– دون كيشوت كشخصية مفهومية:
لعل السؤال الذي تتمحور على أساسه هذه المقاربة، هو كالتالي: كيف غدا سيرفانتيس ملهما للفكر الفلسفي المعاصر، من خلال روايته الإشكالية «دون كيشوت ديلامانشا»؟ بل كيف أضحى البطل الروائي «دون كيشوت» شخصية مفهومية تنفلت عن أن تكون مجرد شخصية تعبر من خلال سيرورة السرد الروائي، عن تجربة حياة كما هو شأن معظم الأعمال الروائية السائدة، لتغدو شخصية إشكالية تفسح المجال لنوع من الاستثناء الذي يمنحها قابلية إيواء المفاهيم، أي قابلية التعبير عن تجربة حياة بما هي انكشاف لتجربة الفكر، أي أنها تكشف كينونة كائن يقود تجربته. من خلاله وعي منفصل – نحو مغامرة تضع التجربة الإنسانية بوصفها تجربة غيرية، موضع إشكال يؤزم علاقة الكائن بالعامل الذي يصير من خلاله فضاء للعلاقات الغيرية.
إن أصالة «سرفانتيس» لا تمكن فقط في ريادته للجنس الروائي، وإنما أيضا في كونه مبدع الشخصية الإشكالية إن لم نقل الشخصية المفهومية بالمصطلح الدولوزي الدقيق – على الرغم من تجاهل دولوز لشخصية دون كيشوت وحرصه على إبراز شخصيه أبله دو ستيوفسكي في كتابة المشترك مع غتاري، ما هي الفلسفة؟ – فشخصية دون كيشوت» تقود من حيث غرابتها نحو خلق مفارقات تؤزم وضع الفرد بالعالم، وتجعله أمام تجربة فكر يغاير الواقع ويكشف هشاشة العلاقات البيذاتية في عالم يسوده الخداع وتتعذر فيه الحقيقة. وهذا ما أضفى على هذه الشخصية جاذبية جعلت الفلاسفة المعاصرين يفكرون من خلالها في إشكالات مغايرة، ويمكن الإشارة على سبيل المثال – لا الحصر – إلى الفيلسوفين الإسبانيين أو نامونو، وأوروتيغا أي كراسيه وإلى الفيلسوف الفرنسي ذي الأصل الليتواني «ليفناس» ثم إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
ان السؤال الذي تقترحه هذه المقاربة يفضي بنا إلى تحليل مختلف التأملات الفلسفي المعاصرة التي استلهمت. دون كيشوت من أجل فهم طبيعة الوجود الإنساني في العالم، وبالتالي الانفتاح على مختلف الأسئلة الشائكة التي ظلت تؤرق الفكر الإنساني من قبيل سؤال الوعي اليقظ والحمق، المسؤولية تجاه الآخر والعدالة الإنسانية، التماثل والاختلاف، وغيرها من الأسئلة التي تضع وجود الإنسان في العالم أمام وضعيات استشكالية.
إن دون كيشوت كما يزعم «إيمانويل لفناس» يمارس الكوجيتو بطريقة الخاصة، إنه ينطلق من الشك المؤسس ليقين الانخداع، فشخصية دون كيشوت، إذ تكتشف ذاتها المخدوعة تسعى من خلال انخراطها في فضح واقع الانخداع إلى المحافظة على سلامة وعي الذات. وإذا ما أخدنا هذه التجربة باعتبارها مغامرة متعددة الأبعاد، فإننا وفق هذا المنظور سنؤول شخصية دون كيشوت باعتبارها شخصية مفهومية إن وضعية دون كيشوت تلتقي هنا بوضعية «ذلك الأبله الذي يقدف بالكوجيتو، ويحمل الافتراضات الذاتية أو برسم السطح (المخطط) le plan فهو المفكر الشخصي الذي يشكل مفهوما بقوى فطرية يمتلكها كل فرد كإمكانية لحسابه. ذلك هو نموذج شخصية غريبة جدا تريد أن تفكر من خلال ذاتها بواسطة بواسطة الضوء الطبيعي، إن الفلسفة لا تكف عن إحياء شخصيات مفهومية وعن منحها الحياة»(1)
وإذا كانت الشخصية المفهومية شرط لإمكانية المفاهيم، فإن الإشكال الجمالية هي شرط لإمكانية للمفاهيم، فإن الأشكال الجمالية هي شرط لإمكانية المؤثرات الانفعالية والإدراكية «فالأولى تعمل فوق مسطح المحايثة بينما الأخرى تعمل فوق مسطح تركيبي كصورة للعالم الظاهرة، فتمنح الصور العظيمة للفكر والرواية مؤشرات تتجاوز المؤشرات الانفعالية والإدراكية العادية بقدر ما تتجاوز المفاهيم الآراء الاعتيادية.
وهذا ما يسمح بأن يكون هناك نوع من التداخل بين الفلسفة والفن، فكل واحد منها يعبر نحو الآخر في سياق صيرورة تحتويهما معا وتحددهما مشتركين معا، كما يمكن لمسطح التأليف الفني ومسطح المحايثة أن ينزلق احدهما فوق الآخر بحيث أن كيانات من الواحد يمكن أن تشغل جوانب من كيانات الآخر(2). وفي هذا السياق فإن الشكل الروائي لدون كيشوت سيغدو إمكانية لشخصية مفهومية في الفكر الفلسفي المعاصر لدى «أونا مونو»، و«أو رتيغا أي غراسيه»، كما لدى لفناس و«فوكو» وآخرين. لقد انشغل الفلاسفة المعاصرون بشخصية دون كيشوت، باعتباره شخصية إشكالية تمتلك من سمات الغرابة ما يجعلها أفقا لاستشراف إشكالات العصر المفهومية، ومن ثمة فإن تفكيك سمات هذه الشخصية تضع الفيلسوف المعاصر ينحو نحو قراءة مغايرة يقتحم من خلالها حقل المفاهيم التي يؤسس من خلالها لمنظوره الفلسفي.
1- أو نامونو، دون كيشوت
أو الحمق المتعقل:
أ- لقد خصص الفيلسوف الإسباني «ميجيل أو نامونو» Miguelunamuno تعليقا أخلاقيا – فلسفيا لرواية سرفانتيس تحث عنوان «حياة دون كيشوت وسانشو، حسب ميجيل سرفانتيس «سافيدرا» يتتبع من خلاله سيرة دون كيشوت ليستعيد من خلالها أسئلة العصر التي تضع الفكر في مواجهة استشكالات مفاهيمية، ولعل أهم الأسئلة التي يستشكلها «أو نامونو»من خلال صديقه «دون كيشوت» إنما تتعلق بالعدالة بوصفها سؤالا راهنا يستدعي تفكيرا مغايرا حتى ولو كان يستند إلى شخصية الأحمق الذي يعلمنا أن نكون حكماء.
