تنقسم مداخلتي حول الترجمة في عمان إلى جزءين، أتطرّق في أوّلهما إلى نتاج المترجمين وتنظيرهم للترجمة نشاطًا وممارسة وفي الثّاني إلى الترجمة كفعاليّة ذات مدلولات ثقافيّة.
أوّلاً، الترجمة نتاجًا وتنظيرا
عند النظر إلى النتاج الترجميّ العماني نجد أنّ للترجمة من الإنجليزية ما للأسد من نصيب. فهناك أعمال أدبيّة إنجليزيّة تُرجِمت إلى العربيّة، مثل ترجمة محمد العريمي لرواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل (2006)، وهناك ترجمات لأعمال ألّفها كتّاب إنجليز حول عمان، فقد كان عبدالله الحرّاصي من أوائل من ترجم أعمال رحّالة بريطانيّين أتوا عمان زائرين، كما اقتفى وترجم هلال الحجري أثر كلّ ذكر لعمان في الأدبَين الأوروبيّ والأمريكيّ، شعرًا ونثرًا، ابتداءً من الشاعر البرتغالي لويس دي كيمو (1524-1580) حتّى الشّاعر الأمريكي ماديسن جوليوس كاوين (1865-1914) والروائي البريطاني هاموند إنيس (1913-1998) مرورًا برحّالة من أمثال صمويل مايلز الذي زار الجبل الأخضر عام 1876 («غواية المجهول، عمان في الأدب الإنجليزي»، دار الانتشار، 2010). وثمّة أعمال عمانيّة أُلِّفت بالإنجليزيّة ثم تُرجِمت إلى العربيّة، من ذلك ترجمة حسن المطروشي لـ«اقتصاد المعرفة» لإبراهيم الرحبي (دار الفرقد 2012) ولـ«مذكرات رجل عماني من زنجبار» (دار الانتشار، 1014)، وترجمة خالد البلوشي لـ«عمان في عيون الرحالة البريطانيّين، قراءة جديدة للاستشراق» لهلال الحجري (دار الانتشار 1013)، وترجمة مبارك الصبحي لـ»زنجبار، التكالب الاستعماري وتجارة الرق» لعيسى الإسماعيلي (دار الغرير، 2012). وإن كان هناك نصوص من الأدب العالميّ فإنّها ترجمت من الإنجليزيّة لا من لغاتها الأصليّة، فقد ترجم محمد سالم الصارمي من الإنجليزيّة ترجمةً موزونةً مقفّاة نصوصًا من الشعر الياباني والأفريقي والصيني والهندي – إلى جانب الأدب الإنجليزي – ( «إطلالة، مجموعة قصائد مترجمة من الأدب العالمي» دار الفرقد، 2013).
يُلحَظ أنّ جميع هذه الترجمات تخصّ عمان، وأنّها من الإنجليزية إلى العربيّة، إلا أنّ ثمّة ترجمات لكتب تتناول ثقافات وشعوبًا أخرى مثل ترجمة حسن المعيني من الإنجليزيّة لـ«الفُرس، إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة» لهوما كاتوزيان (دار جداول، 2014)، كما أنّ هناك ترجمات من العربيّة إلى الإنجليزيّة، مثل ترجمة خالد البلوشي لديوان هلال الحجري «هذا الليل لي» (دار الانتشار، 2015، قيد الطبع).
على أنّ توجّه حركة الترجمة العمانيّة إلى اللغة الإنجليزية لا يعني أنّها صرفت النظر على نحو مطلق عن اللغات الأخرى، فهناك الترجمة الروسية لـ«بوح سلمى» للكاتب محمد الرحبي (2010)، وترجمة إحسان بن صادق اللواتي من الفارسيّة («نافذة على القصة القصيرة الفارسية الحديثة»، 2008) ومحمد المحروقي من السواحيلية («مغامرات رجل عماني في أدغال أفريقيا»، منشوارت الجمل 2006).
