قد تكون المصادفة هي التي دفعت إبراهيم الجرادي لإخراج هذا الحوار الحميم مع “خليل حاوي” – والذي يرجع عمره لأكثر من 15 عاما – في ذات الوقت الذي يكتب فيه محمد جمال باروت دراسته الجميلة عن حاوي وشعره.
غير أن “خليل حاوي” رغم الصدفة – يبقى شاعرا بالقوة كما يقول هو وكما يدلل الموضوعان اللذان لا رابط بينهما سوى ابداع حاوي وخلقه الشعري.
هناك تكامل لافت للنظر بين هذا الحوار وتلك الدراسة يكشف ويوضح كيف أن ما يعتقد به الشاعر ويؤمن به يندفع عبر نصوصه بإرادته الواعية أحيانا وبإرادته اللاواعية في كثير من الأحيان فهل يكون ذلك ما يقصده حاوي حين يقول : بالرغم من أن كثيرا من الشعراء يشيرون دائما الى أسباب مباشرة دفعتهم الى النظم فإن السبب المباشر هو محرك بسيط يثيرها يكون قد تجمع وافتقر ونضج وأصبح صالحا للصناعة الفنية في لاوعيا لشاعر؟
وحين يؤكد الجرادي في مقدمة حوار دان موت خليل حاوي بصورته المعروفة كان الاشارة الواضحة على حقيقة الأشياء مثلما أكدت تلك الرصاصة الوحيدة على أن الشعراء وحدهم هم الذين يضيقون ذرعا بالاغلال ولا يحتملون “وطن“ الاحتلال. حين يقول الجرادي ذلك نجد باروت يشير في ختام دراسته بدوره الى فاجعة موت الشاعر صبيحة ذلك اليوم لأسود من يونيو حزيران 1982 المثقل بالهوان والانتكاس لنا نحن العرب مؤكدا إرادة خليل حاوي للطلقة التي أصابت صدغه أن تكون خاتمة حسية مأساوية لمصائر هذا الإنبعاث المعكوس الذي تتفجر به أشعاره.
وحين يؤكد باروت على أن حاوي هو شاعر “الرؤيا” يأتينا صوت خليل حاوي مؤكدا : ليس بين الشعراء من يقرر بفعل إرادي أن يكون شاعرا وانما يحس برغبة جامحة تدفعه الى ممارسة الشعر وهذه الرغبة نفسها ميالتي تجعله قادرا على تخطي صعوبات الخلق الشعري، ان الشاعر هو إنسان "ملهم“ أصلا.
ورغم أن المأساوية التي خيمت على مصير خليل حاوي وعكست كثيرا من مأساوية واقعنا العربي لذي “إرتآه “ هو في كثير من قصائد سنبقى معلقين برؤياه تلك عن الشرق الجديد:
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
في كهوف الشرق.. من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد.
نص مثقل بالقضايا الكبرى، متعال على العابر المتواطىء مع الهامشي المنشغل بالعوابر. لغة مثقلة بالعذاب وثقيلة به ! محتشدة بقيم التآزر مع الحقائق الكبرى، بفلسفة الخلاص البشري، بأناسها المحاصرين بقيمهم ومآثرهم. ببحثهم الدائر عن الغائب والبعيد، والمتعالي، والمتسامي.
لغة قومية البنيان والنسيج، صارمة، معمارية، تشيد نفسها بهم انساني، عربي الدافع والرؤية والحلم.
شاعر المتون لا الحواشي.
لا يتكل، في شعره على الماضي ولا يستسلم له، وشعره، في ذلك، مثل صاحبه، ليس خروجا على التركة بالمفهوم المرذول، وليس تسليما بها، بالمفهوم اليقيني الثابت التعبان. لان مرامي فن القول لديه في النقلة النوعية، الجديدة، المتماسكة، المترابطة بنسيج كثيف من مزايد الحقب الشعرية على امتداد تاريخها الطويل.
