تُوقف نفيسة باص المدرسة بالقرب من فيلا تتكون من طابقين. تُشير إلى صديقاتها بتكلف: «هذا هو بيتنا..هنا أعيش» لكن لا أحد يكترث لملاحظتها تلك. تدخل من بوابة الفيلا الأمامية، لتخرج إلى البوابة الخلفية دون أن تلتفت. تصل إلى منزلها القصي بين البيوت المتراصة. بيت صغير، يحيط به حوش منخفض، زرعت بداخله أمها المجنونة عويش – كما يلقبها الجيران- الكثير من الأزهار والورود الملونة، وأصبحت هذه هي تسليتها الوحيدة بعد انفصالها عن زوجها، وبعد إصابتها بحالات متكررة من ما يشتبه أنه صرع.
لم تعد عويش تفعل شيئا مهما في حياتها، تُعد القهوة وتخرج صحنا من التمر. تفترش حصيرة صغيرة، وتسقي الأشجار. لا تخرج إلا نادرا إلى جاراتها، ونفيسة لا تتبادل معها الكثير من الكلام. تنشغل بالدراسة طوال الوقت، وبالتحدث إلى جدتها التي باتت تسير على كرسي مزود بالعجلات..الدراسة والجدة كانا خلاصها الوحيد من الإحساس بالوحدة، ومن أم لا تبادلها الكلام، بينما يغيب أخوها الأكبر سيف عند عمه في ولاية عبري.
بعد ولادة نفسية أصيبت عويش بحالة من الهذيان، وكأن مسا قد أصابها بعد خروج ذلك الجسد منها.كانت تنام في سرير المستشفى وزوجها ينتظرها في الخارج، وتحيط أمها والممرضة برأسها، بينما تقف الطبيبة بين ساقيها تترقب أن تلد عويش مولودها الثاني..كان قد مرّت سبع سنوات منذ ولادتها لـ سيف، وكانت تنتظر الحمل الثاني بلهفة كبيرة، إلا أنها كابدت الموت وهي تلد.
أمها الخبيرة بأمور النساء كانت تهمس في أذنها: «وجع البنت يختلف عن وجع الولد.. البنت تطلع عين أمها» فمنذ أن رأت استدارة بطنها قالت لها: «هذي بنت، وهم البنات إلى الممات». فرحت عويش كثيرا، وكادت أن تطير إلى السماء. كانت تنتظر بنتا لأن سيف خُلق لـ أبيه وليس لها هي.. خُلق متجهما وعابسا وشديد الانزواء. إلا أنه كان نافرا ومتنائيا، ويترك المسافة بينهما لتكبر وتكبر..إلى أن يخترقها والده بالضرب العنيف لكي يصبح رجلا حقيقيا.
هكذا أخذه منها، وجعل منه طفلا آخر لا تعرفه، ولا تشعر تجاهه إلا بشبه بسيط بطفلها الذي ذهب بعيدا. كانت تريد بنتا جميلة تعقص لها شعرها بالشرائط، وتلبسها الملابس التي تحيكها بيديها وتذهب إلى بنات الجيران أيام العيد بأجمل زينة. تريد بنتا تهبها وقتها وفراغها عندما يسافر زوجها ليعمل في السعودية، ويبقى هناك لأشهر طويلة، تريد ضم ابنتها إلى صدرها لتنام، وهي تشعر بالأمان. تريد بنتا تكبر في البيت الصغير وتنادي اسمها، وتطعم مثلها القطط الضالة، وتحب النباتات ورعايتها وتشذيب أطرافها.
كانت تضع يدها طويلا على بطنها، وتتلمس طفلتها التي ترفسها بنعومة مغرية طوال الليل والنهار، وهي تتلذذ بذلك الحديث السري الذي يدور بينهما، ولا أحد سواهما يفهمه، كانت تخبرها بكل أسرارها، وكأن صديقة جديدة تتشكل في أحشائها، تتخيل أنها تلمس أذنها وتخبرها بالكثير من الحكايات، وفي حوض المزرعة الذي تغطيه أشجار النخيل والمانجو من جهة ومن جهة أخرى تغطيه أشجار الموز تسترخي عويش بجسدها، وتلهو بالماء وكأنها تلاعب شخصا ما لا يراه أحد غيرها. شخص تعرفه، وتمتلئ به وتشعر أنه يكفيها عن أي شيء آخر.
