تعدُّ القصة القصيرة جنسا أدبيا غير معياريّ، قد نستطيع تلمس بعض خصائصه النوعية انطلاقا من تاريخ تراكم الكتابة في حيزه، بيد أن هذا الجهد ذاته لا يفضي إلى شبكة قارة من الأوفاق الجمالية التي يمكن الاتفاق على كونها نهائية، ومحددة لمشروعية النصوص التي تنتمي إليه. وممّا لا يدعو إلى الريبة أنّ كتابة القصة القصيرة تحمل في طياتها الخاصية الملازمة لنشوء الأدب، والمتمثلة في كونه ممارسة كتابية قائمة على المغايرة، وانتفاء تتبع أثر نموذجيّةٍ نصيٍّة ما. ومن ثمة تصير الكتابة القصصية متضمنة في صلبها شرطها الخاص، والماثل في البحث عن تميزها الذاتي قياسا إلى ما سبقها من النصوص الأخرى، ولن يتيسر ذلك إلا ببناء طرائق مميزة في صياغة التسريد، وبناء الموضوع الجمالي الخاص بها بمراعاة عنصري التكثيف، والقبض على لحظةٍ من الزمن هاربةٍ. فما الذي يجعل من المجموعة القصصية «قناع»(1) للقاصة لطيفة لبصير محققة هذا الشرط المميز؟ أكاد أجزم بأن الكاتبة تنطلق من تصور ما خاص في الكتابة بها، ويمكن القبض عليه انطلاقا من العناصر المهيمنة في نصوصها، والتي تتكرر عبر العديد منها؛ مما يجعل القارئ يتنبه إليها، ويتخذها دليلا إلى تلمس أسلوبها الخاص في الكتابة. وقد يهتدي الناقد إلى الأمر ذاته، لكنه يستطيع بموجب الخبرة التي اكتسبها في قراءة النصوص من أن يجردها في هيئة بناء أو تصور نظريين. ويمثل هذا التصور في كون السرد عند الكاتبة يعد بمثابة حكاية اسم ما، أو تنميته بموجب هذه الحكاية الاسمية(2). ويصير هذا الاسم- الجزءُ(3) المحكيُّ منطلقا لانبثاق الكل، وبنائه، وتناميه مع جعل التكرار بمثابة ناظم لتنامي الصيرورة السردية، بما يفيده ذلك من إيقاع سردي. لكن هذا الاسمَ- الجزءَ لا يصير مجرد عنصر بانٍ، وضامنٍ لاتساق الكلّ (النص السردي) فحسب، بل يعمل أيضًا على ربط النص- وهو يُبني- بعالم المعرفة الذي يعمل خلفه في هيئة كلٍّ أعلى. ومن ثمة يصير الجزءُ- الاسمُ (العنوان) نافذةً استقطابيةً في اتجاهين: في اتجاه الحدث، وفي اتجاه المعرفة، حتى إنه يمكن لنا القول: إنه وسط يلتقي فيه النص من حيث هو صيرورة سردية بخلفية معرفية ما. كما ينبني هذا التصور الجمالي على جعل البناء السردي- كما وصفنا طبيعته- نائبا عن بناء الدلالة، أو جعله دليلا إليها. ففي الوقت الذي يتنامى فيه الحدث مستقلا بصيرورته يتذكر بناءه سرديا، ويكيف دلالة هذه الصيرورة مع اقتضاءاته الجمالية.
تتبنى، إذن، لطيفة لبصير- في بناء عالمها القصصي في مجموعة «عناق»- استراتيجيةً خاصة بها تستند إلى تصور ما في الكتابة. وتمثل هذه الاستراتيجية في الأهمية البالغة التي تعطيها للعنوان بوصفه جزءا وسطا لالتقاء بناء الحدث بما هو معرفي، والذي نفضل أن نطلق عليه- منذ الآن- اصطلاح العنوان- الاسم. فكل شيء ينبع منه ويعود إليه، كأنه لازمة تنظم تنامي صيرورة السرد، بيد أن العنوان- الاسم بوصفه جزءا لا يظل جامدا، أو مُحدَّدا منذ البداية في محتوى نهائي، بل يغتني بدوره، ويتلقى حمولات إضافية تسهم في جعله يُحكى إلى جانب حكي الحدث، ويتم هذا الأمر بموجب تأثير البناء السردي في محتواه الدلالي العام والشائع.
1- حين تفكر القصة:
1-1: الاسم والمفصلة بين البناء السردي والمعرفي:
تُمَفْصِلُ العناوينُ- الأسماءُ داخلها سؤالَ تَخَلُّق القصة، لا من حيث هي كذلك، وإنّما من حيث هي تنامٍ سرديٌّ، وتخلُّق موضوعِها الجمالي في الآن نفسه، والمقصود من ذلك أن العنوان- الاسم يعدُّ عنصرا حاسما في تبيُّن الطريقة التي ينمو بها السرد؛ بحيث تتوالى المقاطع بموجب إعادة ذكر العنوان- الاسم، وإذ يحدث ذلك يتأسس الموضوع الجمالي في الوقت ذاته بوساطة جعل هذا العنوان- الاسم موضوعا للسرد مُمرَّرًا من خلال رؤية انفعالية موسومة بكونها استحواذا نفسيا(4). ويلاحظ هذا الأمر في قصة «ّالدعسوقة»(5)؛ إذ يشكل هذا الاسم لازمة بنائية تنظم تنامي السرد إلى جانب كونه موضوعا جماليا تُمرَّر من خلال رؤية مزدوجة تتمثل من جهة في الارتباط الانفعالي بالدعسوقة، ومن جهة أخرى في النزعة الطبيعية التي تضع عالم الثقافة (و/ أو القواعد) الذي يمثله الإنسان في تعارض مع عالم الطبيعة، أو عالم الحرية الذي يمثله طيران الدعسوقة،. ويمثُل هذا الأمر الأخير في رغبة الذات (الأنا) في التحول إلى هذه الحشرة، ويُجسَّم هذا التحول سرديا برغبة الذات في ارتداء ثيابٍ لونُها شبيهٌ بلون هذه الحشرة. ولعلنا نصل إلى هنا التضافر الذي يحدث بين الكُلّ الخاصِ بالصيرورة (تنامي الحدث) والكلّ الخاصِ بالمعرفة بفعل توسط الجزء (الدعسوقة)(6)، وهو توسط قائم على نفي توسط الثقافة (الذي يمثله عالم الكبار)(7) بإثبات الحنين إلى ما قبل التنميط النهائي للفرد بوساطة التأكيد على ترابط الأصيل بما هو طبيعي. وهذا النفي الإثباتي