في العام (1975), كان عُمر (لويس سبولفدا) 25 سنة، عندما بدأ النضال ضد الدكتاتور التشيلي، وقد سُجن سنتين ونصف في زَنازين نظام بينوشيه. وأُكملت عقوبته بالنَّفي، فَتمَّ ترحيله إلى الاكوادور والبيرو ونيكاراغوا وكولومبيا وألمانيا وفرنسا واسبانيا (حيث يعيش منذ ذلك الحين). وهو صحفي سابق وأصبح أحد كتَّاب الناطقين بالإسبانية الأكثر شيوعاً وشُهرة في العالم. وانتاجه يتضمَّن العديد من المؤلَّفات(الروايات والأخبار والأبحاث والقصص)،ومن أعماله(العجوز الذي يقرأ روايات الحب), أو (تاريخ نورس والهرّ الذي علَّمه الطيران).
خط العرض الجنوبي
منذ عشرين عاماً لم تَعُد قَدماي تَطأ هذه المدينة ذات الصَّيف الجهنَّمي، ولم أكن أَنوي أُطيل المَكث فيها. أَتيتُ هنا لأجل موعد لم أكن أسعى إليه ولم أكن أرغب فيه، وإذا كنتُ أَتيتُ فذلك لأنه لا يمكن لأحد أن يهرب من ظِلِّه. ومهما كانت الدروب التي نسلكها فإن ظِلَّ ما فَعلنَاه ،وظِلَّ ما كُنَّا عليه يُطارِدنا بِعِناد الَّلعنة.
أَعطيتُ لسائق سيَّارة الأجرة عنوان الفندق وجلستُ في المقعد الخلفي لأستفيد من التكييف وأنا أرجو ألاَّ أكون قد وَقعتُ على سائق ثَرثار، لكنِّي لم يُحالفني الحَظّ. فلم يكد يُقلِع بسيَّارته حتى بَدأ الطَّعن في رئيسة الجمهورية ويُلقي عليها بالَّلوم حتى بحرارة شهر فبراير.
– لِحُسن الحَظّ أنها رَحلَت . أتعرف لماذا انتُخِبَت رئيسة؟ سأَلَني وهو يلتفت برأسه نحوي نصف التفاتة.
– أتصوَّر أنك ستقول لي على كل حال.
– لأنها امرأة، شيوعية، وهي طبعاً ابنة باشليه. لكن الآن سيكون لدينا رئيس جدير بهذا الاسم , رئيس يَعرِف كيف يُدير البلاد، رئيس غَني ويعرف كيف يُمسِك بِزِمام الأُمور، رئيس مُغرَم بالمشاريع.
هناك أشخاص يستحقُّون لدى صراخهم أن تُغرَز في أفواههم فوهة سلاح ثم يُخيَّرون بين السُّكوت أو الضَّغط على الزِّناد. لكنِّي أَوشكتُ على الوصول ولا أَملُك بندقية حربيِّة. كانت السيارة من صنع كوري ، وهي تقليد لسيارة ألمانية فخمة مع مُزيل روائح لا بدَّ منه له شكل شجرة تنوب مُعلَّق في المرآة العاكسة.
– هل تعرف مَن كان والد الرئيسة؟ وأَلَحَّ السائق على ذلك.
– أتصوَّر أنك ستقول لي ذلك. حتى إن لم أَسأَلك.
– إنه شيوعي أيضاً. قال ذلك وهو يُوجِّه نَظرَة غاضبة إلى جريدة موضوعة فوق المقعد المؤقَّت.
على الصفحة الأولى صورة للرئيسة التي ستترك مَنصبها قريباً، وكانت ترتدي لباساً أبيض جميعاً وَوِشاحاً ثُلاثي الألوان . كانت تبتسم وكأنها تعتذر لهذا البلد الذي يسكنه أغبياء لا يمكن تَجاوزهم.