كان زوجها «راشد» غائبا حتى في حضوره يقضي الليل في السهر، والشرب بعيدا حيث السمر وشجر الغاف الوفير مع شلة الأصدقاء الخائبين مثله، وأولئك العاطلين عن العمل. يعود مترنحا، ومتعبا. يسقط على سريره كما تسقط نخلة جافة أتعبها الوقوف في وجه المحل، لكنها لا تكترث له فثمة كائن آخر تشعر أنها معنية به، يشغلها بكلها عنه، بينما يأوي «سيف» في فترة الليل في بيت جده، وجدته.
منذ أن دخلت الشهر السابع، وأخبرتها عين أمها البصيرة بأمور النساء أن كل العلامات تشير إلى أنها تحبل بفتاة، وهي تحيك الملابس القطنية ذات الألوان الجميلة، وتفكر باسم جميل تهبه لها، ولكنها لم تجد أجمل من اسم نفيسة لأن هذه الطفلة ستكون أنفس ما لديها وستحبها إلى حد جنوني. منذ ذلك اليوم أطلقت عليها اسم نفيسة، أخذت تتحدث إليها وتناديها باسمها الذي أحبته كثيرا، وكانت تشعر أنه يليق بها..
ولادتها لـ سيف كانت يسيرة..ثمة ألم يمكن الصبر عليه، يكبر الألم ثم يتراجع..يكبر ثم يتراجع إلى أن انزلق بهدوء، وأطلق صرخته الأولى في الحياة.
لكن نفيسة تركت روح عويش معلقة في السقف لا هي قادرة على العودة إلى الجسد، ولا هي قادرة على الوصول إلى السماء. هكذا بقت بين بين.. وكأن جسدها رفض الروح كما رفضتها السماء، فانحشرت في سقف غرفة المستشفى المشحونة بصراخ الأخريات القادمات من الولايات المختلفة من أجل الولادة. صرخت أم عويش: «ابنتي بحاجة إلى عملية». قالت الطبيبة: «وضع الجنين جيد، وهي بخير.. يمكنها أن تصمد».صمدت عويش لساعات طويلة، وألم هائل ينبت في ظهرها، ويكبر بسرعة مرعبة ثم ما يلبث أن يختفي، ويتلاشى كالسحر.
شعرت أن كائنا خبيثا تلبس بجسدها كائنا أكله الحسد لكي لا تتم أفراحها جيدا، صرخت الطبيبة الهندية بلهجة متكسرة: «بوش.. بوش. يا الله .يا الله» دفعت عويش بكل قوتها، والطبيبة تصرخ: «بيبي جاي.. بيبي جاي» دفعت بطاقة خرافية لم تعرف من أين كانت تستعيرها، ثم شعرت بذلك الشيء، وهو ينزلق بين ساقيها.
لم تلتفت عويش لتنظر لوجه الطفلة، والدكتورة تضعها على صدرها، وكمية هائلة من الدم والأوساخ تغطيها. أشاحت عويش بوجهها بعيدا، ونفيسة تطلق صرخات متواصلة دون توقف.
نظرت عويش بقرف لذلك الكائن اللزج الذي استلقى على صدرها، ورائحة الدم تنتشر بقوة في المكان.
لم تضم نفيسة كما حلمت طويلا أن تفعل ذلك، بقيت جامدة في مكانها، ولا طاقة لها لفعل شيء تقاذفت الطبيبة والممرضات التهنئة من كل صوب «طفلة جميلة.. مبروك.. مبروك» أغمضت عويش عينيها واستسلمت لنوم عميق وبعيد.
استيقظت على صوت الممرضة التي أحضرت طفلتها نظيفة ولامعة وملفوفة بشكل جيد في قماطها. طلبت منها الممرضة أن ترضعها لكنها رفضت ذلك، حاولت الممرضة أن تجبرها على فك أزرار قميصها لتلقم الطفلة الجائعة حلمة صدرها لكنها رفضت ذلك وبدأت الصراخ.. صرخت كالمجنونة.
