عمر شبانة
شاعر وكاتب أردني
ليس من المبالغة القول إنّنا حين نقف حيال شخصيّة الشاعر حسن العبدالله (1943 – 2022، رحل يوم 22 حزيران/ يونيو من هذا العام)، شخصًا وشاعرًا، وفي جوانبه كلّها، فنحن لا شكّ حيال شخص يمتلك خصوصيّة تبلغ حدود «الكاريزما»، فهو يمتلك أسلوبه في تقديم قصيدته في الأمسيات، الأسلوب الذي يقارب القراءة المسرحية أو «المُمسرحة»، وطريقته في تناول قهوته وسيجارته. وأستطيع القول إنه كان صاحب مزاج متقلّب بين الغضب حدّ الشراسة، وبين الرّضا حدّ اللين، لكننا لم نختلف حدّ الافتراق، رغم ما كان يعانيه من أزماتٍ حادّة في بعض الأحيان، منذ عرفته في الثمانينيات، حتى آخر لقاءاتنا قبل سنوات قليلة.. بل حتّى آخر اتصالاتنا على «ماسنجر» قبل مرَضه الذي أودى بحياته للموت. لكنّ المزاج الشاعريّ لم يكن ليؤثر في سلوكه الإنساني، كشخص صاحب ثقافة ودعابة وحضور محبّب حيث يكون، في بيته أم في المقهى، وغيرهما من أمكنة حضوره ومشاركته.
في مقالي هذا، أسعى إلى الإلمام ببعض أبرز ملامح تجربته، فعوالم الشاعر حسن العبدالله جديرة بالوقوف والتوقف والاستعادة، ولكن ليس بوصفها ذكريات مضتْ، بل هي معالم تبقى لديّ ولا تمّحي، وهي كثيرة وموزّعة بين عمّان وبيروت وسواهما من العواصم والمدن العربية، ومعالم ورؤيته الخاصّة إلى البشر والأشياء، وعلاقته مع الأصدقاء/ الصديقات في كلّ الأحوال والمقامات. هي إذن «صورة عن قرب»، وإطلالة على محطّاته وتنقُّله بين الشعر، للكبار والأطفال، وصولًا إلى اللوحة التشكيليّة بألوانها ومضامينها.
في غياب «الجَدوى»، والشّعور الحادّ بغيابها
ابتداءً، ما الذي يكتبه شاعرٌ عن صديقه الشاعر الرّاحل (فجأةً)؟ هل يكتب الذكريات المشتركة بينهما؟ ربّما لا يستطيع، وربّما ليست الذكريات جديرة بالكتابة، ولا جدوى من استعادتها، وذلك لأنّ سؤال «الجدوى» والشعور بغيابها، من أهمّ أسئلة الشعراء، ومنهم العبدالله، هو سؤال يبوح بفلسفته في الحياة، وخصوصًا تجاه الذكريات، كتب حسن العبدالله مرّة:
الذكريات هي الحياة
بعدما تكون
قد فقدَتْ حياتها
ولو شئنا لوجبَ أن نخصّص دراسة عن مفهوم «الجدوى» في شعر العبدالله، وهو ما يمكن أن يقوم به النقاد. ونستطيع الاستشهاد بأبيات قليلة، وقد تبدو عابرة، تُبرز الشعور بـ«لاجدوى» البشر، أو الأشياء، من نصّ سرديّ أو نثريّ/ شعريّ قصير نشره الشاعر منذ عامين تقريبًا، حيث يجلس (رجل) في المقهى، فتطلّ فتاة وتبتسم له حين تراه. يبتسم لها «صافحتني بحرارة، وكدنا نتبادل القُبُلات. لم أكن أعرفها!»، فاعتذرتْ منه «عفوًا… ظننتُكَ شخصًا أعرفُه»، وانسحبت، لكنّها، وهنا تظهر المفاجأة «عندما مدّت يدها لتفتح الباب، انزاح الشال الأزرق عند كتفها الأيمن، وظهَرَ واضحًا أثر شظيّة القذيفة التي كادت تقتلنا معًا، ونحن في الخندق، تحت شجرة الصنوبر، في الجبل في الحرب، منذ أكثر من أربعين عامًا…»- ويكتشف «إنها هدى!»، ويتابع السرد «تبعتها مسرعًا إلى الخارج، فرأيتها تندسُّ في سيارة أُجرة، انطلَقَتْ مُسرعة بها في جوف نهار الأحد الفارغ». ويرى أنّ «محاولةُ اللحاق بها في سيارة أخرى كانت ممكنة، لكن، ما جدوى ذلك»؟
هذه صورة من بين كثير من الصور يلتقطها الشّاعر، ليصوّر مشاعر اللاجدوى التي يؤمن بها، وتشكّل ملمحًا من ملامح تجربته الشعرية، وهي- بالمناسبة- ملمح من ملامح شخصيته وتجربة حياته، حياة ذات خصوصيّة في كلّ ملامحها، خصوصًا حين كان يميل إلى قدر ما من «المزاجية» الشعرية، مزاجية تبلغ في بعض الأحيان حدود السوداوية في رؤية العالم، وهي حال نعثر عليها في الكثير من قصائد الشاعر، دون افتقاد حسّ السخرية العميق، السخرية التي يرى فيها «أمضى آلة حادّة امتلكها/ استخدمها الإنسان منذ بدايات التاريخ، كما يقول، خصوصًا منذ «راعي الضّباب»، فضلًا عمّا كان ينشره منذ سنوات في صفحته على «فيسبوك»، وهو ما يستحق القراءة والتأمّل.
