1- حكاية فعلا !؟
انتصبَ فجأة عند ناصية الشارع كالجني. حط لقلاق على الشجرة في يمينه. تمطت قطة أسفل الشجرة في يساره. مسح عرق جبينه بجنب سبابته وخلع الطربرش. نفضه وأعاده. رفع رأسه إلى أعلى الشجرة طار اللقلاق. خفض بصره نحو أسفل الشجرة نطت القطة وتسلقتها متوارية بين الأغصان.
رفع حاجبيه ثم خفضهما. مد يده اليمنى إلى الجيب الأيسر من البنطلون وأخرجها فارغة. مد يده اليسرى إلى الجيب الأيمن من البنطلون فتحسس شيئا. أخرج رزمة مفاتيح كمش عليها وأعادها.
رفع حاجبيه وخفضهما ثم جر رأسه ويده اليمنى نحو اليسار ودفعهما بشدة جهة اليمين. دفعة رأسه كتصويب ضربة رأسية نحو أحدهم. دفعة يده كضربة لاعب كاراتيه. (ملاحظة: حين جر رأسه ويده زمّ شفتيه وفتحهما بشدة كمن يقول بّاوْ).
رفع حاجبيه وخفضهما. وجدها؟ حنى جسده وتقوس جهة رجله اليسرى مادّا يده اليمنى نحو جوربه الأيسر. أدخلها فيها وأخرج علبة سجائر ( باين أنها علبة سجائر). ضرب العلبة من طرفها واستل ولاعة وسيجارة. وقعت الولاعة فالتقطها. أشعل السيجارة. أرجع الولاعة للعلبة وانحنى جهة رجله اليسرى. دس العلبة في الجورب الأيسر. ترك السيجارة معلقة في الطرف الأيمن من فمه. حركها بشفتيه حتى كادت تلكز خده. جر منها نفسا ونقلها بيده إلى الطرف الأيسر من فمه. لم يحركها. ظل يمص دخانها ويخرجه من أنفه كمدخنة سيارة. هاهو يعيد وضعها بين أصبعيه ويدخنها بحركات المنتشي. يخيل إلي أنه ينثر دخانها ويقول: أوووف على البشر.
هل ينتظر صديقا؟ أم موعدا مع امرأة؟ هل يتجسس على رواد حانة العجزة بعد إصلاحها؟ لعله رجل تعليم، أو محاسب في الجيش، أو خطاط لافتات إعلانية، أو نجار، أو مصلح مفاتيح، أو تاجر هواتف نقالة، أو من عمال النظافة. ولعله يهندس لسرقة شقة مدام روبرتا.
الطربوش الوطني الأحمر على الرأس طبعا، مانطو كولومبو يتعدى مقاس طوله، البنطلون الأصفر يلمع مع شمس منتصف النهار. لكن الحذاء الرياضي مغبر. قامة الرجل ذي البطن المنتفخ، متر ونصف تقريبا. شعر رأسه الأسود المنسدل المعقود فوق قفاه تتدلى منه ضفيرة مائلة للصفرة.
أنهى القصير سيجارته. وضع طرف عقبها بين ظفر سبابته وثمرة إبهامه. شد عليها بالأصبعين وأطلقها بحركة سريعة. لقد قذف عقب السيجارة وأوصله للجانب الآخر من الشارع.
تحرك من الناصية والتقط العقب المحتضر. عاد إلى الناصية ورماه بنفس الحركة. رفع حاجبيه خفضهما، فالعقب لم يتجاوز منتصف الشارع.
تحرك من الناصية نحو العقب وسحقه بقدمه.
عبر الشارع ودخل لحانة العجزة.
2- تبّـاً تبّـاً
تبّاً لي وتبّاً لحانة العجزة.
