في الخمسينات كنت فتى شغوفا بقراءة الأدب باللغتين العربية والفرنسية، فقرأت جبران ونعيمة والمنفلوطي وجرجي زيدان وسعيد عقل وأمين نخلة والشعراء المهجريين وغيرهم، وقرأت الكلاسيكيين الا غريق والرومان والكلاسيكيين الفرنسيين ثم الرومانسيين. وقرأت كتب الرحلة (كارل ماي الألماني) ولامرتين وفولني الفرنسيان) وكتب الخيال العلمي ولاسيما كتب جول فيرن كذلك قرأت الشعر العربي القديم والأدب الصوفي وبعض الروايات لدستويفسكي وجو جول وتولستوي.
ولم تكن هذه القراءات تسير في منحى واحد؟ فلم أتحزب لتيار متجنبا نقيضه. أي أنني لم أكن كلاسيكيا مثلا يكره الرومانسيين، كما لم أكن رومانسيا يناصب الكلاسيكيين العداء. بل كنت أسحر بلغة جان رأسين والمتنبي وفيكتور هوجو ورامبو وفيولين. كان حب الاطلاع عندي وقتها يطغى على حب الانتماء والالتزام، كنت أريد أن أكون لنفسي ثقافة أدبية متينة وموسوعية، ريثما يستقر بي الحال في إقليم محدد.
في بداية الستينات تحمست للجاحظ ولوقيانوس السميساطي ووابليه وفولتير وأعجبت برؤيتهم الكاريكاتورية للعالم وبأ سلوبهم الساخر. ثم آل بي المطاف الى التعرف على الفكر الوجودي، فقرأت هوسيرل وهايدجر وميرلو بونتي وسارتر وكامو وسيمون دي بوفوار.
وفي دروس الفلسفة، تلقيت دروسا مطولة من كتاب "الوجود والعدم" لسارتر. وبدأت أشعر بالعلاقة العضوية بين الأدب والمجتمع. فصرت أنظر الى الأديب كداعية للعدالة ومدافع عن المستضعفين في العالم. وتابعت زيارة سارتر للقاهرة عام 1996 ولقاءاته مع المثقفين المصريين، ولكنني شعرت بإحباط شديد بعد ان قرأت تصريحاته عن اسرائيل. ولما ذهبت الى باريس في بداية السبعينات للدراسة، كنت أشاهد سارتر في مقهى.دالفلوردد أو في الحي اللاتيني وهو يعتلي برميلا أو يصعد الى دكة حجرية ويبيع جريدته "قضية الشعب" (La Cause du people) كنت أرثي لهذا الرجل الذي كان – من جهة – يساند جميع حركات التحرر في العالم، ويدعم اسرائيل على حساب فلسطين من جهة أخرى. وكنت أشعر بأن عقدة الذنب التي تنامت عند الاوروبيين أثناء الحرب العالمية الثانية دفعت بعدد من المثقفين الأوروبيين الى خلط الأوراق في فلسطين، فانقلب المعتدي عندهم ضحية.
وأثناء الدراسة في باريس، وفي خضم المد الثوري الذي انتشر في السبعينات، صرت أنظر الى الأدب كتعبير اجتماعي يهدف الى خلق الوعي عند الجماهير وتنحيته. فقرأت أعمال عدد من المنظرين لهذا التيار من أمثال جورج لوكاتش ولوميان جو لدمان وفالتيي بنيامين وروبيي اسكاربيت وبييي باربيريس وجاك لينهارت وبييي ماشري واتيان باليبار.. ولكي أكمل هذه الرؤية، اهتممت بالكتاب والنقاد الذين وفقوا بين البعد الاجتماعي والبعد الفني للأدب من أمثال ميخائيل باختين ور ولان بارت وتزفيتان تودوروف وجوليا كريستيفا وجيرار جينية ويوري لوتمان واومبرتو ايكو ورومان ياكوبسون.. وانتقلت بدوري من البنيوية التكوينية (وكتبت حولها كتابا عام 1982 درست فيه أعمال لوميان جو لدمان بخاصة) الى البنيوية الجمالية التي تمثلة أساسا
بالشكلانيين الروس والاوروبيين، ثم استهوتني التفكيكية دون إفراط. هذا دون أن أغفل فنتازية السورياليين، وفي هذا الصدد، أنا معجب اعجابا شديدا بشعر جاك بيغير الذي نقل الأدب من البار ناس الى الشارع.
