يكتب حسن عبدالله قصيدته في مناخ شعري دافيء. وحميم فتأتي قصائده وهي على قدر من البساطة والحميمية والقوة والايجاز، يظهر حنكة الشاعر وتجر بته الممتدة في العقود الثلاثة البادئة منذ مطلع السبعينات، كواحدة من أبرز وأهم تجارب السبعينات في الشعر العربي، على قلة ما صدر له من مجموعات شعرية. فالى مجموعته الجديدة "راعي الضباب" لم تصدر له سوى مجوعتين هما "اذكر انني أحببت" و "الدردارة"، ولم نقرأ له سوى القليل من الـ "ستين كتابا للأطفال بين شعر ونثر" كما جاء في ثنية الغلاف الأخير الداخلية وتأتي "راعي الضباب" بعد ما يقارب العشرين عاما على صدور مجموعته الشهيرة "الدردارة". ويمكنني هنا أن أستعير المثل الشعبي "غاب وجاب" ولا أجد سواه ما يعبر عن قيمة هذا الغياب الطويل وحصيلته وما عاد به الشاعر من غيابه وانطوائه على شعره وعدم نشره في صحيفة أو كتاب، باستثناء عدد من القصائد التي كان يقرؤها في الامسيات الشعرية العربية.
وبرغم أن حسن عبدالله انطلق ضمن ما عرف بـ "شعراء الجنوب" الظاهرة التي انطلقت في السبعينات، واطلقت عددا من الشعراء في اطار واحد وان تنوعت الأصوات.. فقد تمايز صوت صاحب "الدردارة"، منذ البدايات بكونه أشد التصاقا بالأرض وباليومي وبالتفاصيل، من دون انفصال عن الهم الوطني والقضايا الجوهرية، بل في سعي الى الارتقاء بكل ما يتناوله من مستوى الخاص الفردي، المحلي الى مستوى العام الانساني.
في "راعي الضباب" يتعمق هذا المسعى ويتكثف الاشتغال عليه وبه ضمن الحد الأعلى من الاحساس بالعالم منظورا اليه من زاوية شديدة الخصوصية، وعبر عين تطيل التحديق في ذات الشاعر وفي كل ما حوله في حاضره كما في ماضيه القريب والبعيد، كما في رؤيته للمقبل من أيام. بهذه الشمولية في النظر والاحساس. وبقار عال من الرغبة في تعرية الذات وتشريحها والسخرية من بؤسها و "بطولاتها"، يأخذنا الشاعر الى عوالم جديدة في النفس البشرية انطلاقا هن الذات في أحوالها. وفي علاقاتها مع "الآخر" وصولا بل عودة الى الذات من خلال الأخر ومراياه.
ابتداء، نحن أمام راع يجري تعريفه بالمضاف اليه "الضباب" كأنما التعريف هنا من أجل مزيد من الغموض والتفكير. فراعي الضباب لابد أن يكون من جنسه وفي مثل هلاميته، وقتامته أو شفافيته، وانتفاخه وتنفجه، وان يكون راعيا بكل ما في المفردة من محمولات. وراعي الضباب شخص حكيم ومتأمل وقوي.. متين ومجرب، مثلما هو شخص حالم وشرير وساخر ومحب للحياة ولا يخشى الموت، شخص على قدر من التناقضات يليق بمن يرعى قطيع ضباب.
وأول ما يواجهنا به الراعي الضبابي هو ذلك النور الذي يضيء الحياة ويكشف "ما ليس مرئيا" من العناصر (الحب، القوة، النسمة) التي تجعل الانسان يواصل العيش، فما الذي يبقي الفتى حيا؟" انه النور الذي "يرفع الظلمات عنا وهو مستور"، والقوة التي "ترافقنا وتدركنا ونحن على فم الهوة"، والحب الذي "يفاجئنا بدفء غير منتظر اذا ما أقفر القلب" وهو النسمة التي تهب دائما "على جروح الروح حتى تنجلي الغمة".. وهو – اذن – قوة – قوى خفية لا يدركها العقل ولا تلمسها اليدان، بل يحدسها الوعي ويعيش بها. هذه واحدة من أدوات الشعر في التساؤل والبحث فهو لا يقرر بل يتساءل عن النجم المستور وعن القوة الخفية والنسمة والحب، عن ماهياتها، مصدرها الفاعل.. ورغم ما يبدو من تفاؤل، فإن رائحة التشاؤم والخوف من غياب هذه القوى الخفية هو ما يختفى في عمق هذه التساؤلات.
