قبل موتي بقليل كنت أعمل في البلدية، الصق الاعلانات المسموح والمرغوب الصاقها على الجدران. كنت اتعقد واتعربس كل يوم مثل خيطان كبة الصوف، أكر وأفر من شارع الى شارع ومن حارة الى حارة، كل ساعة تأتي اوامر مختلفة من عند الشباب:
"ذئب.. خذ هذا الاعلان وعلقه فوق بوابة مدرسة البنات"
"يا ذئب.. جاءتنا اوامر جديدة، انزع الاعلان المذكور وعلق مكانه ذاك. الاعلان الذي علقته قبل اسبوع في مدخل سوق الخضار".
مرة في عز الزمهرير والثلج كانت امي تخبز فطائر بطاطا وزعتر على غطاء (الصوبيا) وانا في بيجامتي الكحلية ملتف على نفسي مثل سلحفاة، لسعني جرس الهاتف:
"ألو ذئب؟ شوارب المرشحين بللها المطر تحت قوس النصر، بسرعة يا ابو الذئاب" خذ عدة الشغل واسترنا الله يسترك." اصعب ما كان يواجهني هو التحديد بدقة متى يتحتم علي لبس جزعة البلاستيك ومتى علي ان البس "صباط" الجلد الايطالي الذي ضحيت في سبيل شرائه بعشرات الافلام الهندية والكثير من اقماع البوظة التي اعشقها.
استمرت الايام بالتتالي على هذا المنوال الى ان جاء ذلك اليوم. اذكر انها كانت تمطر بغزارة حين تركت البيت في السابعة صباحا، في منتصف القهار انشقت السماء فجأة وشعشعت شمس قاسية وحادة مثل المسمار. لم اعرف كيف اتدبر امري. صارت الرطوبة الممتصة من مطر الصباح والحر الذي مصدره كثافة الشمس مثل طبقة سميكة من الزيت يترجرج في الفراغ بين اصابعي وجدار الجزعة. وصرت اخب في مشيتي ووقفتي فوق السقالة واصدر اصواتا مثل تلك التي يسببها غرق حصاة في بركة من الطين. وفوق كل ذلك زعقت خلف اذني تماما كمشة من الموتورات حتى كدت أسقط عن السقالة من الفزع "المدير شخصيا !".
هرع صوبي كأنني صرت شخصا أخر فجأة، وهمس لي مشيرا بيده ان انزل عن السقالة. حين صرت بقربه على الارض لف ذراعه حول رقبتي لأول مرة في تاريخي الوظيفي وصرخ في اذني فجأة مثل مجنون: "ألم تنته بعد؟ الشباب وصلوا" أفلتني بعدها وبحلق بي برهة ثم انفجر بضحكة شيعتها عشرات الضحكات من الشباب الذين سوروني من كل الجهات ببذلاتهم المبرقعة بالاخضر والبني وبنادقهم التي بدت في ايديهم ذابلة مثل اعواد حطب. اجبت ببلاهة انني انتهيت تقريبا من تعليق جميع اللافتات باستثناء واحدة، لكن احدا لم يصغ لما قلت. كانوا يدورون رؤوسهم في جهات مختلفة للتأكد من سلامة التجهيزات المعدة للاحتفال. وفجأة التفت مديري ناحيتي وركز عينيه على قدمي وصرخ: "ذئب ! الله يسترك حبيبي هل تريد فضحنا؟".
لم افهم قصده. غرزت عيني بشاربيه الكثيفين بغباء.
"الجزمة: جزمتك ! أيجب ان يري الرجل عورتنا من اول يوم له في ضيافتنا:: اين صباطك الايطالي؟ "
بحلقت اكثر فيه بغباء، لم اصدق، معقول ! ايريدني ان اغامر بسباطي الايطالي بمثل ذاك الجو المتقلب لمجرد ان احدهم يزور البلد لبضع ثوان وقد لا يكلف عينيه على الاطلاق مغبة التطلع الى اسفل".
تظاهرت بعدم الفهم ولم ارد، فطرح يدا في الهواء أمام أنفي مباشرة وصرخ: "اغرب عن وجهي، لا تريد ان تصبح بشريا وتنظف عال ولكن لا اريد خلقتك هنا".
