لا شكّ في أنّ مجموعة منصف الوهايبي الشعريّة الجديدة «ديوان الصيد البحري» ترتبط بمجموعاته السابقة بأكثر من واشجة لعلّ أهمّ هذه الوشائج وأولاها بالعناية : احتفاؤها بالمكان، فأغلب قصائد الشاعر تنبثق من أمكنة محدّدة تستدعي صورها ورموزها وربّما أساطيرها وخرافاتها لتؤسّس من خلالها خطابها الشعريّ.وهذه الأماكن ليست كلّها أماكن واقعيّة فبعضها متخيّل وإن حمل أسماء واقعيّة ..بل إنّ الأماكن الواقعيّة نفسها قد تخلّت، داخل القصائد، عن مرجعيتها وواقعيّتها وتحوّلت إلى فضاءات شعرية .إلى مساحات رمزية..وهذا لا يعني أنّ شعر الوهايبي هو شعر أفكار…كلاّ شعر الوهايبي بعيد عن الصياغات العقليّة التي تنتج صورا مجرّدة بل إنّه شعر يسعى إلى نقل الأشياء بكل واقعيّتها ونضارتها.، بكلّ حرارتها وحضورها.فهو شعر الأشياء والألوان والأمكنة، شعر الحاسّة والجارحة والجسد . وهو في هذا يختلف عن شعر مجايليه اختلافا واضحا.فليس غريبا بعد هذا أن يسم الوهايبي نصّه الأوّل «بمعلّقة تقريظ المكان»، ولئن كنا سنرجئ الحديث عن دالّ المعلقة فإنّنا سنقف، في البدء، على عبارة «تقريظ المكان»، وهي العبارة التي تختزل هذه القصيدة وربما قصائد أخرى كثيرة في هذا الديوان وفي دواوين أخرى للشاعر .
والسؤال الأول الذي نريد إثارته :ما هو المكان الذي تقرضه القصيدة ؟
جاء في مستهلّها :
حيث المكانُ جزيرةُ العربِ القُدامى
والزمان هنا زمانٌ لولبيٌّ،
نحنُ عوّدنا أصابعنا على أن تخرُقَ البلّورَ في الصحراءْ
وتوقّعَ الأحجارَ والأشجار
علّمنا الأصابع أن تَشِيمَ البرق في نجدٍ.. وتمسكَ ضوءَهُ المبلولَ؛ علّمنا الأصابعَ أن تكون الماءْ
لكأنّنا أسلافُنا إذْ نلتقي أسلافَنا،
وَكَأنْ هُمُو جاؤوا إلينا من وراء البحرِ،
أو خرجوا إلينا من وراء الأرض
حيثُ الضوءُ أزمنةٌ بها مجدولةٌ
لكأنّنا في البدءِ.. لا عدمٌ ولا موت ولا ليلٌ يرينُ ولا نهارٌ يستبينُ بها..
لنا تمتدُّ أيديهمْ إلينا من خلالِ عيونهمْ وبريقِه
متردّدينَ جميعنا
«هلْ نحنُ أنتمْ أيّها الأسلافُ؟ أمْ؟»
وكما هو الحال في الأعمال الدراميّة يعمد النصّ إلى تحديد المكان: جزيرة العرب القدامى، والزمان : العصر الجاهلي ّ والشخصيات التي تقتسم داخل القصيدة مغانم البطولة: «الأسلاف» عامة وشعراء الجاهلية على وجه الخصوص،..كما يعمد النصّ إلى الإشارة إلى الأحداث في ضرب من التلويح البعيد … هكذا تتحوّل القصيدة إلى فضاء تتضامّ داخله أمشاج من الفنون المسرحية والسردية وهي الفنون التي شدّت كل حركاتها وعناصرها وجعلتها جملة شعرية واحدة.. (وان احتوت على جمل نحويّة كثيرة)..
في هذا السياق، سياق الاحتفاء بالمكان، نفهم سبب اختيار الشاعر لعبارة المعلّقة يجعلها عنوان قصيدته. والمعلّقة، كما هو معروف، قصيدة المكان تسترجعه او تستنطقه أو تتهجّى رسومه..وهي في كلّ الأحوال تتّخذ من الطلل مركزا تنبثق منه مجموعة من الدوائر المجازيّة التي تنداح متباعدة عن ذلك المركز وتغمر بإشعاعها كل ّأبيات القصيدة.