تبّاً للسكران بحانة فارغة من النساء. تبّاً لمن يشرب بالمناسبة، وإذا قام داخ خلفه المقعد. تبّاً لذاك السكير، عبّأ روحه بفقاعات البيرة، ثم وضع رأسه عل الطاولة ونام. تبّاً للبارمان الذي يرعى إمبراطورية الكؤوس على الكونطوار دون أن يحتسي واحدة. تبّاً لقطعة الأكل التي يُعدها طباخ الحانة بكل تفاهة، وتصبح لذيذة عند الشرب.
j j j
تبّاً للشاعرات اللائي ينسخن عقد الذكورة. تبّاً للشعراء، حين يحتبسون في مشنقة الكلام، ولا يتراجعون عن الانتحار داخل القصيدة. تبّاً للمطربات العربيات، اللائي يشبهن خيالا تطرده من النوم حتى لا تتهمك قرينة الفراش بالخيانة. تبّاً للكاديلاك التي لم أتشمم جلد مقاعدها.
j j j
تبّاً لمن لا يحلم بزوجته وكأنه يلتقيها للمرة الأولى. تبّاً للبنت التي انحنت لالتقاط الولاعة، وتدلى نهداها كأي أنثى تعمدت إرخاء السوتيان. تبّاً لضفائر النساء، لا يمكن أن تمر في الريح دون أن تخلف قطيعا من العيون يتبعها. تبّاً لمن لم يحسنوا التداوي بطحالب النساء وظلوا فقراء للمحبة. تبّاً للسماء، تسرف في الإنصات لروحك، ثم تصنع لك نعش الخراب.
j j j
تبّاً للشراب، حين نصبح أمامه كالبئر، ونُضَيِّع طفولتنا بالمرة. تبّاً للشراب، يحافظ على روحه في الشباب، بينما نزداد نحن شيخوخة. تبّاً للشراب، نريد أن ننساه لحظة، فيتذكرنا باستمرار. تبّاً للشراب، سافِرٌ دوما، في ما نحن نخجل من رؤية أنفسنا عراة. تبّاً للشراب، ينشب كؤوسه في أرواحنا كمخالب، ونجدها ناعمة كأصابع أنثى مدهونة بالعسل. تبّاً للشراب، الذي يستحق المديح والتمجيد كإله مخمور، لكن في العصر اليوناني فقط، مع الأسف. تبّاً للشراب، حين يُطيح بالجسد، ويبقى العقل منتصبا مثل قارورة لم تفتح بعد.
j j j
تبّاً تبّاً تبّاً. تبّاً وكفى.
تبّاً لي وتبّاً لحانة العجزة.
تبّاً لهذه الكأس
التي أفلست قبل أن أحتسيها.
تبّاً للنص الموالي وعنوانه «كل شيء من الكأس»،
فقد طلع للورقة وكأنه صاح وحزين.
3- كل شيء من الكأس
ذات كأس، اتفقوا جميعا على ألا ينظروا إلي آتيا نحوهم، أبصروني ذاهبا وخلفي زوبعة في فنجان أحلامهم المحبطة. لم يبصروني قادما، أمامي قافلة من أحلامي المستيقظة.
ها قد انضممت إليهم فزادت الكأس تعلقا بهم. أصبحوا يبصرونها ذاهبة وهي مترعة، ثم يرونها قادمة وهي لم تتهيأ بعد للقدوم نحو أيديهم المرتجفة. وكما لو أن حناجرهم بها مَسٌّ، وكما لو أرادوا رتق الثقب المفضي للعدم، عمروا موائدهم بالمزيد من القارورات.
تحلقوا حول أطراف النميمة، تأخذ الوشايات بتلابيبهم، يعرفون من أين تحتسى، هي المتوجة بالاحتباسات. عصاميون هؤلاء، بلغوا المجد من استلقاء أنفسهم، أقاموا برهانهم في دهليز تضيئه زجاجات بازغة للتو من ثلاجة معتمة. لم يسترشدوا بدليل، ولم يحاكوا السكارى القدماء. من استلقاء أنفسهم على رغباتها انتشروا في الأرض وعمروا المدن والأرياف والحانات. إيمانهم راسخ ويدركون أن الكأس قادرة على التكفل بما لم ينتهوا إليه.
