تتناول رواية سيدات القمر للروائية جوخة الحارثيّة سيرة عدد من السيدات أو «النساء» العُمانيّات وقصصهن المتعددة عبر زمن ممتد تعود بنا إلى أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وتوصلنا إلى اللحظة الراهنة، في تشابك زمنيّ لا يقف عند لحظة الحاضر حتى يذهب إلى نقطة في الماضي. قصص وحكايات متعددة ومتشابكة في آن معا، رابطها الأهم ليس المكان أو الزمان أو صلات القربى فحسب، بل هو القضايا الأساسيّة التي تشغل هؤلاء النسوة، وكذلك الرجال أيضا.
عن الرواية:
يعد الحب القضية الأهم التي تنبني عليها أحداث هذه الرواية، وتعيش بحثا عنها كثير من شخوصها، فميّا «التي استغرقت في ماكينة خياطتها السوداء ماركة الفراشة استغرقت في الحب»! وعبدالله في تداعيه الحر، كان مستغرقا في الحب والبحث عن الحب المقابل، و«ظروف» – ظريفة هي الأخرى تحب بطريقتها، ولندن كافحت أمها كي ترتبط بمن أحبت، والقمر فكرت بأن الحب امتلاك، ولن يمتلكها رجل أبدا، وخولة تنتظر بن عمها رافضة أي خطبة، هي الأخرى تفكر في الحب وتدافع عنه بصوت عالٍ، وأسماء تنشئ حبها الخاص وتتدرب عليه ثم تعيشه مع خالد. هكذا كانت كل شخصية تقريبا لا تبتعد عن فكرة الحب، بل تحلق حولها، ليشكل الحب الثيمة الرئيسية في هذه الرواية.
إنّ أغلب شخوص هذه الرواية مصابة بالفقد بطريقة أو بأخرى، وليس أدل على ذلك من شخصيات الرواية الرئيسية: ميّا، عبدالله، لندن، خولة، ظريفة.. فكل واحدة من هذه الشخصيات أحبت، وأصيبت بفقد ما، وظلت طوال زمن الرواية تبحث عما فقدت، تبحث عن الحب المسلوب، عن المحبوب، عن الزمن الذي ضاع، عن حياة لم تعد موجودة.
تعدّ العوافي الخياليّ المكان الأول لسرد أحداث الرواية، فهو مليء بالحياة الهادئة الهانئة إلى حد كبير! ولذلك كان «معافى»برغم دخول الأسمنت المسلح والسيارات الحديثة والتغيرات المدنية التي توشك على إفراغ المكان من سكانه؛ ليرتحلوا للمكان الواقعيّ «مسقط» الخالية من تلك الأحاسيس والمشاعر التي أوجدها المكان الافتراضي المتخيل، فيفرغ «البيت العود» من ساكنيه ولا تعود العوافي كما كانت. إنّ «سيدات القمر» رواية عن الحب والفقد، والحنين لزمن مضى.
السارد في «سيدات القمر»:
يشكل السارد أو الراوي في رواية «سيدات القمر»أحد المنطلقات التي يمكن لأي باحث أن يتناولها، سيما مع الشكل الظاهر بتعدد هذا السارد، فالرواية ظاهرة أنها لم تقم على صوت سردي واحد، وإنما يمكن ملاحظة أنها اعتمدت تقنية التعدد والتنويع، ربما لإيجاد شبكة جذب للقارئ تجعله مرتاحا في تلقي العمل والأحداث الروائية. في الرواية أكثر من صوت سردي في الرواية، وأكثر من سارد واحد فيها، وهذا ما أحوال تبيانه.