يجعل من الدعسوقة نافذة استقطابية يحدث بموجبها استدعاء عالم الطفولة بما يعنيه من توافق سعيد مع العالم. إن الجزء هنا هو مجرد مجاز مرسل لا يراد به الدعسوقة في ذاتها، وإنما الكل الذي تنتمي إليه، ألا وهو الطبيعة وعناصرها، والعلاقة بها في الزمن الضائع أو الهارب (زمن الطفولة). فالاستعادة تجدل- هنا- عمليتين تتضافران: الواحدة منهما صريحة تُثبت عالم التوافق السعيد مع الطبيعة، والأخرى مضمرة تنفي عالم الكبار بوصفهم دليلا على القاعدة وعدم التوافق. لا تُعطى هذه الاستعادة وفق العمليتين المذكورتين إلا وفق تضافر زمني أيضا: زمن تدخل الثقافي- في الطفولة- بين الذات وعالمها الحالم، وتدخله- في الكبر- بينها والعالم الحالم نفسه المتصف باستمرار مستحوذ. وهذا التضافر الزمني يُبنى انطلاقا من التوقيت نفسه (الساعة الثامنة)؛ حيث يؤشر حَيْنُها على توقيف كابت لصيرورة الاتصال بعالم الطبيعة. وهذا التوقيت يُجسَّد في هيئة تعارض بين الليل والصباح. فالساعة الثامنة ليلا تؤشر على إكراه الطفلة على النوم من قبل الجَدَّة، وهذا الإكراه يُمثِّل وضع حدٍّ لاتصالها الحي بعالمها الحالم (الدعسوقة)، بينما تؤشر الساعة الثامنة صباحا على إكراه مغاير للمرأة (التي صارتها الطفلة) على الاستيقاظ من عالم الحلم (النوم) من قِبَل الزوج، ويشترك هذا الإكراه الثاني مع الأول في منع الذات من الاتصال بالعالم الحلمي الموازي لعالم الطبيعة. لا يقف اشتغال التوقيت على إظهار اشتغال التعارض بين الطبيعي والثقافي فحسب، بل يعمل على مفصلته بالإيقاع السردي القائم على الانتقال بين لحظات الزمن (بين الماضي والحاضر)؛ إذ يستعاد الماضي الطفولي بحسب التوقيت (الساعة الثامنة)، وينتقل منه إلى الحاضر (الزواج بحسبه أيضا(8).
وتقدم قصة «عناق»(9) المفصلة المذكورة آنفا على نحو آخر يتضافر فيه المعرفي مع تنامي السرد باعتماد السرد التأويلي الذي يحدث بموجبه التوتر بين المتوقع وغير المتوقع(10)، مع ما يقتضيه ذلك من حلٍّ قائم على الانفجاء الذي تؤول إليه القصة(11). فالعنوان- الاسم يُمفصل (بوصفه جزءا يشتغل في هيئة وسط) داخله التماهي وعدم التماهي بوصفهما آليتين لتصنيف الوجود. فالتماهي يقوم على التكرار (و/ أوالشبيه)؛ حيث يمثُل التكرار في تأويل الاختلاف الظاهري للمرأة بالعودة به إلى العادي المؤسَّس على التصنيفين: البيولوجي والثقافي؛ أي الحرص على تأنيث الأنثوي قياسًا إلى الذات، وعدم تذكيره. هذا ما ينظِّم تكرار لفظ عناق، وينظِّم في الآن نفسه تنامي السرد الذي يقوم على توتر مفاده عطالة التوقع أو تعليقه (تعليق ما يُنتَظَر عادة في العلاقة الحميمة بين رجل وامرأة)؛ ومن ثمة تعليق محتوى العناق من حيث هو لفظ (و/ أو سلوك إنساني) يقتضي تأويلا جنسيا حين حدوثه بين الرجل والمرأة. بينما يمثُل عدم التماهي (من حيث هو تهديد للحد، بما يعنيه من فاصل وتصنيف، ومن حيث هو تهديد للمحتوى لا الشكل) في العودة بالموضوع إلى أصل يقع خارج دائرة العادة والتنميط الثقافي؛ إلى أصل مكتفٍ بذاته يَمثُل زمنُه في ما قبل الانقسام (الأصل الأنثوي للوجود). وما يعنيه ذلك من اكتفاء الوجود بذاته بنفي الانقسام (التعدد). وعدم التماهي هذا يفضي بالعطالة التي تلحق بالعنوان– الاسم إلى الزوال، بإحلال محتوى للعناق مغاير للتوقع محل محتواه المتوقع وفق الاعتياد. ويوضع سرديا نفيُ العطالة المذكورة آنفا في هيئة انفجاء في نهاية القصة ليعاد تأويل هوية المرأة، ويعاد معه فحص محتوى العناق ذاته. وهنا نلمس كيف تعمل الصيرورة (الكلُّ) القائمة على التوتر بين التوقع وعدمه في التأثير في العنوان- الاسم (الجزء) بجعله يكتسب محتوى آخر غير الذي كان يسري في نسغ الحدث رافعا من درجة قوة التصديق vraisemblance. فمحتوى الاسم- الحكاية لم يعد ماثلا في الحمولة الغرامية، بل صار دالا على حمولة أخرى يعبر عنها تجديلٌ محوِّلٌ لثنائية الاتصال والانفصال(12)؛ حيث يُعاد إنتاج الانفصال من داخل فضاء الاتصال الذي يظل ساريا بسريان العناق، لكنه يتحول بمجرد ما أن يتحصل إدراك الحمولة النافية لمحتواه الغرامي، فيصير متعددا، أو مزدوجا؛ إذ يكون على مستوى التماهي شكلا فحسب، فلا يتجاوز مسألة عناق جسدي- إنساني، ويكون على مستوى عدم التماهي شكلا ومحتوى؛ إذ يحدث العناق الحقيقي المفضي إلى الممارسة الجنسية، لكن مع الشبيه بين أنثى وأنثى:» كل هذه الأنوثة من أجل امرأة مثلك، هذه الأنوثة في حاجة إلى رجل يعانقها وليس امرأة… أنوثتك «تكفي لأكثر من رجل» وتهبينها لامرأة أخرى»(13). وهكذا يمكن الحديث- في المستوى الأول- عن اتصال شكلي (إنساني) بين الذات- المذكر، والأنثى (السيدة المجاورة). وهذا الاتصال الشكلي ممرَّر- في المستوى الثاني- بينهما من خلال انفصال مضموني (انتفاء الغرام)(14).