الحقّ أنّ الترجمات من لغات غير الإنجليزية وجدت لها حاضنًا تمثّلَ في «مجموعة الترجمة»(1). فإلى جانب ترجماتها الكثيرة من الإنجليزية(2) راحت المجموعة تتبنّى محاولات ترجميّة ذات مدلولات ثقافيّة مهمّة، ويبرز في هذا الشأن العدد الخامس من «الجسر» الصادر في 16/1/ 2008، إذ نرى فيه ترجمات من لغات غير الإنجليزيّة، كالفرنسيّة والروسيّة واليابانيّة والفارسيّة، إلا أنّ تمييز العدد تمثّلَ أكثر ما تمثلَ في احتفائها باللغات واللهجات المتداوَلة في عمان. فهناك ترجمات محمد الشحري عن الشحريّة وعقيلة اللواتية عن اللواتية وعبير الحضرمية عن السّواحيليّة وخالد البلوشي عن البلوشية.(3)
هذه المحاولة الجسورة ثقافيًّا أسهمت بشكل فاعل في إثرء حركة الترجمة في عمان، إذ صاحبه نشاط تنظيريّ لافت. نجد، مثلا، أنّ الأكاديميّ التونسيّ المقيم في عُمان، منير بن زيد، يمهّد ترجماته الإنجليزيّة والفرنسيّة لنصوص من الشعر العمانيّ بتنظير مستند إلى كلّ من الشّعر والترجمة، فيتطرّق أوّلا إلى ما قال به شعراء مثل الأمريكي روبرت فروست وولتر بنيامين في ترجمة الشعر، ثمّ إلى مفهوم «التكافؤ»، متناولاً منظّرين يرون ضرورة اتّخاذ النصّ الأصلي المتّكأ الأهمّ في عملية الترجمة، ومن ثمّ الإتيان بترجمة تبدو «غريبة» للقارئ على نحو يوحي له أنّه يقرأ نصًّا مترجَما لا أصليّا، والمنظّرين الذين يرون أنّ المترجم يجب أن «يوطّن» النصّ المترجَم لقارئه، فيجعله يشعر أنّه يقرأ نصًّا أصليًّا لا مترجما. ثم يقدم ترجماته الإنجليزيّة والفرنسيّة لنصوص شعريّة عمانيّة، «الدموع الحائرة» لسعيد الصقلاوي و«ينام العشق بعينك» لمبارك العامري و«حبّك أكبر» لبدر الشيباني. وينتهي بإجمال موقفه مما قدم من رؤى حول الترجمة بقوله إنه «يرى أنّ اللغة والخصائص الأسلوبية لا تمثلان كل شيء في القصيدة، بل لا بد أن تركز القصيدة بشكل أكبر على التأثيرات الجمالية»، ويضيف أنّه قلّل من «نزعة الأمانة المفرطة والتكافؤ والفضيلة في التعامل مع القصيدة الأصل»(4).
كما ذهب خالد البلوشي المذهب ذاته في تنظيره لترجماته من الشعر البلوشي، فقد دعا إلى أن تعدّ ترجماته أدبًا عمانيًّا عربيًّا لا أدبًا مترجمًا، وكانت دعواه هذه مستندة إلى قوله بأنّه اتّبع منهجًا يقوم على مبدأين: الأول يسمّيه «حفرًا تأويليًّا»، زاعمًا أنّه في قراءاته للنصوص الشّعرية التي ترجمها لم يحاول سبر أغوار تلك النصوص فحسب بل أغوار انطباعاته وأحاسيسه التي كانت تأتيه في أثناء القراءة، ويذهب إلى إنّه نقل تلك الانطباعات والتأويلات نقلاً كان أمينًا لها لا للنصّ الأصلي، وأنّه (المبدأ الثاني) لم ينشد محاكاة النصّ المصدر ولا الوفاء التامّ به، وإنّما سعى إلى إنتاج عمل أدبيّ، فنّيّ، مؤثّر. ولتحقيق سعيه هذا يقول بأنه لم يتورّع من أن يضيف إلى النصّ الهدف من الصور الجمالية ما رأى أنّه يزيد من وقع ذلك الأثر، وأن يترك من النصّ المصدر ما رأى أنّه يقلّل من ذلك الأثر(5). ويخلص إلى أنّه بسلك هذا المسلك كان أقرب إلى إعادة كتابة تلك النصوص منه إلى ترجمتها.
إنّ تنظيرًا من هذا النوع لا بدّ وأن تكون لها مدلولات ثقافيّة سأوضح بعضًا منها في الجزء الثاني.
ثانيا، الترجمة كفعالية وطنيّة ثقافيّة
الترجمة في عمان لم تنطلق من رؤى نُظِّر لها في علوم الترجمة فحسب بل استندت إلى سياقها العمانيّ العربي. إذ نجد أنها تنطلق من فكرة أنّ العروبة قيمة ثقافيّة حاضنة للمختلف والمتعدد والمتنوع. فمحمد الشحري قبل أن يقدّم ترجماته العربية للأدب الشحري يبيّن أهمّيّة اللغة الشحرية، إحدى اللغات السامية الجنوبية، بقوله إنّها لها آدابها وحكاياتها الشعبية، وإنّها تتميّز بفنون مغنّاة مثل «النانا» و«الدبرارت» و«الويد» و«التركيز». ويدعو النّاطقين بها والسلطات الرسمية إلى الإسراع على المحافظة عليها لكونها جزءًا من الثقافة العمانيّة، بل يضيف إلى ذلك بعدًا وطنيًّا عامًّا بتوكيده ضرورة دراسة «اللغات واللهجات العمانيّة ’الشحرية والمهرية والحرسوسية والبطحرية والهبيوتية والبلوشية ولهجات الشحوح وغيرها..‘»(6)، ويقترح في ذلك تسليط مزيد من الضوء الإعلامي على هذه اللغات وتفريغ الباحثين وتخصيص مساقات علمية لها في المؤسسات العلميّة.
