في العدد( 59) من مجلة نزوى الغراء نشر الدكتور محمد زروق مقالا تحت عنوان (نقد على النقد في قلعة ضياء خضير) تناول فيه كتابي ( القلعة الثانية- دراسة نقدية في القصة العمانية القصيرة) بالنقد الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى إظهار العيوب التي (من الضروري أن ننتبه لها حتى لا تتداخل الأمور وحتى نفصل بين مراتب النقد ووظائفه المختلفة) كما جاء في المقال. وكان الكاتب قد حاضر قبل ذلك عن الكتاب نفسه في إحدى أمسيات النادي الثقافي بمسقط. وقد شكرته على اهتمامه في حينها، ورددت على بعض ملاحظاته التي لم تتناول في معظمها غير الجوانب الشكلية التي لم أتبين معها شيئا يمثل قراءة حقيقية للكتاب أو دخولا في التفاصيل الفنية والفكرية والنقدية الكثيرة التي تضمنها، مع أن الكاتب ذكر في تلك المحاضرة أن الكتاب (مثّل قيمة في تاريخ الأدب العماني، فيه قراءات نصيّة متعمّقة ونظر في النصوص القصصية ومباشرة داخلية لها). وهو نص تم حذفه في مقاله هذا لسبب لا أعرفه، مع أن عددا من الصحف العمانية قد نقلته ضمن مانقلت من محاضرته في حينها.
وكنت قد سمعت قبل المحاضرة ما نقله أحد الصحفيين، بعد ذلك، في بعض الصحف العمانية من أننا سنستمع إلى (متفجرات نقدية). وقدعقّبت لحظتها، على سبيل الطرافة، بالقول: لقد اعتدنا، نحن العراقيين، على سماع المتفجرات، ولا حاجة بنا في هذا البلد إلى متفجرات أخرى من أي نوع. وذلك قبل أن يتبين لي فيما بعد أن الأمر لا يزيد، في حقيقته، على (مفرقعات) نقدية هدفها التشويش وإثارة الانتباه وإطلاق الدخان الذي يحجب الرؤية، ولا يبقي على شيء من التحليل والحوارالنقدي الهادئ والجاد الذي يتحرى الدقة ويهدف إلى خدمة الحقيقة.
فقد كنت أتمنى، وأنا أستمع كغيري إلى تلك المحاضرة وأقرأ الآن هذا المقال المأخوذ عنها في المجلة، أن ينصرف الجهد الأساسي للكاتب الذي يتصدى لمهمة النقد و(نقد النقد) إلى بيان هذه القراءات النصية المتعمقة، أو غيرالمتعمقة، والكيفية التي تمت بها من الناحية المنهجية والموضوعية الشاملة، من خلال معاينة الكتاب من الداخل وربط الرأي بطريقة تطبيقية والنظرية بمجال تحققها. لأن ذلك في ظني هو الجوهري والأساسي في كل قراءة تتصدى للدراسات والنصوص النقدية. أما أن يتركزهذا النقد على تسقّط الأخطاء، وتوهم وجودها إن لم تكن موجودة، وتعمُّد اختيار نصوص دون أخرى، ومحاولة الإساءة إلى الكتاب بأشكال وصور مختلفة تحت ذرائع منهجية مرة، وأكاديمية وعلمية، مرة أخرى، والاكتفاء بما يسميه كاتب المقال» بعض من المسائل الشكلية « والاقتصار عليها غالبا، فذلك هو المشكل في الأمر.
وما يذكره الكاتب في مقدمة نقده، أو نقده للنقد من أن (مضمون الكتاب في حاجة إلى كبير نقاش) ليس كافيا، إذا لم يكن نوعا من التبرير والتهرب من مواجهة الاستحقاق الجوهري في الكتاب، ومناقشة مضامينه وما ورد فيه من جهد نقدي وتصورات وآراء، حتى إذا اقتصر هذا النقاش على ( جهة اختلاف التصورات) كما يقول الناقد، وليس على شيء آخر.
لقد حظي الكتاب منذ صدوره في بيروت قبل عدة أشهر من عام 2009 باهتمام عديد من المبدعين والدارسين والنقاد العمانيين، ودراسة حميد عامر الحجري التي نشرت عنه في عدد سابق من أعداد مجلة نزوى، وجاءت ضمن دراسته لـ( جهود نقد القصة القصيرة في عمان)، يمكن أن تكون مثالا على هذا النوع من المداخلات النقدية المنتجة، على ما فيها من آراء واجتهادات قد نختلف مع صاحبها كلا أو بعضا. فذلك أمر طبيعي ومطلوب، ما دامت الدراسة تكشف عن قراءة موضوعية مستوعبة ومحيطة بكثير مما جاء في الكتاب في جانبيه النظري والتطبيقي.
وسأورد على ذلك مثالا هذا النص الذي كان القاص حمود الشكيلي مقدم محاضرة الدكتور زروق قد قرأ شيئا منه في تقديمه للمحاضر في النادي الثقافي:
(من الدراسات المهمة التي لا يمكن تجاوزها كتاب الدكتور ضياء خضير القلعة الثانية، فالناقد يتمتع بثقافة سردية قويّة ومتماسكة، ويوظف أدوات إجرائية دقيقة، ولديه من عمق الملاحظة ما يكفل له دائما الدخول إلى دهاليز العمل القصصي، سعيا إلى هتك المستور، وتعرية المختبئ، وفضح المتواري. وفي تضاعيف المقدمة التي مهد بها لمشروعه النقدي الطموح حدد تصوره للنقد. إن القراءة الجادة أو الاستقصاء النقدي، على نحو ما يرى، يهدفان للوصول للمعنى باعتباره تجسيدا للبنية العميقة للوعي الذي أنتجه.(…)
وعلى هدي هذا التصور قارب الناقد النصوص النقدية العمانية، وحاكمها محاكمة صارمة بعيدة كل البعد عن المداهنة أو المجاملة. وقد وضع يده على الكثير من العيوب التي لا تزال القصص العمانية الشابة تعاني منها وترزح تحت وطأتها، في الوقت الذي أظهر للعيان بعض نجاحات هذه القصص وأشكال تفردها وخصوصيتها. ومن الأمثلة على كشفه عن خصوصية بعض المجاميع العمانية وجمالياتها تلك القراءة التي أضاء بها مجموعة سالم آل توية «حد الشوف» حيث ثمّنها تثمينا عاليا ..) (انظر، مجلة نزوى، 2009، ع 58، ص149)
وأنا أورد هذا النص لهذا الناقد العماني الشاب لأظهر مدى الفرق بين قراءتين للكتاب تحاول إحداهما تلمس الجهد النقدي المبذول في الكتاب المنقود بأمانة وموضوعية، فيما لا تزيد الأخرى في معظم ما جاء فيها على محاولة إثبات الوجود، وإظهار العضلات، والشطارة النقدية التي تتذرع بمنهجيات وضرورات شكلية، وإعطاء دروس نظرية ذات طبيعة (علمية) و(أكاديمية) مبتورة في أغلبها.