تُقدِّم قصة «الأرجوحة» شكلا آخر مُعضِّدا للمفصلة بين تخلق البناء السردي والموضوع الجمالي بوساطة الاسم- العنوان (الجزء). فالأرجوحة لا تعد جزءا وسطا يحدث فيه التوليف بين المعرفي والسردي فحسب، بل تعد أيضا وسطا في ذاتها على المستوى الدلالي والموضوع الجمالي. فما يتبين في هذه القصة هو الدلالة على الكلِّ الخاص بالعالم بوساطة الأشياء؛ إذ تعد كينونة الأرجوحة كينونة العالم نفسه؛ إذ تختزله في بنيتها. فاستعادة الأرجوحة- في توازٍ مع تنامي السرد- تحدث وفق تسريد العالم من حيث هو وجود. وهذا التسريد يتم بموجب انقسام العالم على نفسه إلى لحظتين: لحظة الوحدة (الاتصال)، ولحظة الازدواج (الانفصال). وينبغي فهم موضعة الأرجوحة مكانيا لفهم هذا الانقسام الذريع في العالم الذي ينسحب على الكينونة. فهي تقع بين السماء والأرض بوصفهما شكلين أسطوريين يُستعادان للدلالة على الجرح الذي حدث في بنية الكينونة من حيث هي مستوعبة من فسحة ضياعها. والمقصود بذلك أن السماء ترمز إلى الأصل الأوَّلِيِّ بما يعنيه الاتصال بها من تخفُّف (ووعي)(15)، ومن انحياز إلى الأعلى، وترمز الأرض إلى الجسد والثقل الناجم عن الجاذبية(16) التي تنحاز إلى الأسفل. فالأرجوحة هي الوسط الذي يسمح بولادة الوعي الذي لم يصر وعيا محضا مكتفيا بذاته، لأن الحركة المتأرجحة تشد الذات نحو الجسد الذي يرمز إلى الحد والماهية، إن نصف الدائرة الذي هو شكل حركة الأرجوحة هو نوع من عدم الاكتمال الناجم عن إجهاض الجاذبية للطيران نحو الأعلى. ومن ثمة يؤشر الوعي بهذه الحركة نصف الساعية نحو الحرية (التحرر من ثقل الأرض- الجسد) على تولد الأنا، وعلى المسافة بين ما قبل الذات وتولّدها بتخلق الموضوعات والآخر: «لكنه أخبرني بأنني لم أعد طفلة وانسحب، كان شرسا ذلك الرجل، هو يريد أن أتغير لصالحه هو، ويكره أرجوحتي، لأنه لا يريد أن يحيا بين السماء والأرض»(17)نن. الذات هنا تنشأ من جراء الإدراك الذي يتخذ هيئة وضع المسافات بين الأشياء، وبين الأعلى والأسفل، من دون موضعة الانعكاس بينهما، لأن جوهر حركة الأرجوحة ماثلٌ في التباس اللحظة (زمن مُقتَطَع من الطفولة) التي تُستعاد عبر السرد، فقوس قزح ا يشتغل في هيئة مجاز مرسل (الجزء/ الكل) للدلالة على السميائي، وإذ يفعل ذلك يتولَّد لدى القارئ سؤال مُحيِّر: ما الذي يعكس الآخر، ويكون مرآة له، الأرجوحةُ أم قوسُ قزح؟ لا نستطيع الجزم في الإجابة، كل ما يسرده النص هو الشكل الذي يُمثِّل وجه التقاطع بينهما، ألا وهو نصف الدائرة. إن التوتر كامن هنا في شكل التقاطع، وهو ما يُفضي بجنوح حركة السرد ذاتها نحو الالتباس. ويمثُل هذا الالتباس في التوزع بين عالم التخفُّف غير المكتمل، والجذب التي تمارسه الأرض، بين ما هو روحيٌّ- مثاليٌّ متخفِّف «شيء غريب يخرج من الروح ويتناثر في الهواء»(18)، وما هو جسديٌّ- زمنيٌّ ثقيل. ويُعبَّر عن هذا الأمر على مستوى التسريد بثنائية (الطيران/ والوقوع)، فالطرف الأول يشير إلى الخفة، بينما يشير الطرف الثاني إلى الثقل. كل هذا التجديل بين الجسدي (الزمني) والروحي (غير الزمني) يُعَدُّ رفضا ضمنيا لكل تحول يطول الجسد (الترهل): «لا أريد أن أسمع بأنني غادرت الطفولة منذ زمن بعيد»(19). ويتوسط الطبيعيُّ (من حيث هو توتر بين المدى الذي يمنحه الوجود كصيرورة يخالطها الخلود، والضرورة بوصفها مآلا يفضي إلى مجابهة سؤال الموت) رفضَ ترهل الجسد (الكِبَر). فالمدى تُمثِّله الفراشةُ بوصفها شبيهة بالذات- الأنا، ويُعبَّر عنه بنصف الطيران المحروس بوساطة الأم. أما الضرورة فيمثلها موت الأم والأب في لحظة الكِبَر، بما يفضي إليه من استضمار الزوال بوصفه نهاية مهددة للوجود، والذي يُمثِّله الطيران الكامل الذي يتضمن العودة إلى نقطة الانطلاق، ومن ثمة السقوط المفضي إلى الأرض (الثقل المُضني الذي يُوازي الموت)(20).