خليل حاوي، مسلكية شعرية متعالية وقصية، يسوعية عربية، مقدسية في دلالة الروحي واستثماره الفذ.
شاعر التراجيديا بامتياز.
شاعر “الضاد“ إذن ؟
شاعر انكسارشفيف مكابر، يتخفى بأمل قصي، ذائب في حنايا خيبة معلنة وصريحة، ببرهان نهاية مخالفة لتوقعات الشعر العربي المعاصر؟ شاعر الفاجعة : شاهدها وشهيدها.
هذه الاسباب وغيرها هي التي جعلت (ربما) من شعر خليل حاوي. أحدى علامات الكلاسيكية العربية الحديثة، مثلما كان موته، على صعيد الحال العربي، أحدى علامات انهدامه، ونكومه، وسقوط يقينيه.
ان موت خليل حاوي، بصورته المعروفة، كان الاشارة الواضحة، الى الثمن الكبير الذي دفعه الشعر العربي للتأكيد على حقيقة الاشياء ! مثلما اكدت تلك الرصاصة الوحيدة، على ان الشعراء، والشعراء وحدهم، هم الذين يضيقون ذرعا بالاغلال، ولا يحتملون “وطن “ الاحتلال. !
رصاصة وحيدة، رصاصة دفاع حاد وغال عن حساسية الشعراء المفترضة.
رصاصة بوشكينية !
رصاصة خالدة.
رصاصة حياة !
منذ اكثر من خمس عشرة سنة، على الاقل، وانا احتفظ بهذا الحوار الذي وجدت فيه شينا يجب العودة اليه، وملاحظات واشارات وتصويبات بخط الشاعر الكبير نفسه، تفني، (ربما !) الى حقائق او سمات خاصة به.
كنت أعمل آنذاك في الصحافة الثقافية، حين اشار علي احد الاصدقاء بمقابلة مع خليل حاوي، وكنا نحاول تغطية ذكرى وفاته او ميلاده، لا اذكر الآن، صفة المناسبة بالتأكيد، وقد عرفت فيما بعد، ان المحاور (بكسر الواو) هو الشاعر الصديق ممدوح السكاف، رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب بحمص. وكان أن لحقت بهما !
وفي حمص، حث “الحوار” والمحاور (بضم الميم)، مدينة عبدالباسط الصوفي، ووصفي قرنفلي، وقبلهما ديك الجن الحمصي، رفقاء التراجيديا والموت المتفرد، قدم لي الاستاذ ممدوح السكاف الحوار، وحدثني عن ملابسات تحقيقه، وعن لقائه المتكرر بالشاعر الكبير خليل حاوي. ويؤسفني، الآن ان أنسى، ان كان قد ذكر لي، ان جزءا هن الحوار قد نشر، او ان اسبابا كانت وراء عدم نشره.
المهم ان الحوار يمتلك اهمية خاصة، فهو اصل مطبوع على الآلة الكاتبة، و ”مصحح “ بخط الشاعر نفسا، مع اضافة جمل، وحذف أخرى، شطب كلمة هنا، واستبدال كلمة هناك، كل ذلك بيد الشاعر الذي طلب كما قال لي الاخ ممدوح السكاف، ان يرى الشكل النهائي للحوار وحرص ان يدقق نسخته الاخيرة بنفسه، وفي هذا ربما، تكمن أهمية هذه المقابلة، فهي تشير من جملة ما تشير اليه، الى اهتمام الرجل، بنصه لدرجة ملاحقته الفاصلة والنقطة، فهو على ما يبدو يعول على “علامات الترقيم “ في ضبط المعنى. والى دقة كما سنرى كبيرة في التفريق بين معنى لفظة وأخرى فكلمة “حديث “ على سبيل المثال، تستبدل بـ ”جديد”. وفي هذا حرص على وضع اللفظة في مكانها المناسب.