وسأحاول فيما يلي تتبع ما جاء في هذه القراءة بالتوضيح والرد الضروريين لقارئ الكتاب والمقال المكتوب عنه في المجلة ما أمكن ذلك، مبتدئا ببعض الملاحظات الأولية العامة التي يمكن قراءتها واستنتاجها من مجمل اللغة واللهجة النقدية السائدة في المقال، من دون أن أُنكر أن في الكتاب جوانب عديدة بحاجة فعلية إلى مزيد من التوثيق والضبط، وأن إشارة الدكتور زروق إليها قد جاءت في مكانها تماما:
– إن هناك محاولة غريبة للإساءة إلى الكتاب لم تنفع لباقة الكاتب في إخفائها عن طريق الإشارة الخجول إلى أهمية الكتاب، وإظهار الحرص البالغ على رؤية مدى توفر الجوانب (العلمية) و(الأكاديمية) الدقيقة فيه؛ مع أنها شكلية في معظمها، كما سنرى ذلك فيما بعد.
– تجنّب المقال إيراد أي نص من النصوص الخاصة بمتن الكتاب من شأنه أن يثبت أو ينفي التصورات والأحكام التي توصل إليها صاحبه، وقال إنه يخالفني فيها، مكتفيا، في معظم ما نقله، بما ورد في مقدمة الكتاب والعنوان وقائمة المحتويات، وببعض الإشارات القليلة إلى جمل وعبارات مفردة ومبتورة، ومحرّفة أحيانا، وردت في متن الكتاب.
– اتبع الكاتب أسلوبا تجزيئيا غريبا في ما نقله من جمل وعبارات من هذه المقدمة، وبطريقة توحي بعدم توفر حسن النية وسلامة القصد، وتكشف عن تعال ونظرة فوقية متعالية، فضلا عن تنكّبها، على المستوى التطبيقي خصوصا، للأصول العلمية والأكاديمية الصحيحة التي كرس أغلب فقرات مقاله لتعليمنا إياها.
وفيما يلي توضيح لكل ذلك:
1- في العنوان الرئيس :
يعتقد الكاتب، في فاتحة ملاحظاته، أنني لم أوفّق في العنوان، وهو(القلعة الثانية) الذي اخترته لكتابي بالرغم من (شعرية) هذا العنوان و(وقعه على القارئ). والسبب في ذلك يعود في رأيه إلى (أن اختيار اسم القلعة يتنافى ومحتوى الكتاب الذي يظهر القصص العماني ضربا من الكتابة التي مازالت تخطو خطواتها الأولى).
وهو يضيف أن (لا عيب في ذلك ولكن الإشكال في وسم هذا الذي يبدو بداية تشكّل ووعيا غائبا، وعدم تمرّس في الكتابة وفقدان النموذج بالقلعة التي تمثل حصنا متينا).
وجوابي على ذلك، هو أنني أوضحت الأمر في الغلاف الأخير للكتاب والمقدمة الطويلة التي جعلت عنوانها ( القلعة الثانية لماذا؟). وقلت فيها إن الأمر لا يعدو أن يكون قلعة مجازية ثانية بعد قلعة الشعر الأولى التي وضعت فيها كتابي السابق عن الشعر العماني. وهذه القلعة الثانية تمثلها مدونة القصة العمانية بكل غناها وطموح أصحابها ورغبتهم في البحث عن فضاء للحرية تضيق به جدران قلعتهم القديمة…إلخ
فالأمر واضح إذاً، ولا أظن أن بالدكتور حاجة إلى البحث عن مطابقة ضرورية بين (متانة) القلعة، وهشاشة القصة العمانية أو ضعف عودها.لأن ذلك أمر متعب، ومن شأنه أن يثير في وجه القائل به صعوبات جمّة إذا أراد أن يبحث عن هذه المطابقة بين عناوين الكتب ومحتوياتها، سواء تعلّق الأمر بالكتب القديمة، أم بالكتب الحديثة التي شرّق أصحابها وغرّبوا وتركوا العنان لخيالهم واسعا في اختيار عناوينها، ومنها مثلا كتاب ( قلعة آكسل) للناقد الأمريكي (أدموند ويلسون) الذي ترجمه جبرا إبراهيم جبرا إلى العربية، وحوى مجموعة متفرقة من المقالات عن أدباء وشعراء غربيين، وصار منذ صدوره عام 1932م واحدا من كلاسكيات الكتب النقدية الغربية الحديثة في عدد قرائه واهتمام النقاد به. ولا أظن أن أحدا منهم قد توقف كثيرا عند تسمية الكتاب بالقلعة وما إذا كانت متانة الدراسات والمدروسين فيه سببا كافيا أو ملائما لهذه التسمية.