ظلالٌ وأوهام، وخسارات وسخرية
بدأت تجربة حسن العبدالله الشعريّة، حين كان لا يزال شابًّا، وكان ذلك من خلال احتسابه مع ما عُرف في السبعينيات بظاهرة «شعراء الجنوب»، فقد كان ابن بلدة الخيّام، في مدينة صيدا، فكانت مجموعتاه «أذكر أنني أحببت» (1972)، و «الدردارة» (1981)، تجسّدان ميلاد شاعر من هذه الظاهرة التي جسّدت بدورها نمطًا جديدًا من شعر «المقاومة».. مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية الصهيونية على لبنان وجنوبه. لكنّ مجموعته «راعي الضّباب» (1999) التي تأخّرت ما يقارب العشرين عامًا عمّا سبقها، جاءت مختلفة عن بداياته، فهي كما يبدو من عنوانها، ذهبت باتّجاه تعميق العلاقة مع الطبيعة والبشر وقضايا الإنسان بعامّة.
أقول ذلك بعد انتقال العبدالله من قصائد «المقاومة» مثل «أجمل الأمّهات»، التي ضمّها الديوان الأول، ولقيت انتشارًا واسعًا في تلك الفترة، فقد تحوّل من قصيدة بالتفعيلة مع بعض القوافي، إلى قصائد أقرب إلى النثر، ومن قصيدة غريبة وغرائبية له في مجموعته «راعي الضباب»، حملت عنوان «مرّ عامٌ»، يقول بطرافة وسهولة، متحدّيًا الاعتقاد السائد عما يجب أن يقوله الشعر.. ويبدو قوله، كما يقول صديقه الروائي حسن داوود إن قصيدة العبدالله بدت للمستمعين «ضربًا من الاستخفاف بالشعر وقدسيته، إذ، بحَسب اعتراضهم، هل يمكن أن يكون شعرًا ذاك الذي يجري على لسان رجل يقول لمن كانت محبوبته، في معرض تخلٍّ غراميّ: «هل تذكرين رداءة تحضيرك الشاي/ لا تضعي الشاي والماءُ يغلي/ وحين سكبتِ الشاي على سترة الشاعر الأردنيّ صديقي/ حين نهضتِ/ لقَلي البطاطا/ فشبّ حريق من الزيت والغازِ كاد يؤدي إلى كارثة». وقبل «راعي الضباب» كان الشاعر «ينتظر أن يظهر الشعر، شعره، وقد بلغ كماله».
ولأنّنا في سياق السّخرية، والسخرية اللاذعة حدّ إمكانية القتل، نستعير مقطعًا آخر يبدو معه الشاعر وقد بلغ ذروة «التأزّم» في وحدته وعزلته، وهذه أيضًا من سمات شعر العبدالله، خصوصًا إذا عرفنا أنه لم يتزوّج، وظلّ أعزب، فهو بقدْرٍ مكثّف من السخرية، وباللغة البسيطة المرحة حدّ الكوميديا السوداء، يسوغ لنفسه بناءات بنكهة شعرية جديدة وفريدة، من خصائصها أنها تغوص في الذات، وتسخر منها تلك السخرية اللاذعة والمريرة، كما في قصيدة «تحكي» قصة رجل يعيش وحدته وعزلته «وحدتي قلعتي (…) جنتي»، بعد علاقة مع امرأة مشكلة، وبعد مرور عام على انقطاع العلاقة، وترتيب عالمه الجديد إذ «كل شيء هنا/ حيث لا شيء إلّا أنا»، يخاطب تلك المرأة من عزلته وعالم أسراره «المقدّس»، معلنًا «أيّةُ امرأةٍ/ تتقدم من جنّتي هذه/ سأواجهها بالمسدّس».
