أمل المغيزوية
قاصة عمانية
نظر يحيى إلى إبهام قدمه التي بدأت بالتورم بشكل تدريجي، بينما اللون الأخضر كان ينتشر وينشر في قلبه خوفًا وألمًا، أحس يحيى برغبة في البكاء، عدل من وضعية جلسته في السيارة، بينما كان الراديو ينقل مع الشوشرة المستمرة والغبار المتطاير صوت أغنية رديئة. مسح يحيى العرق المتدحرج على جبينه، وأحس بنبضات قلبه ترتفع، مع الحرارة التي بدأت تنساب من نوافذ السيارة المفتوحة على اتساعها.
قبل عشرين عامًا، حكت له أمه عن الثعبان الضخم الذي رأته نائمًا بجواره، كان طويلًا بلون أسود، قطعت صلاتها بسرعة، وذهبت لتنادي أقرب شخص إلى غرفتها، وعندما عادت لم تجده، رغم أنها بعثرت جميع محتويات الغرفة، كما أنها لم تلمح آثار حركته في الخارج، وتقسم أنها شاهدت على وجهك الطفولي نظرة خوف لم تستطع تفسيرها.
في عامه الرابع، ورغم ضبابية الحدث في ذاكرته الطفولية المشوشة، غير أن أخته الكبيرة تروي بكل التفاصيل الدقيقة حادثة لعبه مع عقرب كبير، كان مختبئًا بين الأحذية الكثيرة المبعثرة، صراخ أخته لم يصرفه عن التحديق في تلك اللعبة الكبيرة، بشكلها الغريب، ولونها الأغرب، الذي يتدرج بين اللونين الأصفر والأسود، والتي تحمل ذيلًا في نهاية جسدها ينتهي بشكل حاول تبينه، بيد أن صرخة أخته انتزعته من كل أحلامه، والأيادي التي امتدت لاحقًا بعضها لحمله والأخرى للقضاء على لعبته، تحولت إلى تشكيل عشوائي غير واضح الملامح، زرعت في داخله خوفًا مبهمًا لا سيما أنها تداخلت مع صراخ طويل وثرثرة أطول.
زُرِع الخوف منذ وقت مبكر في حياة يحيى، أيقن بأن الحشرات نقمة كبيرة في حياته، وأنها علامة لها دلالات كثيرة، وأصبح ينتظر عضة سامة أو قرصة موجعة في أي لحظة.
جاء قرار والده مباغتًا، حين أخبره بأنه سيستخدم فلوس التعويض لبناء بيت في المزرعة، توجس يحيى خوفًا، وشعر بفحيح عالٍ يصم آذانه، ودبيب حشرات كثيرة تسير بلا توقف، تخيل الأشجار الكثيرة الملتفة، والحشائش المتداخلة، لا ريب أنها تخفي حشرات سامة لا حصر لها، توقف ذهنه عند هذه النقطة، حاول الخروج من زوبعة الأفكار التي بدأت تغزوه بكل قسوة، دندن بلحن شعبي يحبه، تطاير بمجرد أن تذكر الكم الهائل من الأشجار والمفاجآت القابعة تحتها، لاسيما بعد أن تذكر حديث صالح القصير حين تحدث عن العدد الكبير من العقارب التي خرجت من تحت الأشجار بعد إزالتها لبناء بيته الجديد، أحس يحيى بارتجاف في جسده، وشعر بقرصات متتابعة ، وهو يتصور أشكال العقارب، وهي تهرب من تحت الأشجار، وتحرك ذيولها في خوف وتوجس.
في الكثير من أحلام يحيى بزغت حشرات مختلفة وكثيرة، كان الحلم يتكرر بأشكال مختلفة، ثعابين طويلة تلاحقه، عقارب سامة سوداء وصفراء تتجمع فوق جسده وتلسعه بقسوة، حشرات متباينة ذات أجنحة، تطير وتنقض على يحيى بكل ضراوة، وأصوات أجنحتها يثير زوبعة من الخوف في قلبه، كان يحيى ينهض والعرق يبلله، ويلهث ودقات قلبه تتسارع كأنه انتهى من قطع مسافات شاسعة في سباق طويل.
لكن الحلم الذي ظل يطارده طويلًا، واستمرت صورته بكل تفاصيلها في ذهنه يتمثل في حلم يجد فيه يحيى نفسه وحيدًا في صحراء شاسعة، كان يشعر بالخوف، وقدماه تخذلانه، والعرق يتصبب بغزارة فوق الرمال الحارقة، بينما يحاول الفرار من آثار ثعبان ضخم ارتسمت بوضوح على مرمى بصره، غير أن تلك الآثار تظهر له في كل مكان، وتزداد وضوحًا، ليظهر رأس ثعبان ضخم، ويزداد ارتجاف يحيى، والثعبان يقترب ويقترب، وتكتمل صرخته ليستيقظ وجسده يتصبب عرقًا رغم برودة الجو.
ازدادت رهبة يحيى من النوم، وقضى الحلم على الاستقرار الذي كان يشعر به حين يضع رأسه على الوسادة، وضع المصحف بجانب سريره، وقرأ سورتي الفلق والناس، بيد أن الحلم استمر، والخوف اتسع في قلبه.
أصبح يحيى على يقين بأنه سيتعرض للسعة من حشرة ما في القريب العاجل، فقلل من أوقات خروجه من البيت، وابتعد قدر الإمكان عن محيط المزرعة التي تحيط ببيتهم، وعمد لتفتيش جميع أغراضه أكثر من مرة قبل استعمالها.
اليوم كان يحيى في عجلة من أمره، أراد اللحاق بمباراة فريقه، ارتدى جواربه بسرعة، ثم وضع قدمه على عجالة في الحذاء، اقشعر بدنه، حين أحس بوجود شيء يزاحم قدمه في الحذاء الرياضي، أراد إخراج قدمه بسرعة، غير أن لسعة مؤلمة أشبه بجدار من النار ترافق مع إخراج قدمه.
شعر يحيى بالألم ينتشر بسرعة، وازداد حين أخرج أخوه عقربًا كبيرًا من فردة حذائه، شعر بالحزن حين رأى ابتسامة أخيه الصفراء، تحرك بصعوبة وركب السيارة وصور كثيرة لحشرات متباينة تغزو ذاكرته المتعبة، وسلسلة حياته مع الحشرات تتتابع كشريط سينمائي عتيق، يترافق مع الألم الذي بدأ يتصاعد بلا توقف.