يروي السارد الحكاية إمّا بضمير المتكلم وإمّا بضمير الغائب. ولكلتا الصيغتين إشكالياتها، فضمير المتكلم يحيل كثيرا إلى المؤلف، أو ما أسميه بالسارد الأعلى الذي يحرك كل الساردين الآخرين، لكن هذه الإحالة ليست صحيحة، خاصة في عمل مثل سيدات القمر، فالسارد الأعلى/ المؤلف، الكاتب، نعرفه أنه امرأة، فيما ضمير المتكلم في رواية «سيدات القمر»مذكر، فهل كان ذلك قناعا أراده السارد الأعلى ليخفي نفسه؟
لا يمكن لي وأنا أقرأ هذه الرواية أن أقول إنّ السارد بضمير الغائب هو أيضا السارد الأعلى/ المؤلف؛ ذلك أن العلاقات التي لا تظهر بين الساردين: المتكلم والغائب توضح نسقا من التباين/ التوافق بين الاثنين، مما ينفي، في نظري، الإيحاء الذي قد يتبادر بأن السارد الأعلى هو السارد بضمير الغائب.
في رواية «سيدات القمر» ساردان يقومان بعملية سرد الوقائع بالتناوب فيما بينهما، ليشكلا الزمن والمكان الروائيين، ويقدمان لنا خطاب الرواية. أمّا السارد الأعلى/ المؤلف، فلا علاقة لي به في ثنايا هذه المقالة، وإن كان له حضوره وتشابكه مع الساردين الآخرين.
أولا: السارد بضمير الغائب
تنطلق رواية «سيدات القمر» في أحداثها بصوت السارد بضمير الغائب، الذي يحاول أن يذهب بنا إلى الأجزاء الخافية على الآخرين، من ضمنهم الشخوص الأخرى التي لا تعرف عن بعضها بعض ما يعرفه هذا السارد عنها هي بحد ذاتها. وسيكون هذا السارد أكثر حضورا وحركة في طيات صفحات هذه الرواية، غير مكتفٍ بشخصية واحدة، أو زمن واحد تقريبا، بل يمتد عبر الزمان والمكان والشخوص.
إذا كانت هذه هي طبيعته الأكثر وضوحا، وسمته الأولى، فإن لغته الواثقة والمحايدة هي سمته الثانية، فهو لا يتعاطف مع الشخوص، ولا يتبنى وجهة نظر ظاهرة، بل يعرض الوقائع ويسردها لنا كما هي، فلم يكن معنيا بإثبات قضية ميا مثلا، ولا إيضاح مدى صحة موقف إحدى الأخوات الثلاث: ميا وخولة وأسماء، بل يستعرض حياتهن كما حدثت في زمن القصة.
ويصبح السؤال الآتي مشروعًا: لماذا استحضر هذا السارد ساردا آخر بضمير المتكلم (ليس الذي يتناوب معه والذي سأتحدث عنه بعد قليل) ليقوم بسرد وقائع وأحداثا متعلقة بإحدى شخوص الرواية؟ أقصد هناك شخصية خالد الفنان الذي تزوج أسماء، والذي عاش مع أسرته زمنا ليس بالقصير في القاهرة، ثم عاد ليستقر في مسقط، نجد أن السارد بضمير الغائب تركه يتحدث بلسانه هو عن الأسباب التي دفعته للرسم: «سألته أسماء: لماذا ترسم يا خالد؟ لأتخلص من الحياة في حدود خيال أبي، وأصيغها في حدود خيالي أنا. منذ طفولتي حتى أوائل عشرينياتي وأبي يحددني وفق محددات خياله…..» (من الرواية، ص 190). ندرك هنا أن خالدًا هو السارد بضمير المتكلم؛ ليتحدث في حدود سبع صفحات من الرواية عن نفسه إجابة عن سؤال أسماء عبر السارد بضمير الغائب.
قد يكون الأمر في مثل هذه الحالة أن مقتضيات السرد اقتضت في هذه الجزئية بالتحديد أن تنبني بهذا الشكل دون سواه، وأن يستحضر ـ ولمرة وحيدة ـ ساردا آخر لن يتكرر لاحقا على الإطلاق، أو لن يتكرر مع شخصيات روائيّة أخرى في العمل ذاته.