هنا تتكثف وتحفر كل عناصر المأساة ومشاعر المرارة حين تغدو الوحدة «قلعة»، ويغدو الإنسان «شيئا»، وحين يستطيع أن يعلن ذلك في صورة معكوسة تمامًا، حيث السعادة في الوحدة، وفي أن «لا أحب/ لا أحب» يكمن الجمود كله الذي معه يتمنى المرء لو أنه حجر.. مستعيدًا قول الشاعر القديم «ليت الفتى حجَرٌ/ تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ». إنها السخرية الفكاهية وإن بكلمات مألوفة، فلا كلمات غريبة هنا، بل تراكيب لغوية طازجة ومن واقع التجربة غالبا وتنهل من لغة تراثية حينا. فهو بعد رحيلها أحدث ثورة «في الأثاث»، وغيّر معالم البيت. وهو حين تختار بديلًا له «أخف الرجال» يصرخ بها غاضبًا «أهذا غريمي؟» ويستنجد بصاحبه «أسعفوني بكأسي دفاقا/ وعجل إلى نجدتي يا نديمي». وما بين لغة الشارع المنقّاة والمشذّبة ولغة المثقف المتين تظل الجملة الشعرية ذات وهج ونكهة خاصين.
وفي «راعي الضباب» أيضًا، ننتبه أنّنا أمام راعٍ يجري تعريفه بالمُضاف «الضباب»، كأنما التعريف هنا من أجل مزيد من الغموض. فراعي الضباب لا بد أن يكون من جنسه، وفي مثل هلاميته، وقتامته أو شفافيته، وانتفاخه وتنفجه، وأن يكون راعيًا بكل ما في المفردة من محمولات. وراعي الضباب شخص حكيم ومتأمّل وقوي.. متين ومجرّب، مثلما هو شخص حالم وشرّير وساخر ومحبّ للحياة، ولا يخشى الموت، شخص على قدر من التناقضات يليق بمن يرعى قطيع ضباب.
ويتعمّق ويتكثف الاشتغال بالمفردة والعبارة والصورة، ضمن الحد الأعلى من الإحساس بالعالم منظورًا إليه من زاوية شديدة الخصوصية، وعبر عين تطيل التحديق في ذات الشاعر، وفي كل ما حوله، في حاضره كما في ماضيه القريب والبعيد، كما في رؤيته للمقبل من أيام. ذلك كلّه بهذه الشمولية في النظر والإحساس. وبقدر عال من الرغبة في تعرية الذات وتشريحها والسخرية من بؤسها و«بطولاتها»، يأخذنا الشاعر إلى عوالم جديدة في النفس البشرية، انطلاقًا من الذات في أحوالها، وفي علاقاتها مع «الآخر»، وصولا إلى الذات من خلال الآخر ومراياه. ويواجهنا الراعي الضبابي بالنور الذي يضيء الحياة ويكشف «ما ليس مرئيًّا» من العناصر (الحب، القوة، النسمة) التي تجعل الإنسان يواصل العيش، «فما الذي يُبقي الفتى حيًّا؟»
إنه النور الذي «يرفع الظلمات عنا وهو مستور»، والقوة التي «ترافقنا وتدركنا ونحن على فم الهوة»، والحب الذي «يفاجئنا بدفء غير منتظر إذا ما أقفر القلب» وهو النسمة التي تهب دائما «على جروح الروح حتى تنجلي الغمة».. وهو -إذن -قوة -قوى خفية لا يدركها العقل ولا تلمسها اليدان، بل يحدسها الوعي ويعيش بها. هذه واحدة من أدوات الشعر في التساؤل والبحث فهو لا يقرر بل يتساءل عن النجم المستور وعن القوة الخفية والنسمة والحب، عن ماهياتها، مصدرها الفاعل.. ورغم ما يبدو من تفاؤل، فإن رائحة التشاؤم والخوف من غياب هذه القوى الخفية هو ما يختفي في عمق هذه التساؤلات.