ففي اجابة على السؤال الثاني يقول :
"اما خلال عملية الخلق الفني، فبالنسبة الى، تبدو لي الرؤيا كأنها صور تتوهج في الضباب، وأحاول في تعبيري عنها ان استجلي معالمها واسبر اغوارها وانداح في ابعادها” ويعود ليشطب بخط يده جملة “وانداح في ابعادها” ولهذا مدلول ومعنى كما يشير “الشطب “ نفسه.
ويرد في متن نص السؤال الرابع المطبوع : “أنت رائد من رواد الشعر الجديد".
فيشطب كلمة الجديد ويستبدلها بـ "الحديث “.
وفي اجابة السؤال نفسه يرد هذا القول :
"والرمز هو وليد الرؤيا التي تستكنه الاعماق والاغوار في النفس والوجود وتجسدها بصور حسية محددة غير انها توحي بأعداء مطلقة “. وتشطب “مطلقة" وتحل محلها جملة بعيدة عنها وقريبة في آن “غير محدودة “ مثلما تحل “على “ محل “عن “ في قد امتنع عن الشعر أن يقص بعد “بودلير”.
وفي الاجابة على السؤال نفسه يضع تنوينا لكلمة "توفرا” ونقطة بعد “عالمهم “ ويشطب صفة "الجديد” للشعر ويضع “الحديث “ في جملة "وربما جاز القول ان الشعر الحديث..”. ويشطب كلمة “الرفاف “ : “فاستخدام العبارة النثرية يجب الا يكون بابا تدخل منه النزعة النثرية الى عالم الشعر الرفاف".
وقد اضاف الى اجابة السؤال السابع في معرض حديثه عن الأجيال الجديدة وتأثرها به : “كذلك يتمتع بأصالة وفيرة نتاج بعض الشعراء في الجيل اللاحق لجيلنا امثال علي الجندي وممدوح عدوان وغيرهما.
ولابد من الاشارة أخيرا، الى ان جزءا من الاجابة على السؤال الأخير قد فقدت، ولم نعثر عليها رغم الجهود التي بذلنا.
إننا في الأخير لا نطمح في التأكيد على اهمية هذا الحوار، الا الى ادراك أهمية خليل حاوي في حياتنا الشعرية، والى ايمانه بضرورة الشعر، كأداة لحياة كريمة وعالية. والى مسلكية هذا الشاعر الكبير في تعامله مع نصه شعرا ونثرا.
س ا : لماذا أنت شاعر؟
ج : ليس بين الشعراء من يقرر بفعل ارادي أن يكون شاعرا، وانما يحس برغبة جامحة تدفعه الى ممارسة النظم، وهذه الرغبة نفسها هي التي تجعله قادرا على تحمل صعوبات الخلق الشعري وتدفعه للسيطرة على فنه شكلا ومضمونا.
ولا شك أن الشعر هبة يصقلها الجهد والمران ولكنهما لا يولدانها. ويمكن ان نتدرج الى ما يعد نظرية في مصدر الشعر تعود الى عهد افلاطون ثم يؤكدها بعده الرومانتيكيون وهي ان الشاعر مختار مصطفى والذي يختاره ويصطفيه هو ما يدعى عادة بربة الشعر والمقصود بذلك كله ان الشاعر هو انسان ملهم اصلا.
س 2:. حدثنا عن تجربتك الشعرية، ما قبل الخلق الفني – اثناء الخلق – ما بعد الخلق ؟!.
ج : ان الشاعر ما قبل عملية الخلق يكون (شاعرا بالقوة) وقد يبدو لنفسه وللآخرين انه اقل الناس اتصافا بصفة الشاعرية، ثم تسيطر عليه الحالة الشعرية فجأة دون ان يدري لها سببا عمل على استحضارها.
هذا بالرغم من أن الشعراء يشيرون دائما الى أسباب مباشرة دفعتهم الى النظم، ذلك ان السبب المباشر هو محرك بسيط يثير ما يكون قد تجمع واختمر ونضج وأصبه صالحا للصياغة الفنية في (لا وعي الشاعر).