جرى كل شيء بسرعة مدهشة حتى انني اشك الآن – بعد حدوث ما حدث بعد ذلك انني نفس الشخص الذي كان يقف بثياب ملطخة بالدهان منتفخا بغروره، ادرت ظهري وغادرت الساحة العامة حيث كان من المفروض انها ستتحول بعد دقائق الى مكان تاريخي بمجرد اطلاق سراح النصب التذكاري من سيارة الشحن ورفعه في منتصفها.
لم اسلك نفس الطريق الذي كنت معتادا على اجتيازه دائما أثناء ذهابي وعودتي من بيتي الى مقر البلدية، حيث يتم تحديد مكان عملي الجديد واعطائي علب الدهان وقطع القماش والفراشي، انحرفت دون انتباه في طريق فرعي صغير طالما رغبت من قبل في اكتشافه ولم افعل. مشيت بخطوات مجعلكة في منتصف الطريق غير آبه لمرور السيارات والذي كان نادر الحدوث على أية حال. مطرقا رأسي كمن يستغرق بالتفكير، لكن الحقيقة ان عقل كان مقفلا. كنت احس بخدر يسرى فى عظامي ساقي مما يجعل خطواتي مرتخية وجسدي خفيفا. كأن اللحم والدم تسربا من جسدي وصارت عظامي وحدها تحك بالاسفلت وتصدر ازيزا جارحا، وبدت جزمتي البلاستيك التي كنت دون قصد اركز عيني على مقدمتها كأنها تنتعلني وليس العكس. كخرقة او مزقة كيس عالقة بكعبها كنت انا.
قادتني الجزعة الى ساحة صغيرة امام بوابة المستشفى الحكومي، تطلعت حولي وعرفت المكان فورا.
كانت الساحة على غير عادتها شبه مهجورة الا من بائع فلافل متجول وانا والجزمة. تطلعت فوقي، رأيت القوس الكبير الذي يكلل بوابة المستشفى ورأيت نفس اللافتة التي علقتها بيدي هاتين منذ اشهر ما تزال ترف مثل ريشة على رأسها.
شعرت بالالفة حين نظرت مرة أخرى الى فوق نحو القوس وكان الخدر قد بدأ يزاولني وبدأت احس مرة أخرى بالمكان، والجو من حولي سحبت من جيبي سيجارة وكبريتة مواسيا نفسي: "هون عليك يا ابا الذئاب. من غيرك في هذه البلدة يقدر عليها! من غيرك يضع لافتة ولا يجرؤ احد بعدها على زحزحتها او تمزيقها سوى الرياح والمطر".
هبت نسمة حارة لسعت وجهي واذني ثم تلتها عصفة رياح قوية اطفأت عود الكبريت الثاني والهبة الثالثة اطفأت العود الثالث ثم الرابع والخامس وبعدها توقفت عن العد لان الاعواد نفدت. دعكت السيجارة بين أصابعي ورميتها على الارض مع شتيمة كبيرة.
تلفت حولي فلم ار سوى عربة خشب خضراء، انطلقت تجاهها، القيت التحية عن الرجل الذي كان يصف زجاجات "الكازوزا" بين عروق البقدونس وقطر ميزات المخلل، رد على التحية دون ان يرفع وجهه صوبي. سألته عن كبريتة فقال وهو ما يزال منهمكا بصف القناني وادارة جوانبها المطبوعة بالاحرف الاجنبية باتجاه الواجهة: لا ادخن.
مازلت لا اعرف ان كان جوابه ام هيئته ام مجرد غضبي من الرياح ورغبتي الحارقة في التدخين هو سبب تعكر مزاجي ثانية وتذكري دفعة واحدة ما حدث امام الشباب بالتفصيل ثم تذكري عيونهم التي تغسلني كل صباح ومساء حين ادخل واخرج من بناء البلدية.
كانوا ينظرون الى بطريقة غريبة تجعلني اطأطىء رأسي نحو جزمتي ثم بنطلوني ثم قميصي عاجزا عن معرفة ما يحدقون اليه، وان رفعت عيوني اليهم يتهامسون ويقهقون دون ان اجرؤ مرة واحدة على سؤالهم عن السبب. كنت اخافهم.