الشاعر إذن يعمد إلى كتابة معلّقة جديدة،يضيفها إلى المعلقات السبع التي نعرف،والمعلقة هي القصيدة الأم، القصيدة الأنموذج التي ظلّ الشعراء يتقفّون خطوها على امتداد قرون كثيرة، وهي فوق هذا جملة من التقاليد الشعرية التي اكتسبت من أثر تكرار بعد تكرار قداسة متوهّمة . لكنّ الشاعرلا يلتزم بقوانين المعلقة ولا بنواميسها…كل ما بقي من المعلقة القديمة في هذه المعلقة الجديدة النبرة النوستالجية للمكان الأول يتهدّده البلى..
لكنْ شميمُ عرار نجدٍ لم يزلْ فينا يهمهمُ ناعماً،
ويدورُ من ريحٍ إلى ريحٍ بنا. أجراسُ مَاعِزِهمْ تَرَدَّدُ منْ قَصِيِّ جبالهمْ فينا
قطيعٌ هادرٌ مُتـشَمّمًا أحلامنا
يمشي على خيطٍ كنسْجِ العنكبوتِ؛ وفي صُدوعِ قصيدةٍ وظلاله
يجري عميقًا
وفي صُدوعِ قصيدةٍ وظلاله
واستدعاء المعلقة استدعاء لنصوص جاهلية حاورها الشاعر باقتدار كما حاور رموزها وصورها ففي أحد المقاطع يستعيد حادثة دارة جلجل التي صورها امرؤ القيس في معلقته :
وَلأدْخُلنْ كالظلّ دارةَ جلجلٍ،
من بيتها العشرين(أعني جيّدا بيت القصيدهْ)
وأراه مختطفا ثياب المستحمّاتِ المرايا الساحباتِ على فُضول وِسادنا،من ليلهنّ،حريرَهُ،
والواهباتِ لنا وِسادًا خافقا أبدا؛فما نِمْنا عليهِ ولا إليهِ ولا صَحَوْنا. كانَ للضلّيل عاداتٌ
ويعرفُ كيف في دُهْن الشموع يفكُّ أردانَ القميصِ،
وكيف تشتعلُ الورودُ، وكيف يهبطُ كالنّدى
وفي مقطع ثان يستدعي صورة الذباب في معلّقة عنترة:
في عيون ذبابةٍ قُزحيّةٍ كانت تحكّ ذراعَها بذراعِها، في الريحِ جاءتْ من أقاصي الأرضِ، من بئرٍ هناكَ،
بعيدةِ المَهْوى،إلينا؛ وهيَ تحملُ جَرْسَ موتاهمْ
وفي مقطع أخر يستدعي صورة الناقة /السفينة في معلقة عنترة:
الأرضُ مثل البحر تُطعِمُنا وتأكلنا.. القصيدةُ فلْـكُ نوحٍ..
غير أنّ نبيّها الملاّحَ يا ابنَ العبدِ، لمْ يَقْـشِرْ بها وجهَ المياهِ
صبيحة الطوفانِ.. لم يبلغْ بها دلْمونَ إلاّ
وهي تغطسُ ثمّ تطفو ثمّ تغطسُ ثمّ تطفو..
الحوتُ من موجٍ إلى موجٍ يُقاذِفها؛ ونحنُ مكدّسونَ هناكَ في صندوقها العوّام
إنّ قصيدة الوهايبي، في هذه المجموعة، تقوم على مجموعة من الصّور وهذه الصّور تتراءى في معظم الأحيان ذات إيقاع مزدوج فهي تبدو من ناحية وثيقة الصّلة بالنصّ المتعيّن الذي يسنُدها ويمنحها حضورها وتوهّجها، لكنّها تبدو من ناحية أخرى مرتبطة بنصوص قديمة وخاصة جاهلية تلوّح لها وتذكّر بها ومن هنا تصبح قراءة هذا الصنف من القصائد حركة ذهاب وإياب بين النصّ و ما قبله،ومن شأن هذه القراءة أن تربط بنية القصيدة التي هي السّاحة التي تتفاعل فيها العناصر المختلفة ببنية أكبر هي بنية الأدب . فاعتبار النصّ بنية مستقلة لا يعني أن النصّ معزول عن الجنس الأدبيّ الذي انبثق منه، أو منفصل عن الجذور الثقافيّة التي تحدّر منها. النصّ نتاج قد اكتمل من حيث الكتابة لكنّه موصول بالما قبل (أي جملة النصوص التي تشرّبها أدبية كانت أم غير أدبية) كما أنّه موصول بالما بعد (أي صور تجليّه في نصوص لاحقة) وهذه الآثار والكتابات التي تتماوج في باطن القصيدة في حال من الائتلاف والاختلاف، والتقارب والتباعد، والتقاطع والتواصل هي ااتي تمنح القصيدة شعريتها وشرعيتها.
