الذاكرة هي المنهل والمصدر بالنسبة للإبداع الشعري، فتكون القصيدة ـ تبعا لذلك ـ هي الفضاء الأرحب لعودة المنسي في أشكال متنوعة، تبعاً لطبيعة الشاعر وقدرته على التذكر والنسيان، «ولكن ليس من المبرر أن يكون حضور المبدع في نصه من جنس حضوره في الواقع. فالشعر لا ينسخ الواقع ولا يقوله كما هو، بل إنه يخضعه إلى عملية تحويل وتغيير وفق أعراف في الكتابة معلومة وقوانين في الإبداع دقيقة»i، إذ يمكن الاعتداد بالزمن كعنصر أساس في التلوين وإحداث الفجوات، وفي المسخ والمحو أيضا. إن الزمن آلية أخرى تعضد طاقة المبدع، وتمده بوسائل التحويل. فالتحديدات الزمنية التي تعارف الناس عليها (الماضي، الحاضر، المستقبل) غير نهائية في شكلها الفيزيائي الشائع. فالماضي المرتبط عادة بالذاكرة يبقى في حاجة إلى تقويم عن طريق فحص المحتوى المفكك للذاكرة؛ لأن الذاكرة حسب كاستون باشلار «لا تقدم لنا النسق الزمني مباشرة، فهي بحاجة إلى أن تتقوى بعناصر انتظام أخرى…»ii بمعنى أن هيكلة الزمن الماضي ونبضاته تختفي كلها في تفاصيل الأحداث التي عشناها.
وهكذا فإن التحديد الثلاثي للزمن (الماضي، الحاضر، المستقبل) في علاقته بالذاكرة، لم يمنع الإنسان من أن يتكيف معه، ويخلق لنفسه زمنا رابعا يتغذى على الأزمنة الثلاثة. فهو يدعم حاضره بذكريات يجدها مسعفة له، كما أنه ينعش شعوره بطموحات لا يستبعد تحققها عن قريب، وبهذا الامتداد تصبح الحياة ممكنة وواعدة بتحقق إشباع وجودي، يقلص من حدة الأسئلة والحيرة. وهذا ما يسميه باشلار بالشروط الزمنية لتثبيت الذاكرةiii.
انطلاقا مما سبق نصادف في سياق الموضوع ثلاثة مفاهيم، هي: الذاكرة والزمن والشعر. كل مفهوم يقترح علينا سياحة في التراكم المعرفي الذي حققه. إلا أن هناك علاقةً تجعل هذه المفاهيم الثلاثة مندمجة فيما بينها إلى حدود التماهي. ذلك أن النص الشعري يمتص كل العناصر المتاحة ليغدو ـ أي الشعر ـ الصورة الإبداعية النهائية لتلك العلاقة. ومن ثم فإن كتابة الحاضر عن أمس لا تعني اجترار ما مضى وإعادةَ إنتاجه، بقدر ما تعني إبداع ما مضى اعتماداً على لغة تكشف ولا تصف.. لغة شبيهة بلغة المتصوفة التي نجحت في نسف الحدود بين الأنا والمطلق. والشاعر بهذا المعنى ليس مؤرخا للأحداث. بل هو يذهب بأمتعة الذاكرة إلى المستقبل، هناك تتحول تلك الأمتعة، فيندثر ما لا يقوى على البقاء، وتنتعش المدخرات النفيسة وتلتحم باللحظة الحاضرة، وباللحظة القادرة على الصمود في وجه الزمن. هكذا تصبح تحف الذاكرة أنساغاً قادرة على تلقيح الحاضر والآتي. بل إن هذه الأنساغ ـ ذاتها ـ تتحول إلى أحلام في مقابل الذكريات. الأحلام حياة مؤجلة منشودة، مليئة بالمطلق المشتهى؛ أما الذكريات فأطلال وأشلاء معان، منها ما يستعاد بابتهاج، ومنها ما يحيي ظلال الألم.
في سياق فحص بعض منجز الشعر المغربي في علاقته بالذاكرة، ولأن المنجز كبير ومتنوع يصعب معه الانتقاء، فقد استحضرت معياراً يبدو لي موضوعيا، وهو معيار يفترض جودة هذا المنجز مثلما يفترض حضورا مكثفا لذاكرة الطفولة. وهكذا بدا لي أن ديوان (أذى كالحب) للشاعر حسن نجمي يستجيب كثيرا لموضوع الذاكرة من خلال الاستحضارات الكثيرة للحظاتها، ومن جهة أخرى هو عمل متوج بجائزة المغرب للكتاب سنة 2011.