أما خلال عملية الخلق الفني فبالنسبة الي تبدو لي الرؤيا كأنها صور تتوهج في الضباب، وأحاول في تعبيري عنها أن استجلي معالمها وأسبر أغوارها، ولا تتضح الرؤيا اتضاحا تاما الا عندما انتهي من التعبير عنها، فالتعبير هو الذي يجعلني أسيطر على الرؤيا سيطرة كاملة فأجسدها بالصيغة الفنية تجسيدا عضويا تمحي فيه ثنائية الشكل والمضمون.
أما في نهاية الخلق الفني، فهناك الشعور بالظفر والانتصار عندما يكون التعبير قد استنفد الشحنة الشعورية وجسد الرؤيا، وبالعكس يتجلى الشعور بالهزيمة عندما يكون الاخفاق مصير المحاولة، ولهذا كان ميدان الشعر مجالا لصراع أشد عنفا من الصراع في مجال الواقع لانه صراع عات جبار بين الشاعر وذاته.
س3: أنت متهم بأن قراءك من "الصفوة “. بماذا تدافع عن نفسك اذا اعتقدت بصحة هذا الاتهام ا؟
ج : هذا السؤال يرتبط الجواب عنه بقضية الأصالة والجدة في الشعر، فكل شعر يتصف بهاتين الصفتين لابد أن يمتنع عادة على الجمهور والا يتذوقه ويقدره سوى “الخاصة" واعتقد ان الخاصة هي المعيار الاول والاخير في الحكم على الشعر، غير أن الزمن قد يفعل فعله الايجابي في جعل هذا الشعر الاصيل الجديد يرشح من الطبقات العليا حتى يصل الى عامة المتذوقين. وهذا ما حصل بالنسبة لمجموعتي (نهر الرماد) فقد امتنع على الكثيرين فهمها، ثم شاره وعم بعد سنوات. وهذا ما حصل ايضا لـ (الناي والريح ) وربما كان مصير المجموعة الثالثة بعد حين شبيها بمصير المجموعتين الاوليين.
أضف الى ذلك : ان الجمهور حين (يطرب) للشعر يفعل ذلك بغريزته التي لا يثيرها الا القريب الهين المبذول، أما الأعماق الخفية، فتغيب عنها وتمتنع، وتظل كما ذكرنا وقفا على تذوق النقاد المحترفين. ولهذا كان الشعر الفني يعبر عن مستويات متعددة فهو كالشجرة التي تحمل ثمارا بأغصان متدلية وأغصان مرتفعة، ومن هنا كانت متعة الخاصة أكثر غنى لانها تلم بمستويات الشعر جميعا.
في النهاية لا بد من القول، ان كل شعر جيد هو صعب ولو تبدى لنا بسيطا ميسورا، فالبساطة واليسر لا يكونان الا في الظاهر.
س 4 : أنت رائد من رواد الشعر الحديث، ما هي برأيك أهم المرتسمات التي اعطتها هذه التجربة – الحقيقة ؟
ج : قد يظن البعض – وهو ظن ساذج – أن ما يميز حركة الشعر الحديث تمييزا حاسما عن الشعر القديم هو تحرير الاوزان واعتماد وحدة التفعيلة اساسا عروضيا وتنوع القوافي. وفي رأيي ان هذه الظواهر لا تجعل الشعر حديثا الا اذا استطاع الشاعر أن يفيد منها في التعبير عن الايقاعات النفسية المتعددة المتعارضة أحيانا، والتعبير عن التجارب الكلية (الذاتية الموضعية) التي تشتمل على الواقع وما فوقه وما دونه.