يطرح «أونامونو» في بداية تعليقه علاقة الأرض بحياة دون كيشوت وتأثيرها في تصوراته للعالم التي تعبر عن نوع من الحمق الحكيم، وهذا يفسر ما ذهب إليه «دولوز» حين اعتبر أن الشخصية المفهومية تمتلك دورا في الكشف عن المواطن، وانتشالات الأرضنة وأشكال الأرضنة المطلقة المتعلقة بالفكر(3) فحينما يستدعي الفنان أو المفكر والفيلسوف أرض المولد، فلأن الفلسفة لا تنفصل عن الوطن الأرض. إن الانبعاث الذي تشهد عليه الفلسفة يتجسد من خلال شخصية الأحمق، ذلك الذي يريد أن يفكر بطريقته الخاصة، خالقا من الأرض التي انبعث فيها، فضاء لإبداع الغرابة التي تحكي عن نوع من العلاقة بين الغريب، وبين الموجودات الأرضية لتتخذ حجما تراجيديا ساخرا، كما هو شأن «دون كيشوت» التي تعتبر غرابته الساخرة بالنسبة «لاونامونو» هي التعبير الأصدق عن الفلسفة الإسبانية. وبالنسبة لهذا الأخير، فإن هناك جانبا مجهولا في سيرة دون كيشوت يتعلق الأمر، بالولادة والطفولة والشباب، «فنحن لا نعرف شيئا عن ولادة دون كيشوت ولاعن طفولته أو شبابه، ولا كيف اهتدى قلب هذا الفارس للايمان، حيث الحمق يعلمنا أن نكون حكماء، ولا نعرف شيئا عن والديه ولا عن أسرته، ولا عن شجرة أنسابه، ولا كيف ترسخت في عقله الرؤى حول سهل لا مانش، حيث اعتاد أن يصطاد، كما لا نعرف شيئا عن التأثير الذي مورس على روحه، من خلال تأمله لحقول الزرع المنشورة خشخاشا وترنجانا. «Bleuets» إننا لا نعرف شيئا عن سنوات شبابه(4).
إن معنى هذا أن نسبه إنما يبتدئ معه، فظهور «دون كيشوت» يقترن باقتحامه سن الخمسين في إحدى قرى المانش الفقيرة.
إن فقر دون كيشوت يفسر معظم جوانب حياته، كما أن فقر الشعب يعد مصدرا لعلاته وفضائله في نفس الآن، فالأرض التي غدت دون كيشوت هي أرض فقر جدباء، وهذا الفقرة هو الذي صير سكانها رحلا تائهين بحثا عن لقمة العيش في أراض أخرى بعيدة، وهو الذي جعل دون كيشوت ذلك الفارس النحيف الجسد، ذا الوجه الصارم والجبهة العريضة – يحب الحياة، ويقيه من الشبع، ويغذيه بالأمل. ومعنى ذلك حسب «أونامونو» أن الضعف أو الاحتياج جعله يفكر في حياة لا تنتهي قط، حياة خالدة، مليئة بالطموح تعبر عن الرغبة في البداية، ومن ثمة فالتأمل لا يكاد يفارقه، وهذا التأمل هو الذي غدى حياته، ومن هنا فإن حمقه لم يظهر إلا بعد أن نضجت حكمته، فهو الشخص المتعلق أو الحكيم الذي غدا أحمق بعد أن نضج فكره(5) إنها القدرة على الحمق وقد تجسدت في شخصية دون كيشوت، وهو ما نجد تعبيرا عنه لدى «فوكو» في «تاريخ الحمق في العصر الكلاسيكي» حيث يقول: إن الإنسان لا يصير طبيعة من أجل ذاته إلا بقدر ما يغدو قادرا على الحمق(6).
فحقيقة الإنسان لا تتجلى إلا من خلال لغز الأحمق الذي يمتلك هذه القدرة الخاصة في التفكير على نحو الغرابة اللامشروطة بالاعتياد الذي يحمل العقل الإنساني على العجز والخضوع للواقع المشروط.
إن «دون كيشوت» من هذا النوع الإنساني الذي ينخرط في مغامرة فريدة وغريبة في ذات الآن يتحكم فيها أساسا عامل الرغبة في المجد «فمن أجل هذه الغاية اندفع دون كيشوت لقراءة أعمال الفروسية بنوع من الذوق والمتعة، إلى الحدود القصوى، أي إلى حد فقدانه للتعقل، وليس التعقل هنا حسب تأويلنا إلا اعتياد العقل على مجاراة العادة، وتأويل ذلك حسب أونامونو تخليد للأثر، ففقدان العقل هو انكشاف لتخليد نموذج المجد الروحي، فبدون فقدان العقل هل كان بإمكان دون كيشوت أن يكون شجاعا؟ لقد ضحى الفارس بعلقه من أجل مجد شعبه فقد امتلأ خياله بالغرابة الرائعة، فاتخذ الجمال حقيقة، واقتنع به اقتناعا حيا ونوعيا، فقرر أن يحقق، ما يقدمه له حمقه باعتباره واقعا، فافتقاده للعقل قد منحه أغرب فكر غير مسبوق من طرف أي إنسان آخر في العالم. فقد بداله من الضروري والمناسب أن يغدو فارسا تائها في العالم باحثا عن المغامرات، مقتحما الأخطار لنيل شهرة واسعة وخالدة. وهذه هي قضيته الكبرى، فالإحراز على الخلود يقضي أن يعلي من شرفه، وأن يكرس حياته لخدمة قضايا جمهوريته. لقد اهتدى دون كيشوت من اجل الشهرة الخالدة أن يضع اسمه فوق ذاته نفسها، أي أن يصير آخر ضد ذاته لاغيا اسمه الحقيقي متبنيا اسما للشهرة، إنه حسب «أونا مومو» خضع لفكرته أي لدون كيشوت الخالد، لهذه الذاكرة التي هي أثر له، فمن فقد روحه يكتسبها، كما يقول المسيح، بمعنى أنه يبلغ ما افتقده، أي أن ألونسوكيجانو «Alonsoquijano» افتقد ملكة الحكم من اجل أن يظفر في دون كيشوت Don Quichotte بملكة حكم ممجدة(7) هذا التأويل الذي يتخلل تعليق «أونامونو»، هو الذي يدفعنا إلى اعتبار دون كيشوت «شخصية مفهومية» لها قدرة على خلق الاستشكالات المتولدة عن الرغبة في الانفصال، أي الانفصال عن ملكة الحكم الاعتيادية للظفر بملكة حكم مركبة لا ترتكز على العقل، وإنما على الحمق باعتباره رهانا على الرغبة في مجد الخلود. وهو الرهان الذي يكشف على أن حمقه كان عقلانيا، ومن ثم يتجلى إصراره على ولادة جديدة تقترن بالمغامرة التي تعبر عن الشجاعة، كما تقترن في ذات الآن بالتعبير عن الحب والعشق أي عن الارتباط العاطفي بفتاة قروية سيمنحها اسما جديدا هو «دو لسيني» توبوسو «Dulcinée Toboso »حتى وهي تجهل بهذا الأمر.
ب- إن الشخصية المفهومية التي يستدعيها الفيلسوف بناء على عمل فني تحمل من الصفات ما يجعلها قابلة للاستشكال، وقادرة على إحداث الالتباس، وفي هذا الصدد يبدو لنا ما طرحه أو نامونو بخصوص «خطاب كيشوت حول العصر الذهبي الموجهة لرعاة الماعز « إضاءة لطريقة تفكير هذه الشخصية الإشكالية، فما هو مثير بالنسبة لأونامونو هو ما تطرحه خطبة دون كيشوت من إشكال يتعلق بالفهم أي توجيه خطاب لبسطاء لا يكادون فهم شيء، هنا يكمن عنصر بطولة هذه المغامرة. إن التكلم هو صورة للفعل، إنه الأكثر صعوبة أحيانا لأنه يجب أن يكون لفكر الشخص اعتقاد راسخ من أجل التحدث لأشخاص حاملي الفكر، كما يجب أن يكون متيقنا من أن هؤلاء حتى وهم عاجزون عن فهم الخطاب، فإنهم مع ذلك يرغبون في الفهم. إن الكلام المحض ليس بدون جدوى، فالشعب إذا لم يفهم فإنه مع ذلك يكشف عن رغبة في الفهم، وحينما ينصت للكلام، فإنه يشرع في الغناء، وكما هو شأن خطبة دون كيشوت التي حفزت الرعاة إلى الغناء.