وما دام العنوان الذي اخترته للدراسات التي تضمنها كتابي المتواضع يحقق شيئا من (الشعرية) و(الوقْع على القارئ)، حسب الكاتب، فلماذا كل هذا القلق بشأن (التنافي) أو عدم وجود التناسب بين (متانة القلعة) و(رصانتها) من جهة، وضعف القصة العمانية وكونها (تخطو خطواتها الأولى)، من جهة أخرى؟
وربما بدا طرح مثل هذا السؤال بسيطا وساذجا، بل قد يكون زائدا إذا ما توافرت سلامة النوايا وحسن القصد. وهو الأمر الذي افترضه، ولكنني لا أعتقد مع الأسف بتوفره لدى زميلي الناقد بنفس الدرجة، لأسباب أجهلها. ذلك لأن ما نقله عني في مسألة ضعف القصة العمانية وغياب الوعي عند أصحابها، ليس دقيقا ولا كاملا، لأنه اكتفى ببعض الفقرات وأغفل عامدا كل التلفظات النقدية الأخرى ذات الطابع الإيجابي حول القصة العمانية، وما يتصل بها من أسماء قصاصين احتفل الكتاب بهم وأقام بناءه على الأسس التي أقاموها في نصوصهم حتى إذا اختلف التحليل وزاوية الرؤية من قاص لآخر، أو من نص لآخر كتبه القاص نفسه. وذلك لا يحدث فقط لأن الكاتب عمد إلى اجتزاء أقوالي الواردة بهذا الصدد في المقدمة التي اعتمد عليها دون غيرها واختار ما يتناسب وغرضه منها، بل لأنه لم يشأ أن ينظر في متن الكتاب إلى حقيقة الدراسات التي تناولت قصاصين عمانيين كبارا كانوا بعيدين في تقديري المتواضع عن هذا الضعف الذي يريد صاحب المقال نسبته إليّ، وتعميمه على كل ماورد في الكتاب من قصص وقصاصين. وقد ذكرت في الصفحة (13) من الكتاب أنني (لا أشك أبدا في أن قاصين عمانيين مثل سليمان المعمري ومحمود الرحبي وعبد العزيز الفارسي وآخرين غيرهم ممن شملتهم الدراسة، يرتقون في كثير مما كتبوه إلى أعلى المستويات التي بلغها السرد العربي الحديث رؤية وبلاغة خطاب ومعرفة بآليات القص وأساليبه).
وحتى بالنسبة للأدباء الشباب الذين تعاملت بشيء من القسوة مع بعض نصوصهم، هناك اختلاف في قراءتي لهذه النصوص داخل الكتاب. وما قلته، مثلا، عن معاوية الرواحي يختلف عما قلته عن هلال البادي، وما قلته عن مازن حبيب يختلف عما قلته عن زميليه السابقين. فهذا القاص الشاب الأخير يمتلك وعيا أكبر بالزمن وتقنيات السرد إذ تبدو الأحداث والإشارات في مجموعته المسماة ( الذاكرة ممتلئة تقريبا) موظفة غالبا لغرض أساسي يتصل بسيرورة السرد ووصوله إلى الخاتمة بطريقة مخصوصة تذكّر بالإشارات والتلميحات الواردة أثناء القص فتردها إلى بعضها وتربط ما تناثر من أجزائها وتوظفها لخدمة البنية العامة للحكاية، كما جاء في الكتاب.(انظر الكتاب ، ص119)
والعبارة الخاصة بمسألة الوعي في القصة العمانية التي اقتبسها الدكتور زروق من المقدمة أيضا وبنى حكمه عليها، ليست كاملة هي الأخرى. فقد قلت في الفقرة الموالية لها: (إن هذه الصورة قد أصبحت عرضة للتبدل والتغيّر مع مرور الوقت، وأن ذلك لا ينبغي أن يذهب بنا إلى حد الإسراف في الأحكام المبالِغة في تفاؤلها أو تشاؤمها، ورؤية الصورة بوجهها الأبيض أو الأسود فقط)(ص15)
والسؤال هو لماذا يصر الكاتب على اعتماد قول دون آخر، ورؤية الصورة بوجهها الأسود فقط، خلافا لما ورد في متن الكتاب ومقدمته ؟ وهل هنالك من سبب لهذا النوع من التحريف وسوء القصد في الاختيار سوى محاولة البناء على نصوص معينة دون أخرى من أجل الوصول إلى أحكام وتصورات مسبقة تورط الزميل الناقد في تقريرها والدفاع عنها، مع أنها غير صحيحة من الناحيتين النظرية والإجرائية ، كما رأينا؟
2 – أما العنوان الفرعي للكتاب، وهو (دراسة نقدية في القصة العمانية القصيرة)، والذي يرى الكاتب أنه (لم يكن متوافقا مع متفرّق المقالات التي ضمّها الكتاب. فالكتاب لم يقصر النظر على جنس القصة القصيرة على مستوى الدراسة بل تخطاها إلى الرواية والسيرة الذاتية ..).
أقول أما هذا العنوان الفرعي فلا أظن أن دراسة مذكرات ورواية واحدة كتبها كاتب عماني واحد هو محمد عيد العريمي إلى جانب كتابته لبعض النماذج القصصية القصيرة، يمكن أن تغيّر شيئا في عنوان الكتاب الرئيس أو الفرعي. وكنت أتمنى على الكاتب، بدلا من ذلك، أن يقول شيئا في دراستي المتكاملة لمشروع محمد العريمي السردي ذي التجربة الخاصة في الأدب العماني في كتابته لهذه الأجناس السردية التي يكمل بعضها بعضا، على نحو لم أجد معه بدا من دراستها وتقصّيها مجتمعة من أجل الوصول إلى رؤية سردية موحدة أو متقاربة في خصائصها ورؤاها الفنية والموضوعية.
3- في الملحق الأول
في حين ظل اعتراض الكاتب على الملحق أو الملحقين اللذين وضعتهما في الكتاب دون وجه حق، ليس فقط لأنهما (ملحقان)، أي لا يدخلان في متن الكتاب وصلبه، وإنما أيضا لأني أظن أن ما ذكرته في المقدمة من توضيح بشأنهما كان كافيا لإنهاء الكلام حولهما.