أما الخاصة الثانية التي يمتاز بها الشعر الحديث ويتفرد فهي اعتماد الرمز اساسا للبناء الشعري، والرمز هو وليد الرؤيا التي تستكنه الأعماق والأغرار في النفس والوجود وتجسدها بصور حسية محددة غير انها توحي بامداء غير محدودة. ومتى كان الرمز ترائيا شعبيا كان اداة صالحة لاشراك الآخرين في تجربة الشاعر وادخالهم الى عالمه. والرمز هو نفاذ عبر الجزئي الى الكلي المطلق، وهذا ما يجعل الشاعر قادرا على التعبير عن المطلقات المجردة دون ان يقع في آفة التجريد، فالخضر، مثلا كائن اسطوري له كيانه الفردي الخاص، وهو في الوقت نفسه تعبير عن غلبة الخير على الشر في الوجود. وفي الشعر الذي يعتمد الرمز تنتفي كذلك آفة التقرير والسرد، ذلك أن على الشاعر أن يشير الى الاسطورة اشارة سريعة موحية ولا يعرضها عرضا قصصيا، وقد قيل انه قد امتنع على الشعر أن يقص بعد “بودلير".
وقد استطاع الاصيلون من الشعراء المحدثين أن يتوفروا على الثقافة توفرا جعلهم يلمون بالحضارة العربية وحضارة الانسان ويستخلصون منهما العناصر الحية ليجعلوهما منطلقا لبناء محا لمهم. وجمعوا الى ذلك نفاذا في ازمة المصير العربي في الوقت الحاضر بتعقيداتها وجوانبها المتعددة، وربما جاز القول ان الشعر الحديث نهض بحمل المسؤولية نهوضا كبيرا نفتقد شبيها له في مجال السياسة والاجتماع ومختلف المجالات الاخري.
ومن مرتسمات الشعر الحديث ايضا انه ألغى الفوارق بين ما كان يعد قاموسا شعريا وموضوعات شعرية هي جمالية بذاتها، واعتبر ان على الشعر أن يعبر عن تجربة الانسان الكلية، ولهذا كان عليه أن يستمد التعبير عن طبيعة التجربة المعالجة فما يفرق بين لفظة شعرية بذاتها ولفظة غير شعرية وموضوع شعري، وموضوع غير شعري، ومن هنا كان على الشعراء الحديثين متى استخدموا ألفاظا نثرية ان يشحنوها بالتجارب الشعورية المتوهجة التي تسقط عنها نثريتها وتجعلها تتوهج بالشعر، فاستخدام العبارة النثرية يجب الا يكون بابا تدخل منه النزعة النثرية الى عالم الشعر.
هناك – لا شك – مرتسمات أخرى اعطتها تجربة الشعر الجديد يطول الحديث عنها ويتفرع، وقد اكتفينا بذكر اهمها.
س 5 : الملاحظ ان نهاية الخمسينات واوائل الستينات كانت مرحلة الاشباع في استعمال بعض الشعراء الكبار (أنت والسياب مثلا) للأساطير والرموز بكثرة، ثم بدأ طيف الاسطورة والرمز يغيب في أواخر الستينات لدى الشعراء الشباب الجدد دون بديل او معادل على الاغلب هل من تعليل..ا؟
ج : ان الرمز كما اشرنا سابقا هو وليد الثقافة والرؤيا والاختمار والتأمل الطويل في المصير، ولهذا فان التجارب الذاتية الآنية المتعجلة لا يمكن ان تتكشف عن رمز تنسكب فيه وربما عاد ذلك الى هذه “الردات الفعل “ المتلاحقة المتزاحمة في حياتنا والتي تجعلنا غير قادرين على جمعها في تجربة كلية تولد هي ذاتها الرمز الصالح للتعبير عنها.
