خالد المعالي*
ربما كانت أول مرّة أزور فيها اتحاد الأدباء ببغداد. فقد كانت هناك محاضرة لفاضل العزاوي، كان ذلك عام 1976، لا أدري من أخبرني بذلك. لهذا جئتُ من القرية (تقع مسافة 300 كم جنوب بغداد) إلى العاصمة بغداد، لكي أستمع له وأراه وربما تعرفت إليه. كان الحضور كثيفاً، وصوت فاضل العزاوي يصلني بلكنته التي لم آلفها، تقطيع جُمله واتساقها، لفظه لأسماء الأدباء الأجانب الذي كان جديداً عليّ. خصوصاً لفظه لاسم: فيدور دوستويفسكي الذي ما زال يرنّ في أذني حتى الآن. هذا الكاتب الذي تعلّقت به من يومها وحتى اليوم وقد أشبعته قراءة وإعادة قراءة. ما ان انتهت الأمسية حتى سارع الحضور إلى المغادرة أو إلى الموائد في نادي الاتحاد، ولم أكن من هؤلاء. فعدتُ ماشياً من ساحة الأندلس إلى الفندق بساحة الرصافي.
كانت سمعتهُ قد وصلتنا نحن الشباب، البيان الشعري كان نوعاً من الانجيل الشعري حينها، قصائده المتنوّعة الأساليب، وكذلك تَنقلهُ بين الشعر والنثر، حتى الأغلفة التي يختارها لكتبه تعكس عالماً آخراً، وعياً لا نعرفُهُ، عوالمُهُ التي تعكسها قصصهُ وكأنها قادمة من عالم آخر. ما هو؟ كنت أسأل نفسي. حتى كتابته عن السيّاب حينها مختلفة تماماً، صادقة، مقاله الأسبوعي في مجلة «الف باء»، والذي كان يوقعُ باسم «نهار جميل»، كل هذه الأشياء كانت تضرب الوعي الريفي الذي كنتُ أملكهُ، وقضت على كل أمل في البقاء وبشكل طبيعي في القرية، أو فيما بعد في المدينة. التي هجرتها بحجج مختلفة إلى بغداد… هناك أخذت أفتعل التشرّد، وبسبب ضيق ذات اليد كنت أتهرّب من تسديد ايجارات النوم في الفنادق ومن أجل سدّ الرمق الجأ إلى سرقة الكتب وبيعها… حينها أضحيت تقريباً شيخ سرّاق الكتب ببغداد ومعلمهم، وفي كل فترة كانت عندي مجموعة تلاميذ أدرّبهم. وكم كانت فرحتي الكبيرة حين صدرت مجموعة فاضل الشعرية الثانية «الأسفار» التي ضمت أهم قصائده التجريبية المطوّلة. كنتُ أجلبُ نسخاً منها وأوزعها على الأصدقاء والمعارف. كانت أياماً رائعةً، فقراءتها حررتني من كل الأوهام وأضحى السفر هو الهدف السرّي لحياتي. لم يكن فاضل العزاوي هو الصوت الوحيد الذي كنتُ أسمعه، فقد كانت تصلني أصوات أخرى، لهذا حين صدرت «الشجرة الشرقية» عام 1976 أيضاً كانت صوتاً آخر له، يأتي بطريقة أخرى. يحمل خلاصةً أخرى، لصوت فاضل العزاوي الشعري، ولم أكن متأكداً اذا كنتُ فهمت تعليق سعدي يوسف حينها في مقابلة معه حولها، حيث لاحظ، اذا أسعفتني الذاكرة، هدوءاً في «الشجرة الشرقية:، «لا يدري ان كان سببهُ الحكمة أو الأحكام!»
غادر العزاوي البلاد وأخذت الحياة تشحب والآمال تضيق. كانت الأحكام ثقيلة اذن! لا أدري إن كانت الفطنة، الذكاء، الحماقة أو الاندفاع الداخلي أو جميع هذه الأشياء التي جعلتني أستطيع ارتكاب تلك المغامرة والخروج وبشكل نهائي إلى باريس. أنا الذي لم يعرف إلا قريته وبضع مدن عراقية بزيارة سريعة وبغداد ولم يدخل الحمّام في المدينة خوفاً من الإختناق بالبخار. كما كنتُ أعتقد حينها. في فرنسا عرفت التشرّد الحقيقي بكل معانيه… بل حتى عايشت لحظة أشهر أحدهم بندقيته نحوي طالباً مني الإبتعاد… كان الرعب في أعتى حالاته… أخبار فاضل العزاوي تصلني بشكل متقطع، أيضاً كان المنفى العراقي ككل مشوّها ومشوِّها بسبب الفِرقة السياسية أو الأدبية، وهي فِرقة ظالمة تجعل الأبيض أسود وبالعكس.