ثانيا: السارد بضمير المتكلم
كما ذكرت من قبل فإن وجود سارد آخر مغاير للسارد بضمير الغائب، لا يأتي في سياق الترويح فقط، بل هناك أسباب أخرى لذلك. ولعل سمات هذا السارد ـ ضمير المتكلم ـ هي التي ستوضح أكثر تلك الأسباب. وأولى سمات هذا السارد بضمير المتكلم أنه يأتي بلسان أحد شخوص الرواية الرئيسة، فهو عبد الله بن التاجر سليمان، زوج ميّا، والد لندن.
السمة الأخرى أنه سارد يتجول في زمن أقل من الزمن الذي يتجول فيه السارد بضمير الغائب، حتى وإن عاد إلى الوراء زمنيا، فهو لا يستطيع الخروج من دائرة عبدالله، الشخصية الساردة، لا يستطيع مثلا القفز في الزمن إلى الوقت الذي لم يكن عبدالله فيه موجودا، إنما يحاول أن يتلمس ذلك الوقت الذي لم يعشه عبدالله بلغة غير متأكدة تماما بأن الوقائع التي يخبرنا بها قد وقعت فعلا، كما هو الحال عندما يتحدث عن وفاة ظريفة مثلا (يمكن أيضا ملاحظة أن السارد بضمير الغائب يتعمد في مرات أن يكون غير متأكد تماما عندما يسرد حدثا ما.
يكاد ينحصر زمن السرد هنا في رحلة إلى فرانكفورت الألمانية، ويتضح ذلك من حضور مضيفة الطيران، التي يمكن وصفها بالمسرود إليه، أو هي المخاطب في فعل السرد الذي يقوم بها السارد بضمير المتكلم. ومع أن نهاية الرواية تبدو على لسان السارد بضمير المتكلم، متحدثا عن تلك اللحظة والواقعة الروائيّة لدى شاطئ السيب؛ إلا أن زمن السرد كان لا يزال في السماء، بين مسقط وفرانكفورت، وما زالت المضيفة (المسرود له) تستمع لما يقوله هذا السارد، الذي يبدو أنه يعيش هذياناته الخاصة آنذاك، ولن نعرف ما إذا كانت أنصتت فعلا له.
حالما يرتد السرد إلى الماضي فإنّ اللغة تبدو أكثر تشابها وتعالقا مع لغة السارد بضمير الغائب، وأكثر تماسكا وقوة. لكنها في كثير من الأجزاء تأخذ شكل التداعي الحر، موصلة فكرة الوجع الذي يخامر الشخصية، الوجع الداخلي والأزمة التي شكلها كل من الحب والفقد.
ولإبراز التشابه والاختلاف بين الساردين يمكن رسم هذا الشكل:
السارد بضمير الغائب السارد بضمير المتكلم
الزمن ممتد محصور
المكان العوافي مسقط
اللغة متماسكة/ محايدة متداعية/ بلا توجه
الثيمة الحب الفقد
قد لا يبدو الشكل أو الجدول صادقا تماما أو دقيقا تماما، إذ قد تتبدل الأدوار فيما بين الطرفين، أو الساردين، خاصة لدى السارد بضمير المتكلم الذي كما أسلفت، قد يذهب للماضي وللعوافي ويكون أكثر تماسكا لحظتها، بل سيتداخل الحب بالفقد بالحنين وهذه هي الثيمات الرئيسة لهذه الرواية كما أشرت لذلك من قبل.
لكنه شكل مهم في إيضاح العناصر التي ينطلق منها الساردان، العناصر الأساسية، فمهما تعدد المكان لدى السارد بضمير الغائب، إلا أن المكان الأثير لديه هو العوافي، ومهما كان الزمن ممتدا لدى السارد بضمير المتكلم إلا أنه زمن محصور في الماضي. وإذا كانت اللغة متماسكة/ محايدة في الزمن الماضي، فإنها في الزمن الحاضر متداعية وبلا توجه.
