ل.ن
بدأت اهتمامات أندريه ميكيل بثقافة المشرِق حين قرأ في سن الثامنة عشرة ترجمة للقرآن، إثر رحلة قام بها حين كان طالبًا، قادته لاكتشاف الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط من خلال محطات عديدة، قادته من تونس إلى الجزائر ثم إلى الرباط ومراكش… حينها وُلِد شَغفُه بالعالم العربي. بناءً على ذلك، اقتنى الشاب الفرنسي أندريه ميكيل نسخة من القرآن الكريم، مترجمة إلى اللغة الفرنسية، أنجزها كلود إتيان سافاري. وعندما شرع في قراءة النص القرآني، انجذب إلى الآيات الأولى، وإلى قوّتها الرمزية والإيحائية. فتحول الانجذاب الأول في استكشاف الشرق بصورته التقليدية، والتطلع إلى الضفة الأخرى لرؤية أشجار النخيل، والمنارات، إلى رغبة جارفة في الاحتكاك مع العالم العربي والتعمق فيه، والغوص في مجتمعاته. ليشرع في تجربة طويلة من الدراسة والبحث.
بقول أندريه ميكيل: “لم تكن نيتي الأولى تعلم العربية، بل تعلُّم الفارسية. كنت أقول في نفسي يجب أن أضيف إلى اللغات التي أعرفها جيدا الفرنسية، اللاتينية، واليونانية والألمانية، لغة خامسة هندو – أوروبية، فمن المُمكِن أن يُساعدني هذا حقًا على إجراء دراسات لسانية أو في الأدب المقارن. ذهبت إلى مدرسة اللغات الشرقية حيث أفهمني الرئيس المكلف “ماصي” بأنه لا مستقبل لي في الدراسات الإيرانية ما دام هناك منبر (كرسي) واحد وقد تم تخصيصه سلفا لزميلي الأكبر مني سنا جيلبير لازار”. حينها غير أندريه ميكيل اتجاهه من الفارسية إلى العربية مستكملا دروس اللغات الشرقية. وبدأ التعلُّم الذاتي مع مختصر من النحو، حيث كان يحلُّ التمارين بمساعدة طالب مغربي، في نوع من الهواية بدون هدف محدد في البداية كما يقول في كثير من المقابلات الصحفية التي أجريت معه.
بدأت رحلة أندريه ميكيل إلى الشرق بدمشق مع زيارته الأولى إلى سوريا عام 1953، حيث حضّر أطروحة دكتوراه تكميلية. وبناءً على نصيحة من المستعرب ريجيس بلاشير الذي قال له حينها: “عليك أن تشرع بالترجمة لكي تعمّق معرفتك باللغة العربية وتتمكّن من إتقانها”، أقبل على ترجمة كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع إلى اللغة الفرنسية. فقسّم وقته -عند إقامته في دمشق- بين الترجمة وزيارة المدينة، لاستكشاف المنطقة بعدما أصبح متزوجا بمعشوقة شبابه جنين التي قاسمته حبه للشرق وشقت معه الرحلات الأولى في سوريا والعراق، حيث كان يُمكِن السّفر في الحافلة عبر الصحراء. وعن هذه الفترة يقول أندريه ميكيل بأنها سمحت له بفهم معنى الشرق بشكل جيد. (لذا يمكنني أن أعرّف الشرق باعتباره “أرض الترحاب”).
لم أُستقبَل فيه بوصفي أجنبيًا أو “مستعمرًا جديدًا”، بل كصديق. وفي دمشق انتفض تاريخ بأكمله أمام عيني، التاريخ باعتباره محصلة إنتاج ثقافي ومعرفي، فعايشت عن كثب طبقات التاريخ وذاكرته، بكلّ ما فيهما من بهاء وشقاء.)
وما لبث أندريه ميكيل أن أنهى ترجمته كتابَ كليلة ودمنة الذي كرس له معظم وقته أثناء زيارته الأولى إلى سوريا، حتى التحق بالسلك الدبلوماسي فأوفد إلى مصر كمستشار ثقافي.