وتذكرت شفتي مديري كلما هم بلفظ اسمي كيف تتجعلكان كأنه يبصق، وكيف بدت أصابع امي في ذلك الصباح مثل جذور نباتات مهترئة حين كانت تقوسهم فوق حافة الصوبيا على أمل ان تطرد الحرارة آلام الروماتيزم المزمنة، وتذكرت الرغيف المكرنش والملطخ باللبن مثل خرقة ملطخة بالدهان، يستقر في كعب الكيس الذي مازلت اثبته فوق خصري منذ تركت البيت في السابعة صباحا.
تنبهت الى الوقت. وتطلعت حولي لاجدني قد ابتعدت عدة امتار عن بائع الفلافل وهممت بمناداته لاسأله كم الساعة لكنني تراجعت عن الفكرة خوفا من ان يجيبني "لا احمل ساعة" وفي كل الاحوال كان يبدو انه لا يولي وجودي في منتصف الساحة تحت القوس تماما أدنى انتباه، ولن يسمعني اصلا ان ناديت.
لدغتني الفكرة ؤ رأسي: "لا احد في هذه البلدة يراك"، قلت لنفسي: "الشيء الوحيد الذي يدل على وجودي هو جزمتي التي منعتني من المشاركة في الاحتفال وكيس "الزوادة" واللافتة التي علقتها بيدي قبل اشهر فوق قوس النصر على مدخل هذا المستشفى، بدون هذه الادلة الثلاثة على وجودي انا لست موجودا".
صفعتني نسمة حارة واحسست بضيقي يتصاعد اكثر مما كان عليه امام عربة الفلافل وبدأ جبيني ينز عرقا باردا وراودتني رغبة في الركض، الى اين، لم اكن أعرف. كل ما كنت متأكدا منه هو ان علي الفرار وبأقصى سرعة ممكنة. شعرت بقوة خارجة عن سيطرتي تدفعني لتمزيق كنزة الصوف التي ألبسها. لم اقدر. شددتها ومططتها بكل قوتي لكنها لم تتمزق. خلعتها من رأسي دفعة واحدة وطحت بها الى بقعة ما في الساحة. لم يرمش بائع الفلافل. شعرت بلزوجة ورائحة الشعر الذي يغطي صدري وتحت ابطي وبين فخذي. انتابتني رغبة جامحة بمعطه. مزقت ما يمكنني تمزيقا من ملابسي الداخلية وطرحت بالخرق باتجاه بائع الفلافل، لم يأبه. فكرت عابثا مع نفسي بانه قد يكون واحدا من النصب التذكارية وليس رجلا حقيقيا.
تركت التفكير بردود افعال بائع الفلافل اذ كان الاختناق الذي احسه يزيدني ضجرا واحساسا بثقل افكاري على جدار جمجمتي. انطلقت بخفة اتخلص من جميع ما علق بجسدي من قماش وخيوط.
كنت كلما اطرح بقطعة جديدة احس نفسي خفيفا ونظيفا كأنني ارجع من جديد ذلك الولد الملعون الذي ينزلق من بين اصابع امه كلما همت بمسكه لشطفه من صابون الحمام. وازداد شعوري بالخفة وتحول الى شعور فائض بالسعادة عندما اصبحت عاريا تماما. سعادة سالت على الارض من بين اقدامي. ساخنة ومريحة، كأنني عدت طفلا رضيعا ينعم بحق التبول في فراشه.
فجأة لم ادر كيف بزغوا لاهثين دفعة واحدة وبسرعة خاطفة من الهواء مجموعة من الشرطة والشباب وعدد من الاولاد كانوا يتبارون في الركض صوبي امسكوني من احد اجنحتي واقتادوني مثل دجاجة.
في اليوم الذي يليه، بعد سنة، في مستشفى ابن النفيس، تلا الطبيب مجموعة من الاسماء ثم صاح "ذئب !" تلفت حولي مذعورا. "من اين يمكن لذئب ان يدخل الغرفة؟"
صرخ الطبيب مرة أخرى "من منكم يدعى ذئب؟ "
لم يجبه احد فخرج ملوحا برأسه علامة الدهشة. شعرت باسترخاء حين ابتلعه الباب، اسندت رأسي الى الحائط وانزلقت في غيبوبة لم استيقظ بعدها الا في القبر. وهناك عويت بشراسة افزعت جيراني من الميتين الجبناء.
تغريد الغضبان (كاتبة عربية تقييم في أمريكا)