.إنّ نصّ الوهايبي يراهن على الإخفاء والإغماض أكثر من مراهنته على الإبانة والإيضاح ومن شأن هذه المراهنة أن تفتحه على احتمالات تأويليّة لا يحدّ مداها…وهو بذلك يصل وشيجة قويّة مع تيار شعريّ عربيّ اختار اللغة اللازمة بدل اللغة المتعدّية ..اللغة المتعدّية هي التي تراهن على الخارج النصّي تستمدّ منه شعريّتها، أمّا اللغة اللازمة فهي التي تراهن على نفسها، أي على صورها ورموزها وأقنعتها لتؤسّس شعريّتها…وهذا التيّار الذي بدأ مع مجلّة شعر قد شهد تحوّلات كثيرة جعلته متعدّدا على وحدته، متنوّعا على تجانسه.. والوهايبي، وإن انخرط في هذا التيّار، واسترفد أهمّ مقوّماته إلاّ أنّه حافظ على صوته وتميّز تجربته :
قصيدة الوهايبي هي قصيدة الاحتمالات والظلال والأخيلة والمجازات يأخذ بعضها برقاب بعض ..الشعر هنا يتنكّب عن الوظيفة الإخباريّة وينهض بوظيفة كتابة الخفيّ والبعيد والمجهول، كلّ غايته تجديد الرؤية إلى الوجود من خلال تجديد الرؤية الى اللغة .وفي هذا السياق يصبح المجاز أداة الشاعر، لغته، وهو، إلى ذلك، نافذة مفتوحة على الشعور واللاشعور، على الذاتيّ والجماعيّ، على الواقعيّ والأسطوريّ…في كلّ الأحوال لا يمكننا ان نترجم مضمون المجاز، أو نحيط بدلالاته نحن نكتفي عادة بالحدس يتيح لنا إدراك بعض أسراره وخفاياه . قلـّـبتُ حجارتهُ وأثافــيـهْ
(كان يغطـّيها حـبَـبٌ لزجٌ كغبار الثـّمراتْ)
وأنا أقفزُ من صدر البيت إلى عجُزِ البيتِ،
إلى أن أبلغَ ذروته وأطلَّ على برقةَ ثهمدِ من آخِـرِ جَرْسٍ فـيهْ لا شيءَ سوى أصواتٍ صافرةٍ
/
كصرير الحشراتْ
في أطلالٍ تـنْـصَـلُ كالوشمِ
وصوتٍ كـهزيمِ الرّعدْ
يتردّدُ في داليةِ ابنِ العبدْ
وتـجاوُبِ أظـْـآرٍ يصّاعدُ من مجهورِ قوافـيـهْ
منطق القصيدة يشبه هنا منطق الحلم حيث تتوالى الصور يتوالد بعضها من بعض دون علاقة واضحة تنتظمها..لكأنّ القصيدة تخففت من سلطان العقل الواعي ومضت تؤسس لنفسها منطقا مخصوصا لا يرى حرجا في الخروج عن وحدة المعنى والتسلسل المألوف للصور والرموز.إنّنا إزاء تداع حرّ مع كلّ ما ينطوي عليه هذا التداعي من «فوضى» و«اضطراب» ظاهرين يخفيان توافقا وتناسقا خفيّين…والنتيجة التي نستخلصها من كلّ هذا أنّ هذه الطرائق في تصريف القول وإنشاء الكلام هي أفضل الطرائق التي تفصح عن تجربة الشاعر وتقول تغريبته.
هذا النوع من الشعر الذي كتبه منصف الوهايبي يذكرنا بأن اللغة هي سكن الإنسان، ذاكرته الذاهبة بعيدا في الزمن، طريقة حضوره في العالم،عنوان تيهه وانكساره.
إنّ تجربة الوهايبي التي توسلت بالشعر والرواية لتقول تغريبتها .وتفصح عن غائر مشاعرها قد أصغت إلى أهمّ النصوص الشعريّة العربيّة والأجنبيّة من غير أن تفقد ذاكرتها أو تسفح ماء شعريتها ..لكن مهما تكن قيمة التجربة فإنها لابدّ أن تتجسّد في صياغة، في أسلوب، في طريقة لتصريف القول مخصوصة..وهنا، بالضبط، تتجلّى قيمة الأعمال الأدبية، والشعريّة، على وجه الخصوص، التي كتبها منصف الوهايبي.فقد عمل هذا الشاعرعلى خلق رموز واستعارات أي عمل على خلق عالم متخيّل لا يحاكي العالم الموضوعي وإنّما يوازيه،يدخل في حوار معه دون أن يذوب فيه ..وتلك إحدى خصائص الشعر الحديث اللافتة.
————————–
محمد الغزي