ان «أونامونو» ينعت هنا سرفانتيس بالماكر، لأنه يصف خطبة دون كيشوت بكونها عديمة الجدوى، لكنه يضيف بأن الرعاة كانوا يستمعون باندهاش، إن حقيقة التاريخ تفرض نفسها إذن، فإن كان «دون كيشوت» قد خلق هذه الواقعة بخطبته، فإن هذه لن تكون بدون جدوى والدليل على أنها ليست كذلك، هو أن الفكر ينتج الفكر كما أن الرسالة تنتج الرسالة، أما خطبة دون كيشوت فقد استدعت بدورها أنا شيد مؤداة بالمكان الرعوي.(8)وتعليقا على خلاصة «أونامونو» يمكننا أن نذهب إلى استنتاج تأويلي أبعد ومفاده أن الشخصية المفهومية ليست فقط ما يحمل على الاندهاش الناتج عن استعمالات الخطاب، ولا هي فقط من يخلق الالتباس الذي يعرض للمخاطب البسيط ولكنها هي من يخلق الحدث أي يخلق الرغبة لدى المخاطب في الفهم وبالتالي الانخراط في الغناء بما هو تحفيز على الالتحام بالحياة. إن الرغبة إن الرغبة في الفهم أحيانا أهم من الفهم المباشر للمقول، فالتواصل المبني على المقول le dit أي على التطابق بين المتكلم والمخاطب، هو تواصل محدود الأفق ما دام تحصيلا لحاصل، لكن التخاطب الذي ينبني على القول le dire فيظل منفلتا عن سلطة المقول أي عن المعنى التواصلي المدرك بصفة تحصيلية، فالقول هو يتعذر تحصيله، إنه ما يستدعي الحدث بصفة نوعية.
ج- يكشف دولوز جوانب عديدة من السمات التي تشكل شخصية مفهومية، ومن بين هذه السمات، هناك السمات الحقوقية، بما يعني أن الفكر لا يكف عن الإعلان والمطالبة بما يرجع إليه من حق، ولا يكف عن مواجهة العدالة منذ أيام الفلاسفة السابقين على سقراط: ولكن هل هي سلطة المدعي أو حتى سلطة المشتكى التي تحاول الفلسفة انتزاعها من المحكمة الدرامية الإغريقية؟ أو لم يحظر على الفيلسوف، ولمدة طويلة أن يكون قاضيا؟ وأكثر من ذلك أن يكون فقيها مطوعا في خدمة عدالة الله، ما دام هو ذاته غير متهم؟ فهل كان لدينا شخصية مفهومية جديدة عندما جعل «لا يبتز» من الفيلسوف محاميا عن إله مهدد في كل مكان، والتجريبيون ألم يأتوا بشخصية مفهومية غريبة أطلقوها على نموذج الباحث [المحقق الواقعي] وهاهو كانط أخيرا قد جعل من الفيلسوف قاضيا حكما في ذات الوقت الذي يشكل فيه العقل محكمة، ولكن هل المقصود هي السلطة التشريعية لقاض حازم، أو هي السلطة القضائية، أو هو القضاء لحاكم متبصر؟ تلكما شخصيتان مفهوميتان جد مختلفتين. هذا إذ لم يكن الفكر يقلب الجميع من القضاة إلى المحامين، والمشتكين والاتهاميين والمتهمين، كحال أليس Alice وهي فوق مسطح محايثة حيث العدالة تساوي البراءة، وحيث يغدو البرئ شخصية ليس عليها أن تبرز ذاتها تجاهه كحال «سبينوزا» الذي لم يبق أي وهم للمتعالي ألا ينبغي أن يتحد القاضي والبرئ معا، أي ألا ينبغي أن تحاكم الكائنات من داخل؛ وليس أبدا باسم القانون أو القيم ولا حتى بفضل وجدانهم لكن بفضل المعايير المحايثة تماما لوجودهم (بما يتجاوز الخير والشر، مما لا يعني ذلك على الأقل ما يتجاوز الطيب والشرير)(9).
إن دون كيشوت من خلال هذا المنظور يعبر عن شخصية مفهومية لا تكف عن مواجهة العدالة وإعادة النظرية في عدالة القانون، وهذه النزعة الكيشوتية تتجلى في مرآة «أونامونو» فيلسوف الكيشوتية والذي يطالب بعدالة كيشوتية أساسها الصفح وليس القانون بما يتجاوز الخير والشر، عدالة تنتصر للحرية المحايثة للوجود الإنساني.
يعتبر «أونامونو» أن أكبر مغامرات دون كيشوت وأعمقها دلالة هي تلك التي تتمثل في تحريره لهؤلاء المحكومين بالأشغال الشاقة الذين صادفهم في طريقه، لأنهم اقتيدوا بالقوة وليس حسب إرادتهم، وهذا واحده كاف بالنسبة لدون كيشوت، من أجل إغاثتهم، ورغم اهتمامه بجنحهم لكن العقاب الذين طالهم يعتبره غير عادل، إنه لأمر رهيب أن يصير عبدا من جعله الله والطبيعة حرا، كما أنه ليس من الخير أن يغدو أهل الشرف جلادين لغيرهم من الناس حيث لا مصلحة لهم في ذلك قط(10) يدعونا «أونامونو» إلى التوقف لتأمل الجرأة الشجاعة التي أبان عنها الفارس هنا و«أونامونو» من اشد المعجبين بدون كيشوت، ويستشهد ليدعم موقفه هذا بصديقه أنجيل كانيفي Angel Oanivet الذي يعتبره أكبر الكيشوتيين الذي يرى كانيفي بأن هذه «المغامرات التي انخرط فيها دون كيشوت- تهدف إلى الوصول إلى العدالة المثلى في العالم، فالحجج التي يعتمدها الفارس من أجل تحرير السجناء الذين اعترفوا بجرائمهم، تتلخص في تلك التي تغدي التمرد في الروح الإسبانية ضد العدالة الوضعية، فيجب المقاومة من أجل أن تحل العدالة في العالم، لكن ليس هناك حق ثابت لمعاقبة مجرم، في حين أن آخرين يفلتون من العقاب من خلال ثغرات القانون، ففي النهاية فاللاعقاب العام يتلاءم مع التوجهات النبيلة السمحة، مهما كان ذلك متعارضا مع الحياة المستقيمة للمجتمعات، عوض أن تكون معاقبة البعض، وإفلات البعض الآخر من العقاب، بمثابة وصمة عار لمبادئ العدالة وللشعور الإنساني معا. إن جانيفيت حسب «أونامونو» يقف على عتبة النزعة الكيشوتية quichottisme حين يفرض بأن عدالة دون كيشوت تجاه السجناء تتأسس على «أنه ليس هناك حق ثابت لمعاقبة مجرم في حين أن آخرين يفلتون من العقاب عبر تغرات القانون» وأن حالة اللاعقاب بالنسبة للكل أفضل من قانون الهوى.(11) يعتقد «أونا مونو» بأن الحجج التي يمكن تبرر سلوكنا ليست في غالب الأمر، سوى حجج بعدية aposteriori، أنها طريقة للتفسير، أي لتبرر لنا ولغيرنا، سبب أفعالنا لكن السبب الحقيقي يظل مجهولا: ومن ثم فهو لا ينكر بأن «دون كيشوت» يعتقد مع «كانيفيت»، وربما مع سرفانتيس، بانه قد حرر السجناء من فظاعة قانون الهوى، ولأنه يبدو له بأنه ليس عدلا معاقبة البعض بينما الآخرون يفلتون من العقاب من خلال ثغرات القانون ذاته، ولكن «أونامونو» يؤكد بان دون كيشوت حينما حرر السجناء فإن لم يكن في الواقع واضعا في نفسه اعتبارا من هذا النوع، وإلا فمن أجل أبة حجة، وبأي حق يماس دون كيشوت ذاته العقاب، مع العلم أن جل المجرمين فلتوا من قبضة يده؟ ولماذا يعاقب إن لم يكن هناك عقاب إنساني عادل حقا؟
يعتقد أو نامونو بأن دون كيشوت قد مارس العقاب بالتأكيد، ولكنه يعاقب كما الله والطبيعة بطريقة مباشرة، كنتيجة جد طبيعية للخطأ، كما هو شأن كل الحالات التي اعترضته في طريقة، لكن عقابه كان متبوعا بالصفح.