س 6: بهذه المناسبة ما هي في رأيكم الوظيفة التي ينبغي ان تؤديها الاسطورة في الشعر والفن عامة ا؟
ج : الاسطورة مرتبطة بالرمز، فالرمز الذي لا يكون تحويلا لأسطورة شعبية قائمة في الضمير العام يصبح رمزا منفلقا ينزع الى الالتباس والالغاز. والاسطورة اذا لم تكن شعبية قائمة في الضمير العام وكانت مستمدة من تراث غير التراث العربي، أدت كذلك الى وقوع الشعر في الغموض والانفلاق، وهذا عكس ما يجب أن تكون عليه وظيفتها وهي اشراك الآخرين بتجارب الشاعر. فالتأكيد هنا منصب على أن الاسطورة يجب أن تكون تراثية حضارية شعبية، وقد ضل الشعراء الذين أخذوا بالاساطير اليونانية وغيرها فهي غريبة على النفس العربية.
س 7: أجيال من الشعراء الشباب في الوطن العربي منذ اواسط الخمسينات وحتى اليوم يغمسون أقلامهم في محابركم، ويترك شعركم على قصائدهم بصمات واضحة مما يعدمهم _ في رأينا ~استقلالهم الشعري، ومما يشكل ايضا عقبة في طريق بناء شخصية جديدة، متفتحة متطورة للشعرالعربي المعاصر، ما تعليلكم ؟ ما دفاعكم ؟.. ما الحل ؟
ج : بالرغم من النكسة الفاجعة الكبرى سنة 1967 لم يتولد في ضمير الامة العربية بعد تجربة جديدة متكاملة يمكن للشعراء الجدد ان يفيدوا منها في خلق عالم شعري جديد مستقل عن الماضي، مرتبط بعض الشي ء. وليس في نفسي سوى العطف والرغبة في التشجيع لكل ما صدر بعد حركتنا من اصداء شعرية متأثرة بنا، فليس من الضروري ان يكون الجديد تخطبا لما جاء قبله، قد يكون الجديد أصيلا، وما قبله اصيلا ايضا، والواقع ان الزمن خير ناقد وحكم على هذا الشاعر او ذاك، او هذه الطريقة المذهبية او تلك. قد تخدعنا الأزياء ونغفل عما سبقها غير ان الزمن لا يبقي الا الشعر المرتبط بحقيقة النفس الانسانية وطبيعة الوجود، فهو ثابت على صفحة الدهر بثبات الحقيقة الخالدة المعبر عنها، والطبيعة الازلية القائمة، فحركتنا نحن _مثلا _لم تلغ (ولن تلغي اي حركة في المستقبل ) – شعر المتنبي فهو كان وما يزال شاعر العربية الأكبر. كذلك يتمتع بأصالة وفيرة نتاج بعض الشعراء من الجيل اللاحق لجيلنا امثال علي الجندي وممدوح مروان وغيرهما.
س 8: من الملاحظ أن نخبة من الشعراء المجددين كالصبور والشرقاوي وبسيسو، قد مالوا بعد النكسة خاصة الى كتابة "المسرحية الشعرية “ بماذا تعلل هذا الميل، وهل لديك مشروع مسرحية شعرية ؟
ج : (اعتذر الدكتور حاوي عن الاجابة على هذا السؤال ) !!
س 9: يرى بعض النقاد الغربيين المعاصرين ان وسيلة “التعبير بالصور" في الشعر لم تعد مناسبة لهذا العصر المكشوف الواضح الذي يجبه الانسان عاريا – وبحدة – في صميم علاقاته الوجودية الخاصة، وأن التعبير المباشر التلقائي الفني هوا لطريقة التي تؤثر على وجدان الانسان الحديث فيتحسس من خلالها مشكلاته وازماته وصراعاته، يمثلون على ذلك بالشاعر السوفييتي “ايفتشنكو”.وعدد من الشعراء الفرنسيين والفيتناميين والامريكيين، ما تعليقكم على هذه المقولة ؟
ج : لا يمكن الجواب عن هذا السؤال الا بتحديد نطاق التجربة الشعرية وطبيعتها، فاذا قررنا انه يجب أن تكون تجربة كلية تعبر عن المحسوس وما فوق المحسوس، وعن الوعي واللاوعي، فالتعبير بالصور يكون وسيلة حتمية لا يتم بدونها الكشف عن الغامض المستتر في النفس والوجود، وهذا يعني امكانية الاستفادة من مذهب (يونج) في النماذج العليا القائمة في اغوار النفس، والوجود، انها تتمثل بالصور وتعبر عن مستويات اربعة : مستوى اللاوعي الكوني، واللاوعي القومي، واللاوعي الذاتي، والوعي الذاتي، ومن هنا يكون تعدد المفاهيم التي تشتمل عليها تلك الصور.