1-2: الذات والأثر والكلّ والزمن:
تحدثنا عن العنوان- الاسم، وكيف تحدث المفصلةُ بينه والبناء السردي والموضوع، ونريد أن نتحدث هنا عن الطريقة التي يشتغل بها في التدليل على الذات وهي تواجه سؤال العالم. ويتخذ العنوان في هذا الصدد هيئة أثرـ مُخَلَّف، ومن ثمة يكتسب وظيفة أخرى، ألا وهي الاستدلال به على الذات (الحامل) من حيث هي تعاني من الزمن وتحولاته، ومن تنافر الواقعي والخيالي. فالاسم هو مجرد أثر له هيئة بقايا تنبعث من رماد الذاكرة. وإذا ما تأملنا الأسماء- العناوين نجدها تتراوح بين الأثر الدال على المفرد- الكيان (الدعسوقة)، والأثر الدال على المفرد- الشيء (الأرجوحة)، والأثر الدال على المكان (الشقة)، والأثر الدال على الأثر (الوشم). بيد أن خلف استدعاء الأثر- المُخَلَّف في تنوعه يكمن كلٌّ ما مفتقدٌ أو ضائعٌ. وهذا الكلُّ يَمْثُل في التطلع إلى إعادة إحياء الأثر ذاته، لكن حركة التطلع هاته موصوفة بالتعذّر، وهذا التعذّر هو ما يمنح الحكي خصيصته البنيوية التي تُخصِّص انتماءه إلى السرد الحديث في تعارضه مع السرد العتيق. ولعل هذا الكلَّ بوصفه مُتعذِّرا هو ما يمنح (الاستثنائيَ) المولد لشكل السرد. ولا يكمن الاستثنائيُ في الجهد (الفعل) أو الذات (من حيث هي منبع الإرادة)، وإنما في التوتّر الحاصل بين حدوث مُتحقِّق في الحياة (الحاضر)، بيد أنه ناقص لعدم إفضائه إلى الخيبة، وحدوث كلِّيٍّ مُتحقِّق في الماضي تُشكِّل الطفولةُ محتواه الذي يتخذ هيئة إحياء تتحد فيه الذات مع هبات الطبيعة على نحو مُتوافِق، ممّا يُذكِّر بالنزوع الأسطوريّ(21). هذا التوتّر يتبدّى جماليا في تمثيل الجسد سرديا (في الحاضر) بوصفه مُفتقِرا إلى التماسك مقابل ماضيه اللعبي المتصف بالخفة. يقابل تمثيلَ الزمن والذات وفق هذا التضافر الجمالي التوترُ بين نثرية العالم وتذريره (في الحاضر) وكلِّه المنسجم الضائع (في الماضي). ومن ثمة يمكن القول بأن الاستثنائيَ المولد للخاصية السردية قائمٌ في المسافة بين الذاكرة وبين الواقعي، بين اكتمالٍ لا يُسمَّى (وإنما يُشار إليه من خلال تمثّل الأثر) ونقصٍ في العالم يتَّصف بعدم الكفاية (خيبة التوقع). ويضعنا هذا التقابل الجماليُّ أمام صيرورتين للكينونة الخاصة بالأنا: صيرورةُ أنا مستعادة بوصفها قابلة للفهم من خلال العثور عليها بوساطة العودة بالأثر- الاسم إلى التحقّقات الماضية، وصيرورة في الحاضر غير محددة تتسم بالالتباس. إن نوعا من الإنقاذ واردٌ هنا يتمثَّل في الاحتماء من نقصان الكينونة في الحاضر بالعودة بالذاكرة إلى صيرورة الكينونة المنصرمة- الضائعة. وكأن الأمر يتعلق باستبدال يصير بموجبه العالم قابلا للفهم. إن وراء هذا الاستبدال تفسخ الكلّ الذي كان يُشكِّل سمت البطل في الحكي العريق، وهو كلٌّ من الصفات التي ترقى بالكائن الإنساني إلى مرتبة تمثيل جوهر الكمال(22). هناك مؤشرات نصية دالة على هذا التفسخ(23)، لكن ما يدل عليه أكثر هو الإحساس بعدم الرضا عن الذات بوصفها غير متماسكة. كما أن فهم الكينونة يتحقَّق- بموجب الاستبدال المذكور آنفا- بوساطة توسُّطِ الآخرِ المسافةَ بين صيرورة الكينونة في الماضي وصيرورتها في الحاضر. وهذا الآخر قد يكون ملموسا واضحا، وقد لا يكون كذلك. هذا المظهر الثاني يمثُل في قصة «الأرجوحة»(24)، ويُستحضَر في هيئة انبثاق فجائيّ، من دون ملامح واضحة، مُتّصفا بمجهولية تامة، وكأنه يضطلع بمهمة التأشير على الرمزيِ (أو الأنا الأعلى) بعدّه قواعدَ تُحدِّد مسلك التناسب بين الرغبات والسلوك وفترات العمر. ويمثُل هذا الآخر بوصفه صوتا آمرا في الحرص على الحفاظ على التصنيف، وتنميط السلوك المناسب له (تعارض سنّ النضج مع الطفولة واللعب بالأرجوحة).
يُعضِّد فهمُ الكينونة- من حيث هي صيرورة مضاعفة تقوم على الاستبدال- التقنيةَ التي يستعمل بوساطتها السؤال سرديا. صحيح أن هذا الأخير يلعب دورا مهما على مستوى تسهيل الانتقال بين لحظات السرد المتنوعة، ويسمح بفتح سيولته على نصوص برانية مثل رواية «الرقة التي تغتال» في قصة «بابا في الجنة»(25)، لكنه (أي السؤال) يصير انفتاحا على تحول الكينونة من خلال تسريد الانتقال بين الأزمنة..
(البقية بموقع المجلة بالانترنت)
وهذا الانفتاح يتخذ هيئة توتّر بين معيش في الماضي وآخرَ في الحاضر. ولكي يحدث ذلك يتدخّل الآخر بوصفه توسطا له صبغة مَعْبَر، ولا يحضر إلا من خلال تقنية السؤال الذي يُعَدّ مجرد تعلة لتبرير الكتابة وإيقاعها ومفصلة مقاطعها؛ إذ يفضي حضور الآخر مباشرة إلى الانتقال السردي وتنوُّع لحظاته، كما هو الحال بالنسبة إلى الانتقال- عبر السؤال المُوجَّه إلى تودة في قصة «نأنأة»- إلى موضوع الكتابة والإحساس بعدم الرغبة فيها. لكن السؤال- وهو يُوظَّف بنائيا- يكشف عن طبيعة الذات، وهي توضع أمام تصدّع كينونتها؛ فينجم عن ذلك تذكّر انتمائها الإجناسي إلى فن سردي يضطرها إلى تفكُّر خصوصيتها الدلالية عبر التجديل بين هذه الخصوصية والبناء والكينونة، ومعنى ذلك أن الذات- وهي تسأل- تجد نفسها مواجهةً بعدم يقينها الذي يسمح لها باستدخال الآخر في بنية تفكُّرها العالم. وعدم اليقين المؤسس على هذا النحو يضع الشخصية (الذات) في تعارض مع أسلافها في السرد العتيق الذين كانوا في غير حاجة إلى تفكر العالم من حيث هو مُسْتَدْعٍ للتجريب، ولم يكن السؤال يشغلهم بتاتا لأنهم يولدون جاهزين، ويمتلكون من المعرفة ما يجعلهم يتعاطون العالم وفق بداهة لا تقبل الشك.