عِلم التربية الوحيد الفَعَّال في هذه الظروف قد يقوم على غَرْس فوهة بندقية في حَلْق هذا النوع من البَشَر وتذكيره بأن (البرتو باشليه)، وهو آنئذٍ جنرال الجيش الجوي وقد ظَلَّ وَفيَّاً لـ اللندي ، وأنه دَفَع ثمن ذلك الوَلاء غالياً بأن ضُرِبَ وشُتِم وعُذِّب وقُتِلَ على يَد إخوته في السِّلاح.
-أَأَنتَ في سانتياغو لبعض الأعمال؟ سألني السائق.
-كلاَّ. أن طبيب جرَّاح, خبير في جراحة المخّ.
-ومايعني هذا؟ عَفواً على جَهلي.
-أَفتَحُ الجمجمة لكل مريض يقع تحت يدي وأستخرج مافيه من أذى يمنعه من التفكير، أَعطِني الصحيفة.
لقد أَدرَكَ بالظَّاهِر ما لَمَّحتُ إليه لأنه أغلقَ فَمه على الفَوْر. وسارَت السيارة في طريق مزدوج كنتُ أَجهله، وعلى طول( ريو مابوكو) كانت تمتدّ الضواحي الشعبية القديمة المُرهَقة بِحَرّ شمس فبراير التي لا تَرحَم. ومن خلال الحِجاب الرَّمادي الذي خَلَّفه دخان المصانع كانت تتراءى أطياف أعلى ناطحات السَّحاب في المدينة.
وبِنَظرَتي إلى صورة الصحيفة ،عادَت بِي الذِّكرى إلى رجل آخر نبيل وصادِق .إنه (لويس لوركا). فقد أَراني يوماً في العام(1971) صورة فتاة شقراء صغيرة ترتدي بِزَّة المعهد الذي تدرس فيه، وكانت تسير في مقدِّمة رَتل من الشبيبة الاشتراكية.
-إنها ابنة الجنرال باشليه، التي يتبعها كَظِلِّها اثنان من شرطة النظام من أصدقائه، فيجب حمايتها، هذا ما أَعلَنَه (لويس لوركا)، ليس بلا سَبب.
– في ذلك الحين ، كان شبه العسكريين من اليمين المتطرِّف يُظهِرون العدوانيِّة، ويا إلهي، كُنَّا نُكيل لَهم الضَّربة تلوَ الضَّربة.
في الفندق، سلَّموني البطاقة الممغنطة لِغرفتي ، وما إن دَخلت حتى بدأتُ أتفقَّد الادراج وأفتح الأبواب ، وأَلقيتُ نَظرة من النافذة ، راصِداً في الشارع شيئاً ما غامضاً لم يكن بِالوِسع تحديده إلاَّ بعد التعوذُد على رؤيته .وأنا شخص من النِّصف الثاني للقرن العشرين، من الذين ينامون قليلاً، ولم يقرأوا أبداً كتاب (لوبسانغ رامبا) الشهير، وممَّن يملكون عَيناً ثالثة في قَفا رَقبتهم . دَرَستُ بعد ذلك مخطَّط الفندق الذي أخذته من الاستقبال .مُخزِّنَاً في ذاكرتي طريق الهَرَب الممكنة، ولمَّا كان مازال أمامي ساعتان قبل موعدي ، تَمدَّدتُ على السرير.
لم أكن مُتعَباً بسبب نهوضي باكراً ولا بسبب الحرارة ، إنما كانت عضلاتي كلّها متوتِّرة ومستنفرة ، كما في أيام زمان حيث كانت هذه المدينة فخَّاً ينصبه رجال الشرطة.ولِطَرد شياطين الذكريات،أَغمضتُ عَيني وبدأتُ أَسترجع أحداث الأيام الأخيرة. النِّداء الذي أَخرجني من هدوء ( بييرتو كارمن ) في أقصى جنوب جزيرة شيلوه , كان الصَّدى الذي يُميِّز التهديدات . وأنا لا أحمل هاتفاً محمولاً ولا حاسوباً متَّصلاً بالانترنت , لاشيء يمكنه إتاحة مُلاحقة أَثري ، لكن لا أحد يمكنه التواري عن عين الـ (بيغ بروثر) الذي يراقبنا من الفضاء. ويكفي الجلوس أمام شاشة ، والضغط على (غوغل أرض) والتنقُّل بسهولة على أراضي قارَّة ما، بلد ما، منطقة ما، مدينة ما، وأحد الأحياء, حتى تنكشف الصورة بتفاصيلها الجديدة الأكثر حميمية للهدف المنشود. وأَفترِض أن هذا ما صَنعَه كرامر حتى عَثَر عليّ.