لقد شكلت كل هذه العناصر رؤيتي للأدب وتصوري للالتزام والأدب الملتزم. فالأديب الملتزم هو أولا أديب (أي مثقف ثقافة انسانية واسعة ومطلع على شتى فنون الأدب وأساليبه وعارف أسرار اللغة وهمس الكلمات)، ومن ثم فهو ملتزد بقضايا الحماهير و يتكوين الوعي الاجتماعي والسياسي والجمالي لديها. لست مع نظرية الواقعية الاشتراكية التبسيطية التي ذهب بها الأمر الى اعتبار الأدب مهنة وصنعة ينشر الأديب بواسطتها ايديولوجيا السلطة والحزب الحاكم، مما دفع بعدد من المرتزقة ومن أزلام السلطة وأجهزتها الى "امتهان" هذه المهنة واحتوائها، فصار رجل المخابرات – بقدرة قادر- شاعر الا يشق له غبار، وصار مدير المنشأة الصناعية كاتبا نحريوا من أساطين "الأدب والأدباء".
أرى أن الأدب يستطيع اليوم أن يطور ويعمق وعي الجمهور القارئ بتركيزه على نقطتين: المادة الفكرية التي يقدمها، والأداء الفني الذي يفاقه عليها.
يهتم القارئ العربي المستنير بالكتب التي تتكلم عن التحرر والديمقراطية وحرية التعبير والمساواة بين المرأة والرجل والتحديث الاجتماعي والسياسي والانفتاح الديني والأخلاقي والتسامح والمجتمع المدني واحترام الطبيعة والبيئة، كما يهتم بالنقاط المضيئة في التاريخ العربي وتوظيف الكاتب لها توظيفا مبتكرا اذ يستلهم التاريخ وعينه على الحاضر والمستقبل في آن. هذا ما فعله مثلا جمال الغيطاني في روايته "الزيني بركات" وسالم حميش في روايته "مجنون الحكم" وعبدالرحمن منيف في خماسيته "مدن الملح" ومحمود درويش في ديوانه "أحد عشر كوكبا".
أما الأداء الفني فيشكل عنصرا مهما جدا، اذ يستطيع الكاتب المتقن والواعي لدوره التنويري أن يطور ذائقة القارئ واحساسه الفني ورها فته ولغته الجمالية. فالكاتب الجيد ليس فقط ذاك الذي يقدم أفكارا ومشاريع، بل الذي يجود بأدوات فنية متطورة تلبي تطلعات القارئ المعاصر. وما الأدب المتطور الا ذاك الذي يخاطب فكر القارئ واحساسه الجمالي في آن. كم يمتع القارئ مثلا بروايتي "البحث عن وليد مسعود" لجبرا ابراهيم جبرا و "رسمت خطا على الرمال" لهاني الراهب! لقد أتت الروايتان في نسيجهما المعقد كتحفتين محاكتين بألوان وألوان ورسمتا فضاء فنيا شفافا ورهيفا لا يستطيع تلمسه إلا القارئ النبيه المتمرس على ادراك لواعج اللغة وديناميتها.