اما اذا كان الشعر تعبيرا عن عقيدة سياسية يقصد منه نشر هذه العقيدة، فلا بأس من أن يكون التعبير مباشرا، ورأيي أن الشعراء الذين ذكرتهم لا يصنفون مع شعراء المرتبة الأولى، فشتان ما بين مايكوفسكي الذي عبر بالصور وبغيرها وبأيفتشنكو صاحب التعبير المباشر. وكيف نعبر مثلا عن حالات شبيهة بالحالات التي عانتها “ليدي ماكبث “ في مسرحية شكسبير عندما اختلط في نفسها الاصرار على الاجرام، وثورة الضمير على الاجرام ؟!
س 0 ا : دكتور حاوي، على سيرة النقد والنقاد، ما رأيك – كشاعر واستاذ جامعي للنقد الأدبي – بالحركة النقدية العربية منذ عصرا لنهضة الى اليود ؟
ج : يقسم النقد عادة الى نظرية وتطبيق وتستند النظرية الى مذهب متكامل في الانسان والوجود، ولا يمكن ان يكون هناك نقد تطبيقي قيم ما لم يستند أصلا الى نظرية نقدية وهذا ما نفتقده في النقد العربي المعا هو في الفترة المذكورة في سؤالك، فالنقد العربي الحديث يستند الى ذوق ذاتي وينهج منهجا تأثريا انطباعيا ويرتكز على مجموعة من الآراء المتعددة المختلفة التي يعتمدها الناقد وفقا للظروف والحالات، ولهذا لم يستطع نقادنا ان يأتوا بمذاهب نقدية تضاف الى مذاهب النقد في التراث العربي.
س ا ا : في مجموعتك الاولى “نهر الرماد” الصادرة 1957 قصيدة بعنوان “البحار والدرويش" ترمز بالبحار الى الذات الغربية الحضارية المتنكرة للعلم والمتجهة نحو ردة روحية جديدة، وترمز بالدرويش للشرق المغرق في الروحانية والتصوف والقدم والغيبوبة والتكايا والارض الموات. بعد ما يقرب من خمس عشرة سنة هل تغيرت نظرتك الى الشرق والى انسانه ؟ هل تقلص دراويشه ا؟ هل كونت رؤيا جديدة عنه ؟
ج : في المجموعة ذاتها حصل التغير فأنا أقول في قصيدة “الجسر” :
يعبرون الجسر في الصبح خفافا
اضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد
اضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
س 12: لي صديق من الشعراء الشباب يقول لي دائما : – ما وضعت رأسي على وسادتي لأنام الا فكرت بحزن بالموت وأرقت وبكيت : – ما هو موقفك الفلسفي والحياتي والحضاري من الموت كشاعر وانسان :؟ وهل تعتبره قضية :؟
ج : الشعر، وكل الاغراض والنشاطات الانسانية الاخرى – يبدو كأنها ما وجدت الا ليشغل الانسان نفسه بها عن مجابهة الموت والتفكير المستديم فيه. ولكن لابد للانسان من أن يجابه الموت في طور ما من أطوار حياته، وبعد أن يعاني الموت – وهو حي – رعشة في أعصابه وكيانه كله يعود بنفس يائسة راضية الى حد ما، ويدخل في صلح مه الحياة، مشدود الى نزعة رواقية.
ابراهيم الجرادي(كاتب وأستاذ جامعي سوري يعمل باليمن)