ان عدالته سريعة وتنفيدية، إن الحكم والعقاب هما نفس الشيء بالنسبة لدون كيشوت، فبمجرد اصلاح الخطأ فإنه لا يتمسك بمعاقبة الجاني، ومن ثم فهو لا يحاول قط أن يرجع الشخص عبدا لأنه شيء رهيب أن نحول عبيدا من جعلهم الله والطبيعة أحرارا. أن الأسر الدائم، والتعذيب اللانهائي المؤسس على حجج قيولوجية واهية هو مبدأ لا تستسيغ فظاعته، المسيحية الكيشوتية.
أنه من الحري أن يكون الخطأ متبوعا بنتائجه الطبيعة:
غضب الله أو الطبيعة، لكن الغاية النهائية والحاسمة للعدالة هي الصفح إذن فإن «الله» والطبيعة ودون كيشوت «يعاقبون من أجل الصفح، إن عقابا لا يتلوه صفح ولا يقدر على الحلم في النهاية ليس سوى تعذيب بدون جدوى، فعندما يشعر إنسان ما بالاعتداء عليه ويندفع نحو الانتقام فإنه بمجرد ما ينتقم، فإنه يصفح إذا كان معدنه طيبا ونبيلا. وعن الشعور المعلقن بالانتقام يتولد ما نسميه بالعدالة. إن غاية العدالة هي الصفح، ففي عبورنا نحو الحياة الآتية، وفي رعب الاختصار، ونحن نواجه الله يكتمل لغز الصفح بالنسبة لكل البشر، إن معاناة الحياة والأهوال المترتبة عنها، بالإضافة إلى القلق من أجل الموت، هي بمثابة الثمن الذي نؤديه عن كل ما اقترفناه من ذنوب في هذه الحياة، ومن ثم فإن الله الذي صير الإنسان حرا، لا يمكن أن يدينه بأسر دائم.
إذن فليظل كل فرد بخطيئته فهناك إله في السماء، لا يهمل سواء بمعاقبة الشرير، أو بمكافأة الصالح. وهنا يلاحظ «أونامونو» بأن دون كيشوت يرد العقاب، إلى الله دون أن يقول لنا كيف يعتقد بأن الله يعاقب لأنه لا يستطيع أن يؤمن كيفما كانت أورتودكسيته بعقاب دائم، وهو لا يؤمن بذلك قط.
لكن هناك نقطة مهمة تظهر من خلال السياق الفكري للنزعة الكيشوتية فلا يعني إرجاع العقاب لله، دعوة إلى شريعة الحق الإلهي، حيث تغدو العدالة وسيلة تملكها السلطة السياسية التي تمارس عدالتها باسم الله.
بل إن رد العقاب إلى الله. يوضح أونامونو- لايعني أن نجعل منه (وزيرا) متحكما في عدالتنا كما لو أنه يتدخل في شؤونها، في حين فنحن من يجب أن نكون متحكمين فيها. فمن هو الفاني الذي يتجرأ على النطق بأحكام باسم الله. تاركا لله مهمة التنفيد؟ ومن هو هذا الذي يجعل من الله (وزيره) الخاص؟ فمن يعتقد ذلك يقول: باسم الله أدينك ! وهذا يعني في الواقع شيئا مختلفا تماما: إن الله يدينك باسمي !
وهؤلاء الذين ينصبون الله منفذا خادما لهم، إنما يرغبون في العمق أن يستعيروا من الله خدماته، ودون كيشوت برأي أونامونو ليس من هذا النوع. إن دون كيشوت الذي يعتقد بأنه وزير الله على الأرض، وبأنه الذراع المنفد لعدالته، لكنه كما نعلم جميعا يترك لله أن يحكم عمن هم أخيار ومن هم أرذال، ولأجل أي عقاب يقدر أن يصفح عن المذنبين.
إن «دون كيشوت» كما هو الشأن بالنسبة للشعب الذي انحدر من سلالته، يرى بعين غير راضية لعدالة الجلاد ومنفدي القانون الوضعي.
انه من المشروع أن يقوم أي إنسان بإحقاق عدالته بطريقته الخاصة، لأن هذه العدالة موجهة بغريزة طبيعية، لكن أن يغدو الإنسان جلادا لغيره، من أجل ضمان لقمة عيش، ولخدمة عدالة فظيعة ومجردة، فهذا ليس خيرا، وما دام أن العدالة لا شخصية ولا مجردة، فإنها تعاقب بطريقة لا شخصية ومجردة.
ويذهب أونامونو بعيدا في نزعته الكيشويته حينما يدعو -بناء على استلهامه للمفهومية الكيشوتية- إلى إلغاء السجون، ومن ثم فهو يقول: إذا ما حررنا كل السجناء، فان العالم لن يسير من أجل هذا بطريقة سيئة. وإذا ما حاز الناس اعتقادا راسخا بخلاصهم الأخير،وبما سيغدون عليه من مسامحة لبعضهم البعض في نهاية الأمر، وقبولهم برضى الرب الذي خلقهم من أجل ذلك أحرارا. فإننا سنغدو كلنا فاضلين.(12)
إن «أونامونو» يؤكد على أن اعتقاده في دون كيشوت يعلمه بأن كل هذا هو الشعور الحميم لدون كيشوت وإذا كان سرفانتيس لم يكشفه لنا، فانه ليس مستعدا لالتقاط هذه الأشياء.
وإذا كان سرفانيتس قد جعل من دون كيشوت بطل روايته، فهذا لا يبرر بأن نفترض بأنه هو أفضل من اقتحم عالمه الروحي.
وهنا يبدي «أونامونو» نقدا واضحا لسرفانتيس الذي يعتبره مقصرا في فهم دون كيشوت، لذلك يجعل أونامونو من شخصية «دون كيشوت» شخصية مفهومية تؤسس للنزعة الكيشوتية التي تعد تعبيرا عن الفلسفة الاسبانية كما يدافع عنها «أونامونو»، ضد «سرفانتس» نفسه، وكما يدافع عنها أورتيغا أي غراسيه في التأملات الكيشوتية.
إن تبني «أونامونو» لدون كيشوت جعل منه «شخصية مفهومية» تحمل كل السمات التي صيرتها تفكر في العالم على نحو خاص، فريد وغريب، مما هو خليق بأن يثير السخرية المجانية وهو ما يتأفف منه «أونامونو» قائلا:
«إن اسمك (أي دون كيشوت) قد غدا بالنسبة للكثيرين تلخيصا لكل السخريات وغدا موظفا لتقزيم الأعمال البطولية ولتبخيس العظماء.ونحن لن نجد قط قيمنا مادمنا لم نحول السخرية إلى واقع. ولم نمارس الأعمال الكيشوتية بكل جدية»(13)
إن شخصية «دون كيشوت» المفهومية لا تعبر عن سخرية مجانية تثير الضحك بقدر ما تعبر عن موقف تراجيدي للنزعة البطولية، يخلد عظمة اسبانيا، ففي هذه السخرية تتلخص الفلسفة الاسبانية حسب «أونامونو»، بما هي فلسفة حقة وعميقة تحل في إنسان يقف على حافة أسرار الحياة، ومن ثم فهي السخرية الأكثر حزنا، ولكنها الأكثر مواساة لكل من يستطيع أن يتذوق في دموع الضحك الخلاص من الحكمة البائسة التي نذم من خلالها عبودية الحياة الحاضرة.
