خليل النعيمي
رآها في ذلك الفضاء اللامتناهي في بُرودة الفجر اللَّاسِع مثيرة ومغرية تَجْثو على القاع بكل ثقلها لكأنها تريد أن تنزرع في الأرض كَيْ لا يجتَثُّها أحد من بعد، ومنذ أن لامست الرمل أحسّتْ بأن جسدها اللَّدِن يغوص فيه مثل حَرْبَة مَسْنونة حتى أنها لم تعد تستطيع لا أن تقوم ولا أن تمشي ولا أن تبرح المكان. كادتْ تصيح: اشْلَعوني من القاع، ولكن لا أحد يسمعها في ذلك الخَلاء المنفتح على الهَوْل مِمَّنْ تطلب العَون، وها هي ذي تغوص تغوص في باطن الأرض ولم تعد تملك صوتًا، صرختها التي أطلقَتْها ظلَّتْ مكتومة لكأن حسّها ينحدر إلى أعماقها لكأنها تَبْلَع الصوت بدلًا من أن ينبثق منها محمولًا بالريح إلى البعيد وقبل أن تملأ رئتَيْها هواء لتصرخ من جديد أدركتْ أنْ لا أحد غيرها يمكنه أن يُخلّصها ممّا أصابها وهي تفكرَّ لا أريد أن أموت، لكن الموت لا علاقة له بالإرادة، يأتي أو لا يأتي مثل حب مباغت. وقبل أن تستسلمَ لقدرها السيّء بدأت تَنود وحاولَتْ أن ترفع نفسها عن الأرض قليلًا فغاصت أكثر، فكَفّتْ عن الحركة وعن الهذيان وكَأنها أدركت أخيرًا فوق فوهة أي جحيم تجلس الآن هي تعرف آبار الرمال البَلاّعَة المخبأة في الأعماق وتعرف اِنْهِدامات القاع الهشة مثل (فَراكيث) الجُبْن الطازج. وأكثر من مرة سمعَتْ بقصص الرجال الذين التهمتْهم الأرض مثل قشة تَتَسَلْقَط في جوف بِئْر عميق لكنها لم تكن تحسب أنها هي الأخرى يمكن أن تقع في حُفْرة لم تَحْفِرْها لأحد ولا أن تكون هي نفسها ضحية بائسة لكوم من الرمل الناعم كالحرير. كادت تيأس من النجاة وتُرْخي حَبْل حياتها وتغيب في الجُبّ لكن أمرًا ما هاجَها فغيَّرتْ قناعتها الرهيبة التي بدأت تستحْوذ على مداركها، لا أحد يعرف ما مَرَّ في خواطرها العديدة في ذلك الفجر المنذر بالعدم، خواطرها بلى، فلكل منا آلاف الخواطر المتشابكة، لكننا لا ندرك إلاَّ أقربها إلينا، هكذا وجدت نفسها ترضخ لمشاعر الاستمرار في الوجود وتُهيء نفسها للقيام بالمحاولة الأخيرة للنجاة قبل أن تغوص نهائيًا في كتلة الرمل الملْتَهِمة. فمَدَّتْ يدها الطويلة بهدوء أفعى ولامَسَتْ عُذوق الشُجيرة الوحيدة اللابدة فوق الأرض بالقرب منها وهي تفكِّر.. هذه تستند على أرض صلبة ولا بد، وقبل أن تضيع فرصة النجاة أمسكَتْ بها بأطراف أصابعها الرّاجِفة وجرَّتْها إليها بنعومة شديدة حابِسة أنفاسها لكَيْ لا تُثْقِل على الشُجيرة الهشَّة فتَنْشَلع من منبتها فتَغوصان معًا. وما أن استَتبَّ لها رَجَفان الرمل حتى مَدَّتْ ساقها برهبة محاذرة أن تُقْلِق استقراره الهَشّ، ولئلاّ ينفرط عِقْد حُبيباته كما فكَّرَتْ، توَسَّدتْه بثَدْييْها ضاغِطة عليه بحَنان وكأنها تريد أن تُرضعه، وهَفَّتْ ساحبة جسدها الجميل فوق مُوَيْجاته مثلما تفعل الأفاعي التي كثيرًا ما رأتها تتَسَلْحب فوقه بلا خوف. وقبل أن تتَمادى في حركتها الأخيرة للخلاص من الموت اختناقًا ملأت رئتَيْها هواء هواء هواء وهمَّتْ أن تطير، لكنها لم تستطع، ساقها الأخرى التي كانت لا تزال غائصة في جُبّ الرمل منعَتْها من الطيران، ولكي تُخلِّصها من