«صحوت مفزوعاً من النوم معكر المزاج لأفتح الراديو الرمادي الصغير (في غرفتي هنا)، كان يا أمي أحد الحاخامات الإسرائيليين في الإذاعة المحلية يصرح في برنامج قديم معاد: بأن كل من يفجر حزاماً ناسفاً بجسده في المدن الإسرائيلية يجب أن يُلف بجلد الخنزير قبل دفنه حتى يصيبه النجس ولا يفوز بالجنة.
يتساءل المذيع باستغراب: هل رجال الدين اليهود باتوا مقتنعين بأن من يفجر نفسه في حافلة للجند في تل أبيب أو غيرها سيدخل الجنة ؟!.»
هذا ماقاله الأسير الإسرائيلي شاليط والذي أصبح مشهورا كلاعبي كرة القدم في العالم من خلال كتاب سردي يحمل اسم «الجنة الثانية- رسائل جلعاد شاليط إلى أمه»، لقد استطاع خيال الكاتبين محمد وهاني السالمي أن يسبحوا في فضاء الذات والمكان معاً، أن يرسموا معاناة غزة على الورق لتطير الحقيقة عبر الأسوار وليعرفها كل متنكر لها..حين لمعت فكرتهم وهما يجلسان بجوار قلعة الملك برقوق التاريخية وكأن عظمة غزة/المكان والتي تحيا موثوقة الرقبة واليدين بفعل الحصار المضروب على شتى ألوان الحياة هى الشرارة التي دفعتهما للانطلاق نحو الكتابة بلسان الجندي الأسير بغزة الذي في قبضة رجال المقاومة بعد عملية عسكرية صعبة.
يسير الكاتبان بالسرد القصصي الشيّق وخاصة أن الشخصية «شاليط» مهمة على كل المستويات وتدعو للفضول، وامتازا باختيار السرد على شكل رسائل يدونها شاليط لأمه، يتحدث فيها عن ألمه واشتياقه لحبيبته الفرنسية مايا ومدى تأقلمه مع الظروف التي تترك غشاوتها السوداء على السكان..غزة البقعة الصغيرة المنسية على خارطة الانسانية حيث لا أضواء إلا لسيارات الإسعاف ..غزة كأنها برميل بارود مشتعل دوما بسبب العدوان والجحيم المصبوب عليها فهي ليست جنة كما عنوان الكتاب.
القصف يحطم نوم سكانها ويرعب اطفالها ويجعلهم صفوفا في طوابير وكالة الغوث الدولية، وبالرغم من ذلك ففيها حياة على نسق خاص وفيها منتزه وحيد وترى فتيات جميلات يتناولن الايس كريم في شوارعها ومحلات بواجهات زجاجية كبيرة ويافطات وإعلانات كأنها قطعة من مدينة أوروبية وبحر هو نهاية كل شارع.
وإذا تعمق القارئ أكثر لوجد أن الذات تنتصر أيضا في صبر الحارسين والتحاق أحدهم بالجامعة «حراسة ودراسة في آن واحد» هذا تصميم أكيد على صيرورة الحياة كباقي شعوب العالم.
الجنة الثانية تنقل القارئ من معاناة سكان موضوعية جراء حصار ظالم في مساحة ضئيلة تسكن الجغرافيا الى الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الكبير وهو العقدة الشائكة ..