اعتقادي راسخ بالأمن في (بييرتو كارمن) ، حيث لم أكن أقعل شيئاً سوى جَمع الحَطب بمساعدة البتيزو ، ورابليه الصغير، لِنتموَّن بالدِّفء جرَّاء شتاء جنوبي طويل. لم أَكُن أرغب في شيء سوى أن أتأمَّل البحر مع( فيرونيكا) وهي على ذراعي وأَحسّ بنظرتها وهي تنساب من الجرف إلى الأمواج الأولى ثم من هناك نحو جزر( كايلين ولايتك) ، حتى تثبت على الضفَّة غير الواضحة لـ( باتاغوينا) القاريِّة. وهنالك تبحث حدقتاها دائماً عن القمَّة الثلجية لبركان( كوركو فادو). ثم تتركَّز نظرتها هادئة ودون أن تشعر على وُعودي بأن نَعبُر القناة يوماً لِنَرى الحيتان الزرقاء وهي تتزاوج في مياه خليج (كوركو فادو). في ذلك اليوم، كنَّا البتيزو وأنا نستغلّ الأوقات الهادئة من شهر فبراير ونهاراته الطويلة لِنَجمع الحَطب وإصلاح أدوات صيد السَّمك, بينما كانت فيرونيكا تأخذ حمَّاماً شمسياً. وعندما كان الراعيان الالمانيَّان( زاركو) و(لايكا)، واللذان يعملان عندي يسمعان ضجيج آلية أو مركبة تقترب يتذمَّران ويقشعِرّ شَعرا بَدنَيهما ويركضان ويجلسان عند قَدَميّ (فيرونيكا) لحمايتها. بعد بضع دقائق رأينا سيارة اللاندروفر تصعد الطريق الساحلي.
بعض المجموعات المدرَّبة على الانذارات، كانوا يردُّون دون أن يتكلَّموا بأية كلمة، والمجموعة التي تضمُّنا تتألف من فيرونيكا وبتيزو وأنا، وبينما كانت المركبة تتوقَّف وتَصفّ كان البتيزو يُصاحب فيرونيكا حتى المنزل، قبل أن يرجع راكضاً. ومَدَّ لي سلاح الماكاروف ((9 مم مع طَلَقة في بيت النَّار، ثم مشى حتى مستودع الحَطَب وسلاحه رفيقه في يَده وهو: بندقية رومنغتون (870) مع طلقات ذات كريَّات فولاذية.
نَزلَ شاب من اللاندروفر، بشكل مُسالِم، وأَشارَ إلى الكِلاب.
– هل هُم شِرِّيرون؟.
– هذا حَسب.
– فَهِمَ من جوابي أنه دعوة للاقتراب، وهذا مافَعَله بِبطء، وكان وهو يمشي يفتح سترته ويُبعِد يَديه لِيُريني أنه لم يكن مُسلَّحاً.
– أنتَ( جوان بلمونت)؟ سَألَ دون أن يُبعِد نَظره عن الكِلاب التي كانت تُكشِّر عن أنيابها.
– هذا حَسَب، أَجَبتُه وأنا أُحاول تهدئة رَوعه.
– ثمَّة مُصارِع ثيران شهير كان يحمل هذا الاسم من زمان.
– قارئ لـ( همنغواي). ماذا يمكنني أن أعرف شيئاً آخر عنك؟.
– وقف الرجل أمامي وأَدارَ رأسه نحو( بيتيزو)، الذي وَضَع على خَدِّه الرو منغتون.
– يجب أن تكون( فالديفيا)، قال ذلك.
– دو فالديفيا. بدرو دو فالديفيا، صلح بيتيزو، المقتنع على الدوام أن كلمة (دو) التي تسبق الاسم تُعطيه صِفة النَّبالة، نوعاً ما مثل كلمة( فون) باللغة البروسية.