وفي خطوة تالية للقصيدة بالتفعيلة وروح النثر، يتقدّم الشاعر، حسن العبدالله، إلى قصيدة النثر البحت، فيقدّم قصيدة النثر، وربّما قصيدة من الشعر الحرّ، فنجد روح الشعر في النصّ الحرّ النثريّ، لكنّها الروح الساكنة في جسد القصيدة، في قلبها، دون أن تخسر شعريّتها المدهشة، حيث يمكننا قراءتها بوصفها شعرًا من دون أيّ إبحار في التصنيفات والمجهول، فمن قصيدة في تصوير المشهد الطبيعيّ ووصفه، نقرأ:
في ليالي الصيف الصافية
عندما نكون على شرفة البيت
أو في العراء
فإننا نادرًا ما نرفع رؤوسنا
ونتأمل نجوم السماء
وإذا فعلنا، فكم يستمرّ تأمّلنا للنجوم؟
فسرعان ما سنشعر بالألم في أعناقنا
والتعب في أعيننا
لأننا توقّفنا من زمن بعيد عن النظر إلى أعلى
وأمسَينا كائنات لا تكاد تحوّل نظَرها عن الأرض
تفحصُها وتتشمّمها
لتظفَر بما يمكن أن يظفر به أيُّ كائن
عاقلًا كان أمْ غيرَ عاقلْ
وإلى ذلك كلّه، نحن حيال نمط من التساؤلات والأسئلة الوجودية ذات البعد الفلسفي التي تنطوي عليها المجموعة. وثمة أنماط وأشكال مختلفة ومتعددة، بعضها وجودي يكتب علاقات ووقائع يومية، وبعضها معيشيّ/ يوميّ يسعى إلى أن يكون في جوهر الحياة، لكنها جميعًا أسئلة الشاعر ولغته وروحه المتدفقة شفافية واكتئابًا في آن، أسئلة تتخذ لغة مرحة وبسيطة، كما لو أنها لغة طفولية تحرف الكلمة عن مدلولها، بوعي شعري كامن وقادم من الشعور الجمعيّ بالأشياء، وقائم على التحريف والحذف والتداعيات والتأمُّلات.
«الماء يأتي/ الماء يقرع باب بيتي/- أهلًا وسهلًا قال كلب الماء…
إبداعات للأطفال: شعرًا ونثرًا
تلفتُ انتباهنا عند رحيل حسن العبدالله، إشارة الشاعر شوقي بزيع إلى هذا الجانب في إبداعات حسن العبدالله، ففي مقالة بعد رحيل هذا الأخير، يكتب شوقي تحت عنوان شديد البلاغة «حسن عبدالله يعود إلى كنف «الدردارة»: الشاعر الذي حوّل برْكة ماء صغيرة إلى أسطورة»، إشارة إلى قريته الدردارة ونبع مائها، ولا بدّ من إشارة إلى أن شوقي ربّما يلتفت إلى السيّاب الذي جعل من «جيكور» أسطورة، وأترك الكلام لشوقي بزيع الذي يكتب: لن تفوتني الإشارة إلى أن ما أنتجه حسن في هذا المجال (أي للأطفال)، لا يقل براعة وإدهاشًا عن كتاباته الأخرى. لا بل ندر أن استطاع أحد من عشّاق لغة الضاد والمشتغلين بها، أن يعبّر عن جمالياتها وحكايا حروفها وكهربائها المختزنة، كما فعل حسن في مجموعته «أنا الألف»، المقررة في بعض مناهج الدراسة، والتي يحفظها الآلاف من الصغار، والكبار أيضًا، عن ظهر قلب.