سجنه في مصر لم يمنعه من التمسك باللغة العربية بل زاده شغفًا بها:
كان أندريه ميكيل ينوي خلال وجوده بمصر تحضير أطروحة دكتوراه دولة عن “السينما والأدب في مصر المعاصرة”، إلى جانب مهامه كمبعوث من وزارة الخارجية الفرنسية لمهمة ثقافية. وبعد شهرين على وصوله وتحديدًا في يناير/ كانون الثاني 1961، اعتقلته المخابرات المصرية بتهمة التجسس ظلما وبهتانا، لم تثبت صحتها فيما بعد. كان ذلك أثناء فترة القطيعة المصريّة ـ الفرنسيّة بسبب الحرب الاستعمارية في الجزائر. وفي انتظار المحاكمة سجن ميكيل لمدة خمسة أشهر. لم تتمكن من خلالها الدولة الفرنسية من إخراجه من هذه الورطة. لكن مع نهاية الحرب في الجزائر، دشنت أفق اتفاقات إيفيان علاقات جديدة مع الدول العربية. فأوقف الرئيس ناصر المحاكمة، وأُعيد ميكيل إلى الوطن. بعدما أعيدت العلاقات الدبلوماسية إلى مجراها بين مصر وفرنسا.
يحكي ميكيل أنه قضى وقته داخل الزنزانة، مصطحبا معه نسخة من الكتاب المقدس، ونسخة من القرآن الكريم فكان يشغل وقته في قراءتهما، وكان يُقسِّم وقته بين الرياضة والنوم والقراءة ودراسة اللغة العربية. كما اطّلع خلال هذه الفترة العصيبة على الأعمال الكاملة لتوفيق الحكيم وعلى ثلاثية نجيب محفوظ الذي سيترجم بعض أعماله بعد خروجه من محبسه إلى الفرنسية وسيدعم ترشحه إلى جائزة نوبل للآداب.
هذه التجربة القاسية التي رواها ميكيل ضمن سيرته الذاتية الصادرة بعنوان “وجبة المساء” لم تمنعه من مواصلة الاهتمام والتبحر في اللغة العربية، بل زادته إصرارا وشغفا على الغوص فيها. وعززت تصميمه على فهم الثقافة العربيّة الإسلاميّة والتعريف بها عن كثب، وهذا ما أكده في حديث صحفيّ بقوله: “لو قرّرت آنذاك أن أنأى بنفسي عن الدراسات العربيّة الإسلاميّة لكان هذا اعترافًا منّي بأنّ الذين سجنوني مُحقّون في دعواهم الكاذبة. لذلك عزمت على أن أكون مستعربًا على الرغم منهم”. وهكذا تعزز عند ميكيل شغفه بالعربية واستمر في البحث فيها والعمل عليها ليُّعدَّ اليوم وبدون منازع أب المستعربين الفرنسيين وصديق الثقافة العربية.
تُرجِم كتاب (وجبة المساء) إلى العربية في مصر عام 2015، فكانت ترجمتُه بمثابة تكريم وعرفان لأندريه ميكيل بوصفه أحد أكبر أقطاب حركة الاستعراب. حيث أصدره المجلس القومي للترجمة في القاهرة، وأشرفت على ترجمته أستاذة الأدب المقارن والناقدة الدكتورة رشا صالح. حيث تشير في مقدمة هذا الكتاب إلى أن ميكيل -حتى في أصعب ظُروفه أثناء تحقيق المصريين معه من قبل- لم يتنازل عن عدله، ولم يبخس الإنسان الشرقي مودته وتعاطفه وروحه النبيلة، كما لم يتخل عن عمليته التي تظهر في الحجاج مع الذين يحاكمونه، وتقول إن تلك العملية “تلخص روح الحوار بين الشرق والغرب”.
وهكذا وفي مشواره الحافل بالعطاء الفكري في الثقافة العربية ظلَّ أندريه ميكيل يسهم بشكل وثيق في مَدِّ جُسور تلك العلاقة بين الغرب والشرق. داعيا إلى بناء جسور التواصل لا أسوار نكران الآخر. فهو الذي كان يشيد في كل المنابر بمثال الحضارة الإسلامية وأثرها في الحضارة الإنسانية. دون أن ينسى الإشارة دائما سواء في المحافل الغربية الثقافية منها والرسمية أو في المقابلات الصحفية، إلى دور اللغة العربية في بناء الحضارة العالمية.