نستطيع الجزم بأن ما من شاعر إلا ويوجد في مدونته الشعرية أشياء كثيرة من مدخراته الطفولية. قد يتأخر ظهور بعض هذه المدخرات في شعره حتى أواخر عمره؛ على اعتبار أن مرحلة الطفولة في تكوين الشخصية تعد من أخطر المراحل وأهمها على الإطلاق. بل إن ما يُخزن في الذاكرة من تجارب ومرئيات ومسموعات، يبقى متوهجا في حيويته وانتعاشه. وهذا راجع حسب علماء النفس إلى عوامل سيكولوجية وجسدية كثيرة، تتصل بإيقاع نمو الطفل في هذه المرحلة، وعلاقة بوالديه ومحيطه وبالتعلم وبأنواع اللعب التي يمارسها.
إن مدخرات ذاكرة الطفولة تتلون بكل ذلك، وتضع على سطح الحواس المثيراتِ الأساسيةَ للتذكر، كالروائح ونكهات الطعام والموسيقى. فهذه باختصار مواد قابلة لاستعادة ذكريات مرتبطة بها بسهولة. وفي حالة الإبداع الشعري تصبح تلك المدخرات قطعاً قابلة للتركيب، لتصبح نصا شعريا يعطيه الطفل الرابض في الأعماق من خياله اللامحدود الشيء الكثير، ويحاول الراشد الحاضر تهذيب مساحة الخيال التي أطلقها الطفل قبله، مع العمل على تحديث معطيات الذاكرة بما يتماشى مع جو النص وتجربته. بل نجد أحياناً مؤثرات ذاكرة الطفولة تأخذ بتلابيب الشاعر بقوة، وتهزّه هزّاً عنيفاً، مثلما يحدث في هذا النص الشعري من ديوان (أذى كالحب) للشاعر حسن نجمي:
لا أسْتطيعُ أن أمْنعَ رائِحةَ الشِّواءِ البَعيدة وَلا
بائِعاتِ الخُبْز عنْ لُغتي. كلَّما حَاولتُ أنْ أمسِك بِك
وَجدْتُ صورةَ أبِي تسْبقُني إلى الصُّور السَّريعة. كُلمَا
حَاولتُ أنْ أعتَرفَ بالحُبّ وجدْتُ أمِّي جَالسةً تبِيعُ
الخُبْزَ. وها أنَذا وحْدي ورَأسي سُوقٌ قَرويةٌ تَضجُّ
دائِماً هذا الضَّجيج النَّاعم النَّائي يَقْترب
هَذا التَّذكر الذِي يُعاقِب النِّسْيان، وَهذا الاغْتِباط
يُضيءُ وجْهي. كأنَّه وجْه مَيتٍ بِلا عَزاءiv
إنها أشياء الطفولة تقف بقوة أمام مشاريع الراشد لتعطل اتفاقاته وتواطؤاته على الحب. إنه «التذكر الذي يعاقب النسيان» بتعبير الشاعر نفسه. بل إن الشاعر يعترف بتحكم تلك العناصر البعيدة (رائحة الشواء ـ بائعات الخبز) في لغته أي في شعره. وهو محق تماما، لأن معظم الدراسات النفسية ركزت على البيئة وأنواع اللعب في التشكيل المستقبلي للشخصية. ومعظم الشعراء شعراء لأنهم عاشوا الغرابة والدهشة منذ بواكير تجربتهم بالحياة.
إن الطفولة مصدر كبير لاغتناء الذاكرة، باعتبارها المهاد الأول لتجميع الخبرات وإطلاق الخيال واسعا. فهي تمتلئ بمختلف ما يعاش ويُتلقى بالحواس، بدون رقابة أو تهذيب أو تشذيب، لأن الطفل يكون في المرحلة البدئية والفطرية، ولم تشرع بعد قواه العقلية أو الفكرية في التبلور. لذلك تحتشد تلك المدخرات بلا منطق أو ترتيب، ما يؤهلها لأن تدخل في علاقة فوضى وتنافر. وكلنا نعلم أن الخيال الشعري المعاصر، وفي مختلف الآداب العالمية يجعل تنافر الأشياء مبدأً في الإبداع الشعري، وانحراف العلاقة بين الدال والمدلول أساساً لبناء متخيله. وقد وُجد ـ اليوم ـ من يضع الشاعر والطفل في مكانة واحدة لقدرتهما العجيبة على خلق عوالم طريفة قائمة على أساس الميل إلى ما يشبه اللعب باللغة والسخرية بالمعجم. وكم من شاعر يعطل مراحل الرشد، عائدا إلى خمائل الطفولة وعوالمها العجيبة ليغترف منها بعض ما يجعله ممتلئاً بتلك العوالم السحرية، يقول حسن نجمي:
شَمْس عيْنَيكِ في عيْني/ تُضيءُ نَظْرُتك نَظرَتي/ وَوجْهُك وَجْهي/ ولِقُرْبي مِنْ صَدركِ / يُحْرقُني لَهيبُ القَلْب/ مُبْتَهجٌ بالدِّفْء/ ظَلَّ جَناحُكِ يُغَطّينِي/ ………………….