فقد قلت في الصفحة( 12 ) من هذه المقدمة إن (الملحق الذي وضعناه عن المقامات العمانية ومذكرات أميرة عمانية لا يمثل بالضرورة مرجعية من مرجعيات القاص العماني الحديث قدر تمثيله لجانب من التراث السردي الموجود في هذه البلاد قد يهم البعض معاينته والاطلاع عليه وفق الرؤية النقدية التي تناولناه بها من أجل التوثيق والدراسة أو الإفادة من بعض إمكاناته الشكلية والموضوعية).
أي أنني لم أقل أن لهما صلة مباشرة بالقصة القصيرة، ولم أضعهما في صلب الكتاب ليكون هناك مبرر للقول (أن لا مقام لهما في كتاب يتخصص بالحديث في القصة القصيرة)، ولا للسؤال البسيط أو غير البسيط الناتج عن هذه الملاحظة: ( لمَ التخصيص في العنوان الجزئي إذا كان الدارس سيوسع من دائرة النقد ويوسع من أجناس السرد؟).
4 – في الملحق الثاني
وفي هذا الإطار يمكن أن نتحدث، كذلك، عن الملحق الثاني الخاص بالاختيارات الخاصة بنماذج من القصة العمانية. وكاتب المقال يرى أنْ لا ضرورة أيضا لهذا الملحق الذي ضم أكثر من أربعين قصة لأكثر من أربعين قاصا عمانيا، أردنا من خلالها أن نعطي القارئ العماني وغير العماني انطباعا عن (حجم الجهد الإبداعي الذي بذله هؤلاء القصاصون والمساحة التي يحتلونها في المدوّنة السردية العربية الحديثة.) كما جاء في المقدمة.(ص13)
واعتراض الكاتب على هذه الاختيارات قائم، هذه المرة، على أساسين:
الأول: أن مثل هذا العمل ممكن، شريطة أن يتم في كتاب منفرد.
الثاني: أنه بحاجة إلى ضابط منهجي يتحرك فيه المؤلف في اختياراته، ولا بد من معيار للجمع حتى تكون القصص ممثلة فعلا للقصة العمانية، وليست ممثلة لذوق الناقد. ولا وظيفة لهذا الملحق خارج هذه الاشتراطات سوى تكثير عدد صفحات الكتاب.
وجوابي على ذلك هو: إذا كان مثل هذا العمل ممكنا من الناحية المبدئية في كتاب، كما سمح الناقد بذلك مشكورا، فما الذي يمنع من أن يكون موجودا في ملحق كتاب مكرّس لدراسة القصة العمانية ويشير إلى بعض نماذجها؟
ألا يمكن لعمل من هذا النوع أن يُشبع رغبة بعض القراء والدارسين في الاطلاع على نماذج قصصية مدروسة أو غير مدروسة في الكتاب من أجل توفير فرصة أكبر للحكم والمقارنة، وحتى تكوين رأي مستقل بعيدا عن أية إيحاءات أو ضغوط نقدية؟
وهل (القلعة الثانية) أول كتاب نقدي يعمد إلى مثل هذه الطريقة في وضع نصوص إبداعية مختارة في ملحق تابع للكتاب أو منفصل عنه؟
وقد لا أذيع سرا إذا قلت إن وجود هذا العدد من النصوص القصصية في ملحق الكتاب قد وجد قبولا واهتماما لدى كثير من القراء والدارسين داخل الجامعة العمانية وخارجها، بحيث دفعني ذلك إلى التفكير بإعداد ملحق لمختارات شعرية مماثلة عند إعادة طبع كتابي الآخر عن الشعر العماني الذي نشرته وزارة التراث والثقافة العمانية عام 2006 تحت عنوان (وردة الشعر وخنجر الأجداد). ولن يكون الغرض من ذلك بالتأكيد (تكثير عدد الصفحات) بل الحاجة العملية، والضرورات الخاصة بربط النص النقدي بمجاله الإبداعي.
أما (الضابط المنهجي) الذي يهمّ الدكتور زروق رؤيته في هذه الاختيارات، فلا يتعدى، في الواقع، الحرص على أن تكون القصة المختارة دالة ومعبرة، ومتوفرة على الحد الأدنى اللازم من شروط الكتابة القصصية، وممثلة لأسلوب القاص ولغته، وطريقته في مباشرة الكتابة السردية القصيرة، ما أمكن ذلك. أي أن عملية الاختيار لم تكن عشوائية، وقد راعينا فيها، أنا والقاصان حمود الشكيلي وحمود الراشدي اللذان ساعداني في عملية الاختيار، أخذ رأي بعض المبدعين أنفسهم أحيانا وفقا لهذه المعايير، كما أوضحت ذلك في مقدمة الكتاب.
ولذلك لم تكن هذه الاختيارات (ممثلة لذوق الناقد) كما يقول الدكتور زروق، على طريقته في توزيع الاتهامات وإلقاء الكلام على عواهنه. إذ يقتضي مثل هذا الكلام أن يحدد الدكتور (ذوق الناقد) و(ذوق القصص) المختارة، أو الاتجاهات العامة التي حكمت ذوق هذا الناقد في اختيارها.
وقد كنت سأشكر الدكتور زروق، وأحمد له صنيعه حقا وآخذ بملاحظاته في هذه الناحية، عند توفر الفرصة لإعادة طبع الكتاب، لو أنه تفضل عليّ وعلى قارئي مقالته بتوضيح شيء من هذه الضوابط والمعايير الأخرى، والتي يكتفي فيها كعادته بالوصايا (المنهجية) السخية والحديث النظري، ولا يخرج عن التشكيك والملاحظات العامة التي تتجنب الدخول في التفاصيل والحوار الفاعل القائم على شيء من المعرفة النقدية القابلة للتطبيق، والمراعية لخصوصيات النماذج القصصية المختارة أو المدروسة.
5- دراسة في القصة، أم دراسات في السرد:
يقول الدكتور زروق ( بالنظر إلى محتوى الكتاب يمكننا أن ندرك أن العمل هو نصوص أو أوراق دراسية لا جامع بينها وكان من المفروض أن يعنون الكتاب بمقالات في السرد العماني ليخرج الكاتب من هذه المآخذ التي تفصل الكتاب عن بعده العلمي).