أم عويش قالت إنه الحسد، وفي قصة أخرى قالت إن جنيا يكيدها، وضعت لها «مغبارا» قرب صلاة المغرب. وضعت لها واحدا بعد الآخر..لكن دون فائدة.
حتى أن الطبيب احتار في أمرها، وفي جلسة نقاش صغيرة مع الزوج، والأم قال الطبيب: «إنه الاكتئاب الذي يصيب بعض الأمهات بعد الولادة..تحتاج إلى عناية كبيرة» ثم التفت إلى الزوج قائلا: «خصوصا من قبلك أنت». انسحبت أم عويش من أمامه متذمرة، وهي تتمتم : «أطباء آخر زمن..لا يعرفون شيئا.. اكتئاب!! كانت روح عويش معلقة في هذه الفتاة..كانت تحسب الأيام يوما يوما لأجل أن تراها.. من أين جاء الاكتئاب.. من أين !». لم يعلق الزوج، كان يفكر في سهرة المساء، وثمن الشراب، وهو يتحسس جيبه الفارغ.
الجارة أم حسن هي التي أرضعت نفيسة مع ابنها حسن كانت تدر الحليب بكثرة، ولم تمانع أبدا في تقديم هذه الخدمة خصوصا وأن حليب عويش جفّ من الاكتئاب أو الحسد،والأدوية التي كانت تتناولها باستمرار، ولكن بعد أن بدأ حليب أم حسن في التناقص اعتذرت لـ أم عويش، وذلك بعد أن أكملت نفيسة الستة أشهر.
الحقيقة أنها ادعت أن حليبها بدأ بالتناقص، وأنه بالكاد يكفي طفلها الصغير، لأن الحديث عن نفيسة المنحوسة بدأ يكثر.. لا تكف الحارة بأكملها في تلك القرية عن التحدث عن جلبها الشؤم منذ ميلادها، فمرض عويش الذي لم يفهمه الطب أحدث ضجة هائلة في القرية..حتى أن موت الماعز والبقر نُسب إلى شؤمها بالرغم من أن الطبيب البيطري الذي زارهم أكد أن ثمة وباء يتفشى بين الحيوانات إلا أن أحدا لم يصدقه، كما أن نحس نفيسة تطاول إلى السماء، وحجب نزول المطر !!
[ [ [
من حسن حظ نفيسة أنها بدأت بتناول الطعام المهروس.كانت تحب الهريس والعرسية، والأرز مع المرق.كانت شهيتها مفتوحة، و أم عويش لا تكف عن الاعتناء بها عناية فائقة. تحيك لها الملابس، وتحضر لها الألعاب. بينما عويش لم تفارقها الكآبة منذ الولادة، وكانت تغرق في حالات غير مبررة من البكاء.
لم يصبر زوجها راشد كثيرا. كان بحاجة لـ امرأة يعتليها في المساء، ويغرز فيها شهواته الكثيرة، ولكن عويش لم تعد صالحة، كانت تنكمش ويتصلب جسدها كقطعة من البلاستيك بلا حياة كلما حاول الاقتراب منها، ورغم رعونته إلا أنه لم يتجرأ في حياته كلها على معاشرتها رغما عنها.
بعد أن انقضت إجازته قرر أن يسافر إلى السعودية مجددا لكن قبل ذلك ذهب إلى أمها لكي يخلي سبيلها ويطلقها، تفهمت أم عويش ذلك جيدا، فأخبرها أنه سيرسل لهم المال الذي يُعين الجدة على تربية الأولاد ثم طلب أن يرى سيف فخرج إليه. كان وقتها في التاسعة من عمره فقال له: «ما رأيك أن تتربى في بيت عمك؟». التفت راشد إلى الجدة، وطلب منها بإصرار كبير أن يتربى سيف في بيت عمه فرفضت، وعلقت قائلة: «منذ متى تتذكر أخاك طالب، وأنتما لم تتحادثا منذ زواجك بابنتي؟»
فرد عليها بانكسار: «ذهبت إليه، وتحدثنا .. أخبرته عن ظرف عويش الصحي، وانه ينبغي عليّ أن أسافر مجددا للسعودية.. هو الذي قال لي سيف لا يتربى بين الحريم.. ينبغي أن يتربى بين الرجال.. مع أولاده.. حمود و ناصر، وأنا اقتنعت بكلامه».
