على مقربة من مطعم (اوستريا مارجوتا) في روما، رأيت نفسي في المرآة أشكو من جوع حارق، لم تكن معي غير ثلاثة آلاف ليرة، لا تكفي حتى أشبع، كان هناك قرب المطعم عازف قيثار تنهمر عليه الليرات من كل عابر يسمعه، ظننته أعمى، وفكرت أن أسرق شيئاً من عطف الناس عليه.
في أول ساعات الغروب، أكاد أبكي على نفسي، فما من حلّ عندي غير الجلوس في مقهى (بارهاري) عسى أن يأتي اليها سائح عراقي يدفع ثمن الشاي عني، وربما أتمكن من أخذه الى المواخير والبارات وبيوت اللذة، وأكون دليلاً صوب نزواته، كما أفعل عادة في كل يوم، إذ لا شيء مهم عندهم غير الخمرة والنساء.
٭ ٭ ٭
لن أتمكن من الرجوع الى بغداد، بعد خمس سنوات قطعتها في هذه المدينة الفاتنة، ولم يعد البقاء ممكناً في روما أيضاً، أسكن في غرفة بائسة هي محض ثقب للجرذان على طريق (فيتوريو فينيتو) تحت عمارة ربما تسقط في أية لحظة، أعمل أحياناً في غسل الصحون او تنظيف الحمامات، وبرغم ذلك صار البقاء في روما مستحيلاً مع الغلاء الفاحش الذي هجم على خضرواتها وخبزها ولحومها ونبيذها وأسماكها التي كدت أنساها منذ عامين وأنا أتأرجح بين الافلاس والجوع والضياع.
من ترى يصدق أنني ذات يوم، قبل خمسة أعوام، كنت أسكن مثل امبراطور في فندق (اكسلسيوشر) أدفع في اليوم الواحد مائة ألف ليرة، كان البواب يحني رأسه احتراماً واجلالاً وأنا أعطيه بقشيشاً يومياً ليس أقل من ألف ليرة عند خروجي والف أخرى عند رجوعي؟!
٭ ٭ ٭
الآن أقف قرب مطعم أوستريا مارجوتا، أكاد أموت فعلا من حرقة الجوع، ذهبت أموالي التي جئت بها من بغداد بعد بيع البيت، ورميت بثمن سيارتي في ركوب الطائرات والبواخر والنساء اللائي لم يعرفن رجلاً بمستوى غبائي وجنوني.
يوجعني هذا الغروب، ومقهى بارهاري ليس من عراقي ولا عربي فيها، يوم مشؤوم، وثلاثة آلاف ليرة سأشتري بها خبزاً أغمسّه في الشاي، حتى يأذن الله بسائح لا يعرف أي شيء عن شعاب روما وأسرارها.
من يعرف فلورنسا وفينيشيا وميلانو كما عرفتها، لا يمكنه الرجوع الى البلاد التي صيفها الجحيم ، وأنا عاشق للمطر والبرد والشتاء والبحر، من يمشي على ضفاف (أرنو) في فلورنسا ويتهادى مع الجندول مساء في البندقية، ومن يدخل كاتدرائية ميلانو، لا أظنه يفكر في العودة الى بغداد التي تصرخ هلعاً ورعباً في كل مرة يأتي فيها تموز الى بيوتنا.
أعرف بأنني اكذب على نفسي، لئلا يذبحني الحنين، دجلة ليس أدنى حلاوة من نهر أرنو، والمشحوف في أهوار العمارة هو نفسه الجندول في ميدان مرقص، والمساجد عندنا ليست أقل هيبة من كاتدرائيات ميلانو، لكنني أخاف البكاء عندما يجرفني الحنين الى هناك.
بحثتُ عن ثلاثة آلاف ليرة كانت في جيب المعطف الشتوي، عساني اشتري خبزاً أغمسه في الشاي، لم اجد غير ألف ليرة، تذكرتُ حينها ما جرى بيني وبين البواب الذي أعطاني ذاك الجحر المعتم (الذي يسمىّ غرفتي) حتى أعيش هناك كما الفئران. قال لي: سأطردك الليلة اذا لم تدفع.
أمشي بهدوء بين مطعم أوستريا مارجوتا وأنا أشكو جوعاً لم أعشه طوال حياتي، وعازف القيثار تنهمر الليرات عليه، في القبعة التي أفرغها ثلاث مرات في معطفه، ولا يزال يعزف، لماذا لا أعزف مثله؟
نظارته السوداء تقول انه أعمى ، واذا مددت يدي الى قبعته، ربما أتمكن من سحب خمسة آلاف ليرة، أخطفها بسرعة في أول لحظة يخفّ الشارع فيها من المارة، لكنني لم أسرق شيئاً ولا مرة واحدة في حياتي، وليست عندي أية خبرة، ألا تحتاج السرقة الى خبرة؟
عازف القيثار يبدو في دنيا بعيدة عما يدور حوله، لكنه يتحسس القبعة الكبيرة المحشوة بالنقود بين ساعة وساعة، وفي روما لا أحد يدري بأحد، والجوع كاد يأخذني الى السقوط على رصيف الشارع، هكذا، بعد أن حطّمني فراغ معدتي، مددت أصابعي الى قبعة العازف، عساني أسحب شيئاَ من المال.
لم أفهم كيف جرى ما جرى، لم أتألم في حياتي على شيء كما تألمت في تلك الساعة، العالم كله تشظّى ولم أصدق ما قاله عازف القيثار، باللغة العربية، وإنما باللهجة الشعبية البغدادية التي استوطنت شعاب جلدي ومساماتي، نزع نظارته السوداء المعتمة جداً، وراح يحدق بي وهو يقول:
– تعادل غداً، وفي كل يوم، عند الغروب، وخذ ما تشاء حتى يفرجها الله ونعود معاً الى العراق.
س
عبدالستار ناصر
كاتب وقاص من العراق