وأنا أسأل الدكتور الناقد أولا عن مدى اتساق كلامه في هذه الجملة، قبل أن أُكمل عرض رأيه في هذه النقطة:
– كيف يمكن أن يكون الكتاب نصوصا دراسية (لا جامع بينها) مع أن (مقالاته) يمكن أن تجتمع تحت عنوان (مقالات في السرد العماني) حسب الصيغة التي يقترحها؟
– ولماذا لا يكون الجامع هناك هو (القصة العمانية)، مثلما هو (السرد العماني) هنا؟
– ثم كيف يتحول الكتاب بقدرة قادر في هذه الجملة الواحدة من (أوراق دراسية) إلى (مقالات في السرد) ؟ أم أن الناقد لا يجد فرقا بين (الورقة الدراسية) و(المقالة) داخل الأعراف الجامعية والأكاديمية التي يعرفها ويتحدث بمرارة عن انتهاك الآخرين لها؟
أما البعد الآخر الذي (يخرج الكتاب من دائرة البحوث العلمية) ويدخله في المقالات ذات الطابع الصحفي البعيد (عن إطار النقد الأكاديمي الذي يتميّز بسمات الجديّة وعدم إطلاق الأحكام والصدور عن مرجعيّات واضحة)، أقول أما هذ البعد العلمي المفقود في الكتاب، فيقتضي الكلام عنه من قبل الناقد بهذه الطريقة العامة الإجابة عن أسئلة أخرى ذات أهمية خاصة مثل:
– ما هو هذا (البعد العلمي) الذي يتحدث عنه الناقد طوال الوقت؟ وهل توافره في هذا الكتاب أو غيره من الكتب النقدية رهن بهذه المسائل الشكلية التي لا يثبت نقد الكاتب لها وبحثه عنها للتحقيق والبحث العلمي الأكثر دقة وشمولا، كما رأينا ونرى ذلك فيما بعد؟ ذلك أن استخدام الكاتب لكلمة (علم) لا يخلو من تخرّص وادعاء إذا ما اقتصر فيه على مجرّد البحث عن الضرورات النظرية للمنهج المزعوم، ولا يعنى بما هو أكثر من ذلك، وهو البحث في صورة التحليل التي تستند إلى رصد وقائع البنية أو البنيات الأساسية في النص القصصي المدروس، وتوفير قدر من الإحساس بروحه وتوجهاته العامة ونوع اللغة السائدة فيه. وهو أمر قد يتجاوز الضرورات المنهجية الشكلية، ويرتبط أساسا بنوع الثقافة التي يمتلكها الناقد وذوقه وخبرته النقدية. وهي أمور لا تقف بالضرورة على الطرف الآخر من العلم والمناهج (العلمية) خصوصا إذا تعلق الأمر بالعلوم الإنسانية، وبالأدب منها على نحو خاص. فالأدب ليس علما، بل هو فن يتصل باللغة والعلاقات الشكلية السائدة بين الكلمات، وبينها وبين المعاني والأشياء. وهي أمور من الصعب الوصول في درساتها إلى نتائج علمية نهائية.
– وهل تتحول (الأوراق الدراسية) إلى (مقالات صحفية) بمجرد نشرها أو نشر بعضها في الصحافة؟ أم أن المقالات الصحفية المدرّعة بالسمات (العلمية) و(الأكاديمية) المزيّفة (وهي كثيرة هذه الأيام) تظل بعيدة عن تهمة المقالات الصحفية، لمجرد نشرها في كتب ومجلات (علمية)؟
ثم ألا يخشى الدكتور زروق في أحكامه الجازمة هذه أن يخرج عن (إطار الجدية وإطلاق الأحكام) الجاهزة التي يتحدث عنها ويتهمني بها؟ وأن تطاله مخاطر (النقد العلمي) الذي تحدث عنه دانييل بارجيز [الذي نقل زروق في مطلع مقالته تساؤله عن كون النقد قاتلا للأدب] حينما يقول (أعني بارجيز):
(إننا اليوم مقتنعون، بشكل عام، بمخاطر نقد لا هم له سوى العلمية، إذ لا يمكن لهذا النقد أن يتحقق إلا إذا اعتبر النص غرضا صرفا. غير أن النص هو دوما نص يقرؤه أحد ما، فوجوده مرتبط بنظرة القارئ إليه وبظروف تلقيه المتغيّرة دائما)؟(مدخل إلى مناهج النقد الأدبي،ترجمة د. رضوان ظاظا، عالم المعرفة، ص12)
ومن ناحية أخرى، هل يتسق كلام الدكتور زروق المشار إليه أعلاه مع ما يقرره هو نفسه في مكان آخر من مقالته عند توصيفه لـ(لقلعة الثانية) بأنه ( كتاب في السرد العماني يهتم بتكوينه وبنيته والتصورات المتحكمة فيه، اعتمادا على عدد كبير من القصاصين، يحاول أن يفكك ما ركبوه وأن يرد المفرد إلى جمع، وأن يقدم قراءة مهمة على اختلافي في عدد من جوانبها) وأنه (=الكتاب) (حاول أن يأتي فيه صاحبه على أهم الأسماء القصصية نقدا وجمعا في رؤية تعمل على النص الإبداعي وتحاول أن تظهر خصائصه ومنزلته في القصص العماني عامة. فهناك اجتهاد محمود في استنطاق النص والتأصيل له، ووضعه في منزلته الاجتماعية والتاريخية)؟
ولا أدري كيف يمكن للكتاب في رأي الناقد الحصيف أن ينجز كل ذلك مع أنه (مقالات صحفية) مفصولة عن (بعدها العلمي)؟ وماذا يعني عنده إذاً الحديث عن (استنطاق النص) و(التأصيل له) و(وضعه في منزلته الاجتماعية والتاريخية)؟
ثم ألا يكون من المفروض بالناقد المدقق أن يعرض علينا تحليلا كافيا لنموذج واحد على الأقل من هذه الدراسات السردية التي ينطوي عليها الكتاب ليرينا بالملموس افتقاده أو عدم افتقاده للبعد العلمي وكونه مقالة صحفية، وليس دراسة علمية ؟ أم أنه يعتقد أن التوصيف القائم على هذه الطريقة وإطلاق هذا النوع من الأحكام النقدية القاطعة كاف، بحد ذاته، لتصنيف الدراسة وتقرير النوع الأدبي الذي تنتمي إليه؟