إن أونامونو ما يفتأ في تعليقه الفلسفي على تقديم «دون كيشوت» باعتباره تلك الشخصية الإشكالية التي تنقال من خلالها المفاهيم، والتي تعد بدورها هي الحدث الفلسفي العظيم لاسبانيا الذي سيؤسس لنزعة «كيشوتية» لا بالمعنى القدحي، ولكن بالمعنى الذي يستطيع أن يعيد تأويل العلاقات الغيرية بما هي أساس كل مسؤولية أخلاقية.
2- فوكو: دون كيشوت والبحث التائه
عن التماثلات:
في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان التمثيل من كتاب «الكلمات والأشياء، يخصص فوكو الفقرة الأولى لدون كيشوت، وهي فقرة شديدة الكثافة. ليس فقط لاستدعائها لمفاهيم يتطلبها التحليل الاركيولوجي، وإنما ايضا في قدرتها على إيقاظ كينونة ما يسميه دولوز،» بالشخصية المفهومية» بما هي شخصية تقيم في اللغة، كما هو حال شخصية دون كيشوت المصنوعة من كلمات متقاطعة فيما بينها، أي أنها كتابة تائهة في العالم بين تشابه الأشياء، وحتى شكل هذه الشخصية على شبه بالشارات، شكل خطي طويل نحيل كالحرف قد فر لتوه هاربا من تثاؤب الكتب.(14)
إن ولادة شخصية دون كيشوت حسب هذا التأويل لا يقوم على إتلاف شجرة النسب أي على التحلل من مجموعة من التسميات التي تحدد هويته الأصلية وتبني تسميات أخرى تؤسس للشخصية النبيلة كما وضحه تفسير «أونامونو»، وإنما يقوم على موت «الموجود» وهذا المفهوم سيغدو جوهريا كأساس لشخصية مفهومية. وليس كأساس لشخصية كينونية مشروطة بالموجودية، إن الكتاب هو واجبه أكثر مما هو وجوده، وعليه دون توقف أن يستشيره كي يعرف ما يجب أن يعمل وما يجب أن يقول، وأية إشارات عليه أن يعطيها لنفسه وللآخرين ليبين أنه من نفس طبيعة النص الذي خرج منه.(15).
إن ولادة دون كيشوت كشخصية مفهومية، إنما تبدأ حيث تنتهي هويته الأصلية، إن بدايته تتأسس بفضل المثيلات التي غدا يعيش من خلالها تجربة للبحث عن التماثلات، وملاحقتها لفك رموز العالم. أي أن هذه البداية /الولادة، إنما تأسس على نهاية الكيان الهووي الماثل كموجود أي على موته، ومن ثم فان ولادة الشخصية المفهومية تقترن بما يسميه «ريكور» الهوية السردية، التي تروي قصة اسم علم. ولأن صاحبها قادر على أن يروي قصة حياته وأن ينسب إلى ذاته أفعالا معينة هو فاعلها. وهذه الهوية السردية تتناول كل تغيرات مسارات الحياة وتقلبات الزمن، ومع ذلك فإنها تبقى واحدة، ويبقى الفرد ذاته، رغم التحول المستمر. ونتعرف إليه عل أنه الشخص عينه(16).
يسمي فوكو- دون كيشوت- بأنه عين ذاته – Le même فهو ليس إنسان الغرابة، وإنما هو بالأحرى ذلك الموسوس الذي يتوقف أمام كل علامات التشابه. وكما أنه لا يبتعد عن حدود مقاطعته القديمة الضيقة، فهو كذلك لا يتوصل إلى الابتعاد عن السهل الممتد حول المماثل، فهو بالفعل شبيه بكل الشارات التي نقل عنها. ولكي يكون شبيها بها فعلية أن يختبرها مادامت لم تعد على شبه بالكائنات المرئية. ومن أجل أن يغدو دون كيشوت شخصية مفهومية فان المهمة إلي تحقق هذه الإمكانية هي أن يتشبه بالنصوص التي هو الآن شاهدها، ومثيلها الحقيقي،وأن يبرهن ذلك بحمل العلامة التي لا تدحض بأنها قول الحق،وأنها فعلا لغة العالم كما ينبغي عليه أن ينجز وعد الكتب وأن يعيد صنع الملحمة بشكل مقلوب، إن كانت الملحمة تقص مآثر حقيقة مكرسة للذكرى،فان دون كيشوت يملأ بالواقع شارات القصة التي لا مضمون لها، وستغدو مغامراته فكا لرموز العالم: طوافا دقيقا ليدل على الصور الموجودة على سطح الأرض، والتي تبين بأن الكتب تقول الحق. وستغدو المأثرة برهانا يقوم على تحويل الواقع إلى شارات اللغة المطابقة للأشياء نفسها. ومعنى ذلك حسب «فوكو» أن دون كيشوت يقرأ العام ليبرهن على الكتب، ولا يقدم لنفسه برهانا أخر سوى بريق الاشتباه(17).
وبناء عل ذلك، فإذا أردنا أن نضيف إلى الشخصية المفهومة سمة أخرى بالإضافة إلى ما سبق «لدولوز» أن حدده كما أشرنا إليه في الفقرة السالفة، فإننا سنضيف سمة أخرى نستشفها من «أركيولوجية فوكو» وأعني بها سمة البحث عن المتشابهات فلا يقوم «الكوجيطو» الذي يرسمه دون كيشوت لنفسه عل إثبات موجوديته، وإنما يقوم على إثبات عينه كشبيه، وحتى حينما يعي ذاته بأنه مخدوع، فإنما ليعطي لهويه السردية برهان المماثل : بطل ذاته الذي يجوب العالم بحثا عن المتشابهات «فأقل التماثلات يلتمسها كشارات نائمة يتوجب إيقاظها لكي تشرع من جديد في الكلام. فالقطعان والخدمات والفنادق تغدو ثانية لغة الكتب بالقدر الخفي الذي تشبه فيه القصور والسيدات والجيوش.(18)
إن إثبات دون كيشوت لذاته كشبيه، مصدره إدراكه لحقيقته، فهو من فرط قراءته للكتب غدا إشارة تائهة في عالم لم يكن يتعرف إليه كما أضحى رغما عنه كتابا يملك حقيقته، ويسجل على وجه الدقة كل ما فعله وقاله ورآه وفكره، ويسمح في الآن ذاته أن يتعرف الناس إليه في حقيقته هذه التي غدا بموجبها شبيها. وهي الحقيقة التي لا يدين بها إلا إلى اللغة وتبقى كلية داخل الكلمات. إن حقيقة دون كيشوت فيما يرى فوكو «ليست في علاقة الكلمات بالعالم،وإنما في هذه الرابطة الدقيقة والثابتة التي تنسجها العلامات اللفظية من ذاتها لذاتها والتخيل الخائب للملاحم قد صار القدرة التمثيلية للغة. لقد انطوت الكلمات لتوها على طبيعتها كشارات»(19).
إن شخصية مفهومية كهذه تمثل بالنسبة لفوكو تجربة فريدة لكونها ترسم بمغامراتها ودوراتها وعطفاتها الحد، ففيها تنتهي الألعاب القديمة للتشابه والشارات، ومعها تنعقد علاقات جديدة.(20)
إن دون كيشوت وفق هذا المنظور يعتبر أول المصنفات الحديثة بما أن فوكو يرى فيه السبب القاسي للتطابقات والاختلافات الذي يتلاعب إلى ما لا نهاية بالشارات والمتشابهات.