بعد أعوام قليلة وبرفقة الصديق حسين علي عجة الذي زارني في كولونيا، قررنا زيارة فاضل العزاوي ومؤيد الراوي ببرلين الشرقية. كانت سفرة شتوية ففيما الثلوج تهطل كنا نحاول أن نجد من يحملنا معه إلى برلين الغربية، على طريقة «الأوتوستوب» الشائعة حينها، ومنها أردنا التوجه إلى برلين الشرقية، من أجل موعد ومكان حُدّدا بشكل مسبق. لكن شرطة ألمانيا الشرقية منعتنا من الدخول، لم أكن تعرّفت بعد إلى فاضل العزاوي، وهكذا جاء مؤيد الراوي وفاضل العزاوي الى برلين الغربية، والتقينا في مطعم تركي، ربما اعتاد الاثنان قصده، فكلاهما كان يجيد التركية أيضاً، هكذا تعرّفت أخيراً إلى فاضل العزاوي وبالطبع إلى مؤيد الراوي، كان هذا ربما عام 1984.
لم تفتر همّة العزاوي الشعرية، أيضاً اتسعت دائرة اهتماماته من القصة إلى الرواية ثم الترجمة الشعرية والنثرية. لكن الدائرة ضيّقة والأصداء لم تكن تصل إلا بعد وقت طويل، حينها يكون قد نسي الصرخة. يلتقطُ في قصائده القضايا التي تمسُّ عصب المواطن الشرقي، ويحوّلها إلى عالم ساحر يفتن القارئ، بل قل يصعقُهُ. في عزلته البرلينية يحتسي بلا نهاية أقداحاً من الشاي ويدخن بلا توقف ويخلقُ عالماً غرائبياً، مثل بطل روايته الرائعة «آخر الملائكة» الشاب، أو ذاك الآخر بطل روايته «الأسفار» الذي يقلّبُ حنايا ذاك العراق ويقدّمهُ على شكل زجاجات ملأى بتراب الوطن وقد أضحى افتراضياً عبر الإنترنيت لمن ما زال يحنّ الى واقع الصبا أو يدّعي ذلك الحنين. كل هذا قبل أن تكشف الأحداث مآل حياتنا ومآل ذلك العراق وكأنهُ من صنع خيال فاضل العزاوي. فرغم وضعه الطغاة في متحف من أجل الفرجة في عالم مستقبلي، أضحى اليوم ويا للغرابة وكأنه من الماضي. لقد عرف فاضل أن أحلامنا، أو بالأحرى الكوابيس منها تتحقق حينما ننصت فعلاً إلى دواخلنا ونحن نتمشى ليلاً ونستعيد تلك الأغاني التي يؤديها العشّاق في أزقة كركوك بلغات عديدة، وكأننا نحن أصبحنا عشاقاً بدورنا وها نحن نستعيد ذلك العالم الذي بقي مطبوعاً في ذاكرتنا فقط. لا أدري من أين جاءت عادة المشي لفاضل العزاوي؟ المشي، التدخين، شرب الشاي، لساعات وربما حتى ساعات متأخرة ليلاً. هل هي الحيلة على الليل؟ أم هي ممارسة التيه لكي نتلقّف المعنى في الظلام؟ لم أكن أستطع مجاراة فاضل العزاوي وبالطبع آخرين ممن عرفتهم بشكل شخصي، أعني سركون بولص، مؤيد الراوي وصلاح فائق، دون أن أنسى تلك الممارسة الرياضية في كتابة الرسائل وسرد الأفكار لأنور الغساني والأب يوسف سعيد الذيْن لم ألتق بهما أبداً، حتى نبقى في مجموعة كركوك حصرا، المدينة التي لم ازرها إلا مرة واحدة خلال تلك الأيام.