وهذا نمط من التساؤلات والأسئلة الوجودية ذات البعد الفلسفي التي تنطوي عليها المجموعة. وثمة أنماط وأشكال مختلفة ومتعددة، بعضها وجودي يكبس علاقات ووقائع يومية وبعضها معيشي / يومي يسعى الى أن يكون في جوهر الحياة، لكنها جميعا أسئلة الشاعر ولفته وروحه المتدفقة شفافية واكتئابا في آن، أسئلة تتخذ لفة مرحة وبسيطة كما لو أنها لغة طفولية تحرف الكلمة عن مدلولها بوعي شعري كامن وقادم من الشعور الجمعي بالأشياء وقائم على التحريف والحذف والتداعيات والتأملات والتأملات… الخ.
في اللغة البسيطة المرحة حد الكوميديا السوداء يسوغ الشاعر بناءات بنكهة شعرية جديدة وفريدة، من خصائصها أنها تغوص في الذات وتسخر منها تلك السخرية اللاذعة والمريرة، كما في قصيدة "مر عام" التي "تحكي" قصة رجل يعيش وحدته وعزلته "وحدتي قلعتي (…) جنتي"، بعد علاقة مع امرأة مشكلة، وبعد مرور عام على انقطاع العلاقة وترتيب عالمه الجديد إذ "كل شيء هنا/ حيث لا شيء الا أنا لم سائر بانتظام"، يخاطب تلك المرأة من عزلته وعالم أسراره المقدسة معلنا "أي امرأة،/تتقدم من جنتي هذه / سأواجهها بالمسدس ".
هنا تتكثف وتحفر كل عناصر المأساة ومشاعر المرارة حين تغدو الوحدة قلعة، ويغدو الانسان "شيئا"، وحين يستطيع أن يعلن ذلك في صورة معكوسة تماما، حيث السعادة في الوحدة، وفي أن "لا أحب / لا أحب" يكمن الجمود كله الذي معه يتمنى المرء لو أنه حجز.. انها السخرية الفكاهية وان بكلمات مألوفة، فلا كلمات غريبة هنا، بل تراكيب لغوية طازجة ومن واقع التجربة غالبا وتنهل من لفة تراثية حينا. فهو بعد رحيلها أحدث ثورة "في الاثاث" وغير معالم البيت وهو حين تختار بديلا له "أخف الرجال" ويصرخ بها غاضبا "أهذا غريمي؟" يستنجد بصاحبه "أسعفوني بكأسي دفاقا/ وعجل الى نجدتي يا نديمي". وما بين لفة الشارع المنقاة والمشذبة ولفة المثقف المتين تظل الجملة الشعرية ذات وهج ونكهة خاصين.
وفي المجموعة رؤية للزمان والمكان في حركة كل منهما وفي لقائهما، عبر التذكر حينا، وحينا بالرؤية الواهنة، وفي ذلك كل تصوير لحركة الحياة ذات الاتجاه الدائري الذي تتكرر فيه الأشياء وتعود الى حالها، ولا أحد "يريد أن يرى/ بأن ما يظنه سعيا الى الامام / ليس غير قهقرى"، فهناك "على الطريق" دائما الأشخاص الثلاثة: رجل سبقني، ورجل سبقني، والانا المتكلم في الوسط. وهنا لعبة على الثنائيات أيضا (سبقني /لحقني). و(علبة فارغة من المسكنات / علبة فارغة من المنبهات). وعقل / حواس (لعبت بعقله حواسه).
والزمان يأتي في صور عدة مثل "انتظام الكواكب في مداراتها" وربط هذا الانتظام بـ "مواعيد أخذ الحقن" وقد تأتي الصورة ممثلة لمرور الليل والنهار أو في صيغة "كنا معا، في سكينة زان الزمان" أو في شكل تحسر على فقدان ما مثل "وكان في المكان ماء" يظهر تحولات المكان مع مرور الزمن… الخ.