ما عادوا يميزون: أطراف النميمة تلتئم بعد أن شرّحوها، الوشايات أصابها السكر فارتخت ولم تعد ممسكة بتلابيبهم، الزجاجات المحتبسة تندلق مباشرة نحو قصباتهم الهوائية فتصيبهم بالاختناق، لكنهم لا يضلون طريقهم نحو المجد. أشاوس وأبطال، يخلطون الليل بالنهار ولا يهزمهم السكر.
كل ما يعمل، تستطيع الكأس أن تتكفل به. هي الوصية على ما بقي من أرواحهم. القادرة الماكرة الناكرة، القوية عند الضعف، الضعيفة عند القوة، الصابرة الثائرة الخالدة حين يفنى الشاربون، الفانية حين نعجز عن أداء ثمنها.
الكأس صديقة الفقراء وعشيقة الأغنياء، تصلح أعطاب الذاكرة حين تصدأ، وتسوس شعبا حين يفقد الذاكرة. هي الكريمة حين يبخل التفكير، والبخيلة حين تسقط بين أحضانها ولا ترفع رأسك. وكل ما يمكن أن يعمل، تستطيع الكأس أن تتكفل به.
كل شيء من الكأس؛ الرحمة التي تسطع فجأة في القلب القاسي، اللسان الذي تصيبه الفصاحة بعد طول تلعثم، الكاميرا التي تسترجع شريط حياة لم يحمض في مختبر، انحلال عقد ظلت متيبسة في دولاب النفس، الوشايات التي تفلس فتنتحر تباعا… وما بقي، تستطيع الكأس أن تتكفل به. كل شيء من الكأس، كل شيء في الكأس.
4- واحد من الشخصيات المذعورة
عشر سنوات مرت دون أن يشرب كأسا واحدة. والبارحة اجتمعت عليه كل الزجاجات التي شربها في حياته. جاءته في النوم على شكل جيش تخبط بعضها وتصيح: نريد المناجل، نريد المناجل. لحسن حظه تذكر أن جده علق منجله في المطبخ. فقام من الفراش وسلمها المنجل وعاد للنوم. لكن القارورات رجعت من جديد تتخابط وتلوح في أيديها بنسخ متطابقة من منجل جده وتصيح: نريد أن نحصد، نريد أن نحصد.
خاف صاحبنا من الزجاجات أن تحصد رأسه فقفز مذعورا من الفراش وكانت الساعة تشير للعاشرة ليلا. فصاحبنا اعتاد أن ينام مبكرا مثل الدجاج. ما العمل، ما العمل، ما العمل؟ ظل يردد، ثم ارتدى ملابسه وانحدر نحو حانة العجزة بعد انقطاع طويل. لقد تأكد أن ذلك الكابوس إشارة من الدائرة الحلمية العليا بأن يعاود معانقة الكأس. لكنه تردد وطلب من حميد النادل قهوة كحلٍ. فهذه أول مرة يدخل فيها حانة بعد سنين. خلال نصف ساعة قضاها في رشف القهوة، كانت أسراب من زجاجات الجعة تحط وأسراب أخرى منها تطير.
رواد الحانة نساء ورجالا، جلهم تخطى عتبة الخمسين من عمره. إنهم شيوخ الشراب وأعلامه بالمدينة، يعْقِلوان على لتر النبيذ أيام كان بأربعين ريالا.
واحدة سكرانة وقع لها نزاع مع واحد عجوز، ولم يظهر لها سوى صاحبنا فراحت عنده منفعلة والكأس تتأرجح في يدها المرتعشة. أشارت بيدها للعجوز وقالت مشتكية: ذاك الحمار يريد أن يصيدني، أنا شاربة دجين في داري، أنا جئت فقط كي أنشط، ما شي باش يصيدوني الحمير. لم يجبها صاحبنا فصرخت فيه غاضبة: إيوا مالك؟ لسانك مقطوع؟ من الصباح وأنت عاصر على كأس من القهوة؟
فجأة وعلى غير المتوقع أجهشت المرأة في البكاء، بينما صاحبنا ما زال يسند ذقنه براحة يده مندهشا لا يعرف كيف يرد. أخيرا أشفق عليها العجوز فقام نحوها. أحاط عنقها بذراعه وباس رأسها ثم أمسكها من يدها وأرجها لمقعدها قربه. طلب لها كأسين من الرِّيكار.