ولكنني أجد فرقا كبيرا بين المستويين النظري والعملي. كل ما قلته حول دور الأدب في تغيير وعي الجمهور صحيح نظريا، بيد أنه عندما يصطدم بأرضية الواقع المعيش يصبح في جانبه الأكبر مجرد أحلام. عندما ننظر الى الـ285 مليون عربي في العالم الآن نتصور أن الكتاب يصيب معظمهم. هذا خطأ، اذ يجب أن نشطب من أصل هذا الرقم أكثر من نصفه، بسبب الأمية الفعلية، كما يجب أن نشطب من الباقي أكثر من ثلثيه، بسبب الأمية الثقافية التي تزداد غلتها عقدا بعد عقد. وهذا ما يفسر الظروف البائسة التي تحيط بالكتاب الرصين الذي لا يتجاوز عدد نسخه ثلاثة آلاف تنتشر سلحفاتيا بين المحيط والخليج. أفي هذا النزر اليسير من القراء فكر الطهطاوي وطه حسين؟ أفي هذه المحصلة البائسة فكر المصلحون والنهضويون والتنويريون ومؤسسو الجامعات والمدارس والمهاجرون الشوام الذين أرادوا مضاهاة العالم العربي بأوروبا؟ الا تفرح هذه الأرقام الرثة عددا من الحكام الذين يفضلون أن يقودوا قطيعا على أن يقودوا شعبا ناضجا؟
مع تنامي وسائل الاعلام السمعية البصرية، خف الاهتمام بالكتاب، لا سيما لدى الشرائح الوسطى التي لم تكن أصلا مفرمة بالكتاب. وربما كانت تنتظر الذريعة المناسبة لتعلن هجرها وتنكبها له. الحقيقة أن هناك تراجعا فاجعا في الاقبال على الكتاب، مع العلم بأن عادات القراءة منذ الصغر لم تتكون لدى العائلات العربية إلا في حالات نادرة. فعندما تحضر العائلة العربية نفسها لأخذ اجازة على شاطئ البحر مثلا، تأخذ معها الملابس والألعاب والأطعمة والمشروبات.. ولا تفكر في أخذ بعض الكتب، لأن الاستجمام في نظرها لا يتماشى مع المطالعة. يثرثر الناس ويتفرسون في أجسام بعضهم ويلعبون ويتثاءبون، وقلما يقرأ ون. فلماذا يا ترى حلت اللعنة في ديارنا بالقراءة والقراء؟ أبعد هذه المعاملة الجافية للكتاب يستطيع الأدبا، الاستمرار في الكتابة، كأن شيئا لم يكن؟
كان المغفور له طه حسين يعتبر أن الانسان بحاجة الى الثقافة كما يحتاج الى الطعام والماء والهواء. ولكن اية ثقافة كان يعني؟ لاشك أنها كانت بالنسبة له الثقافة المكتوبة التي لا يوفرها إلا الكتاب.
في عصر الانترنت والاتصالات، لابد أن يكون الكاتب العربي حالما ليستمر في الكتابة وليعتبر نفسه ملتزما بحصائر هؤلاء الناس الذين يعايشهم وبآمالهم وخيباتهم وبماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم وبأ فراحهم وأتراخهم، ويا له من حلم جميل، لابل مقدس. إن الكاتب ملتزم بأولئك الذين يسكنون سخيلته ويملأ ون آفاقه.
وإذا كان الكاتب يعيركل هذا الاهتمام بالقارئ وبالجمهور، فانه يقرأ تاريخ هذا الجمهور بعينين ثاقبتين، فالكتابة الأدبية لها بعد تاريخي بالضرورة، وإلا تكلمت عن كائنات وهمية هلامية سديمية لا تمت إلى الواقع البشري بصلة.
عندما نتساءل: لماذا الأدب اليوم؟ أقول انه في الأمس واليوم والفد. والهدف منه تقليص وحشية هذا العالم وتخليص الانسان من نزعته الذئبية وهمجيته.
الأدب يصقل النفوس ويهذبها ويفتح أمامها آفاقا جديدة، وما متعة النص، حسب العنوان الذي أطلقه رولان بارت، إلا متعة نبيلة وشفافة، وتعتبر من أرقي المتع البشرية، وأرى أن أهم اكتشاف حققه الانسان في بلاد الشام وفي العالم هو اكتشاف الأبجدية، ألف الحضارة البشرية وياؤها.
جمال شحيد (كاتب من لبنان)