بِقِيَ ميكيل طيلة حياته يقتفي أثر فطرته النقية السوية إلى الآخر للتعرف به واكتشاف عوالمه، فقادته هذه الرحلة النبيلة إلى عشقه الأبدي للغتنا العربية. هذا وإذا رحنا نبحث عن السر الذي جعله يتمسك باللغة العربية ويكرس حياته للدفاع عنها، سيظهر جليا لنا أن الحب وحده لهذه اللغة هو الذي جعله متيما بها، مذ تاقت روحه للتبحر في لغة الضاد ولمعانقة ضفاف الشمال والشرق الجميل واستكشاف أسراره وثقافته وحضارته العريقة، وهو في مقتبل شبابه في الجنوب الفرنسي..
كان حب اندريه ميكيل للغة العربية من أسمى الأسباب التي حفزته على الترجمة، حرصا منه على الحفاظ بعلاقته بها، ولحاجته الملحة للبقاء وإياها كخليل لا يتسع قلبه لغير خليله. عرف باهتمامه الشديد بـ”مجنون ليلى” قيس بن الملوح، وأصبح متيّما بالشعر العربي الكلاسيكي، ونقل إلى الفرنسية أمهات الأدب العربي. وذهب به حبه وانسجامه مع لغة العرب إلى نظم الشعر بلغة الضاد التي عشقها ليعيد كتابتها بلغة موليير، كما ذكرنا سابقا. تجربة أرادها شيخ المستعربين تخاطبًا بين اللغتين.
لم يتوقف أندريه ميكيل عن كتابة الشعر باللغة العربية حتى آخر رمق من حياته، وهذا ما أكدته ابنته كلود ميكيل التي كانت من يوم إلى آخر، تكتشف كتاباته باللغة العربية رغم رقوده في فراش المرض. وكان يملي عليها في كل مرة وبحرص شديد ترجمات تلك القصائد لتجردها باللغة الفرنسية. وضل يكتب ما تجود به قريحته بلغة الضاد التي عشقها، وحتى قبل أيام معدودة من رحيله عنا في نهاية العام المنصرم.
ولا شك أن هذا الحب الوثيق نفسه للغة العربية ووفاء صداقته للعرب وثقافتهم التي ألِفها هو الذي جعله يقبل اقتراح الكاتب والصحفي الجزائري بوعلام رمضاني، بإصدار كتاب عنه على شكل حوار، حيث كان آخر من حاوره لعدة شهور في بيته الباريسي. واستمر ميكيل في الرد على الأسئلة متعبا، في عز جائحة كورونا وهو في سن الثانية والتسعين من عمره. ومن هذا الكتاب الذي صدر عن دار الأمير عام 2022 تحت عنوان (أندريه ميكيل: الحكيم عاشق الشرق)، الذي سيصدر قريبا بنسخة فرنسية بباريس، يعلن أبو المستعربين مجددا، وهذا قبيل شهور من وفاته لبني جلدته من الفرنسيين وللعرب، حبه الأبدي للغة العربية واعتزازه بها وبإنجازاتها الحضارية قائلا: “كنت وسأبقى عاشقا للغة العربية التي سحرتني بتاريخها وبخصوصياتها الكثيرة مقارنة باللغات الأجنبية الأخرى. وستبقى عشيقتي الأبدية رغم تقدمي في السن، وستبقى حية في قلبي، وستنتهي قصة حبي لها مع موتي… وحده الذي يدرس تاريخ اللغة العربية، والإنجازات العلمية والفكرية والفنية التي تمت بها يعرف قيمة هذه اللغة والدور الحضاري العالمي الذي لعبته عالميا وأوروبيا استنادا لكل ما مر معنا…اللغة العربية التي عشقتها ليست اللغة التي يحتقرها بعضهم ويتحدث عنها بعضهم الآخر بطريقة غير سليمة. لقد قضيت حياتي أعمل بهذه اللغة الرائعة مدرسا وباحثا وشاعرا ومترجما وكاتبا، وأشهد أني كنت أكتشف غناها المبهر في كل مرة ومن يوم إلى آخر”.