المرأة شربت الأول ثم قامت من مقعدها رافعة الكأس الثانية. اتجهت صوبي – أنا عباس الأستاذ المعرف في حانة العجزة- مترنحة تكاد تتزحلق، وهي تغني: تعملها الكاس آعباس تعملها الكاس، هالكاس احلوو هالكاس احلوو.
5- الراوي يجالسني
طلع الدم للنادل في حانة العجزة من كثرة شجاره مع الزبائن. هذا يصرخ في وجهه: من قال لك آتني بالحساب؟ والثاني ينهره بدعوى أن الزجاجة باردة جدا، والثالث يؤنبه: كم مرة أمرتك بأن تقيد لكل واحد منا حسابه وحده.
النادل الساخط على الوضع وكأنه لم يجد سواي، استل ورقة كلينكس وخط عليها بيد مضطربة وسلمها لي. مكتوب عليها: «يخيل إلي أني أحمق وسط العقلاء. لم يحدث أن أحسست بهذا طول حياتي المهنية».
ما كتبه النادل خلق لي قلقا ثقافيا شاسعا وعامرا بالمشاكل. ولكي أقتنع بما كتبه، استعنت بالراوي وهو من أصدقائي، يشتغل في حانة العجزة منظفا للمبولة، مقابل ما يجود به عليه الزبائن، دراهم أو كؤوس شرب أحيانا. والراوي معروف عنه أنه يحكي القصص الخرافية، وبعد أن يحكيها يقوم بقصها إلى قطع، بعدها يسردها ثم يرويها في الأخير بالماء.
ناديت عليه لمجالستي وطلبت من حميد النادل إعطاءه زجاجة بيرا. الراوي يعرف القصة كلها. قبل مناداتي عليه كان يرى القصة من فوق، وفي طريقه نحوي كان يرها من تحت، وحين جالسني انخرط فيها وأضحى منظوره السردي معي.
أدخل الراوي أصبعه في أذنه. حكها وشم أصبعه وقال باستغراب: أذني تأكلني، وأنفي كذلك. أجبته دون أن أرفع بصري إليه: قد تكون مصابا بالأنفلونزا. اندهش الراوي من جوابي ولم يعقب عليه. قلت له ممازحا: يستحسن أن تقطر البيرة في أذنك، وأن تستنشقها دون استنثارها ثم تستنجي بها. لم يقم الراوي بردة فعل، فواصلت كلامي بجدية هذه المرة عن القلق الثقافي الشاسع والعامر بالمشاكل الذي أصابني به النادل حميد.
قال لي مطمئنا: إذا كنت عازما على التعليق على ما كتبه حميد، فلا بد أن تعرف أن المجانين على حد علمي، لا يفرقون بين ماء الصنبور وبين ماء الخمر. أما العقلاء فهم من يشرب الشراب.
رفع الراوي قنينة البيرة إلى فمه وأفرغها في جوفه دون قطع التنفس ثم وضعها فوق الطابلة. أدخل يده في جيب سترته الزرقاء الشبيهة ببلوزة ميكانيكي وأخرج زجاجة دجين. رشف منها جرعتين متتابعتين وأضاف قائلا: اسمع أيها الأستاذ المغفل، إني أعرف نماذج لا تحصى من هؤلاء العقلاء الذي قصدهم ذلك النادل المجنون:
– أحدهم يشرب النبيذ ويقطع بالجعة، أليس هذا شخصا عاقلا؟
– أحدهم وما أن أنهى زجاجتين من النبيذ حتى طلب الثالثة، لو كان مجنونا لما شرب أصلا.
– وتلك التي شربت دجين في دارها، وطلب لها العجوز كأسي ريكار، وأكملت بيرتها رقم 15 وحلفت أن تمضي في الشرب إلى أن ترى الذين حولها قِرَدة، لو كانت مجنونة لظلت تشرب إلى أن تراهم آدميين.