وبما أن اللغة قد غدت مسكن الشخص المفهومي، فإنها فسخت فيه قرابتها القديمة مع الأشياء، لتجعل من دون كيشوت» إنسان التشابهات الوحشية الذي يكشف عن وجهه المجنون لا بالمعنى المريض، وإنما باعتباره انحرافا بينا ومستمرا، أي جعلت منه الإنسان المستلب في التماثل، الإنسان الذي يمثل شخصية اللاعب المختل لذاته والآخر، فهي تأخذ الأشياء على غير ما هي عليه، وتحسب جماعة من الناس من جماعة أخرى، كما تتجاهل الأصدقاء وتتعرف إلى الغرباء، وتظن أنها تنزع القناع في حين أنها تفرض قناعا إنها تقلب كل القيم وكل النسب لأنها تظن في كل لحظة… أنها تفك رموز الشارات(21). إن الشخصية المفهومية وهي تكشف عن وجه المجنون فإنها وعلى خلاف شخصية الشاعر الذي يعثر عن القرابات والتشابهات تحت الاختلافات «تعمل على شحن كل الشارات بتشابه ينتهي الى محوها»(22)
إن دون كيشوت غدا لدى فوكو شخصية مفهومية قادرة على إحداث توقيعات تفضي إلى محو العلامات.
3- لفيناس، دون كيشوت السحر والجوع.
لقد خصص لفيناس في كتابه «الله، الموت والزمان» فصلا لدون كيشوت عنوانه: دون كيشوت، السحر والجوع(23). وبالطبع فاهتمام «لفناس»، بدون كيشوت لا يدخل في سياق مقاربة رواية سرفانتس وإنما يأتي استجابة للإشكالات المفاهيمية التي يعالجها «لفناس»، من قبيل إشكال التفكير في الله خارج مجال الأنطو- تيولوجيا.ومن قبيل أسئلة أخرى كالمسؤولية والتقنية وغيرها، وبمعنى من المعاني فان الاهتمام بدون كيشوت من لدن هذا الفيلسوف يدعم المنحى الذي سلكناه في هذا المبحث، والذي يكشف عن الشخصية المفهومية في دون كيشوت.
يدخل دون كيشوت حقل اهتمام الفيلسوف ضمن سياق التفكير في علاقة التقنية بالخديعة. فإذا كان للتقنية التي استهدفت تقويض الآلهة-الأشياء، تأثير إبطال السحر. فإنها رغم ذلك لم تتجنب كل خديعة، فالايديولوجيا مازالت تمارس تسلطها، فبواسطتها، يخادع الناس بعضهم وينخدعون أيضا. والمعرفة البسيطة التي تعنى بها العلوم الإنسانية ليست مستثناة عن الايديولوجيا. والتقنية خصوصا لم تحترز من الالتباس amphibologie الذي يسكن كل ظهور. وذلك هو مصدر الخوف المستمر للإنسان الحديث من أن يقع ضحية السحر.(24)
إن هذا -بالنسبة لليفناس- هو ما يعبر عنه سرفانتيس بطريقة شيقة في الدون كيشوت التي تتمحور موضوعاتها / تمثلاتها في الجزء الأول حول السحر، سحر الظاهر الذي يغفو في تمام ظهوره. إن لفيناس يفكر هنا على الخصوص في ما تعرض له الفارس ذو الوجه الحزين من سحر أفقده عقله، وهو ما جعله يؤكد للآخرين بأن العالم. وكذلك هو شخصيا يعانيان من سحرما: في هذه الساعة ستقبل بالاعتراف-بني سانشو.بصحة ما أعدت قوله عدة مرات من أن كل أشياء هذا القصر قد أو جدها موت السحر (الفصل xlvI ص 462). في هذه القضية وحده سانشو يحتفظ بشيء من اليقظة وكما يبدو فهو أكثر قوة من سيده «…..مع أن حمق سانشو لم يفضي سوى إلى عدم القبول دون مواربة بأي احتيال أو خديعة باعتبارها حقيقية خالصة ومؤكدة، فانخداعه كان بواسطة أشخاص من لحم ودم، وليس بواسطة أشباح متخيلة كما يعتقد سيده جازما».
«وحده سانشو من بين الحاضرين من كان متيقظا على هيئته المعتادة. وقد بدا له من الأحسن حتى لا يصاب بنفس مرض سيده.أن يتجنب الاعتراف بكل تلك الوجوه المزورة» (ص463). إن هذه الوجوه المزورة التي يشك فيها سانشو، هي لكاهن، وملتح وجماعة من الرفاق الذين قرروا اقتياد دون كيشوت إلى بلده،حيث يمكنه أن يتعافى، وحتى يواصل تخيله بالانغماس في حمقه وحتى يتم خداعه بواسطة الأرواح، وهذا ما يشق على الفارس تصديقه وهو فاقد لعقله. إذا فهل كانت مغامرة دون كيشوت شغفا بسحر العالم مثل انخداعه بذاته. انه من اللازم أن نفهم بأن شيطان ديكارت الماكر هو حاضر في هذه الصفحات، بل من اللازم أيضا التأكيد على حداثة هذا المقطع، حيث يتم إحداث السحر بمثابة أسر داخل متاهة اللايقين ودون خيط هاد، ضمن الوجوه التي ليست سوى أقنعة أو مظاهر زائفة.في عمق هذا الأسر داخل سحر المتاهة، يمارس دون كيشوت بطريقته الخاصة الكوجيطو حيث يتأسس اليقين: «إنني أعلم، وأعتبر نفسي، بأنني مخدوع، وهذا يكفيني من أجل سلامة وعيي: لأنني سأخبط خبط عشواء إذا ما فكرت بأنني لم أنخدع قط، وبأنني سأظل داخل هذا القفص بئيسا وجبانا،حارما العديد من المكروبين والمعوزين من النجدة التي بمقدوري أن أقدمها لهم، بينما هم في اللحظة الراهنة في حاجة ماسة وملحة لمساعدتي وحمايتي لهم:(ص 484) أليس هناك صمم surdité يسمح بالتنكر في صوت المكروبين والمعوزين، صوت يغدو بهذا المعنى سحرا بذاته، صوت يحث عل دنيوة أخرى، يغدو العامل فيها هو ادلال الجوع إنها دنيوة للعالم عبر تحريم الجوع الذي يعني تعاليا ينطلق لا باعتباره علة أولى، ولكن داخل جسدية الإنسان، انه تعال ليس انطولوجيا أو على الأقل لا نجد له أصلا ولا فصلا داخل الانطولوجيا. إن الأنطولوجيا تبخس الآلهة المرئية، ولكنها تموقعنا داخل وضعية دون كيشوت وداخل أسر متاهته. إذا لم يكن هناك هذا التعالي المغاير.(25)
كيف التخلص من الحصار، حيث ينغلق دون كيشوت داخل يقينية السحر؟ كيف نجد تخارجية غير متحيزة extériorité non spaciale ؟ فقط ضمن حركة تتجه نحو الإنسان الآخر، وهي في الحال مسؤولية.
.فعلى مستوى جد متواضع، داخل اذلال الجوع، يمكننا أن نعاين تعاليا أنطولوجيا ينبثق داخل جسدية الإنسان. بهذا المعنى فان القوة الحيوانية للإنسان يلزم التفكير فيها بوصفها تشيطا لملحمة الوجود، تشظيا تنفتح فيه ثغرة، تصدع. منفذ باتجاه الماوراء، حيث يخلد فيه إله مغاير للآلهة المرئية.(26)
هل ثم سبرغور الجوع،حيث أن عين الأنا لا يبحث لأول وهلة إلا عن إثبات هويته؟ إننا لا نندهش بما يكفي للغة الجوع الصماء«إن البطن الجائع أصم» كما يقول المثل. إنها تصغي إلى توازن لن يغدو سوى توازن الكلية Totalité ».