يظهر جليا- إذا عدنا إلى قصة «الشقة رقم 24»(26)- هذا التضافرُ التجديلي الذي يمارسه الاسم- الجزء بين الصيرورة والذات من حيث هي أيضا ترى إلى العالم من متاح تأويل يُفضي إلى بناء احتمالات في صدد المُدْرَك بِعَدِّه موضوعا. فالشقة تتحوّل- بوصفها جزءا- إلى كلٍّ ما أن تصير مُندرِجة في مجال الإدراك، ومن ثمة تصير صيرورةً مُفترَضة تُبنى وفق الآثار- الأجزاء، وتكتسي طابع احتمال يُبنى وفق تطلّع محتمل (معرفة الرجل المفترض الساكن بها). فبدلا من أن تضع القصة القارئَ منذ البداية أمام لغز الشقة الذي يعني لغز ساكنها بحسب المجاز المرسل (المحل الدال على الحال) تضعه أمام فهم إدراكيٍّ مبنيٍّ تأويلا، ولا تتحوّل الشقة (ساكنها) إلى لغز إلا بعد أن يتدخل تفسيرُ الحارس الذي يحكم على الصيرورة الاحتماليّة المبنيّة على وجود ساكن بالشقة بالنفي. ومن ثمة يتحول الافتراض إلى لغز لا صلة له بالشقة، وإنما بالذات (الحامل). ويُوضع هذا اللغز في ذهن القارئ متخذا هيئة سؤال: «لماذا افترضت الذات وجودَ رجل بالشقة؟». لا تخرج الإجابة عن نداء العالم (تاويله) عبر نقصه، والمقصود بذلك العزلة والوحدة الماثلتين في افتقار الذات إلى شريك. وهذا الافتقار هو ما يُشكِّل عدم الكفاية والنقص. وتترتب على هذا الأمر لعبةُ الزمن في السرد التي تتأسس على إزالة الحاضر(27). هذه الإزالة لا تعني نفي الحاضر، وإنما فراغه المؤلم الذي ينبغي مقاومته بملئه، وهذا الملأ قد يتخذ هيئة احتماء بالذاكرة كما في كثير من قصص المجموعة، أو هيئةَ افتراض صيرورة محتملة له تتوسل بالتوهّم كما هو الحال في قصة «الشقة». لكن ملْءَ الحاضر بما هو توهّم يُعَدُّ إزالة له أيضا، ووضع المستقبل محلّه في هيئة احتمال (له صبغة حلم يقظة). لكن هذا الزمن المستقبلي الاحتمالي يُستخدم- وهو يُزيل الحاضر- بغاية تأكيد عدوى الحاضر له، فيُزال هو أيضا في النهاية، ليتأكد فقط استمرار الماضي من حيث هو خيبة. وهذا الاستخدام الزمني له صلة بِنَسَب الذات الجماليِّ؛ إذ يحددها انتماؤها إلى الأسلاف التراجيديين الذين تنبع مأساتهم من عدم تناسب معرفتهم التأويلية للعالم مع حقيقته. إن الحارس الذي يُفسِّر التغيرات التي طرأت على الأصص أمام الشقة هو شبيه بترسياس الذي يساعد أوديب على الانتقال من الجهل إلى المعرفة. هذا الانتقال من الجهل إلى المعرفة في قصة «الشقة» لا يتأسس على سطوة القدر، وإنما على سطوة فراغ الزمن الحاضر.
2- تفكر البناء السردي ذاته:
نقصد بالتفكُّر الذاتيِّ إشارةَ السرد إلى طبيعة بنائه شكلَه، بما يُفيد تولّد معرفةٍ تُجدِّل في بنيتها بين الفنيِ والمعرفيِ. ولا شك أن مهمة من هذا القبيل لا بد لها من أن تُقام على صياغة جمالية تتوسّل بخاصيات شكلية. وأول هذه الخاصيات اللافتة للنظر تتمثّل في أسلوب المقارنة القائمة على تلمس الاختلاف وفق ثنائيات محددة. وسنقف عند ثنائية (النظام/ الفوضى) بوصفها ناظمةً تناميَ التسريد في قصة «عيون دمعة»، ومنتجةً التجديلَ الذي يمنح السرد إيقاعا خاصا. ومحتوى هذه الثنائية مُحدَّد في تعارض نفسيٍّ بين الهدوء (النظام) والاضطراب (الفوضى). هذا المحتوى الثاني لا يَصرَّح به لفظا، وإنما يُترك لاستنتاج القارئ. وتنبغي قراءة هذين المحتويين في علاقتهما بما هو داخلي (الباطن) في تعارضه مع ما هو خارجي (الظاهر). ويحدث تضافر طرفي هذه الثنائية تجديليا على مستوى العين بما هي موضع تجلي الأثر (الدموع). إن الظاهر المُنظَّم الذي يُمثِّله السيدُ الجار يوضع بوصفه مقابلا لباطن عالية الذي تُؤشِّر عليه الفوضى (28): «…وكانت تتحدث من دون انقطاع، من دون توقف وبلا مبالاة، بحركات انفعالية هادئة، لكن شيئا ما كان يفور تحت الجلد الكامن، شيء ما كان يلتهب هناك، شيء غريب كان يتصاعد إلى المقلتين»(29). ما يقبع في الداخل (الباطن) يتصف بالمجهولية، وتظهر هذه المجهولية المتعلقة بالباطن على مستوى التعبير (ما هو طبولوجي) أيضا؛ إذ توصف بالشيء، وكأن ليس بالمستطاع تسميتها، هذا فضلا عن تكرار لفظة الشيء ثلاث مرات؛ الشيء الذي يفيد التأكيد مصحوبا بعدم اليقين من هوية الباطن(30). وإذا كانت الدموع أثرا لبروز الباطن، او دليلا عليه، فإنها تحمل في ذاتها غموضها الخاص الذي يحيل إلى عدم التحديد الذي يطول هوية الذات (عالية)، ويظهر ذلك من خلال السؤال الذي يُطرَح نصيا في القصة «من تكون؟». وهذا السؤال يضعنا مباشرة أمام إشكال المعرفة. ويضع السردُ نفسُه عالمَه المسرود في منتصف الطريق بين المعرفة وعدمها. ولعل اللوحة التي يرسمها الجار لعالية تشكل الفضاء الذي يُجسَّم عبره شكلُ نصف المعرفة هذا الذي هو نتاج غموضها سواء أكان مصدرها الذات أم الجار. وفي النهاية يُؤشِّر التجديل بين المُنظَّم (الجار: الظاهر) والفوضوي (الذات: الباطن) على معاناة غير المتناهي الغامض من غموض المتناهي نتيجة عدم تساوقهما على مستوى طواعية الثاني للأول، ومن ثمة عدم طواعية العالم للداخل المضطرب في جلب ما يجعله قابلا لأن يكون مُماثِلا له، ويظهر هذا الإشكال في تنافر الهدوء الخارجي للجسد (الحركات الانفعالية الهادئة) مع اضطراب الداخل (القلق).