– وذلك الذي شرب حتى شرب، ثم توجه نحو صاحب صندوق الحساب وقال له: أنا لم أشرب شيئا، وإذا كنت شربت، فسجل عندك. لو كان مجنونا لنسي طريقه إلى صندوق حساب الشرب واتجه فورا إلى صندوق حساب الديون التي عليه.
ولكن ماذا تقول وماذا تفعل أيها الكاتب المغفل؟ أحسن لك أن تُفَتّح عينيك ببضع جرعات باردات، فربما تصبح واحدا من هؤلاء العقلاء.
6- أمامه صف من قنينات الجعة
مثل شخص قطر به السقف، وجد القصير صاحب الطربوش الأحمر نفسه في حانة العجزة وأمامه صف من قنينات من الجعة.
النادل الشاب تعجب من وجود هذا الزبون الجديد ذي المظهر اللافت واستغرب لكيفية دخوله للحانة دون أن ينتبه له. اتجه نحوه مترددا وسأله بعد تلعثم: لا تجعلها مني قلة صواب، متى دخلت ومن خدمك؟
رد الزبون دون تردد: أنت يا حميد.
تعجب حميد من كون الزبون يعرف اسمه، وحاول أن يتذكر إن كانت له به معرفة سابقة، فلم يتذكر شيئا. القصير لاحظ حيرة النادل فقطع حبل تفكيره: مالك يا حميد، ألست أنت الطالب الذي كان ينشط في اتحاد الطلبة، وكتب رواية عن اغتصاب طلبة من فصيلك لسهام حين اتهموها بأنها تروح تبات عند واحد خليجي في حي السلامة؟ اسمع يا ابني، أنا رجل في سن أبيك، تزوجت أربع نساء وطلقتهن جميعهن لأنهن لا يتقنَّ المعاشرة في الفراش، حتى كتّب علي الله واحدة بنت الحلال تساعدني في كل شيء. ترجع أيام شبابي، وتشاركني في الكأس، وتملأ معي أوراق الرهان، وترتب أفكاري حين أشارك في الجمع العام للنقابة.
تعرفت عليها يا حميد سنة 2000، كانت ناشطة وكنت ناشطا. البوليس كانوا سبب تعارفنا. فقد التقطونا وألقوا بنا في سيارة دوريتهم، وهددونا حين قالوا لنا راكم ناشطين غادي تْشوفو النشاط. وفعلا شفناه وعشناه حين تزوجنا بعد ذلك. سهام ليست رخيصة عندي. أنت تعرفها جيدا يا حميد. لقد كانت معكم في الفصيل الطلابي، واغتصبتها مع جماعتك، ثم كتبت عنها رواية سرقها منك سالم العرفوني ونشرها باسمه. ولكنك بطلها الحقيقي. فالشخص الذي سميته حميد الجبهة هو أنت. أما أنا فقد سميتني في روايتك بالخليجي الذي يفسد بنات الكلية. لقد أخطأتم كلكم وخاصة أنت. لأنك لا تعرف أنك ابني من زوجتي الرابعة.
تأمل في ملامحي، ألست أباك؟ انظر حولك جيدا، هل تراني؟ أجِلْ عينيك في أرجاء الحانة. ثمة المرأة التي شربت دجين في دارها، وطلب لها العجوز كأسي ريكار، وأكملت بيرتها رقم 15، وأمسكت كأسها الثانية وقصدت عباس الأستاذ. قربها المعلم كبور مصلح المفاتيح يوشوش في أذن رفيقه في الشرب عيسى المنظف في البلدية. إلى يسارك مصطفى البوليسي يتسلى بألعاب الموبايل في انتظار علال المحاسب في الجيش، ومرزاق النجار. لكنهما لن يحضرا اليوم لحانة العجزة. فقد اشتريا الخمر من متجر مدام روبرتا وفضلا الشرب في الهواء الطلق بعيدا عن ضوضاء ودخاخين الحانة.