– لقد حَذَّروني بأنني لن أكون مُرَحَّباً بي, استأنَفَ الرَّجُل.
أخرجَ شيئاً من الجيب الداخلي لسترته .إنه هاتف جوَّال مرتبط بالقمر الصناعي آخر صيحة وأحدث انتاج. ورَفَع الهوائي الصغير وكَتبَ رَقماً وانتظرَ لحظات ثم ناوَلني الهاتف. حينئذٍ وبعد عشرين سنة مَضَت فأنا أُحاول نسيانه، سَمِعتُ صَوت (كرامر).
-بلمونت ،صديقي القديم باسم مصارع الثيران. سيسلمك مَبعوثي ظَرفاً يحوي نقوداً وبطاقة طائرة إلى (سانتياغو). كلاَّ ،لا حاجة إلى شكري .ولن تستطيع أن ترفض دعوتنا، ولا سيَّما إذا قَدَّرتَ كل جهودي التي بَذَلُتها لِأُظهِرَ للشرطة التشيلية أن لا علاقة لَكَ البَتَّة بمقتل الألماني الذي كان يعمل سابقاً في(ستازي), منذ(20) عاماً في أرض النار، إنها بلد غريب مثل بَلَدك، حيث يمكن شُرب (الآبيرو) مع الإبادة الجَماعيِّة ، لكن حيث القتل جُنحَة غير قابِلة للتقادم . بلموند, إن من السعادة أن نلتقي مجدَّداً.
كلاَّ ، لايمكننا الهَرَب مِن ظِلّ ماكنَّا عَليه.
خَطّ العَرض الشمالي
في ضحى يوم 8 فبراير 1945 ، كان البرد قارساً جداً في( يالطا)، كما في بقية شبه جزيرة القرم وأراضي أوكرانيا الشاسعة ، حيث ترفض درجات الحرارة تَخَطِّي أربع درجات تحت الصِّفر. لكن( ميغيل اورتوزار)- أو (ميشا) كما يناديه الموظَّفون السوفييت – رَفَضَ فنجان الشَّاي الذي قَدَّمه له مساعده وانطلق لإعداد قائمة الطعام. حَسب رغبة (ستالين) الملِحَّة يجب أن تُفتَتح الوليمة بالكافيار، يتبع ذلك طَبق سمك الحفش بالجيليه وطَبق الشِّواء من لحم الماعز البَرِّي الذي يرعى في السُّهوب والبَراري, أمَّا( تشرشل) والانكليز فكانوا يرغبون أيضاً البِدء بالكافيار- لم يكن فيهم أحد من الذوَّاقة – وبعد ذلك طَبق لحم العجل المطبوخ على البخار مع المعكرونة. والذين كانوا يرفضون حتى رائحة الكافيار كانوا( يانكي)،( روزفلت ) الذين كانوا دائماً يطلبون إمَّا السمك الأبيض بالشمبانيا وإمَّا الفروج المشوي مع السَّلطة والخضار النيِّئة.
تأكَّد( ميشا) من تلبية رغبات الجميع لحيازته أنواعاً ممتازة من كل الأصناف. وَصلَت في صناديق عليها لصاقات مكتوب عليها (يالطا208 ). وقرَّر ميشا أن يُضيف إلى قوائم الطعام بعض الشِّواء من لحم الحملان وطيور السماني.