إن الجوع في حد ذاته، أو الاحتياج أو الحرمان بامتياز الذي يؤسس المادية أو للاستثمار الكبير للمادة، (إن السبب المنطقي مصوغ وفق نموذج الجوع، وليس العكس).انه حرمان يحول دون التأسي بهذا السلب في صورة عالم روحاني منظم، إن الجوع الذي لن تقدر أي موسيقي على إرضائه، يزمن séculariser كل أبدية روما نطقية. انه الحرمان الذي ترتكز فيه الشدة على فقدان الأمل في هذا الحرمان ذاته. إن اليأس يقاوم ضد المساحة المتحجرة ذاتها.أو أن الرأس يضرب جدارا كما لو أنه ينادي بدون جدوى، مناداة بدون علة أو صلاة بدون هدف وبدون موضعة Thematisation كما لو كانت طريقة ما قبل قصدية، كما لو أنها ارتجال خارج العالم، أو دعاء لا خطابي، طلب كالتسول سؤال دون جواب سؤال يفتقد إلى طرح هذا السؤال ذاته، سؤال الما وراء ولكنه ليس باتجاه ما وراء العالم. انه سؤال داخل تغير حدود التعاقب تغير بين الموت والله. انه سؤال يتعذر اختزاله إلى كيفية إشكالية حيث تلتف بعض الآراء التقريرية، سؤال مفارق يجادل داخل أعماق لامبالاته.ولأن من بين كل الشهوات التي يتأكد داخلها: conatus essendi سعي الوجود فان الجوع هو الأكثر أهمية.
في هذا السؤال لا يتعلق الأمر بالأخذ،ولكن بالتسول على وجه الدقة،وبهذا المعنى فالسؤال يتوجه إلى خارج غير متحيز، إلى ما وراء الانطولوجيا.
إن الدنيوية بواسطة الجوع هي سؤال حول الله وإلى الله-وبذلك فهي في الآن ذاته أكثر وأقل من تجربة ما. إنها سؤال ما قبل خطابي، سؤال بدون جواب. كما لو أنها صدى ملغز وملتبس للسؤال. مع ذلك فإننا نؤكد بهذا التحليل بأن المقصود ليس هو تذويت التعالي، وإنما الاندهاش من الذاتية.
فها هو سيد الفن الأول في العالم مسرغاستر لا يسود دون شريك.أن الجوع داخل سعي الوجود Conatus esseni حساس بشكل مدهش إزاء جوع الإنسان الآخر.
إن جوع الغير يوقظ الناس من غفلة شبعهم ورضاهم بما لديهم. إننا نندهش بما يكفي للتحول الذي يمضي من تذكر جوعي الخاص إلى المقاساة والشفقة لأجل.جوع الإنسان الآخر.انه تحول تنشأ فيه مسؤولية يتعذر التنازل عنها،واستحالة التملص الذي مازال يفرد ذلك الشبعان الذي لا يقدر الجوعان. ولا يفتأ يتملص من مسؤوليته الخاصة دون أن يتملص من ذاته. إن الفرد دانية هي استجابة أن تتمل كل التملص، إنها إدانة بأن تكون أنت ذاتك. إن الفر دانية هي استحالة التملص،إنها إدانة بأن تكون أنت ذاتك،فوحدانية الأنا هي أثر استحالة التملص هذه… وأثر المسؤولية غير القابلة للتنازل، والتي مازال دون كيشوت يتذكرها حتى وهو واقع في حبائل سحره. إن الحياة تسترد أنفاسها وحيوية قوتها الفاعلة، داخل مسؤولية وجود الأنا.
إن إنصات البعض للآخر، والخروج عن الذات باتجاه الآخر هو جواب السؤال، والدعاء ما قبل الشفهي للجوع.
هكذا يرتسم التعالي داخل الجوع على مستوى أشد دنوا.(27)
– امتدادات شخصية دون كيشوت في الفكر المعاصر:
إن شخصية دون كيشوت، ما تفتأ تثير – بقابليتها للتأويل الفلسفي – التفكير في الإشكالات الراهنة للعالم المعاصر، وهذا هو الباعث الرئيسي الذي جعل مؤلفي كتاب «هل يمكننا التفكير في العالم؟ الصدفة واللايقين»(28). يستعدون «دون كيشوت» في تأملاتهم حول الصدفة واللايقين، وفي نقدهم للنزعة العلموية الحديثة، خاصة في الفقرة الثانية من خلاصة كتابهم التي تحمل عنوان» واقعة المرآة». يستنتج هيجيل بنسياج وهرمان أكداج، وكلود سيكرون في سياق تأملاتهم بأن صورة العالم الذي يحيا فيه الإنسان الغربي مبنينة حول شيمة «الفرد – العالم» حيث الفرد يحتل موقع الذات، أما العالم فهو يحتل طبعا موقع «الموضوع»، إذن فحين اقتحمت مسألة اللايقين هذا الوضع، فإنها أحبطت أي ثقة في الاعتقاد بمستقبل ضروري وحتمي، وهذه الأزمة استدعت واقعة مفارقة وهي ما يسمونها بـ«اقعة المرآة».
في الواقع كل شيء يمضي كما لو أن البشر وهم يحاولون الاستمرار في النظر إلى العالم كموضوع قد وقعوا في مشكلة. فاللايقين هو هذا الموضوع – المشكلة الذي تنظر الذات من خلاله كما لو أنها تنظر في مرآة. وهكذا فالإنسان وهو في مواجهة عالم لا يقبل الفصل كما يخضع للصدفة، فإن القرارات تؤول إلى المستعمل l’opérateur فكيف لا يمكننا التساؤل حول هذه الشخصية «الفرد الذي استدعت وظائفه العليا، في أن يتخذ القرار حيث تتوقف الآلات الأكثر إتقانا. إن هذا يشجع نرجسية «الفرد» لماله من عزم على القرار مما يحيل إلى نشاطية جديدة باسم الإله- الإنسان» الذي يطمح إنسان الحداثة بلوغه لكن من فرط ما لا نتساءل حول هذه الشخصية، هذا الفرد الذي يوجد تحث هيئة «أنا» فنحن معرضون إلى الانحراف مباشرة عن مكان الالوهة. وتلك هي في الواقع قصة روسينوت Rossinante فرس دون كيشوت ففي نهاية الخرجة الأولى لدون كيشوت، وجد هذا الأخير نفسه عرضة لصدفة تيهانه أمام مفترق طرق والحال أن الفارس، ذا الوجه الحزين، والذي لم يكن قط فرد الحداثة في الشيء قد استبعد أن يقوم هو نفسه بهذا الاختيار لقد توخا أن تقرر الصدفة، أملا من خلال ذلك أن تتدخل الآلهة، ففك لجام فرسه مترقبا أن يتجلى القدر. إذن فإن كيشوت فيما يرى مؤلفو كتاب «الصدفة واللايقين»، قد وجد نفسه في موجهة ما يسمونه اليوم بطريقة لا تقديسية – باللايقين، لكن ها هو الحادث يتقرر حينما ترك لروسينونت rossinante (فرس دون كيشوت) أن يختار بنفسه بالطبع الطريق الأقرب إلى إسطبله الذي كان موعد بالزاد.
إن هذا المثال بالنسبة لمفكري «الصدفة اللايقين أبلغ دلالة عن وضعية الإنسان الراهن، فنحن من فرط استبعادنا لأي تفكير حول «الفرد» أي حول التحديات القصوى التي يخضع لها مستعمل التجربة، فإننا نواجه خطر الاستمرار في اتخاذ القرار في قضية العالم والحياة بالخضوع إلى أوامر بطوننا. ولهذا فإننا نفكر بنفس طريقة الفيتاغوريين الذي أكدوا على أنه من المناسب نعيد أن ربط الموضوع المتأمل (بفتح الميم المشددة) بالخطاب حول الذات المتأملة (بكسر الميم).