وإذا افترضنا جدلا أن الكتاب مجموعة دراسات أو مقالات، فما الذي يمنع من أن يكون بينها جامع أو ضابط منهجي يهتم بتكوين النماذج السردية المدروسة وبنيتها والنماذج المدروسة فيها، حسب عبارة الناقد نفسه؟ و(تنطوي على أكبر قدر ممكن من الفهم النقدي للنصوص المدروسة والفضاء التاريخي والفني الذي تتحرك فيه، مع توفير أكبر قدر ممكن من الموضوعية اللازمة للحكم والتقدير، والرؤية التي تطمح، قدر المستطاع، إلى أن تكون كلية وشاملة لما كتبه القاص وفكر فيه أو سكت عنه، في ضوء معطيات النص وشفرته أو شفراته التأويلية المناسبة)، حسب عبارة مقدمة الكتاب؟
وهل أن مجرد نشر الكتاب أو بعضه منجّما في صحف ودوريات، أو تقديم أجزاء منه في محاضرات قبل نشره كاملا، يعني انتفاء هذا الرابط المنهجي بالضرورة؟ وكم، تُرى، من الكتب النقدية العربية والأجنبية يجب أن تخرج من دائرة (النقد العلمي) لمجرد أنها نُشرت كلا أو بعضا في مجلات وصحف أو قدمت في مناسبات قبل ظهورها كاملة في كتب؟
ولست أدري، كذلك، ما الذي يمنع من أن تكون دراسة القصاصين العمانيين دراسةً في القصة العمانية؟ أم أن الصورة التي وقرت في ذهن الزميل الناقد عن نوع معيّن ومنهج محدد من التأليف الذي يتناول السرد مصطلحا وشعريا، ويطبّق ما يقرأ من نصوص قصصية على قياس ذلك وقالبه، ينبغي أن تكون هي السائدة والمطبقة دون غيرها في الكتابة النقدية؟
ألم ينقل بارجيز عن جوليان غراك هذا السؤال الدال بهذا الخصوص ( ماذا نقول لهؤلاء الذين إذا اعتقدوا بأنهم يملكون مفتاحا، لا يرتاحون إلا إذا شكلوا عملك في صورة قفل؟) (انظر المرجع السابق،ص 11)
6- المصادر والإحالات السائبة:
يقول الدكتور الناقد بهذا الصدد (الغريب أن عملا بهذه القيمة لم يتضمن قائمة للمصادر والمراجع…واحتوى على عديد من الإحالات السائبة ..).
وأنا أعترف هنا أن العمل لا يتضمن حقا مثل هذه القائمة للمصادر والمراجع لأنه اكتفى بذكرها في مواضعها من الدراسة، ووضع أسماء كل المجموعات القصصية (وهي تزيد على ما جرت دراسته في الكتاب) التي اختار منها نصوصا في ملحق الكتاب، ولم ير حاجة إلى تكرارها في نهاية الكتاب أو نهاية كل دراسة. أما(الإحالات) فليس ثمة ما هو (سائب) فيها طالما ذكرت المجموعة القصصية المدروسة وصاحبها، واسم القصة المعنية فيها.
وحين يكتفي الدكتور زروق في النص الذي نقله في مقاله عن كتاب (الإمتاع والمؤانسة) للتوحيدي بذكر ورود النص في الليلة الخامسة والعشرين، لا يجد نفسه بحاجة إلى ذكر الصفحة. لأن الإحالة واضحة ومفهومة. وإن كان هناك خطأ في نقل هذا النص والإشارة إلى مصدره. وهذا الخطأ الناتج عن اعتماد الكاتب على الشبكة العنكبوتية غير الموثقة هنا ولا الدقيقة، وليس على تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين للكتاب، يتمثّل في حذف كلمة (الأمور) التي توسطت بين كلمتي (صُوَر) و(شكولها) دون ان ينتبه لها الناقد الحريص على التوثيق والدقة. أي أن الجملة هي (لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها التي تنقسم بين المعقول..) وليس الصورة الخاطئة التي وردت بها في نص الدكتور زروق.(انظر، الامتاع والمؤانسة لأبي حيّان التوحيدي،تح أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، الجزء الثاني ص131)
وقد تكرر مثل هذا الخطأ عند نقل الدكتور زروق لنصوص أخرى كمصطلح ( القصّ الضعيف) الذي عدّه الناقد من (الأحكام التقويمية) التي استعملتها، في حين أنه لم يرد في الكتاب بهذه الصورة، وإنما في صورة وسياق آخر مختلف، جاء هكذا (لأن ذلك يبدو بلا جدوى لتشابه لغتها ومنطلقاتها، ولأن عنصر الحكي أو القص ضعيف وغير منضبط فيها، ولا يخلو أحيانا من اصطناع وعدم ثبات وتشتت).(ص113) والفرق، كما يرى القارئ، واضح بين الجملتين والقصدين. بل إن الحرص المبالغ فيه على دقة التوثيق والنقل يصل عند الكاتب إلى حدّ الخطأ في نقل العنوان الفرعي للكتاب ليصبح دراسة في القصة العمانية (المعاصرة) بدلا من القصة العمانية (القصيرة).
وإذا اعتبرنا ذلك نوعا من السهو أو الخطأ غير المقصود في النقل، فكيف نفسّر الخطأ النحوي الذي أوحى الكاتب للقارئ بأنني وقعت فيه عند نقله لأحد النصوص في الصفحة263 من مقالته في المجلة: « .. فضلا عن وظيفتها الثقافية التي ارتبط بها علماء الدين والشعراء العمانيين في عصور سابقة»، في حين أن أصل النص هو « .. فضلا عن وظيفتها التي ارتبط بها كثير من علماء الدين والشعراء العمانيين في عصور سابقة»، دون أن ينتبه إلى أن (علماء الدين) والشعراء العمانيين المعطوفة عليها تكون مرفوعة في الحالة الأولى ولا يجوز نصبها أو جرّها، خلافا لما كان عليه الأمر في نص الكتاب.