وقد نحا خالد البلوشي المنحى نفسه في ترجماته للشعر البلوشي، فهو يضع تلك الترجمات في إطار الإسلام والعروبة بوصفهما ركيزتين مهمّتين للهويّة العمانية، مبيّنًا أنهما أقرب إلى قيمة حضارية ثقافية كوزموبوليتينيّة عالميّة يألفها الغريب، ويأنس بها المختلف، وتتمازج بها الأعراق، منهما إلى دين أو عرق، وأنّ عمان، تاريخًا ثقافة، تتبنّى هذه القيمة بل تجسّدها خير تجسيد؛ ثم يتّخذ ذلك منطلقًا ليقول بأنّ التمازج والتّعدد ينبغي أن يُحتفيا بهما احتفاءً تتجلّى به عالميّة وإنسانيّة العروبة والإسلام(7).
اللافت أنّ الترجمة في عمان بتنظيرها على هذا النحو تكون قد قطعت شوطًا لتصبح أداة ثقافيّة فاعلة لا مجرّد ناقلة للمعنى من لغة أخرى. فالترجمة من اللغات المتداولة في عمان تحمل في طيّاتها رؤية الانفتاح والانطلاق نحو آفاق جديدة من المعاني والتأويلات. هذه الرّؤية تتشابك مع الخطابات الأخرى في المجتمع، فتؤيّدها هذه وتعارضها تلك. ولا ريب أنّ ثمّة من ينظر لها نظرة شكّ وتحفّظ، ولا سيّما أولئك الذين يرون تأويلاتهم كتلة صلبة من الحقيقة، لعلّ شيئًا من ذلك يشير إليه محمد الشّحري بتعقيبه: «يظنّ البعض أنّ تسليط الضوء على المكونات اللغوية العمانية والغوص في أعماقها، يعد تهديدا للغة العربية الفصحى، جوهر الهوية الوطنية العمانية، أو تقويضًا للمشاعر الوطنية ووحدة الوطن العربي، ولكني أعتبر ذلك إثما، لأن التنوع الثقافي ضمن الوطن الواحد هو مصدر ثراء وغنى للثقافة الوطنية…»(8).
الخاتمة
نستنتج ممّا سبق أن حركة الترجمة في عمان متميّزة لا بما ترجمته فحسب بل بكونها قوّة ثقافيّة فاعلة. فهي أقرب إلى نشاط ثقافيّ منها إلى سعي محصور في اسبتدال لغة بأخرى، إذ تأتي مؤطّرة برؤى نظرية ووطنية، وبذا تسهم في الثقافة العمانيّة لا بتزويدها بما تنتجه الأمم الأخرى من معرفة فحسب بل بإسهامها في خلق حوار وطنيّ تتداول فيه تأويلاتنا حول الدين والوطنيّة بل قل حول الحياة بأوجهها المختلفة المتعدّدة.
الهوامش
1- قام في عام 2002م مجموعة من طلبة جامعة السلطان قابوس، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية برئاسة أحمد المعيني (كان حينها طالبًا في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، وهو الآن أكاديمي ومترجم بارز في عمان) وتحت إشراف د. عبدالله الحراصي بإنشاء جماعة في الجامعة تهتمّ بالترجمة، وقد أسهمت الجماعة بدور ترجميّ ثقافيّ فاعل حتّى صار لهم عدد أسبوعي خاصّ في ملحق «شرفات» الثقافي التابع لجريدة «عمان»، وملحق Beacon في جريدة أوبزيرفر الإنجليزية Oman Observer ومؤتمرات سنويّة وفعاليّات ثقافية أخرى.
2- من ذلك ترجمة الجماعة من الإنجليزية لمجموعة الشاعرة العمانيّة نصرة العدوية «بين حنايا أضلعي» (2004)، ولقصص أمريكية «لعبة اليانصيب: قصص من الأدب الأمريكي» ولقصص عالميّة «الساذجة: قصص من الأدب العالمي» (2008).
3- تتميّز عمان عن غيرها من الدول العربيّة بتعددها اللغوي والثقافي, ففيها لغات ولهجات متعدّدة مثل الشحرية والكمزارية والحرسوسية واللواتية والبلوشية والزدجالية والهوبيوت. تعدّ «مجموعة الترجمة» أول من احتفى بهذا التعدد.
4- منير بن زيد «ترجمة الشعر العماني إلى الإنجليزية»، في «الترجمة الأدبية في سلطنة عمان، قضايا وآراء»، تحرير رحمة المحروقي وبدر الجهوري، دار الانتشار (2011)، ص ص 93-94
5- خالد البلوشي، «المنطلقات الوطنية والنظرية للترجمة»، في «الترجمة الأدبية في سلطنة عمان، قضايا وآراء»، تحرير رحمة المحروقي وبدر الجهوري، دار الانتشار (2011)، ص 33
6- محمد الشحري، ترجمة الأدب المنطوق: ’الأدب اللغة الشحرية نموذجا» في «الترجمة الأدبية في سلطنة عمان، قضايا وآراء»، تحرير رحمة المحروقي وبدر الجهوري، دار الانتشار (2011)، ص 51
7- خالد البلوشي، (2011)، ص ص 30-31
8- محمد الشحري، (2011)، ص 42
——————————-
خالد محمد البلوشي