غضبت الجدة وارتفعت نبرة صوتها: «وماذا عن «نفيسة»؟»
زاد انفعال راشد، وهو يقول: «نفيسة هي السبب في كل ما حدث لأمها.. هي السبب في كل شيء..لقد جنت عويش، وهي التي لم تفعل شيء طوال تسعة أشهر الحمل سوى أن تنتظر مجيئها».
قفزت نفيسة بينهما خارجة من الغرفة..بدأت تقذف ساقيها في محاولة منها للمشي بعد أن تأخرت لأشهر قياسا بأقرانها.. فهي تدخل عامها الثاني دون خطوات متوازنة، ودون أن تسمي الأشياء بأسمائها.
لم تفلح ابتسامتها في جذب انتباه والدها أو اهتمامه بضمها إلى صدره أو تقبيلها..كما لم يفعل ذلك مطلقا طوال عاميها الفائتين..كان يكتفي بمراقبتها عن بعد، ويتلمس الأعذار الكثيرة للهرب.
في هذه اللحظة بقي راشد جامدا في مكانه كمن ينظر إلى عفريت صغير سينقل إليه عدوى مرض ما إذا لمسه، أو تصادم معه. ظلت ترفع يديها إلى الأعلى في محاولة منها للمحافظة على توازنها لتبقى واقفة، وقبل أن تقع في حضنه استل راشد جسده واقفا، وقال قبل أن يخرج للجدة: «يمكنك أن تعتني بـ عويش، ونفيسة.. أعدك سأرسل لك المال..»
ألقت الجدة غضبها دفعة واحدة في وجهه وهي تصرخ بحنق وغضب: « كما وعدت عويش عندما سافرت أول مرة.. المال لا يكفي للسم الذي تشربه.. المسكينة ظلت تخيط الملابس لبنات الحارة إلى أن انكسر ظهرها، وتعبت أصابعها.. أنا لا أصدقك.. اذهب لحال سبيلك». رفعت أم عويش يدها بحزن إلى السماء « الله يخلي أحمد ابني الغالي أحمد.. لن يقصر أبدا بعد إنهائه الجامعة سيصرف على أمه وأخته وابنة أخته، ولن نحتاج إليك أبدا».
منذ أن ولدت «نفيسة»، وهي تجرب الانقلاب على ظهرها وبطنها والحبو ومن ثم المشي تحت نظرات جدتها التي أحبتها بشكل خرافي وغير متوقع بينما سيف ذهب مع والده إلى بيت عمه في منطقة الظاهرة برضا تام، وترك الباطنة المنطقة المطلة على البحر، والتي تتكاثر فيها الحكايات كشجرات النخيل، ذهب إلى المجهول الذي اختاره له والده، وأومأ له سيف بالموافقة دون أي نقاش أو تفاوض.
والدته التصقت بدرجات السلم ذلك اليوم دون أن تفهم إلى أين يغادر سيف، لم ينحن لـ يقبل أخته الصغيرة التي رفض أن يلعب معها، وكان يبصق بوجه أي أحد يقول له إنها أختك الصغيرة ولولا حماية جدتها لكان قد ارتكب سيف جريمة فادحة بروحها الصغيرة. فكم مرة حاول أن يلقي بها من على السلم، وكم من مرة حاول أن يثقب أذنيها بمقص الأظافر، وكم من مرة عض أصابعها إلى أن تورمت بلون بنفسجي، ولا تنس الجدة أبدا أنه ذات مرة أخفاها بعيدا عن الجميع لأكثر من ساعة بحثت عنها الجدة في كل مكان كالمجنونة إلى أن سمعت صوت صراخها في برميل النفايات. ضربته ضربا مبرحا ذلك اليوم ولم يبكِ.. بقي جامدا كقطعة خشبية إلى أن قال: «لماذا تهتمين بها.. انظري ماذا فعلت بأمي.. الجميع يقول أنها ستقتلنا جميعا أو ستحولنا إلى مجانين!!»
كانت نفيسة تنشج بالبكاء، وكانت الجدة لا تعيره اهتماما كبيرا، وتكتفي بأن تعنفه كلما أساء لأخته.