ثقل الكتلة الرملية الجاثمة فوقها بَسَطَتْها بشكل هاديء من دون أن ترفعها فارتطمت قدمها بكتلة صلبة فدفعَتْها هَوْنًا فاندفَعَتْ هي الأخرى زاحفة بتؤدة مستمدّة طاقة هائلة من صُمود الكتلة الصلبة. حركة مجهرية صغيرة قامت بها بدهاء بدَتْ لها بحجم الكون لكأنها قطعَتْ مسافات لا محدودة مع أنها كانت شِبْرًا أو أقل قليلًا. فأغمضَتْ عينيها وهي تتنفّس بحذر شديد خوفًا من تبذير الهواء المحبوس في صدرها، أما هو فقد كان يرتجف كالجَمَل المَعْضوض وهو يتلَفَّت يمنة ويسرى باحثًا عنها أين غدَتْ وكأنه لا يراها، وليس هو الذي حَرّض الرمل على ابتلاعها. ولمّا لم يسمع لها حِسًّا ولم يعثَرْ لها على أثَر هَبَّ كالملْسوع مدقِّقًا في خلاء الخيمة الفارغة إلاّ من أنفاس الصبي الصغير الغافي، وبلا انتظار رفع الرّواق وخرج مثل أسد غاضب يغادر عرينه متَحفِّزًا وكأن أحدًا نَخَزَه. وعلى الفور رأى شعرها الغزير ملوّثًا بالرمل وهي مَسْدوحة فوقه ونصفها السفليّ يغوص فيه مثل طريدة جاهزة للافتراس، فوقفَ في مكانه مأخوذًا بهول الصورة التي لم يكن يحسب أنه سيراها ذات يوم وقد ملأ نفسه شعور كاسح بالغُرْبة واليُتْم. أتراه تذكّر أهله الغابرين، أم أن الخوف على امرأته من الرمل الغادر الذي يبتلع أحيانًا جِمال قافلة بأكملها هو الذي شَلَّه. وقفَ مذهولًا وقد أدرك كل شيء بصمت وكأنه فقَدَ صوته الجهْوريّ الذي كان يسيطر به على المجالس التي يؤمّها وهَمَّ أن يصرخ أن يصرخ مناديًا المرأة الغارقة في الرمل، لكنه أغلق فمه الواسع بكفّه بقسوة وكأنه يأمر نفسه: إخرَسْ.. لقد خَشيَ أن تَجْفُل المرأة بسبب صراخه الذي لم تكن تنتظره فتقوم بحركة مفاجئة تدفنها في قلب الرمل الفاغر فاه قبل أن يستطيع إنقاذها. وفجأة قال لنفسه: لا بتصميم رافضًا ضربة القَدَر اللامتوقعة، وبدأ رأسه يعمل مثل آلة متقنة الصنع، فتوَجَّه أولًا نحو العَمود الوحيد الذي كانت الخيمة تستند عليه وهَمّ أن يَشْلعه ليستعين به لكنه توقف على الفور وهو يفكِّر، ستقع الخيمة على القاع وتخنق الصبي النائم، فاستدار بلا ضجيج نحو الأوتاد التي تثبِّتها وتحميها من الطيران إذا هَبَّت الريح، لكنه تراجع عنها أيضًا لأسباب تتعلق بالإنهيار الأكيد للخيمة المشؤومة عدا عن كون الأوْتاد قصيرة.. ماذا يفعل، بدأ يحوص في مكانه وكأنه يقف فوق كَوْم من الجَمْر وهو يتَفَرّس في الأنحاء، وبغتة من خلال سُجُف اليأس المرعب وربما بسببها رأى عصا الخَيْزران الطويلة مَلْقوحة قدّامه فكاد أن يشهق من اللُّقْيا السعيدة وكأنه يراها لأول مرة، بحذر تناول العصا المرمية على القاع وتخفَّف من أثقاله النفسية وتقدم بخُطى وئيدة نحو المرأة الغارقة في الرمل، مَنْ كان يظن نفسه آنذاك المنقِذ أم المتسبب بالهلاك، ولكن أي شيطان ركبه ليظن نفسه آثِمًا سوى أنه تذكّر ليلة الأمس الفائت في الفلاة كاد أن يفقد عزيمته لكنه ألغى الذِكْرى من رأسه بتصميم كما يلقي قشرًا يابسًا، وراح يمدُّ مِطْرقَ الخيزران الطويل ذا العُقَد القاسية ليخترق به كثافة الرمل باتجاه جسدها المستسلم للموت، مَدّه من بعيد ليتجنّب انهيار