وليس الزمن في احساس الشاعر، ومن ثم في شعره، بلا تأثير وهو أيضا ليس زمنا مجردا أو مطلقا، فهو شديد التأثير كما أنه شيء نلمسه. ففي شهر آب، حيث "الشمس تهاجم بيروت / وبيتي تحديدا.." يصحو رجل على فكرة أن يقتل جاره. وفي تشرين الأول (أكتوبر) تتأرجح العواطف بين الأصفر والبني، ويتمنى الشخص أن تدخل الشمس "وتجلس فوق الهرة" وكثيرا ما يستخدم الشاعر تلك العبارات الدالة على مرور الزمن. وفي أطرف الحالات، يلحظ وجود من يلعبون بحياته وموته، وان السيرة ستطول، فيطلب من امراته أن ترى أن كان ثمة من "يبيعون في الصيدلية صبرا جميلا.." أو يرى كيف يمكن أن "يحدث أحيانا أن يحدث ما لا يمكن أن يحدث"، وتتكرر "أحيانا" هذه في مواقع شتى من أطرفها حديثه عن السهل الذي "يحد اسرائيل – أحيانا – من الشمال.." ولابد من أن أحيانا هذه تخص اسرائيل ولا تخص الفعل يحد، لأن اسرائيل – كما يبدو في نظر الشاعر – ليست قابلة للوصف بـ "دائما" لأنها طارئة، وحين لا تكون اسرائيل فإنها تعود فلسطين (هل نحملها أكثر مما يقصد الشاعر؟). وكما رأينا تحولات المكان ومسخه، نسمع ذكريات المكان ونشم روائحه، خصوصا في "ذكرى من صيدا" و "صياد الفخ" الذي يرى نفسه ابن عشر سنون" ويمشي "بين صفي تين" في "سهل مرجعيون / تحت جنون شمس الصيف أو "على التل" أو "من وراء التل /يأتي أسر الروعة / آذان الظهر في الضيعة". ومن مشاهد صيدا الواهنة يقف الشاعر يشير لامرأة الى:
هناك تحت ذلك البناء
ذي الطوابق العشرين
كنتم تسكنون..
…
لاحظي
هناك أيضا
أكل الفضاء
بالاسمنت
وأمحت
حدائق الليمون
هذا مقطع من تحولات المكان لجهة قتل حميمية وانسانية ومظاهر الحياة الطبيعية فيه، وثمة مقاطع عن تحولات الانسان يرسم فيها الشاعر حال الواقع ويصف المشاعر ويغوص في أعماق النفس البشرية فيرى / يرينا "الناس يركضون" /لا حرارة / سوى حرارة الشراء والبيع / ولا صوت / سوى صدى ارتطام المال بالرجال /والرجال بالمال" ويعود للمقارنة مع صيدا التي نعرفها أين هاو؟ المرفأ القديم / أين الزورق الذي يخصنا؟/ وأين مهدي؟ قبطاننا الى بلاد ما وراء
الشك واليقين.." وليري بعين الطفل الذي غادره / غدره طريق البساتين والكهف والتلال.. وليعلن أن "أجمل القصائد التي كتبت / لم تكن سوى صدى / لرنة الحياة هاهنا.."..الخ.
نبرة الأسى الممزوجة بنبرة السخرية السوداء، هذه تطغى على حيز واسع من شعر هذه المجموعة، حتى أن الشاعر يقف ذاهلا أمام ما يحدث ولا يجد ما يفعله فيعلن يائسا "سميت نفسي فرقة الدفاع عن ضريح جدي" الذي قد يكون آخر ما تبقى من عالمه القديم، من موروثه وذاكرته وكل ما يوحي به الجد والضريح.
وتشف السخرية أحيانا فنرى أمامنا شخصا رومانسيا يتوهم أو يتخيل كيف يمكن أن يقترب من حفنة عصافير وحين يمسك بها يسألها لماذا لم تهرب، فتجيبه "عجبا/أو نهرب من شخص يتخيل". أو نرى الشخص يدخل المقهى فيلمح ابتسامة على شفتي امرأة تجلس مع رجل يكبرها كثيرا، ويعتقد أنها ابتسمت له لكنه لا يعرف كيف يتواصل معها ولو لمجرد أن يتأكد أن البسمة له. ليسأل النادل عنها فيخبره أنه لا يعرفها ولم يرها من قبل، ثم تقوم ويقوم الشخص الجالس معها ويذهبان دون أي التفاتة لنرى "ما أوحش هذا العالم !".
في هذه القصائد ينمي الشاعر احساسنا بوجود عالم أشبه بالعالم الروائي، فالشخص الذي تسجل القصائد أحواله بأسلوب يجمع السود والحوار والتداعي، هو نفسه بملامح لا تتغير هو نفسه "بطل" قصيدة "عمل" الذي يتهمه مدير الشركة بأنه وصفه بالنذل فينكر، ويصر المدير و.. يهجم عليه ويضربه "بمجسم احدى القلاع القديمة" ويترك العمل، ويذهب ليدعو أصدقاءه للاحتفال بالنجاة من "الشركة" ويعود الى الكسل فيدعوه بـ "حبيبي" وليكتشف أن القيم قد تغيرت، إذ لم يعد شرفا أن يكد الانسان ويتعب مادام قد،أجمع المال / لا أمل بفساد أقل / وقبح أقل" وما دامت أدوات النجاح "الغباء/البغاء/الرياء/ الدهاء/ الدجل..الخ.