بينما كان مُساعد ميشا ينتف ريش طيور السماني, كان ميشا يتفقَّد بِدقَّة الكَنز الثمين الذي كان يحرسه، ويُراجِع قوائم الجَرْد. والانكليز الذين كانوا يُقيمون في قصر (ليفاديا) أمام البحر الأسود، كانوا جَلَبوا معهم (144) زجاجة ويسكي و(144) زجاجة جن و (144) زجاجة شري و(100) كيلو جرام من الشَّاي و(100) كيلو جرام من قَديد لحم الخنزير و(100) لَفَّة من الورق الصحِّي و(2500) منشفة ورقية و(350) قطعة من آنية المائدة والأغطية و(500) سيجار نوع (روبرت بورن) مخصَّصة لـ (تشرشل) و(ستالين) وعناصر في القيادة العليا, و(1000) علبة ثقاب معها. وتَزوَّدَ الأمريكيون بـ (1000) زجاجة خَمر الراين و(1500) زجاجة من ويسكي( جوني وولكر) و(الملك جورج)، و(2000) علبة لحم عجل، و(100) كيلو جرام قهوة و(1000) زجاجة صَلصة السَّمك. وأُغنيت هذه القوائم أخيراً بالأشياء الشخصية التي جَلَبها معه سفير اانجلترا في موسكو وهي: دزِّينة من زجاجات خَمر( شاتو مارغو) التي يرجع تاريخها إلى العام (1928) و(500) زجاجة ويسكي إضافية، من مختلف الماركات والأصناف ،لأن( ونستون تشرشل) أَمَره ألاَّ يبخل في هذا المجال وبالتحديد: « إن الويسكي فَعَّال ضد التيفوس وقَاتِل لِلقَمل « . والفودكا والكافيار وشمبانيا القرم مُقدَّمة من البلد المُضيف.
كانت مهمّة ميشا تتضمَّن إطعام (جوزف ستالين) و(ونستون تشرشل) و(تيدي روزفلت) والـ(700) من كبار الموظفين والمترجمين وغيرهم من العارضين السينمائيين الذين يُشكِّلون حاشيتهم الخاصة. كان الجميع يتساءلون مَن يكون ذلك الرجل بِشَعره الأسود اللَّماع القادر على التحدُّث بالروسية والانجليزية بالطلاقة نفسها، والجميع يحترمه بل ويخاف منه، بما في ذلك ضبَّاط مُفوَّضية الشعب للشؤون الداخلية ,وكان تحت إمرته الطبَّاخون ومُساعدوهم من الرُّوس والانجليز والأمريكيين. إنه الطاهي الشخصي الأول لدى ستالين.
المَلَفّ الذي لَدى مُفوَّضية الشعب للشؤون الداخلية حول( ميغل أورتوزار) كان مليئاً بكل شيء. فَفي عنوان (الجنسية) كان يُشار إلى أن الرجل من أصل تشيلي, وفي باب (معلومات غير مُؤكَّدة) يُشار إلى أنه في الظاهر وَصلَ إلى( لشبونة) في مارس( 1936) ليلحق بامرأة مُغنِّية كانت تدعى (ماريا مارتا استير الدونات )،وهي فنَّانة مشهورة في ألمانيا النازية، حيث مَثَّلَت في بعض الأفلام بمباركة من وزير الدعاية(جوزف غوبلز)، وأصبح لها شعبية كبيرة تحت اسم مستعار هو(روزيتا سرّانو).
يُحدِّد التقرير بعد ذلك أن ميغل طوال إقامته في لشبونة كان يعمل طاهياً في فندق فيتوريا. ثم تَرَك هذه الوظيفة في أبريل من العام نفسه ليذهب إلى مدريد، دون أن يتواصل مع أي زميل يعرفه من الجبهة الشعبية الاسبانية ، والذي كان قد استأجره آنذاك مطعم فندق فلوريدا رقم 2)) بلازا دل كالاّو. وهناك كانت له علاقات أكيدة بالصحفي الأمريكي(ارنست همنغواي) و(جون دوس باسّو)،وبالسينمائي الهولندي (جوريس ايفنس)الذي ساعَده أثناء تصوير فيلمه» أرض اسبانيا» . وتحت عنوان « آراء» يذكر تَعاطفه مع القضية الجمهورية، لكنه لم يُسجَّل كمناضل في أي تنظيم سياسي. في يوليو (1936)،وحسب ذلك المَلَفّ نفسه التابع لمفوضية الشعب للشؤون الداخلية، كان ميشا مرتبطاً بصداقة مع (ميخائيل كولستوف), مراسل صحيفة البرافدا. وَلِاتِّهام (أورتوزار) بالمواطنية العالمية والشَّك فيه , فقد قَدَّمه الرفيق كولستوف في تقريره المرفوع إلى موسكو على أنه (فنَّان الذوَّاقة) الذي لا يُخفي تَعاطفه مع الاتحاد السوفييتي. وآخر تقرير للرفيق كولستوف يُشير إلى أنه عَلَّمه اللغة الروسية , وأن اورتوزار يتحدَّث بها بشيء من السهولة.
