* عالم الاقتصاد نجماً
أصبح توماس بيكيتي، عالم الاقتصاد الفرنسي، يلقّب بماركس العصر، بعد صدور كتابه: رأس المال في القرن الحادي والعشرين(1)
ما يحاوله المؤلّف في هذا الكتاب الضخم، هو الكشف عن مأزق الرأسمالية في ما يخصّ مبدأ توزيع الثروات، وعلاقته بقضية المساواة، وهي القضية المركزية في الكتاب والمحرّك الاصلي للمؤلف الذي انتهى به التحليل، بعد جمع كمّ هائل من المعلومات والبيانات، إلى أن المردود الخاص لرأس مال هو أعلى بكثير من المداخيل.
وهكذا يعدّ الكتاب بمثابة نقد للرأسمالية، دفاعاً عن ضحاياها من الأجراء وذوي المداخيل الدنيا. ولذا فإن آخر كلمة ترد في الصفحة الأخيرة من صفحات الكتاب التي تقارب الألف، هي كلمة “الفقراء”، هكذا من غير رتوش إيديولوجية أو شحن نضالي، كما هي تعابير البروليتاريا أو الطبقة الكادحة أو بائعي قوة عملهم.
لقد حوّل الكتاب مؤلّفه، بعد صدوره، قبل عامين، وربما من قبل أن يُقرأ ويستوعب محتواه، إلى نجم عالمي كنجوم الغناء والكرة. فزار غير بلد، واستقبله رؤساء وقادة، لكي يقفوا على رأيه في كيفية معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية.
كذلك زار بيكيتي الصين والتقى المسؤولين فيها، كما ألقى محاضرة في جامعة بكين وسط جمع طلابي حاشد. هذا مع أن الصين تحوّلت من النظام الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الرأسمالي، ولعلّها أرادت من وراء استقباله تلميع الصورة والتأكيد على وفائها لأصولها الاشتراكية. ولكن هذا لم يمنع بعض الطلاب من الغمز من قناة بيكيتي والتشكيك بمصداقيته كمدافع عن المساواة.
بانتظار بيكيتي
لا شك أن الكتاب تعرّض للنقد من جانب الأوساط الليبرالية، الذين شكّكوا بصحة بياناته ومصداقية تحليلاته، بقدر ما رأوا فيه محاولة لإحياء الماركسية. ولكنه تعرّض أيضاً للنقد من جانب الماركسيين الأصوليين الذين وجدوه يتعارض مع الماركسية كما فهموها ونشأوا عليها، ولم تنطلِ عليهم خدعة ماركس الجديد. ولكنّ بالرغم من هذا النقد، فإن الكتاب لقي أصداء واسعة في اوساط المثقفين اليساريين الذين هلّلوا لصدوره، بقدر ما كانوا يحتاجون، بعد انهيار النظام الاشتراكي وسقوط الاتحاد السوفييتي، إلى من يجدّد لهم ثقتهم بعقيدتهم الماركسية التي تحوّلت إلى ما يشبه الديانة الحديثة. ولهذا استُقبل بيكيتي في بعض اوساط اليسار وكأنه منقذ طال انتظاره. ولكن مثل هؤلاء كمثل من ينتظر غودو، لأن لبيكيتي مشروعه الخاص الذي لا يرمي إلى تجديد الشيوعية.
فهو كيساري، وكما يعترف في مقدمة كتابه، قد نشأ “مُطعَّماً” ضد معاداة الرأسمالية، ولم يشعر عند سقوط الاتحاد السوفييتي بأي تعاطف معه أو حنين إلى زمنه. من هنا سعيه في معالجة المشكلات الاقتصادية والمعيشية، إلى “المصالحة” بين مختلف المقاربات، وعلى نحو يتجاوز “ثنائية القطبين الرأسمالي والشيوعي”، التي تحكّمت في المعارك الإيديولوجية طوال عقود، والتي يعتبرها بيكيتي “ثنائية عقيمة أصبحت وراءنا”(2).