التفت يمينا عند طرف الكونتوار، طرماش خطاط اللافتات الإعلانية، يتراهن مع زويقة بائع الهواتف النقالة حول من يفوز ببطولة كرة القدم، فيما يمسح البارمان عزيز رشاش البيرة من فوق الكونتوار، ويلهب نقاشهما حين يرجح كفة هذا مرة وكفة الآخر مرة.
أما زبونكم الأضحوكة موسى المنفاخ، فقد أصبح في حانتكم مثل المرأة. هذه تأتمنه على علبة سجائرها، والأخرى تأتمنه على حقيبتها. هذه تأتمنه على زجاجتها، والأخرى تطلب منه أن يراقب مقعدها ريثما تعود من التواليت خشية أن ترمي عليه غريمتها السحر.
لا شك أنه كلمك عن مشاكله التي ازدادت، وإن شئت التفاصيل اطلبها عند الراوي. ألم تنتبه إلى ما يحدث للزبونات حين رؤيتهن له؟ فما أن يطالعهن بمقدمه حتى يبدأن في التغامز، ولا بد أن تحييه إحداهن: ها الزين جا، افرحوا يالبنات. ثم يقمن بتقبيله في الفم واحدة بعد واحدة، مما جعله يشتري عدة علب اكلينيكس لعله يتخلص من خليط صباغات شفاههن، وخاصة أن منهن من تفضل إعادة تقبيله كلما جددت صباغة شفتيها في المرحاض.
كل الرائدات الزعيمات غسلن أيديهن عليه لطول ما جالسنه مجتمعات ورأسا في رأس ولم يصوِّرن منه شيئا سوى نتف علب سجائره وشي بيرات تالفات، وشي عشرين درهم. لم يأخذ واحدة للشقة التي يكتريها رفقة تالفين أكثر منه، ولم تصطده أحداهن لمنزلها رغم الضمانات وإغراءات «سأعجبك»، ولم تدوخه أشطرهن ليتصعلك معها بين حانات الليل المتأخر. وكلما أردن أن يلتوين عليه يقول لهن: أنا أحب النشاط والكلام، ولمس ما تحت الحزام، أما المعقول فأخوكم خلّاه لصاحبة البيت.
أقواله وتحفظاته لا تمنعهن من مجالسته كما ترى. ربما كي يظهرن لرئيسك عزيز صاحب الحانة أن عليهن الطلب، خاصة في أوقات الشدة، أو ربما إشارة لزبائن آخرين، أو لأسباب مجهولة تستدعي فتح تحقيق. فما رأيك في هذه الحالة يا حميد؟
استدر يا حميد، استدر ولا تخف. هل ترى القصير ذا الطربوش الأحمر، والسروال الأصفر، والحذاء الرياضي المغبر، أرأيت كيف قام من مقعده وطاف تباعا على عباس الأستاذ، وعلال المحاسب في الجيش، وطرماش خطاط اللافتات الإعلانية، ومرزاق النجار، والمعلم كبورمصلح المفاتيح، وزويقة تاجر الهواتف النقالة، وعيسى عامل النظافة؟ لقد همس في آذانهم كلمات معدودة وعاد أدراجه لمقعده يحتسي كأسه ويتلهى بجريدة رهان الخيل.
هل لا حظت أن فاطمة الصاروخ تلتفت جهته مرة مرة وترميه بعينيها المتقدتين مثل مصباحي القطار. موبايلها لا يكاد يتوقف عن الرنين من طرف زبناء يبدو أنهم خائبون بالنسبة إليها، فلا واحد منهم استطاع أن يدعوها للالتحاق به حيث يسكر الآن. أنت تدرك أنها جميلة وصغيرة، وأن بنطلون الدجينز يلائمها بما يكفي لجعل صاحب الطربوش يقع فيها أعمى.
والأخرى التي لا تدخن ولا تحتسي سوى المونادا، فيما السيدتان المسنتان الجالستان معها وتحتسيان الجعة وتكسرت أسنانهما من الشرب ونسْف السجائر، هما بالتأكيد واسطة العقد بينها وبين الزبناء القدامى وأولئك الآتين في طريق الإطاحة بأجسادهم وأموالهم بين ذراعيها. تعبير جميل يا حميد. قد يكون حرك مشاعرك الدفينة بما أنك حين نطقتُ به علت ملامح الاندهاش قسمات وجهك. هذا هو التفاعل بين القطبين الكبيرين في عملية المشافهة.