وكنت أتمنى على الدكتور زروق أن يصنع مع (الإحالات السائبة) في الكتاب مثل هذا الصنيع فينبه القارئ، مثلا، إلى الأخطاء التي وقع فيها المؤلف عند نقله للنصوص القصصية أوغير القصصية دون عناية مزعومة بالتوثيق، بدلا من الحديث العام دون أمثلة وشواهد من الكتاب يمكن أن تعزز ما يقول.
أما أن يرد في الكتاب ذكر لكلمة صغيرة هنا أو هناك لهيغل أو ابن عربي أوهيدجر، ولا يُذكر مصدرها، فيشكل ذلك (إحالة غائمة) و(أسماء لا ترجع إلا إلى صاحبها)، وأن القصد منها (ترهيب القارئ وإفزاعه) و(إبقاؤه على عماه)، أقول إن ورود مثل هذه الإشارات المقتضبة إلى أسماء وكلمات ضمن سياقات معينة، هي، في أغلبها، من حصيلة قراءات المؤلف وثقافته المتواضعة المختلفة عن قراءات وثقافة الحاسبات الإلكترونية المبرمجة، والذوات الضائعة في الهوامش والزوايا الصغيرة. وقد بقيت(أعني تلك الإشارات) محدودة بحدود الغرض والسياق الذي وردت فيه، ولم تبن عليها (تصورات نقدية). وكم سيكون الكلام عنها ذا جدوى وفائدة للمؤلف والقارئ لو أن كاتب المقال قد أظهر بطلان هذه الإشارات وقلة جدواها، أوعدم دقة المؤلف في نقلها، لأن البينة على من ادّعى، وتوقف عند حدود التشكيك وتوجيه الاتهامات.
7 – ملاحظات مضمونية:
هذه الملاحظات التي وردت في المقال، وقال الناقد عنها إنها (مضمونية)، تبقى في معظمها شكلية، هي الأخرى. ذلك لأنه اكتفى فيها، على عادته، بالجانب التنظيري الشكلي، ولم يحاول ربطها بالجانب العملي التطبيقي الموجود في الكتاب ورؤية مدى انسجامها مع مضمونه إلا على نحو ضعيف وغير فاعل.
نعم، لقد فعل الناقد ذلك، ولكن بشكل مقتضب تعوزه الأمانة والدقة، سواء على صعيد النصوص غير الكاملة التي نقلها من المقدمة، أم على صعيد افتراضاته المبنية عليها بوجود (منطلقات تأويلية) و(تصورات نقدية) لا يتفق معي فيها.
وأنا أضرب لذلك مثالا على هذه الطريقة الغريبة في النقد أو (نقد النقد).
يقول الناقد تعليقا على نص نقله من مقدمة الكتاب:
( إن هذا الكلام ينم عن رؤية نقدية لا تتلاءم وأبعاد النقد الأدبي الحديث ذلك أن النقد لا يهتم كثيرا بالمستويات الأخلاقية ولا التربوية ولا يعتمد عليها في دراسة الآثار الأدبية، ولذلك فليس من مهام الناقد أن يقوم النصوص أخلاقيا، ولا يقوم بما أسماه ضياء خضير بالتصفية النقدية، والدخول في الحركة الإقصائية تحت مسمى الرعاية المعرفية أو الرعاية الأخلاقية، لأن ذلك يعيدنا إلى نقد معياري تجاوزناه).
وخطأ التصور في هذا الكلام الصحيح في ظاهره والموقوف الباطن، حسب عبارة التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، قائم في أمرين:
الأول: عدم فهم النص المنقود، أو محاولة إساءة فهمه من ناحية، وعدم الإشارة إلى ما يرتبط به من نصوص أخرى تكمله وتوضحه، من ناحية ثانية. ولذلك جرى تحميل (الرؤية النقدية) التي تضمنها النص ما لم يخطر ببال المؤلف، وما لا قِبَل للنص نفسه به.
الثاني: لم يحاول الناقد أن يُري القارئ الكيفية التي حكمت الكتاب فيها هذه الرؤية الأخلاقية والتربوية التي تجاوزها الزمن، ولا تتلاءم مع حقائق أبعاد النقد الأدبي الحديث، من خلال معاينة هذا الأمر في دراسات الكتاب، أو دراسة واحدة، وحتى كلمة واحدة فيه.