لا أعتقد أن نجومية بيكيتي تعود إلى تحليلاته وآرائه، بقدر ما تعود إلى عنوان الكتاب الذي يستلهم أو يستعيد كتاب ماركس الشهير رأس المال. وفيه نظّر الفيلسوف الكبير، الذي كان صاحب مشروع ايديولوجي/ سياسي لتغيير العالم، للنهاية الحتمية للرأسمالية بسبب تناقضاتها الذاتية البنيوية التي سوف تخلق، بحسب منطق ماركس الجدلي، المجال لولادة المجتمع الاشتراكي الذي يحقق الفردوس على الأرض. ولكن توقّعات الفلاسفة الحالمين بتغيير العالم، قلّما صدقت بدليل أن الماركسية كعقيدة ومشروع خلاص قد انهارت وبقيت الرأسمالية.
الماركسية والمعرفة
صدر الكتاب بنسخته العربية(3). وبهذه المناسبة أتى صاحب الكتاب إلى القاهرة، ثم إلى بيروت، فألقى محاضرة في كل منهما، كما أجرى لقاءات مع الصحافة.
ومن الطريف أن صاحب رأس المال الجديد، لم يُلقِ محاضراته لا في الجامعة المصرية ولا في الجامعة اللبنانية، بل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أو في الجامعة الأمريكية ببيروت (معهد عصام فارس).
وبالطبع لقد استقبل بيكيتّي بحفاوة، من جانب المعنيين من مثقفين واعلاميين، شدّهم عنوان الكتاب واتجاهه الفكري وسمعة مؤلفه العالمية، وكما حصل في جامعات أخرى، وربما من قبل أن يقرأوه بتمعّن، لكونه دراسة اقتصادية متخصّصة، مكتوبة بلغة من الصعب أن يتابعها القارئ العادي الذي لا يملك معرفة بعلم الاقتصاد ومصطلحاته وإشكالياته.
وفي هذا شاهد على أن ما يحرّك الناس، بمن فيهم المثقفون، ليس دوماً ارادة المعرفة أو لغة الفهم، بل الأهواء والشعارات. فهناك ماركسيون تعلّقوا بالماركسية تعلّق المتديّن بأقانيمه المقدّسة، فيما هم لم يقرأوا حرفاً من كتب ماركس.
من هنا طولب بيكيتي بوضع ملخّص لكتابه، بحيث يصبح بمتناول عموم القرّاء. وهذا ما طولب به مواطنه ونظيره في علم الاقتصاد جان تريول. فبعد أن نال هذا الأخير جائزة نوبل في الاقتصاد، لعام 2014، تحوّل إلى شخصية عامة، وصار كل من يلتقيه يطلب منه التخلي عن استخدام اللغة التقنية، الصعبة والمعقدة، لكي تتيسّر قراءة ما يكتبه للكافة. فكان كتابه “الاقتصاد والخير المشترك”. وفيه حاول تقديم شروحات مبسّطة لجعل الآليات الاقتصادية المعقدة معقولة ومفهومة من جانب القارئ غير المختص(4).
بيكيتي وماركس
إذا صحّ أن بيكيتي قد اعترف، في لقاءاته في القاهرة وبيروت، بأنه لم يقرأ كتاب رأس المال لماركس، أو لم يقرأه كله، نظراً لطابعه المغرق في التنظير الفلسفي أو التجريد النظري(5). فلهذا الأمر غير دلالة.
الأولى انه ولّى زمن الكتب المعقّدة المكتوبة بلغة تقنية عالية لا طاقة على متابعتها لأهل الاختصاص أنفسهم، سواء في علم الاقتصاد أو في سواه. ولهذا نجد الفلاسفة والعلماء يلجأون إلى تلخيص نظرياتهم وتحليلاتهم، في حوارات صحفية أو في مقالات تعرض الأفكار بصورة مفهومة من العموم، ولكن ليس على حساب الدقة العلمية. وهذا ما يحاول فعله بيكيتي في حواراته.
أما الدلالة الأهم لما قاله بيكيتي، حول علاقته بكتاب ماركس، فهي ما يفعله الخيال الايديولوجي، للمثقف أو للقارئ العادي، بالكتب التي هي مراجع ثقافية أو ايديولوجية، حديثة أو قديمة. إذ هي تخضع لتفسيرات وتوظيفات، تسهم في تغيير أو تحوير أو حتى مسخ محتوياتها، بقدر ما تصنع وتفبرك لأصحابها صوراً ونماذج تتعارض مع مشاريعهم ودعواتهم.