وعلى كل حال، أنت مفصول من العمل. إنك مجنون وسط العقلاء أيها النادل الشاب الغر. لقد تشاغلت عن عملك بسماع كلامي الفارغ من المعاني الجيدة. أصابك الصمم عن أصوات كل ما حولك إلا عن كلامي. لم تسمع عزيز الذي نشف حلقه من طول المناداة عليك لخدمة الزبائن. ضرب الكونتوار أكثر من مرة غضبا عليك ولم تسمع. صفق بيديه وصرخ ولم تسمع. أرسل لك فاطمة الصاروخ لتبلغك طلبه ولم تسمع. إنك مفصول من العمل. ركِّز النظر جيدا جدا. الطابلة التي تقف قدامها الآن وتحملق فيها مندهشا، هل تراني قاعدا في كرسيها وأمامي صف من قنينات الجعة، وقطر بي السقف، ولم تنتبه لي حين دخولي؟ ليس أحد هنا سوى عباس الأستاذ.
7- عباس الأستاذ
عباس الأستاذ، هاهو منزو في ركن بحانة العجزة. ضرب أخماسا من الكؤوس في أسداس. دَوَّر في رأسه خيارات فاشلة بالتأكيد، فجيبه لم يعد فيه قرش أسود ولا أبيض، والحاجة للشرب ما تزال تجذبه نحوها .
مستواه الاجتماعي لا يسمح له بأن يتوسل من أحدهم ثمن بيرة. صحيح أنه طالما أهدى زجاجات للكثيرين منهم حين كان جيبه ساخنا، فكيف يقنعهم الآن بأن جيبه يصفر. هاهو يتباطأ في صب ما بقي في الزجاجة حتى لا يلتقطها النادل حميد تاركا كأسه تزغرد من الفراغ.
يبدو أنه يفكر في المناداة على فاطمة الصاروخ، أو القصير، أو العجوز كي يسلفه أحدهم بعض القارورات. يعلم أن الباطرون عزيز أوقف مسلسل الكريدي على الزبائن بعد أن تضخمت فواتيرهم من فرط قولهم: أضف هذه إلى الحساب القديم. لقد شدَّ لهم الخاطر أكثر من اللازم ثم تبين أن ما عندهم كلمة، وبدل طردهم، قرر أن يجاريهم ريثما يفهمون رؤوسهم وكؤوسهم.
القصير ذو الطربوش الأحمر لا ينصحه بشيء، القصير يثبت عليه نظراته ولا يعبأ إن كان يحرجه بذلك. ينقر على طرف فم قارورته بسبابته ويواصل الدندنات. لو طلب عباس المساعدة من القصير، هل كان سيساعده فعلا؟ عليه التأكد من ذلك عند الراوي. القصير قد يخرجه كالعجين من الشعرة، ويرشده للكيفية التي يتمخض بها فيلد الجبل من صناديق الجعة بدل الفأر، وينصرف مرفوع الكأس مخلفا الجعجعة للأنذال الذين لم يعيروه اهتماما، حاملا معه الطحين لكي يصنع منه خبزة يفطر بها على الريق.
يقطب عباس أساريره ويبسطها. يمسك علبة السجائر الفارغة، يضغط عليها ويرميها في مطفأة السجائر. يسترق النظر إلى الشاربين، ويتجنب القصير. قام راح للمبولة. عاد وقعد في كرسيه. الجلبة لا تهدأ، وعباس الأستاذ هاهو منزو في ركن بحانة العجزة كأنه يفك لغز معادلات العالم. ها قد مد يده للكأس وشرب جرعة أخيرة نسيها لاصقة في قعرها. ارتفع ضغط الحاجة للشرب في دمه. فماذا يفعل؟
رشيد يحياوي
كاتب من المغرب