فعندما نعرف – في الواقع – ما يكونه العالم، فإن من اللازم أن نضيف معرفة ما تكونه الذات التي تفحصه.(29)
إن الآلية الابيستمولوجية المهيمنة في الحداثة، خاصة في النزوعات العلمويه scientistes، والوضعانية positivistes تستهدف باسم الموضوعية العلمية، أن تتخلى عن أية مرجعية حول ذات المعرفة، في دراستها للموضوع. إن هذا يؤسس إحدى دعامات المعضلة إزاء ما يوجد عليه الفكر في وضعيتنا.
إننا حسب تأويل «بنسياج، أكداك، وسيكرون» نوجد في عالم مولع «بالفرد» هذه الشخصية الصغيرة والمتحذلقة التي تطمح أن تكون سيدة لنفسها وللعالم.(30)
ولتوضيح الرؤية يتناول المفكرون الثلاثة مثالا آخرا من دون «كيشوت» فيسرفانتيس يبين لنا أن دون كيشوت الذي سلك طريقا ضيقا وجد نفسه في مواجهة جماعة من التجار الذين يقصدون أحد المعارض، وقد استوقفهم دون كيشوت تحث تهديد السلاح، من أجل أن يقروا له بأن «دولسيني» هي المرأة الأجمل في الكون.
إن التجار الذين يمثلون هنا «أفراد الحداثة» الصاعدة، يصرحون بجواب يكاد يكون علميا.أنهم مستعدون لهذا الإقرار، لكنهم من أجل ذلك يتوخون القيام بما نسميه اليوم بالتجربة. فإذا ما أحضر دون كيشوت «دولسيني» فهم يريدون فحصها، وعقب هذا الفحص يخلصون إلى استنتاج.
إن هذا المقطع برأي المفكرين الثلاثة يمثل بطريقة نابغة ذلك التصادم ما بين نموذجين أبيستمولوجيين، مابين عالمين: من جهة ذلك النموذج القديم حول الحقيقة المنزلة الذي يعتقد بأنه إذا كانت الحقيقة واحدة. فإنها من خلال الحق الإلهي لا تحتاج إلى أي برهان. في مقابل هذا فالتجار يمثلون النموذج الجديد الذي يعتبر أن الحقيقة هي دوما خاضعة للاختبار، والى الحكم.(31)
وإذا ما رأينا دون مشاكل قصور النموذج الأول، فإننا نطمح إلى رؤية عيوب النموذج الثاني.
في الواقع، يعتقد بنسياج وزميلاه، أنه إذا كانت الحقيقة هي دائما مسألة اتفاق. وكانت خاضعة لحكم البشر، فان هذا الحكم سيلقي بنا في عالم بنيوية الرأي، يعني في عالم بدون حقيقة.لأنه حتى لو أن الاثنى عشر تاجرا رأوا السيدة «دولسيني» بأم أعينهم، وبنو حكمهم من خلال تجربتهم، ومن خلال ما تمكنوا من معرفته من النساء اللواتي يبلغ عددهن المائتين أو الثلاثمائة، فأية قيمة يمكن أن تكون لحكم كهذا؟ وبالمقابل، فمنهج كهذا له لازمة مرعبة، وهي وضع الإنسان بصورة الفرد موضع الحقيقة، أو على الأقل في موضع من يتلفظ الحقيقة.
إن مسألة صورة فرد –عالم individu -monde تؤسس، بلا شك، خطوة حاسمة من أجل مواجهة المشاكل المتعددة التي تعترضنا وتعترض معاصرينا، مع العلم بأن، وضعنا (مأزقا) كهذا إنما هو مأزق انعدام القدرة الذي يسم عصرنا الحالي. وهكذا فان الإنسان على هيئة الفرد المستقبل- الذي وقع في فخ شخصية يراد لها أن تكون عازمة على القرار، خليطا من رجل المغامرة، ورجل البورصة-قد اعتقد بأنه قادر على أن يتموضع خارج قوانين الطبيعة والواقع، متوهما بأن معرفته تمنحه سلطة الهيمنة على العالم.(32)
إن الفرد يظهر اليوم في خطاب الحداثة كما لو كان وحشا غريبا يلزمه أن يسحق الطبيعة والعالم بسيطرته عليهما، من أجل الانطلاق نحو مغامرة حياة السد. وما نراه اليوم من تحكم ليس إلا وجه الرعب الشامل.(33)
إن اعتراف الإنسان فيما يرى «بنسياج» وزميلاه، بأنه ليس فوق القوانين، يمكنه في أحسن الأحوال، أن يفهم بأننا لا نلقي بأنفسنا في عالم القدرية القهرية. ولكن بالعكس من ذلك، فإذا ما تخلينا عن فكرة الحداثة التي تماثل بين الحرية والهيمنة، فإننا نقدر أن نتحمل كل واقعة بوصفها خبرا سعيدا، يعني أن الحرية تتمفصل بالمصير Destin والمصير لا يعني هنا القدرية. إن المصير (القدر) هو على العكس من ذلك، فمن خلاله يمكن أن توجد الحرية. ليس وفق حرية التجار. ولكن وفق هيئتها الحقة المتمثلة في الفعل. إن اليقين كما يقول الفيلسوف «رايموند لول Raymonde Lulle «هو ميدان عميق، بحيث إن الفكر لا يحافظ على تماسكه إلا بواسطة الفعل».(34)
إن شخصية دون كيشوت من خلال حضورها في الفكر الفلسفي المعاصر، تشكل إحدى الشخصيات الرئيسية اللافتة للانتباه، لفرط ما نجدها في صميم إشكالات العالم المعاصر، ومن تم فدون كيشوت لا يقتحم المجال الخاص للفيلسوف إلا وهو يحمل معه سيرة للمفهوم، بما هي طريقة في حمل الفكر على التفكير.(35)
الهوامش
1- دولوز غتاري: ما هي الفلسفة؟ ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي / المركز الثقافي العربي 1991 ص 78
2 – المرجع السابق ص 82
3 -المرجع السابق ص 84
4 – Miguel de unamuno : vie de don quichotte et de sancho, sel
on miguel de cervautes saavedra http :// agora qc.ca
5- ibid.
6- Michel Foucault : l(homme n’a de vérité que dans l’enigne du fou . le point hors-serie n° 17-2008 p 71.
7- Unamuno : vie de don quichotte … voir l’encyclopédie de l’agora
. Htt:// agora. c. ca /refitixt.NST.
8 -http//agora qc.ca
9- دلوز غتاري ماهي الفلسفة؟ ص 87-88
10 – Unamuno : vie de don ouichotte. http://a gor qc ca
11 – http:// agora qc ca/ reext . NST / miguel de cervantes en
marge de don quichote par miguel de Unamuno
12 – http : // agova.qc. ca
13- http : // agora qc.ca
14- ميشل فوكو. الكلمات والأشياء، الفصل الثالث، الفقرة I ترجمة فريق الترجمة بمركز الإنماء القومي بيروت 1990 ص 61
15 – نفسه ص 61
16 – بول ريكور: الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى بيروت 2005ص 660.
17 – فوكو: الكلمات ولأشياء ص 62 .
18 – نفسه ص 62
19 -نفسه ص 63
20 – نفسه ص 61
21 – نفسه ص 64
22 – نفسه ص64
23 – Emmanuel lévinas ; Dieu ; La mort et le temps ; édition
Grasset et Fasquelle.1993.p1 95-200
24 – Ibid.p1 96
25 – Ibid : p 198
26 – Ibid p.198
27 – Ibid.p200
28 – M.Bensayag – H.AKDAG-Csecroun : peut – on penser le monde ? hasard et in certitude, editions de félirs, pari 1997
29 – Ibid p 160.
30 – Ibid p 161.
31 – Ibid ; p: 161
32 – Ibid ; p: 162
33 – Ibid ; p: 164
34 – Ibid ; p: 163
35 – Ibid ; p: 163
أونامونو – فوكو – لفناس عبد العزيز بومسهولي
باحث في مجال الفكر