صِرْتُ أسْتَلقي عَلى ذِراعِك لأَنامv
إن المتأمل في النص سيجد شخصين: الراشد والطفل معاً، الراشد يمارس الحب، والطفل يرسمه بلغة تناسبه… لغة بسيطة وعميقة (شمس عينيك ـ تضيء نظرتك نظرتي ـ ولقربي من صدرك يحرقني لهيب القلب…)، وفي النهاية يتحد الراشد بالطفل بحثا عن الأمان القديم.. أمان من يستلقي على الذراع لينام. وهنا يصبح فعل الحب طريقة أخرى لعودة الذاكرة بكل جموحها لتعين هذا الراشد الأسيان على تحويل ذراع الحبيبة إلى ذراع الأم. ذلك الذراع الضامن للطمأنينة المفتقدة. ومثل هذا يصادفنا في هذا المقطع الشعري أيضا:
كَانتْ لي طُفولة فنَسيتُها
تَذكَّرْتُ على صَدركِ حَليبِي الأَوَّل
صِرْتُ أحِبُّ أرَق نَهْدِك
أهْفُو وأهَاجِر إلى عُشّك كَدوْري
……………………………
صِرْت أهْرُب إلى لُغَةٍ أخْرَى
لِأقُولَ: أحِبُّكِvi
وليس معنى هذا أننا ندين بنظرية فرويد في هذا المسعى التأويلي، فقد أوتي الشاعر من الحساسية ورجحان الفكر والذائقة الفنية، ما يجعله يستثمر مدخرات الذاكرة بذكاء، راسما بها لوحات فنية عميقة الدلالات والأبعاد. فالزمن يتجلى بالنسبة للمقطع السابق في صورة جمالية رائعة، تلك التي يتم فيها البحث عن الزمن الضائع، أي غبطة البحث في الذاكرة عن لحظة طفولة حيوية، كرد فعل نفسي يقي من الاستمرار في الشعور بالخوف من المجهول. وفي هذا السياق يتحدث مرسيا إلياد Mercia ELIADE عن الطقوس الاستسرارية المتعلقة بمحاولة العودة إلى الرحم من أجل اكتساب ولادة جديدة أو للوصول إلى نمط أعلى من الوجود، كأن يبتلع وحش بحري بطلا، فيخرج هذا البطل ظافرا بعد أن يشق بطن الوحش، أو كأن ينزل صاحب الطقس إلى حفرة خطيرة أو شق يتمثل فيه فم الأرض أو رحمهاvii. وهذا النوع من الطقوس إن هو إلا رغبة الإنسان في إخضاع زمن الذاكرة، وجعله شيئا تابعا لا متبوعا.
لكن يحدث أحيانا أن يتعارض الحاضر مع بعض الماضي المستعاد من الذاكرة. يقول حسن نجمي في موضع آخر من (أذى كالحب):
ذَلِكَ الصَّبيُّ المُمْتلِئ بِلحْظةِ المَساء
الصَّامتُ، المُتَكتِّمُ على أسْرارِه مِثْل أكْمَام الورْد
لمْ يَعدْ يلْعبُ الكُرةَ أو تُغْريه أعْشاشُ الدَّوْري
وَلكنَّهُ لمْ يَكبُر بعْدُ ـ كلَّمْتُه أمْسِ في اللَّيْل:
عِنْدما كُنْتُك لمْ تَكُن ذِراعي فَارِغَةٌ
لَمْ يَكُنْ جَسَدي وَحيدا
لَمْ أكُنْ بِلا حُلْمviii
هاهنا يحضر امتلاء الطفولة ـ اعتمادا على حمولة الذاكرة ـ ليعوض خواء الحاضر. فطفل الأمس هو طفل اليوم، لم يكبر، لكنه تغير. لقد فقد كثيرا مما امتلكه بالأمس، فقد القابلية للعب وفقد القابلية للحلم. ومن ثم تعطل التواصل بين صبي الأمس وصبي الحاضر. كأن صبي الماضي يرفض أن ينتزع من ذكرياته التي كانت تفيض بالحماس والحيوية. ولا شك أن القارئ لنص نجمي لا يغيب عنه استحضاره ـ على مستوى التناص العفوي أو الواجب ـ نص أدونيس الشهير:
ذَلكَ الطِّفْل الذي كنْتُ، أتَانِي
مرَّةً،
وجْهاً غَرِيبا
لمْ يَقُلْ شَيئاً. مَشينا
وكِلانا يَرْمُق الآخَر في صَمْت. خُطانَا
نَهْرٌ يجْري غَرِيبا
جَمعتْنا باسْم هذا الوَرق الضَّارِب في الصَّمْتِ، الأُصُولُ