بناءً على طَلَب الرفيق كولستوف أعطت مفوضية الشعب للشؤون الداخلية تصريح أمان لاورتوزار في يناير(1939) . وأعطته الوسائط اللازمة للحضور إلى موسكو, حيث عُهِدَ إليه بِمَنصب الطاهي الأول في نادي( روساكوف) العمَّالي.
في الأول من سبتمبر(1939)، حَضَر الرفيق (جوزيف ستالين) السكرتير الأول لمجلس وزراء الاتحاد السوفييتي والسكرتير العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، حَضَر إلى نادي روساكوف العمالي وتناوَل العشاء في مطعم الجنود وسُرعان ما أَمَر بِمَنح الجنسية السوفييتية لاورتوزار ونَقله إلى الكرملين . وقد قُطِع العشاء جرَّاء الإعلان عن الهجوم الألماني على بولونيا، ومنذ ذلك اليوم بدأ اورتوزار يُمارس عمله طاهياً شخصياً للرفيق ستالين…
تُشرِف مَطابخ قصر(ليفاديا) على ترَّاس واسع حيث تُحفَظ مختلف المنتوجات المُمَلَّحة، وحيث يقوم مُساعِدا طَهي بإعداد الأطباق الزجاجية التي سيُقدَّم فيها الكافيار. شَعَر(ميشا اورتوزار) فجأةً بالصَّمت الذي يسبق الخطوات البطيئة للرجل الكبير، وسُرعان ما تَوارى الطُّهاة المُساعدون . كان ستالين بِمشلحه الثقيل الرمادي على كتفيه يتناقش مع المفوَّض العام لأمن الدولة (لافرنتي بيريا).
يعرف (ميشا اورتوزار) مايرغب به ستالين ، فَأَسرَع إلى أحد البراميل وأخرج منه سمكة رنكة محفوظة داخل الخَلّ مع حبَّات من الخردل والعنبيِّة وسَارَعَ إلى المطبخ ثم عادَ يحمل شريحة خبز من الحنطة السوداء قد جَهَّزَ عليها السمكة المأخوذة من بحر البلطيق.
– عزيزي ميشا, أنتَ تُخمِّن دائماً ماهي رَغباتي . شريحة لحم العجل بصلصة
المَحار لأجل العَشاء وجبة رائعة ، أَضافَ ستالين.
رَبَتَ ستالين على كتفه قبل أن يُباشِر تَذوُّق سمكة الرنكة على طريق بسمارك.
– هذا الصباح ، ذَهبتُ لِلنزهة مع تشرشل، وفي شأن بولونيا، قال لي هذا المتغطرس الانجليزي: « على الصَّقر أن يسمح للعصافير الصغيرة أن تُغرِّد، دون أن تهتمّ لَما تُغرِّده « . وكان جوابي له: ( عزيزي رئيس الوزراء ، قبل الحديث عن العصافير، أَودّ أن تُعيد جميع القوزاق الذين جَمَعتَهم في النمسا إلى الوطن السوفييتي).
– ما إن خَرَج (ستالين) و(بيريا)، حتى تَأمَّل (ميغيل اورتوزار) البحر الأسود شبه المُغطَّى بطبقة من الغيوم المنخفضة التي تحجب رؤية الأُفق. والتلميح إلى العصافير الصغيرة جَعَله يغوص في حَنينٍ يكرهه، لكنه أَرخى لنفسه عِنان ذِكرى تلك المرأة، روزيتا سرّانو، (العندليب التشيلي).
الهوامش
من رواية (نهاية التاريخ) للروائي التشيلي لويس سبولفدا، مراجعة وتلخيص: هوبير آبير آرتوس
المصدر:
مجلة lier ( اقرأ) الفرنسية- العدد (453)- مارس (2017).
للروائي التشيلي لويس سبولفدا*
ترجمة: محمد ياسر منصور**