وثاني هذه الخاصيات يمثل في عملية التوسط الرمزي بين الذات والعالم، وكيف يُمسرِح هذا التوسّطُ بنائيا العلاقةَ بالكينونة وهي توضع أمام امتحان الفقدان. وقبل الخوض في تحليل هذا المعطى، لا بأس من الإشارة إلى أن هذا التوسط مزدوجٌ من حيث تحديده، فهو يجمع في بنيته بين الصوت الآمر (الوفاء للزوج) والممكن الذي يشكل دفق الحياة والمستمد من التخييل (الرواية). وما كان للصوت الآمر ليشتغل من دون تخلله صوت أرنولد الآتي من ممكن التخييل. هذا التوسط المزدوج ينشأ من جراء السؤال الذي يلج بموجبه النص البراني (رواية «الرقة التي تغتال») تناميَ السرد في قصة «بابا في الجنة». وإذ يلج هذا النص البرانيّ القصة يُفضي إلى نشوء التوتّر الدراميّ في السرد مُولِّدا خاصية التجديل، لكنه تجديل غير كامل، لأنه يُجدِّل في بنيته التماثل والاختلاف معا؛ فالتماثل آتٍ من جهة الشكل (فقدان الشريك)، بينما الاختلاف آتٍ من جهة المحتوى (الوفاء أم النسيان). وينبغي التذكير هنا بأن النص البرانيّ يلج النص الأصلي بفعل السؤال الذي يقدح شرارة التذكر:»… أتذكر بطل رواية «الرقة التي تغتال»، وأعدو مثل المجنونة لأعيد قراءة الصفحات التي قرر فيها «أرنولد» أن يتخلص من ملابس زوجته بعد مضي سنوات من غيابها»(31). هذا التذكر هو مُضاعفَة رمزية- بفعل توسط النص البراني- للذات، وهي مضاعفة تُنتِج محتواها انطلاقا من تجديل مزدوج كما أشرنا إلى ذلك آنفا. فالذات ليست مماثلة لأرنولد الذي قرر التخلص من ثياب زوجته؛ ويظهر هذا الاختلاف في الرغبة في الاحتفاظ بلباس الزوج وأشيائه؛ لكن خلف هذا الاختلاف يشتغل ممكن التخييل في هيئة رغبة في فعل ذلك. وأمر من هذا القبيل يؤشر على التباس الرغبة ذاتها. وينبغي فهم هذا الالتباس في ضوء مضاعفة صوت أرنولد لصوت الصديقة التي تُمثِّل صوت نداء الحياة الذي يتأسس على عدم الاعتراف بالنهايات حين يتعلّق الأمر بإمكان وجود بدايات أخرى. فالاختلاف يتأسّس على رفض يتضمّن رغبةً يتعذَّر تحقُّقها (ممكن التماثل). فصوت الصديقة «عبلة» دال على اختيار معلَّق يسكن المسافة بين القبول (التماثل مع أرنولد) والرفض (الاختلاف عنه). هذا التشكيل المُتوتِّر للرغبة تام وفق بناء سردي يحتل فيه النص البراني الوسط مشكِّلا بحضوره قمّةً يصعد نحوها تنامي السرد، ثم يبدأ في النزول ابتداء منه في اتجاه نقطة البداية. ويحدث الصعود إليه وفق تنامٍ ذيلي (و/ أو سطري)؛ فالهدية الممنوحة إلى الطفل- الابن تفضي إلى الحديث عن الروح، وكل من الهدية والحديث عن الروح يُعدّان تعلة لاستدعاء الأب الميْت، وتلج الصديقة عبلة السرد مقرونة بالنص البراني الذي يُشكِّل قمّةَ الهرم بوصفه وسطا يحدث الرجوع من متاحه بالسرد نزولا نحو الروح (والفراشة)، فالابن «سليم» ثم اللعبة (الهدية). إننا بهذا البناء نجد أنفسنا مرة أمام حركة الأرجوحة التي تتمايل صعودا ونزولا بين عالم الأرض والسماء، لكن حركة السرد الصاعدة (والدالة على تحرّر الرغبة وحريتها) في قصة «بابا في الجنة» تجد نفسها مجهضة بفعل ثقل الانشداد الذي يمارسه الميْت من خلال مداومة حضوره عبر التوسط الرمزي الذي يُمثِّله الناظم الرمزيّ (الوفاء/ الخيانة)، والذي يُمثِّل حضور الهيمنة الرمزية لمجتمع يُعلي من شأن موت الجسد بموت مالكه (الزوج).