وَافْترَقنا
غابةً تَكْتُبها الأرْضُ وتَرْويهَا الفُصُول
أيُّها الطِّفْل الذي كُنْت، تَقدَّمْ
مَا الَّذي يَجْمعُنا الآنَ، ومَاذا سَنقولُix ؟ والنصان ـ كلاهما ـ يؤكدان على اتساع الهوة بين طفل الأمس وكائن اليوم، أي امتداد مسافة من القطيعة واللاتواصل بين ذاكرة الحاضر وذاكرة الطفولة؛ كأن شرخا ما أوقف الحياة في عزّ انسيابها، وقطع على الامتداد شرطَ التكامل. فالطفل المستعاد يظهر غريبا وصامتا ولا يبدي أية استجابة للتواصل، حتى لكأنه يرفض أن ينتزع من برزخه القديم. ولذلك تبدو الذات في أوج معاناتها وهي تواجه ذاكرتها. والشاعر كالطفل تماما يدفع باللغة الشعرية في الاتجاه الغرائبي الذي يتيح للخيال أن يبتكر الزمن في صورة تحقق للذات ارتواء مطلقا.. إنه بتعبير محمد لطفي اليوسفي «ذلك الطفل الذي سيظل يقود الشاعر من حافة الأرض إلى حافة اللغة.»x
وعموماً، فإنه بالنظر إلى اشتغال ذاكرة الطفولة في تجربة (أذى كالحب)، سواء في النصوص المستحضرة في هذه المداخلة، أو في نصوص أخرى لم يسعفنا الوقت في استقصائها جميعاً، نستنتج أن الأنا الشعري لا يستحضر معطيات الذاكرة بدافع حنيني جارف يحافظ على معالمها وتفاصيلها، بل تحضر تلك الذكريات كعناصر مساعدة على استجلاء الرؤية الخاصة، وتعضيد مواقف تتخذها الذات في اللحظة المعاصرة. إنها تبدو كموتيفات مكملة للصور التي يرسمها الشاعر في سياق تأسيس الزمن الرابع الذي يتغذى على الأزمنة الثلاثة. وينطبق على تجربة حسن نجمي في هذا الديوان، رأي محمود درويش الذي يقول فيه: «الشاعر ـ كما يبدو لي ـ ليس هو صاحب اليد التي تحول الحجارة إلى ذهب، فذلك هو الساحر. الشاعر هو صاحب اليد التي تحول الحاضر إلى ماض. وتحول خصر العشيقة إلى ريشة ضائعة في الريح والصدى… أقرب إلى الروح، وأبعد من الغرفة. الشاعر هو صانع الغياب وذاكرة الغياب معا.»xi
الهوامش
i نور الدين الحاج ـ الأنا الغنائي في (لماذا تركت الحصان وحيدا) ـ دار أمل للنشر والتوزيع ـ صفاقس (تونس) 2008، ص 77.
ii كاستون باشلار ـ جدلية الزمن ـ ترجمة: خليل أحمد خليل ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت 1982، ص 49.
iii كاستون باشلار ـ المرجع السابق، ص 63.
iv حسن نجمي ـ أذى كالحب ـ مرسم ـ الرباط 2011، ص 20.
v حسن نجمي ـ أذى كالحب (المصدر نفسه)، ص 75.
vi حسن نجمي ـ (المصدرنفسه)، ص 121.
vii مرسيا إلياد ـ مظاهر الأسطورة ـ ترجمة: نهاد خياطة ـ دار كنعان للدراسات والنشر، بيروت (د. ت)، ص 79.
viii حسن نجمي ـ (المصدر نفسه)، ص 25.
ix أدونيس ـ المطابقات والأوائل ـ الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت 1988، ص 494.
x محمد لطفي اليوسفي ـ عن الشاعر ومكائد الطفل، ضمن كتاب: زيتونة المنفى(مؤلف جماعي)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1998، ص 42.
xi محمود درويش ـ عابرون في كلام عابر ـ دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 1991، ص 114.
عبد السلام المساوي\
\ شاعر وكاتب من المغرب