الكَوْم الهَشّ تحت ثقله وهو يَنْبَطِح فوقه كالعِرْبيد لابِدًا برفْق. وبعد أن استلْقى مَدَّد قدمَيْه إلى أبعد النقاط التي يمكن أن تصل إليها وراح يَمُطّ جسده كما تفعل ديدان الأرض التي تخرج من جوف القاع بعد مطر الربيع، وبحذَر كبير صارَ يهيّء نفسه ليتَلقّاها أو ليفعل شيئًا آخر لا يعرف بعد ماهو ولكن كيف يبدأ إنقاذها ومن أيّ النقاط يلتقط الجسد الذي يتهَاوى في جَفْر الرمال، الحيرة التي ركبَتْه جعلته يكتشف كَمْ كان يخاف عليها وكَمْ كان يخاف على نفسه بعد فَقْدها، وها هو ذا يراها في رمقها الأخير فصار يدور حول أفكاره المتزاحمة بدلًا من أن يدور حول هيكلها المغمور بالتراب، دقائق التحضير القليلة تلك بدت له وكأنها سنوات لا تريد أن تنصرم سنوات من الإحباط والأسى والعذاب، وكاد يبكي، ولكي يبتعد قليلًا عن أفكاره السود المشؤومة قرَّر أن يفعل ما عليه أن يفعله مهما كانت نتيجته، فاقترب منها فرآها تدخل في طَوْر آخر أو هكذا بدَتْ له، تنفّسها غدا رخْوًا ورتيبًا وكأنها استسلمت نهائيًا لقدرها التعيس حتى أنها لم تشأ أن تفتح عينيها لترى ما يدور حولها، عَقْلها الأريب المتَحَفِّز الذي كانت تتباهى به لم يعد يتفاعل مع ما يحدث بعد أن تحوَّل وجودها إلى عَجين، ولأنها لم تعد تأْمل في النجاة صارت تريد أن تموت مغمضة العينين حتى لا ترى الكارثة التي هي فيها، فَكَّر في كل ذلك وهو يروزها من قريب مثل مَنْ يروز كائنًا وقع في مصْيدة لا خلاص منها، لم تُدْهِشْه كثيرًا حالتها تلك مع أنها أرعَبَتْه، فهي لم تكن الأولى، في ذاكرته حالات أخرى أشد منها هَوْلًا عاشها من قبل وعذَّبَتْه كثيرًا ولا تزال حَيّة في نفسه، فأخذ يُردد بصوت مكتوم: لم أعد احتمل المزيد من الفَقْد وهو يراها تتلاشى أمام عينيه المهْزوزتَيْن دون أن يستطيع نجدتها إنْ لمْ يَكدْ يعلن عجزه عن إنقاذها، فأغمض هو الآخر عينيه على دموعه لئلاّ يرى المشهد الأخير، هو يعرف أننا لا نعود نرى ولا تظل لنا روح عندما تبدأ الحياة بالانفراط من بين أيدينا، بَلْ نصبح مثل خَليط هُلاميّ مثير للنفور والغثيان، وكانت تلك هي حالتها. وخطَرتْ له فكرة غريبة.. سأراها سنلتقي في عالم آخر، لكن الغضب لَجَمَه فلم يَقُلْها، ومن شدّة الاستياء الذي ملأ نفسه كاد يهزّ العصا في وجه الريح نافيًا كل تلك المقولات البغيضة.. لا.. لا أحد يلتقي أحدا آخر منذ أن يغيب، نلتقي هنا أو لن نلتقي في أي مكان. ومن جديد أحسّ أن قَلْبه مُفْعَم بصورتها الجميلة التي عرفها، فبَدأ يرتجف من الانفعال وهو يردد: علَيَّ أن أنقذها إذا أردت أن أراها مرة أخرى، وكَرِه وهو على حافة الانهيار كل ما يملأ نفسه من أساطير مؤكِّدًا: الناس تتخاذل أمام الموت وأنا لا أريد أن أسلك الدَّرْب نفسه، وأضاف وهو لم يعد يعرف من أين يبدأ: سأنقذها الآن، لكن حَفيف أفعى الصحراء الهاجمة وتَمَوُّجاتها المتسارعة فوق الرمل وهي تتَسَلْحب مندفعة نحوه ولسانها يَكْنس الفضاء جعلَه يحذر الموت الذي رآه قادمًا إليه بعينيه، فَفَزّ من رقاده مرعوبًا وهو يتَخَمَّش القاع باحثًا عنها ولم يزل غاطسًا في خَدَر النُّعاس.