هكذا يكون البناء السرديّ صعودا بالفكرة- الرغبة هرميا، وتركها تسقط، وهذا السقوط ناجم عن جاذبية الروح- الماضي، وما الروح سوى الذاكرة نفسها بوصفها ماضيا يمنح نفسه في هيئة بقايا ومخلّفات. بيد أن الماضي هو نصف مفتوح على حقيقته، فالذاكرة تُعَدُّ- هنا- مجرد عزاء يُخفي حقيقةَ الذات نفسها، وحقيقةَ الكبت المُمارَس من قَبَل السلطة الرمزية كما أوضحنا فعلها آنفا. لكن ألم تكن الذاكرة التي تنصب على أشياء الزوج بوصفها بقايا غير الذات نفسها التي تعد بقايا مبعثرة لا يلحمها أي شيء؟ تصاب الذات بالبعثرة نتيجة أنها تشعر أنها هي هي، وليست هي في الوقت ذاته، إن ما يجعلها تنقسم على نفسها هو نص أرنولد الروائي الذي لا يتوسط البناء السردي فحسب، وإنما يتوسط الذات ونفسها أيضا، ويتوسط رغبتها في أن تكون ذاتا تريد. فهوية الذات تتشكَّل من هذا التوسط بين الهوية التأكيدية والهوية المُجاوِزة(32)، إنها هوية عند حافة الكمون، فلا هي ظلت موجودة بالقوة، ولا هي موجودة بالفعل، إنها نوع من الإقدام المرتكس، ويظل التجديل بين إنكار نفسها وإثباتها هو ما يبررها سرديا.
لا يمكن الحديث عن التسريد في المجموعة القصصية «عناق» من دون فهم الكيفية التي يُوظف المكان بوساطتها. فغالبا ما يشتغل في تعالق مع الذات من حيث هي محور الفعل، ومع البناء السرديّ بوصفه مفصلة للمقاطع السردية التي تتكون منها كل قصة على حدة. أن أهم ما يمكن تسجيله في هذا الصدد اتصاف المكان بكونه مغلقا في الأغلب، أويكتسب طبيعة بيوغرافية(33)، أو يتّصل بما هو معيش، مع ما يعنيه ذلك من ارتباط بالزمن الماضي؛ ولذلك يُكثِّف داخله الأسرار أو المفكر فيه بوصفه قراءة للعالم بواسطة النصوص(34). ولعل قصة «المقهى» تكشف عن هذا الاستخدام الجمالي للمكان على الرغم من انه مكان عام، فهو مغلق، أو لنقل إنه مكان يُجدَّل فيه بين العام والخاص، ويصير المكان (المقهى) منفذا استقطابيا يسمح باستدعاء النص البراني (قصيدة رامبو: القارب الثمل)، لا من حيث هو نص يُراد منه الإشارة إلى محتواه، كما هو الأمر بالنسبة إلى رواية أرنولد، وإنما من حيث هو صيرورة تمتد من تجاهل شعريته إلى الاعتراف به. هذا الاستقطاب تام وفق ما يستدعيه اسم المكان لا على مستوى الذاكرة، وإنما المقروء. ومن ثمة يمكن ربط المكان بالوعي الذي يحتمي من الخارج بالداخل، ويسمح بفهم الذات نفسها بوصفها حضورا مُضاعِفا للمكان الذي يحتويها. وتمثُل هذه المضاعفة في قراءة الحاضر في ضوء الماضي الذي تُمثِّله الجَدَّةُ. إن مكان المقهى يُعَدُّ مجرد تعلّة لتجسيم الرؤية إلى تَحَوُّلِ الماضي في تَحَوُّل الحاضر. ولعل الوشم من حيث هو أثر- مخلَّف هو ما يُمسرح هذا التحوّل، بحيث تُعبِّر رغبة الجَدَّة في محو الوشم عن نزوع نحو إقبار الماضي بفعل ضغط تحوُّل الحاضر:»كان المكان يترنح ويتهادى الأذرع الموشومة كثيرة جدا، ذلك الوشم الذي لا يمحى، وأغرق في الوشم، وأرى جدتي التي كانت تحاول جاهدة محو ذلك المشهد الذي كان يربطها بعالم قديم»(35). وإذا كان المكان لا ينفصل عن الرائي إليه، فإنه لا ينفصل عن الداخل الفكري- النفسي له. ومن ثمة تطرح مسألة مفصلة ما يستدعيه الفضاء من عناصر برانية مُفارِقة (نص رامبو- وشم الجدة) لصيرورة الوجود بالمقهى. ولا يمكن تفكُّر هذه المفصلة إلا في الزمكان، ومن ثمة فالتحول هو الرابط بين العناصر المستدعاة إلى المكان، أو بعبارة أخرى فعل الزمن المُحوَّل. فالصيرورة التي يُستدعى بموجبها نصُّ أرنولد والقائمة على التحوُّل من التجاهل إلى الاعتراف هي ذاتها التي تُستدعى بوساطتها الجَدَّة إلى حرم السرد. فتجاهل الحاضر الذي يتميِّز كبارُ السن به عادة يتحوّل عند الجَدَّة إلى الاعتراف به، ويمثُل هذا الاعتراف في الرغبة في محو الوشم. لا شيء يثبت إذن.
.
1 – لطيفة لبصير: عناق، المركز الثقافي العربي، بيروت- البيضاء، 2013.
2 تكاد جميع عناوين القصص تكون أسماء مفردة، وهذه الأسماء تصير مركزية في بناء القصة، بحيث تسرد في هيئة حكايات.
3 قد تحدد هذا الجزء في كائن حي ما مثلا الدعسوقة، أو في شيء محدد مثل الأرجوحة.
4 يتمثل هذا الاستحواذ في كون الشخصيات تنشغل بموضوعها، ويصير هذا الانشغال محتوى لحركتها، وتنبهها، كما هو الأمر بالنسبة إلى قصة الشقة؛ إذ تصير الشقة المجاورة، وما يحدث من تغيرات في صددها بمثابة محفزات للتفكير وبناء الاحتمالات.
5 – لطيفة لبصير: عناق، ص5.
6 – تكمن خلف الصيرورة السردية معرفةٌ لها طابع كلي، أي أنها تصاغ وفق ما يمنحه هذا الكل المعرفي من أفق تأويلي.
7 – تستعيد الذات انطلاقا من زمن الحاضر بوصفها زوجة توسط الكبار (عالم الثقافة) بينها وعالم الطبيعة، فتقول:»…كنت قد اعتدت على الطقوس السرية، حتى أنني أكررها من دون أن أدري، أحيانا تبدو لي العمة فنيدة وهي واقفة بمنشفتها الوردية لتجف جسمي وتدعكني وهي تقول لي بصوتها الخافت: لقد بدأ عودك يشتد، وأصبحت فتاة جميلة…لكن والدي كان قد رأى الحشرات تتطاير من الشرفة، وكانت تلك اللحظة التي غيرت جلساته الاعتيادية كل مساء، فقد صعد إلى غرفتي ليكتشف الإناء الذي ترتع فيه الحشرات الجميلة، وصرخ في وجه العمة: ابنة أكبر أعيان القرية تربي حشرات سخيفة…». يظهر التعارض بين عالم الكبار (الثقافة) وعالم الطبيعة في التعارض بين تثمين الحشرات، من خلال بعد القيمة (الجميل/ السخيف). لطيفة لبصير: عناق،ص 10. يظهر
8 لطيفة لبصير: ص 9.