وإلى المجموعة نفسها يشير الشاعر السّوري مروان عليّ، في «منشور» له على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يوجّه إلى حسن العبدالله تحيّة تتضمّن إشادته بنتاج العبدالله الموجّه إلى الأطفال، وقد بتنا نعلم أنه أنجز ستّين كتابًا للأطفال والفتيان، وبعضها نال جوائز عربية متخصصة ومرموقة. يقول مروان علي عن تأثير شعر حسن العبدالله في ابنته ياسمين: تكفيني تلك الغبطة التي كنت أسمعها غامرة في صوت ابنتي ياسمين وهي في الثالثة أو الرابعة من العمر تغني قصيدة حسن العبدالله «أنا الألف»، وأنا أقود بها السيارة إلى روضة الأطفال. فكنت أطيل الطريق وأقود السيارة ببطء من المنارة إلى الروشة لكي تعيد الأغنية مرات عديدة…. وكان حسن العبدالله الذي بذل الكثير من وقته وعمره في كتابة الشعر والقصص للأطفال، يردد أن «الشعر، كلّ شعر كُتب في الماضي ويكتب الآن، هو كلام موجّه إلى البشر باعتبارهم أطفالًا على الدوام، سواء أكانوا في العاشرة أو في الثمانين من العُمر». ونقرأ ما أجمع عليه كثيرون في هذه القصيدة:
«أنا الألِفُ
أنا الألِفُ
إذا ما اصطفَّتِ الأحرفْ
أجيء بهمزتي وأقفْ
أمام الكلّ
أنا الأوّلْ
أنا الأجملْ
أنا الألفُ
أنا الألفُ
وفي يوم من الأيام
كنت أسير في الغابة
أنا «أَ» أقبَلَ الأرنبْ
أنا «أُ» أمُّه نامت وجاء الذئبْ
أنا «إِ» إنني أغضَبْ
أصير عصًا
وأهوي فوق رأس الذئبْ
فرّ الذئبُ
فرّ الذئبُ
فرّ الذئبْ.»
في عالَم الألوان الشعريّ
من بين جوانب أخرى كان يفاجئنا بها العبدالله، بداياته الفنيّة التشكيليّة، البدايات التي عاد لها قبل ستّة أعوام، في معرض حمل عنوان «مقام الأخضر»، وكما شكّلت الطبيعة، وخصوصًا صور الريف ومشاهده المشعّة بألوانها وأضوائها ومياهها، ثيمة أساسية في قصائده، فقد شكّلت أيضًا، إلى جانب محاور عدّة، المحورَ الأساس في معرضه «المدهش»، دهشة تبدو في عفويّته وبساطة لغته ومفرداته التي تسكن روح الشاعر/ الفنّان منذ طفولته، ومعايشته المتواصلة لهذا العالم الذي نراه.
هي عوالم مألوفة قرأنا ما يشبهها في قصائده «الرعويّة»، كما قلنا عن «راعي الضباب»، يمكن أن نقول عن «راعي الطبيعة»، فهنا نحن أمام «مقام الأخضر» بوصفه يشتمل على «فضاء الأخضر»، أو«ضفاف الأخضر» أو«ظلال الأخضر». والأخضر هنا ليس مجرد لون (أكريليك)، بل هو في الأساس ضَوء ساطع بالتفاصيل، ما بين الحقول والوديان والبراري، فضلًا عن حضور مميّز للبنايات المهدّمة، كأنّنا حيال مشاهد من الجنوب اللبناني وصور من بيروت، نتيجة الحروب المتوالية على لبنان من خارجه، وفي داخله.
كما أن أسماء اللوحات تحيلُنا ثانية إلى الشعر في صوره المتعددة، صور يبدو أن «مخزنها» هو الذاكرة والخيال والحلم. فمن هذه العناصر الثلاثة خلق الشاعر الفنّان عوالمه كما شاء، وليس كما يرى في الواقع، رغم واقعية الأعمال، واقعية تبلغ حدود التسجيل والتوثيق في بعض الأعمال، من دون التخلّي عن فنّيتها وشاعرية ألوانها وخطوطها. إنّها إعادة تشكيل للمكان، عبر الزمان، بل الأزمنة والتحوّلات. حتّى كأنّنا مع كتاب/ ديوان جديد للشاعر.
عن «مخزونه» الذي استمدّ منه هذه العوالم، يقول العبدالله: «كنت أعيش في بلدة محاطة بالزرع والاخضرار والمروج والأودية، ولا شك أن لوحاتي هي ترجمة للطبيعة في بلدتي الخيام».
ويضيف الشاعر أن «تجربة الرسم بدأت لديّ خلال مرحلة الدراسة الثانوية، وكنت موضع إعجاب لدى معلمة الرسم. ومضت السنوات إلى أن قدمت لي الفنانة التشكيلية اللبنانية خيرات الزين معظم أدوات الرسم، فشرعتُ في المهمة وتكونت اللوحة الأولى.. عندها شعرت بدهشة شديدة. ومع اللوحة الثانية اندفعت ولم أعد أتوقف حتى تحصّلت عندي هذه اللوحات. في السابق كنت أرسم اللوحة وأهملها قبل أن أرسم لوحة متقنة بالفعل».
ويغيب المبدعون، وتبقى إبداعاتهم تنوب عن أرواحهم. يبقى حسن العبدالله واحدًا من هؤلاء.