في عطلة الخميس والجمعة كان احمد يأتي من سكن الجامعة، ويحضر لهما الحلوى، فيأكل كل الحلوى دون أن يمنحها قطعة واحدة.. كان يقول لـخاله: «إنها صغيرة.. ستغص إن أكلتها»، وكان أحمد يضحك، وتعجبه مشاكساته الطفولية بالرغم من قسوتها.
أحمد هو الشخص الوحيد ربما الذي كان يستطيع أن يمتص غضب سيف غير المبرر. كان يأخذه إلى المشاوير القصيرة..إلى دكان العم حمد المطل على الشارع العام، ويحضر له دفاتر وألوانا ليشخبط عليها..بينما والده لا يعرف سوى أن يلطمه ويضربه لأتفه الأسباب، وخصوصا في الفترات التي تمر ولا يستطيع الشرب فيها بشكل جيد نظرا لجيبه الفارغ.. إلا أن سيف كان يخاف والده كثيرا ويكن له الاحترام في الوقت نفسه. كان مستعدا لأن يبصق في وجه أمه إن طلب منه ذلك، بالرغم من أن عويش كانت تحبه كثيرا، وتفرط في تدليله إلا أنه كان يتبع خطى أبيه بشكل غريب.
لم يحضر أحمد لتوديع سيف عند ذهابه إلى عبري لأنه كان في فترة الامتحانات النهائية في جامعة السلطان قابوس.. حاول أن يحادثه عبر الهاتف إلا أنه رفض أن يتحدث إليه متعللا بأعذار طفولية وساذجة.
حمل سيف دفاتره وأشياءه في حقيبة كبيرة.. تعلق في حضن جدته طويلا ثم سألها: «ألن تأتوا لزيارتنا في عبري؟» فردت عليه والدموع تغرق وجهها المحمر: «عبري بعيدة جدا عن الباطنة يا ولدي». قال كمن يدوس على رغبته في البكاء: «دعي خالي أحمد يحضركم»، ثم نظر إلى «نفيسة» نظرة إزدراء وقال: «لكن لا تحضروا هذه الغبية معكم». انسحبت دموع غزيرة على وجنتي الجدة.. ضمته إلى صدرها وكأنها لن تراه ثانية. ثم قاده «راشد» من يده بعد أن أودع الحقيبة التي تخصه في «كريل» البيك الاب الأحمر والقديم. لكن وما أن تخطى سيف باب الحوش حتى بدأت عويش بالصراخ بصوت مرتفع إلى أن فزعت نفيسة، واندفعت باكية هي الأخرى في حضن جدتها. هرعت عويش وسحبت سيف من يد والده واحتضنته بقوة، وهي تبكي وتبكي.. أزاحها راشد عنه إلا أن سيف انحشر في حضنها، وهو يخفي رغبته في البكاء، وينشغل بمسح دموعها الغزيرة إلى أن هدأت. بعدها انحسب مجددا، وركب بالقرب من والده في السيارة التي مضت مسرعة، دون توقف، ودون التفات إضافي..
تلك الليلة لم تتوقف عويش عن الصراخ، ونامت نفيسة نومة متنغصة في حضن جدتها، وكأن خوفا ما قد تلبس بها هي الأخرى.
ولأول مرة ينام «سيف» في منزل غير منزله ومنزل جدته.. لأول مرة يغادر الباطنة منذ ولادته لولا زيارته اليتيمة لـ مسقط عندما كانت تخضع والدته لجلسات علاج في مستشفى ابن سينا.
راشد ذهب لزيارة طالب الذي أنعم الله عليه بالخير الكثير، وكان من اشهر التجار، له بيت يشبه القصور، وثمة خير كثير ونعمة. قال لـ سيف: «ستعيش هنا في هذا القصر الكبير.. ستتربى مع أبناء عمك. سأطمئن عليك هنا». ابتلع سيف ريقه من المجهول المقبل.. لم يبتسم، ولم يتذمر أيضا. دلف إلى الداخل حيث كل الوجوه واجمة، وكأن مصيبة كبيرة حلت على البيت بمجرد مجيئه..
[ الفصل الأول من رواية قيد الاشتغال.
هـــدى الجهوريــــة
كاتبة وروائية من عُمان