الدكان الأول كان دكان الفواكه, دخلته قبل نصف ساعة من موعد الإفطار، الأيدي تنهش صناديقه التي تتضاءل محتوياتها كل دقيقة, كل ثانية, فبين غمضة عين ترى التفاحة التي كنت تغمز اليها بلعابك, من بين التفاحات الأخريات, وتدفع الطابور المتراص لكي تصل اليها قد اختفت.
وعناقيد الموز تظهر كأيد كبيرة مقطوعة الأصابع ومعلقة على بوابة الدكان, وصندوق البرتقال اصطبغ قاعه بلزوجة صفراء تفوح منه رائحة حامضة.
فرغم أنني أسكن وسط السوق, إلا أنني أخر من يحظى بأشيائه, لا أدخله إلا وقت خروج الناس منه, محملين بأكياس ضخمة وملونة, يعصر بطونهم الجوع والبرد، الجوع من داخل البطون والبرد من خارجها يدور دوامات خفية.
الشعور بالعزلة, يزداد هذا الشعور قبيل موعد الإفطار، فالكل لا ينظر إلا الى مساحة قريبة من قامته, حتى الذين كانوا فيما مضى، يقودون أبناءهم, ممسكين بهم من السواعد، قبيل الإفطار لا يمسكون بهم إلا من أطراف أصابعهم, التي لا تلبث أن تنخرط, لترى الطفل يتقافز ويصرخ, يصرخ أكثر من طاقته, ويدحرج قامته الضئيلة مقلبا إياها مثل الكرة, ويمشي بأصابع يديه, فالأطفال الأذكياء يتحينون مثل هذه الفرص للصراخ, والسب أو دفع البصاق على أشده في وجه أي أحد، فليس من يملك القوة في ردعهم في أي نصف ساعة قبل الفطور.
نصف ساعة أخر دقيقة فيها قذيفة مدفع.
أشعر بأن لا أحد يحبني في هذه المدينة, وعزلتي تتفاقم, حصاة في غابة جليدية, فلا أحد تشده الحاجة للحديث معي, ولا أحد يقف مندهشا أمام استفساراتي الغبية.
حظيت بتفاحة, ولذهولي مسحتها بطرف من ردن قميصي، فتلطخ ذلك الطرف, واسود لونه تماما، وازددت خجلا وانطواء. خرجت من ذلك الدكان, لأشتري الحليب من دكان آخر.
بائع الحليب ذكرني بأمي، لا أعرف أي رابط بينهما دفع بصورة أمي أمام وجهه, بل غطت على وجهه تماما، تنظر الى بخوف, تمد يديها لتمنعني من الدخول, ما الذي جاء بك يا أمي الى هذا البلد البعيد؟ اشتريت كيسا صغيرا من الحليب, وخرجت متجها الى بائع آخر، مرت خمس دقائق من نصف الساعة, كيس حليب صغير، تتقاطر أطرافه فوق ملابسي, لتزداد اتساخا, ويزداد خجلي, ويزداد انطوائي ماذا جاء بك يا أمي الى هذا البلد البعيد؟
البائع تلف وجها لحية كبيرة, لحية كبيرة تحفها الظلال والأشواك والريش, لحية كبيرة ودافئة, وعينان صافيتان كعيني الديك, يرفعه أبي منكسا باتجاه المذبح, وفم يرتل باستمرار، وهو يحسب الطماطم ويركل وهو يحسب فتات النقود المبذورة في شق الدرج. أخذت بيضة وخرجت مسرعا، لغط يرتفع ورائي، التفت, كان بائع البيض يركض خلفي، رافعا نعليه تحت إبطه ويحرك لسانه دون صوت يتبعه بائع الخضر، وبائع الحليب وأمي.
خمس دقائق أخرى انزلقت من كاهل النصف الثقيل, عشرن دقيقة وتصمت المدينة, غرفتي المعلقة في قلب السوق كالميدالية النحاس, تخفق. عشرون ذقيقة ويصرخ المؤذن, ماذا نسيت, الحليب, التفاحة, البيضة, التمر، نسيت التمر، ونسيت الخبزة, اشتريت التمر ولكنني لم أجد الخبزة, وجدت ولكنه رفض أن يبيعني، حتى نصفها، وعندما ألمحت عليه رفض أكثر، إنه يريدها له, إنه يريد أن يفطر بها، ولكنني لم أنسحب, وقفت أمام باب الدكان, مسمر! عيني الجائعتين في وجها، وهو يقول لي أخرج, ويقول لي لن أعطيك خبزا، لكنني لم أتكلم, ولم أحرك وقفتي، ولم أحول عيني عن هيكل الخبزة الذي انشطر الى شطرين, طار أحدهما كالمروحة وحط بين يدي بدون مقابل.
أدخلت البيضة في الابريق وجعلتها تسبح وأشعلت النار من تحتها، وفرشت الطاولة بست تمرات, وتفاحة, وقطعة خبز، وكيس حليب صغير، وكأس, جلست أنتظر، وشعرت بالملل, أحضرت ورقة وقلما، وعندما وصلت الى مشهد بائع البيض تذكرت البيضة التي فوق النار، قشرتها، وأحضرت برفقتها سكينا، قطعت أذن كيس الحليب, ودفقته في الكأس, وحشرت البيضة في نصف الخبزة, وحفرتها بالسكين الى أن تراخت في أرجاء نصف الخبزة, هتف المؤذن "الله أكبر".
انفجرت قنبلة مدفع جهة الباب, دخلت أمي، يتبعها أطفال كثيرون لا نهاية لهم, مجرى نهري كله أطفال, اخوتي, أبناء الجيران, وأطفال آخرون لا أعرفهم ثم دخل الرجال, نهر آخر أطول حجما، ومسنون بينهم جدي ونساء كثيرات.
تنابشوا الصحون, لعقوا كل شيء فيها، ارتدوا ملابسي, عبثوا بالحنفيات عبثوا بالكتب, قلبوا الكراسي والأفرشة, صراخ, طرق صحون مرتفع, أبواب تصفق دون توقف, ثم بعد ذلك خرجوا، واحدا واحدا، طابور من النور نهايته أمي، لم تكلمني، رمقتني بعينيها الخائفتين, أغلقت الباب, واختفت.
لم يبق شيء فوق الطاولة, سوى جرعة حليب ملتصقة الكأس كعين بيضاء، ترمقني بشوق, لعقتها بلساني وزحلقتها قطرة قطرة في مجرى الحلق المرتخي، لتغوص باردة ولذيذة, بين مسام الصدر الملتهب.
محمود الرحبي (كاتب من سلطنة عمان)