ويفيد الشاعر من كتابة السيناريو، فيكتب مشاهد يستخدم فيها التصوير والقطع في عبارات مثل "يستطيع المشاهد أن يلمح الطفل.." أو يخاطب امرأة القصيدة "ها أنت في مطبخ البيت.. تسترجعين مشاعر حب قديم.. تبتسمين ابتسامة شخص حزين / بضع ثوان /لتنتبهي فجأة لاضطراب غطاء الوعاء على الغاز.. تقطعين بحزم خيوط الحنين.." ويصور الشاعر، كما المصور السينمائي مشاهد ولقطات تجمع عناصر عدة (شمس شرسة، أثار خطي دبابات، سنبلة، شجيرة ورد) كي يصل الى الهدف (جزء من ساق الرجل اليسرى للشخص المقعد).
ويدخل الشاعر في القصيدة أحيانا ليقول للقاريء في قصيدة "شمس الخيام" كم احتاج من مواد كي يكتب قصيدته.
فليقدر القراء
أي ليل
من ليالي النفس
أي غضب وصخب وراء
هذه القصيدة
الهادئة الانشاء"
وفي هذه القصيدة أيضا يقارن بين شمس قريته "الخيام" و "هذه الشمس التي تصلنا منهكة عرجاء/ عبر بناء راكب على بناء". ويقارن بين فضاء سهل مرجعيون و"هذي الفضيئات الفائرات كالثقوب في احياء شارع الحمراء"، فلا يجد مجالا للمقارنة. فهذه الأخيرة ليست سوى "فضيئات".. أي تصغير جريء هذا!
وفي قصيدة "قبر حرب"، الأطول والأعتق بين قصائد المجموعة، ما يشبه سيرة روائية لشخص يدعى حرب، سيرة تحفل بالمكان والزمان ادهنا حيث تحدث هذه القصيدة، فالقصيدة تحدث اذن وثمة "أجزاء يوم / هو السبت في أغلب الظن.." وثمة "شخص بكامله" قد تهدم و"ارتفعت سترة فارغة" و "امرأة معتمة" في ملابس الحداد كما يمكن أن نقدر، حزنا على الشخص المتهدم.. والزمن يبدو أيضا في ذمة الساعة الهائلة في يد القتيل التي أخذت قبضة من غبار النهار وعادت الى عتمة الطين" وثمة مدينة تحمل "سبتها المترمد" لتستقبل يوم "أحد هاديء" حيث الناس يتساءلون عن الشخص ويسألون "الراوي" عما يحمل في يده، فيقول لهم انه روح حرب، وحرب "شهيدي المجيد"، وحرب "قبل أن ينقبر كان حربا" ولكنه بعد انقباره "صار لا شيء.. لا تضعوا فيه معنى" دعوه "لقد مات"، فهل مات بأمر من أحد أو جهة ما…؟
ثمة نفس سريالي يسري في عروق القصيدة / الحكاية وتأمل للحياة والموت بوصفهما يتجاوران ويتتابعان فبعد أن أحس قبر حرب بالضجر، ومضى عموه وانقضى.. جاء أخوه الصغير لتستمر الحياة ويتكرر الموت والانبعاث.
هذا كله وسواه من عناصر وأدوات وأساليب بناء قصيدة ذات ايقاعات تكون بألوان المشهد، وتصبغ بأصباغ الحال المعبر عنها وتبنى بلغة رشيقة عادية ومألوفة مما في حياتنا اليومية. هذا ما يمنح قصيدة حسن عبدالله ومن ثم تجربته، قدرا عاليا من الفرادة والتمايز في الشعر العربي الحديث كله، أمام الكم الهائل الذي تقذفه في وجوهنا مطابع ودور نشر تنشو ما هب ودب مما يكتب عليه "إنه شعر"!
وأخيرا أعترف أنني، منذ سنين، لم أقرأ تجربة شعرية ترقى الى ما بلفته مجموعة "راعي الضباب" هذه من ارتقاء بالشعر واستعادة لمكانته المرموقة، وربما كنت قرأت قصيدة هنا وقصيدة هناك أما كمجموعة لها مواصفات الكتاب الشعري فهذا ما لم يحدث إلا مع مجموعة الشاعر حسن عبدالله.
عمر شبانة (كاتب من الأردن)