رواية السارد الواحد:
إذا ما سألنا: من السارد بضمير الغائب؟ هل هو عبدالله، بضمير المتكلم الذي يسرد علينا تلك الوقائع، ويعرف كل تلك التفاصيل، ويجتهد في نقلها لنا؟ حتما ليس عبدالله الذي نخال عبدالله جميعا أنّه مشارك في عملية السرد، وقام بدور السارد بضمير المتكلم، يبدو دوره هذا مشكوكًا فيه، خاصة إذا ما تذكرنا بدايته في هذه المساهمة وتوليه دور السارد بضمير المتكلم: «كانت الطائرة تخترق سحبا كثيفة وعينا عبد الله تجافيان النوم على الرغم من الرحلة الطويلة إلى فرانكفورت، عندما كانت النساء تلد في مستشفى السعادة في مسقط لم تكن ماكينات الخياطة السوداء ماركة الفراشة قد وصلت إلى عمان بعد. كيف كانت ميا تخيط على هذه الماكينة؟ الكهرباء كلها لم تكن قد وصلت بعد…..» (الرواية، ص 14).
هناك تداخل بين ساردين: سارد بضمير الغائب، وآخر بضمير المتكلم، فإما أن يكون هذا الوضع خطأ من السارد الأعلى ـ وهذا ما أستبعده هنا لاعتبارات ـ وإما أن السارد بضمير الغائب هو المسيطر وأراد أن يستعين بما يعضد من سرده، فاختار عبدالله ليكون قائما بهذا الأمر وهذا الدور، وأعطاه هذه المساحة الكبرى من الحديث والتمايز عن سارد آخر بضمير المتكلم ذكرناه من قبل.
من يكون هذا السارد الذي لا نعرفه وهو أمامنا؟ من الذي تنطبق عليه المواصفات ليكون سيد هذه الرواية وقائد دفة سردها؟ إنها شخصية «لندن التي عندما خرج أبوها من الغرفة بكت الرضيعة فحملتها أمها ميا إلى صدرها، هل تشبهها فعلا؟ بعد ثلاث وعشرين سنة حين ستكسر هاتفها النقال وتضربها لن يكون بينهما أي شبه إلا في السمرة والنحافة، ستكون لندن أطول وأجمل وحكاءة لدرجة الثرثرة…..» (من الرواية ص 52)
إنها من يسرد علينا هذا الفقد، وينوع في حكاياته، ولذلك كان لا بد من حضور سارد آخر هو أقرب للسارد بضمير الغائب، الذي هي الآن شخصية لندن. يوضّح المقطع الأخير من الرواية «أظلمت الدنيا، سمعت صوت سيارتي وهي تنطلق مبتعدة، لمحت لندن خلف المقود، حملت محمدا بين ذراعي، وفكرت أنه مثل السمكة، اقتربت من البحر الهائج، وغصت فيه حتى صدري، حين فتحت ذراعي انزلق محمد مثل السمكة، ورجعت دون أن أبتل». (ص 223)- انّ لندن حاضرة فيه كما هو عبدالله السارد بضمير المتكلم والذي نعرف أنه منذ بدء الرواية وهو معلق بين السماء والأرض في طائرة منطلقة من مسقط إلى فرانكفورت.
يجمع بين عبدالله ولندن الشعور بالفقد، والهشاشة والشغف، وهذا ما دفعني إلى القول إنّ السارد واحد، ويتمثّل في شخصيّة لندن الحكاءة الثرثارة التي لم نشاهد لها سردا طوال أحداث الرواية؛ وعليه فإنّها الصوت الذي ينبغي أن نبحث عنه، وحتى عندما قلت سابقا بأن السارد بضمير الغائب استعان بسارد مساعد، فإنه وفق هذا التحليل لم يكن هناك من سارد مساعد، وإنما تجليات لسارد واحد هو شخصية لندن.
ونافلة القول إنّ رواية (سيدات القمر) واحدة من الروايات التي تؤسس للإبداع الفنيّ في الرواية في عمان، كما أن جوخة الحارثي إحدى أهم الروائيات العمانيات ـ والعربيات ـ اللائي استثمرن الحكي في استنطاق الماضي والانطلاق منه ـ عبر المرأة ـ في تشكيل عوالم حكائية وسردية ذات لذة وجمال.
هلال البادي