9 – لطيفة لبصير: عناق، ص 25.
10 – هذا التوتر يعبر عنه طبولوجيا من خلال لفظة اللغز، وهو تثمين تضفيه الذات على الأنثى:»…وكأنني أبحث عن حل للغزها الذي لم ينفك إلى الآن…»، هذا التثمين «اللغز» يتضمن في ذاته الجمع بين المتوقع الماثل في أن تكون المرأة امرأة عادية، وغير المتوقع الماثل في أن تكون ليس كذلك. ويضاف تثمين اللغز تثمين آخر ماثل في لفظة «المتوحش» التي تسند للأزهار التي تعود ملكيتها للمرأة، ومن ثمة يطول هذا التثمين الثاني المرأة أكثر مما يطول الأزهار بموجب اشتغال المجاز المرسل.
11 – يمكن عدّ هذه القصة منتمية إلى السرد التأويلي؛ حيث يعاد النظر في التوقع الذي كان يشتغل وراء لفظة العناق طيلة القصة، والذي ينتظر منه أن يحدث نوع من الحب بين الذات والمراة الصحافية. وتأسس هذا الأمر بفعل إثبات الانفجاء الحادث في نهاية القصة، والذي يُنفي بموجبه التوقع المنتظر، ويحل محله اكتشاف أن العلاقة بين الاثنين لا يمكن أن تتحول إلى علاقة غرامية بفعل الطبيعة المثلية للمرأة.
12 – يقصد بالاتصال حدوث علاقة بين الرجل والأنثى، وبالانفصال انتهاء هذه العلاقة، أو انقطاعها.
13 – لطيفة لبصير: عناق، ص 34.
14 تقول الذات- الأنا:»…ولكن رغم ذلك وقبل أن أهم بمغادرتها، عانقتها عناقا بطعم مختلف، كنت أشعر في تلك اللحظة بأنها تنتمي إلى جنس آخر، وبأنني لا ينبغي أن أعانقها كأنثى». لطيفة لبصير: عناق، ص 35.
15 – انظر جان- فرانسوا ماركيه: مرايا الهوية، ترجمة: كميل داغر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005، ص 309.
16 في مخالفة لتصور ريلكه الذي يجعل من الثقل جوهرا للاتصال بالإلهي، والمعنى الحقيقي للكينونة.
– 17 عناق: ص 42.
18 لطيفة لبصير: عناق، المركز الثقافي العربي، بيروت- البيضاء، 2013، ص 39.
19 – المصدر نفسه: ص39.
20 – «… أفقت بعد أن تمزقت حبال الأرجوحة، وقمت بإصلاحها، لكنها سقطت من جديد، ولم أعرف لماذا خمنت بأنني بدأت أطير أكثر من المعتاد، وأنني لم أعد أرسم نصف دورة…» لطيفة لبصير: عناق، ص 40. «في ذلك المنزل، لم يعد أحد هناك حين غادرت أمي. كنت أنتظر أن يغادر أبي، لأنني لم أعد أستطيع أن أعد له ما يريد… وكأنه فهم رغبتي، فانسحب من الزمن وبقيت دقات الساعة الرتيبة تتكرر وأنا أعانقها باستمرار، وكأنني أخاف أن تخط الدورة الكاملة ولا تعود…» لطيفة لبصير: عناق، ص 41.
21 نشتغل هنا على قصة «الدعسوقة»، لطيفة لبصير «عناق»، ص 5.
22 – هذا الكلّ مكون من صفات أخلاقية وفيزيقية نموذجية لا بد أن تتوافر للبطل في الحكي العريق كي يستحق أن يكون بطلا، ونحددها في أربع: القوة، والجمال، والشجاعة، والذكاء. انظر: عبد الرحيم جيران: علبة السرد، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، 2013.
23 – ترهل الجسد مثلا في قصة الأرجوحة.
24 – عناق: ص 42.
25 – لطيفة لبصير:عناق، قصة «بابا في الجنة»، ص 83.
26 – لطيفة لبصير:عناق، قصة «الشقة رقم 24»، 61.
27 – تظهر هذه الإزالة في قصة «عناق»، وكذلك في قصة «الدعسوقة» في هيئة نسيان له.
28 – وكأننا هنا أمام التصور الأفلاطوني الذي يسم المشاعر والانفعالات بالتقلب، والعقل بكونه متميزا بالثبات.
29 – قصة عناق: ص 19.
30 – إن عدم التحديد هذا لا يطول التعبير الطبولوجي الذي يخص هذا الملفوظ السردي فحسب، بل يكاد يكون أيضا ميزة مهيمنة في توصيف العالم السردي، وبخاصة الشخصيات؛ إذ تحرم في الأغلب من اسم العلم الذي يحددها، ويضطلع الضمير فحسب بالإشارة إليها.
31 – بابا في الجنة: ص 83.
32 – انظر: عبد الرحيم جيران: «الهوية في السرد» مجلة فصول، العدد87 و88.. .، سنة 2013
33 – هنا إشارة إلى الزمكان (الكرونتوب) كما وظفه باختين، حيث عد المكان البيوغرافي (الأمكنة المغلقة مثل البيوتون ما يوزايها) ذا صلة بالأسرار والذكريات، ومن ثمة فهولصيق بالزمان الماضي، بينما عد المكان العام (الأمكنة المنفتحة كالساحات والصالونات مثلا) لها صلة بالجدالات، ومن ثمة فهي لصيقة بالزمان الحاضر. انظر:
M. Bakhtine: la poétique de Dostoïevski ,Ed: Seuil, Pa ris,1970.
34 غالبا ما تتخذ النصوص البرانية التي تستدعى إلى النسيج السردي هذه الخاصية، فهي تستخدم من جهة للانتقال السردي من مقطع إلى آخر، كما أنها تستخدم من أجل قراءة العالم.
35- عناق: ص 124.
—————
—————————————-
—————
—————————————-
عبدالرحيم جيران / كاتب وناقد من المغرب