لنشر المعرفة بين صفوف الجماهير اليمنية؛ وكان واحدا من الأساتذة الذين شجعونا على الاشتراك في المظاهرة الشهيرة التي نظمها طلبة الثانوية قبل قيام ثوة الـ ٢٦ من سبتمبر بأشهر قليلة، وعلمنا بعد قيام الثورة أنه كان منخرطا مع نفر محدود من المثقفين المدنيين، في عمل سري منظم يهيئون للثورة ولهم علاقة مع تنظيم الضباط الأحرار الذي فجرها، وأنه كان أكثرهم مشاركة مع قيادة التنظيم، في تحديد أهداف الثورة، ومواكبة خطوات الإعداد لقيامها، وكان بالفعل من أوائل من سمعناهم يعلنون، عبر إذاعة صنعاء، قيام الثورة، بأهدافها المتضمنة استبدال الملكية بالنظام الجمهوري.
أما بعد نجاح الثورة واطمئنانه على ثبات النظام الجمهوري؛ فقد أضاء وجدانه بالرغبة الأثيرة في نفسه، التواقة إلى تحصيل مزيد من العلم، الذي أراد أن يكون أكاديميا حتى أعلى درجاته، من أجل ذلك غادر صنعاء، وفي القاهرة ركز جهده ووقته على الدراسة الأكاديمية، وتكثف إنتاجه الفكري والإبداعي، في مجال النقد الأدبي، والإبداع الشعري، فضلا عن توسيع علاقاته بأهم المثقفين المصريين والعرب، مشاركا في أنشطتهم الثقافية، كما أقام في منزله ندوة أدبية أسبوعية كان يحضرها أهم المفكرين والمبدعين المصريين، والعرب، واهتمت المجلات الأدبية المصرية والعربية بنشر كتاباته الشعرية والنقدية. وفي خضم تحصيله الأكاديمي المكثف ونشاطه الأدبي المتواصل لم يغب لحظة، عن قضايا اليمن السياسية والأدبية، بل كانت الصحف والمجلات اليمنية في الشطرين تحتفي بنشر كتاباته المتنوعة، فترسخت مكانته الفكرية والإبداعية في نفوس القراء، وامتد صداها إلى الكافة، وظل فترة إقامته في القاهرة مزار النخب اليمنية بشطريه.
حصل على درجة الدكتوراه، قبل التطبيع الساداتي مع إسرائيل فعاد مسرعا إلى المدينة التي امتلكت شغاف قلبه صنعاء، ليؤدي أهم الأدوار الأنوارية في وطنه، من خلال كتاباته عن قضايا اليمن في الصحف والمجلات العربية واليمنية بشطريه، ليس هذا فحسب بل ومن خلال نشاطاته العملية، أثناء رئاسته لمركز الدراسات والبحوث، ورئاسته لجامعة صنعاء، وتركزت أهم نشاطاته في المركز على طباعة مخطوطات التراث اليمني المتنوعة، وتوثيق أهم أحداث التاريخ اليمني الحديثة، أصدرها المركز ونشرها في كتب متتالية، كما قام المركز باستيعاب عشرات الباحثين اليمنيين، الذين أثْروا الساحة الفكرية بدراساتهم المنشورة في مجلة المركز المتخصصة (دراسات يمنية).
أما الجامعة، فقد حملت فترة رئاسته مشعل التعليم الأكاديمي بحق، فأنشأت كليات التربية، التي تطورت حتى صارت هي الجامعات المنتشرة الآن في معظم المحافظات اليمنية، فضلا عن أن الجامعة كانت شديدة الاهتمام بإقامة الندوات والمؤتمرات المتخصصة في مجالات الفكر المختلفة وقضايا اليمن والعرب المعاصرة، كما احتضنت الجامعة الأكاديميين العرب الذين أجبرتهم ظروف بلدانهم على مغادرة جامعاتهم، وفي مقدمتهم الأكاديميون العراقيون، الذين أثروا الوسط الأكاديمي بخبراتهم ومعارفهم وسدوا فراغات كانت تعاني منها الجامعات اليمنية، وأقام د. عبد العزيز المقالح مقيله الشهير الذي حضره كثير من المفكرين والمبدعين من العرب ومن العالم، وكان حاضنا للباحثين والمبدعين اليمنيين – والشباب منهم بخاصة – الذين شملتهم رعاية المفكر والشاعر عبد العزيز المقالح، حتى صار الكثير منهم شعراء ومسرحيين وروائيين كبارا، أثْروا الساحة الفكرية والإبداعية اليمنية والعربية وصارت إنتاجاتهم مقروءة عربيا، وكثير منها مترجمة إلى لغات عالمية عديدة. ومازال الدكتور المقالح راعيا لحركة التنوير ونشر التعليم في اليمن حتى يومنا هذا وستستمر رعايته لهما في المستقبل من خلال إنتاجه الفكري والإبداعي الغزير والثري.