ألا ينبغي أن يكون من يقول مثل هذا الكلام قد اطلع على ما جاء في دراستي لمجموعة القاص نمير سالم آل سعيد ( ضيوف من السماء)، مثلا، من إشارات دالة في هذا الجانب :
(كان يمكن لبعض النصوص في مجموعة نمير بن سالم آل سعيد» ضيوف من السماء» أن تحتل موقعا أفضل في خارطة القصص العماني لولا منحاها الأخلاقي والتربوي المباشر)؟(ص،45)
وما جاء في هذه الدراسة أيضا:
( هكذا تثبت هذه النصوص، وهي تهدف إلى معالجة الرذائل الاجتماعية والأخلاقية بهذه الشكل، أنها لا تنطلق من شرط اجتماعي، ولا من معرفة حيّة بجدل الواقع الإنساني، أو وعي كاف بطبيعة تكوينه … فالمتن القصصي لا ينتمي إلى مرجعية وحيدة هي المرجعية الأخلاقية أو الهدف الأخلاقي والتربوي..) ؟ ص47
فهل ينطلق مثل هذا الكلام عن رؤية نقدية من مهامها تقويم النصوص أخلاقيا، ولذلك فهي خارجة عن العلم والمناهج النقدية الحديثة؟ أم أن ثمة فرقا لا يريد كاتب المقال أن يفهمه بين الحديث عن الأمانة والالتزام الأخلاقي والتربوي في الكتابة، وهو في غاية الأهمية عندنا، وبين المنهج والرؤية النقدية التي تقوّم النصوص على أساس أخلاقي وتربوي، على نحو يمكن أن يقود إلى (نقد معياري) تجاوزه الزمن فعلا ؟
وهل يصبح ماورد في تمهيد كتاب (مدخل إلى مناهج النقد الأدبي الحديث) الذي استشهد به الدكتور زروق في مقالته، غير متلائم، هو الآخر،مع (حقائق أبعاد النقد الأدبي الحديث) حينما يقول في التمهيد: (يريد هذا الكتاب لنفسه أن يكون علميا، أي تربويا في روحه وفي غايته معا)؟ (ص13)
وقد ورد في مقدمة (القلعة الثانية) أن المؤلف يريد أن يقدم ( أنموذجا لدراسة نقدية جادة تنطوي على أكبر قدر من الفهم النقدي للنصوص المدروسة والفضاء التاريخي والفني الذي تتحرك فيه، مع توفير أكبر قدر من الموضوعية اللازمة للحكم والتقدير، والرؤية التي تطمح، قدر المستطاع، إلى أن تكون كلية وشاملة لما كتبه القاص وفكّر فيه أو سكت عنه، في ضوء معطيات النص وشفرته أو شفراته التأويلية المناسبة. الأمر الذي يبقي الدراسة، كما أحسب، على شيء من الصلة الضرورية ببعض الجوانب السوسيولوجية والسايكولوجية وحتى الأخلاقية، وليس الجوانب الفنية والنقدية الخالصة وحدها.
فرؤية مدى إخلاص الكاتب وصدقه في عمله الإبداعي تبقى أساسية عندنا، ومن شأنها أن تزيح عن الساحة الثقافية عددا غير قليل من المندسين والمزيفين الذين أرادوا أن تجوز على القراء فذلكاتهم وألاعيبهم المشكوك في أصالتها وصدقها، بما يعتورها من خلل في الكتابة، ناتج عن خلل مقابل في قراءة الواقع، وزيف الوعي به من جانب القاص، وبعض ناقديه وقارئيه، أحيانا) ص14
وهذا النص الطويل الذي لم يشأ الكاتب ذكره أو ربطه بالنص السابق، يشير أيضا إلى مفهوم (التصفية النقدية) التي قصدها المؤلف، ولا علاقة لها البتة بـ(الدخول في الحركة الإقصائية تحت مسمى الرعاية المعرفية أو الرعاية الأخلاقية) حسب عبارة الكاتب.
فلم يقص الكتاب، والعياذ بالله، أحدا من المبدعين العمانيين، اعتمادا على أسس أخلاقية أوتربوية، ولم يفكر مؤلِفُه، الفقير إلى الله، بذلك لا تحت مسمى الرعاية المعرفية أو الأخلاقية، ولا تحت أي مسمى آخر.
وأخيرا، لا بد من القول إن كل ذلك لا يعني أن الكتاب خال من الأخطاء والنواقص، وقد جاء في ختام مقدمته أنه يمثل مشروعا نقديا (بعيدا عن الاكتمال.. وأنه يطمح، على نقصه وعدم اكتماله في صورته الحالية، إلى تأسيس حوار نقدي فاعل لا يقف عند الحدود الخاجية للنصوص المدروسة، وإنما يتجاوز ذلك للدخول في بنيتها العميقة وعوالمها السردية وفضاءاته الدلالية، ورؤية المسافة التي تفصل المروي فيها عن رواته الحقيقيين والوهميين، على نحو يمكن أن يفيد منه الكاتب نفسه، وليس الدارس أو القارئ العام وحده)؛ وكنت أنتظر أن تندرج أية قراءة نقدية جادة للكتاب في إطار هذه الدعوة المفتوحة للحوار، لا أن تصادر حرية الناقد، وتجعل النقد (محض تابع لحركة الأدب)، و(حبيس النظريات والأدوات لا يتعداها). فمن شأن مثل هذا الالتزام الحرفي بقوالب منهجية محددة أن يشوّه النقد ويحوله إلى مسخ أو صدى ضعيف لصوت النظريات والأدوات لا يتعداها، ولا مجال فيها لصوت الناقد وحركته في الهواء الطلق ضمن الحدود التي يتيح له النص المنقود أن يتحرك فيها. وكاتب المقال يعرف بالتأكيد أن المنهج النقدي يرتبط برؤية، وأن ثمة فرقا بين مناهج جاهزة مطبّقة، وأخرى قابلة للتطبيق وفقا لزاوية الرؤية وطبيعة النص الإبداعي المنقود.
وربما كان هذا هو موضع الاختلاف والتباين الأساسي بيني وبين زميلي الناقد.
ولست أدري بعد كل هذا إن كانت استشهادات الناقد في بداية المقال بتلك النصوص التي تجعل النقد «قاتلا للأدب» وأن النقاد مجرد «جنرالات فاشلين عجزوا عن الاستيلاء على بلد فلوثوا مياهه» تدل على صنيعي مع القصة والقصاصين العمانيين الذين درستهم ووضعتهم في تلك القلعة الثانية، أم أن هذا الكلام ينطبق على صنيعه مع كتابي أكثر من أي شيء آخر؟ أم أن الأمر لا يتصل لا بهذه ولا بتلك، وأن مثل هذه التلفظات النقدية تبقى، ككثير غيرها، بلا دلالة؟
[لاحظ أن صاحب هذا النص الأخير الذي يتحول فيه النقاد إلى «مجرد جنرالات فاشلين» هو منتسكيو الذي تحول هنا إلى ناقد يمكن أن تبنى على كلامه (تصورات نقدية) يُستشهد بها في حين أن هيغل الذي وضع نصوصا مهمة في فلسفة الفن لا يمتلك فكرا يمكن «أن تبنى عليه تصورات نقدية»؟]
ضيـــــاء خضيـــــــر
أكاديمي من العراق يقيم في عُمان