«الأطفال يرتدون أجمل الملابس، يمتشقون البنادق البلاستيكية ويختبئون خلف السواتر والذكريات، كانوا يطلقون رصاص الدمدم الوهمي على بعضهم البعض في لعبتهم المفضلة (عرب ويهود)، سقط منهم قتيل وجريح وبعدها عاد كل منهم إلى بيته، فكرة البنادق تلاحقهم أينما حلوا حتى الأطفال في يوم عيدهم، لا أعرف إلى متى ستستمر هذه اللعبة؟»
وأنت تتصفح الكتاب تلمح معايير الانحياز للآخر/المحتل من قبل المجتمع الدولي كأن يفكر الجندي المحتجز بأنه يحلم بمنحه جائزة نوبل للسلام..وهنا ينجرف الكاتبان الى حقيقة المشهد الدولي تجاه القضية الفلسطينية، وكذلك الاسرى الفلسطينيون الذين يعيشون ظروفا خارجة عن الإنسانية مقارنة بالجندي الذي يتناول طعاما فرنسيا كونه غير معتاد على الطعام الفلسطيني الذي ربما يؤذيه كما يعتقد. وفي النهاية استبدل الكوكاكولا الغازية بمشروب الخروب الفلسطيني لانقطاع الأولى من السوق في دلالة لمنع السلع من الدخول الى غزة وايضا التطرق الى انقطاع الادوية اللازمة لعلاج المرضى وخاصة الامراض المزمنة.
إن مشهد وفاة ابنة الحارس بمثابة قتل منظم من قبل الآخر الذي يغلق المعابر والمنافذ للسفر والعلاج بالخارج.
الكتاب مليء بالإشارات السياسية التي تنمو مع الفلسطينيين كخبزهم اليومي طالما تأثر الكاتبان بالراهن ولم يخرجوا من جلدهم.
تظهر بين الفينة والأخرى معتقدات اليهود الدينية وأعيادهم وسلوكهم في كتبهم: التلمود والعهد القديم والأسفار والتى وظفها الكاتبان بمهارة تكشف حقيقة اليهود وفكرهم المعادي للانسانية الذي ينطوي على استعلاء على كل الإمم وباقي اهل المعمورة، مثل قوله: نحن خلقنا من نطفة انسان وباقي البشر خلقوا من نطفة حصان.
وقول الضابط الذي دائما ينظر شاخصا الى اعلى: «الهزيمة لاسرائيل تاتي فقط من السماء..»
تتجه الرواية/السرد الى تسليط الضوء على حياة العسكريين الاسرائيليين وقلقهم الدائم من الحدود وكذلك الفساد المستشري داخل مؤسسة الجيش وحياة المجندات اللواتي لا ينفعن بشيء إلا للترفيه على الجنود وحثهم على الاستمرار في العمل، وكذلك بيع مستودعات السلاح مقابل المخدرات.
تفجر الرواية موضوعا خطيرا في أهمية المكان عند من يسكن على هذه الارض، وهو قيام «داليا» اليهودية بشراء القطع الاثرية القديمة من السكان العرب عن طريق سماسرة وعملاء بمبالغ باهظة وذلك لاستحواذ الوجود على ارض فلسطين وامتلاك التاريخ بالدولار.
تنكسر ذات الاخر عندما يفقد ثقته بقادته الذين لم يفعلوا شيئا من اجل اطلاق سراحه ولم يتنازلوا ويفرجوا عن مئات الاسرى الفلسطينين الذين لهم امهات ينتظرن مثل أمه .
في الفصل الاخير من السرد يعتذر شاليط للشعب الفلسطيني عما لحق به من ويلات جراء أسره وكنه يترك سؤالا كبيرا من يعتذر منذ بداية الاحتلال عن المجازر وسفك الدماء، ويترك لامه رسالة النهاية ما زالت مفتوحة فهو كغيره من رجال السياسة لا يعرفون أين سينتهي الحال بغزة؟؟؟.
الرواية تدغدغ المشاعر، تحتاج الى عدة قراءات وفي كل مرة تكتشف أحداثاً ومقاصد تغيب بين السطور وخلف الكلمات خاصة أن من كتبها يعاني مثله مثل مليون ونصف فلسطيني محاصرين في غزة حيث الموت أرخص من ثمن الرغيف.
وأخيرا فالرواية طبعت طبعة خاصة من القطع المتوسط في حوالي تسعين صفحة.
سمـــا حســــن
كاتبة من فلسطين