وهذا شأن الكتب والنصوص. فهي تتعدّى أصحابها بمفاعيلها وآثارها، سلباً عبر قراءات هشّة، كاريكاتورية، فقيرة؛ أو بالعكس، عبر قراءات خصبة وخلاقة، بنّاءة ومثمرة. والمثال على ذلك تقدّمه علاقة القرّاء ببيكيتي وعلاقته هو بماركس. فالكثيرون قد استقبلوه بوصفه حفيد ماركس أو سليله. ولا شكّ أن الرجل لعب على ماركس واستلهمه أو استثمره، على نحو أسهم في ولادة كتابه وفي صنع نجوميته.
ولكن هناك فارق كبير بين الاثنين من حيث الحجم والدور والأثر. إذ كان ماركس من أنبياء العالم الحديث، ونحن الآن ندخل في زمن نهاية الأنبياء والأبطال التاريخيين. وهذا ما أدركه العالم الفرنسي الذي أكد، في حواراته، بأنه عالم اقتصاد، وليس صاحب مشروع فلسفي لتغيير العالم، كما أكد بأن ما يقوله لا يشكل نظرية يقبض من خلالها على الحقيقة المطلقة كنظريات ماركس.
ويبدو أن نسبة بيكيتي إلى ماركس باتت تزعجه، بعد أن أفادته، مما جعله يتسرّع بقوله بأنه لم يقرأ ماركس، ثم عاد عن ذلك ليقول، بأنه لم يقرأه كاملاً. وعلى كل فإن قرن بيكيتي بماركس فيه ظلم لماركس وله، هو الذي، بحسب ما أكد في كتابه، لم يأتِ مباشرة من ماركس، وإن شكلت الماركسية احد مصادر تفكيره. وهذا ما جعل بعض رموز اليسار الأوروبي يشككون بنسبة بيكيتي الى ماركس أو بنسبة كتابه الى رأس المال(6). وأياً تكن النسبة بين ماركس وبيكيتي، فإنها تقدم مثالاً على يقوم به العقل الإيديولوجي من التحوير أو التزييف، في ما يخصّ كتب العلماء وأشخاصهم.
علم الاقتصاد ومأزقه
لقد أثار كتاب بيكيتي اهتمامي، منذ رأيته معروضاً في واجهة المكتبة الفرنسية في مدينة “لوند” بالسويد. وكان ذلك في صيف عام 2014، أي بعد شهور من صدور الكتاب، ولم أنتظر عودتي إلى باريس أو إلى بيروت، كي أحصل على نسخة منه.
وأعترف بأنني لم أقرأ من الكتاب إلا عشرات الصفحات، مقتصراً بذلك على قراءة المقدمة والخاتمة، وذلك حيث يعرض المؤلف منهجه ورؤيته والقضايا التي اشتغل عليها والمفاهيم التي صاغها والاشكاليات التي واجهها، فضلاً عن النتائج التي خلص إليها.
لا شكّ أن للكتاب مزاياه العديدة:
الأولى هي منهجه. فالمؤلف لم يقع في فخّ التبسيط، بل عالج المسائل بفكر مركّب، بتناولها على غير صعيد، اقتصادي وسياسي، اجتماعي وثقافي، تاريخي وراهن. من هنا نقده لعلماء الاقتصاد من وجهين: الأول أنهم ينطلقون من حقائق جاهزة ونظريات “مسبقة” أكثر مما يهتمون بتحليل “الوقائع” وقراءة المجريات. والثاني أنهم “يفتقرون إلى المعرفة التاريخية” بقدر ما يقيمون في أبراحهم النظرية وعوالمهم الرياضية. من هنا يحاول بيكيتي فتح علم الاقتصاد على بقية علوم الإنسان والاجتماع. ومن ملاحظاته الثاقبة في هذا الخصوص أن بعض الروائيين الكبار، كبلزاك، قدموا معارف ثمينة حول المجتمع البشري أكثر مما فعله بعض علماء الاجتماع.
كسر الحتميات
المزية الثانية هي أن العالم الفرنسي يقرّ بأن ما بناه من وجهات نظر أو قدمه من اقتراحات، لا يشكل، برأيه، أجوبة مكتملة أو نهائية، وإنما هي أفكار مطروحة للنقاش، في الفضاء الديموقراطي، للوصول إلى معالجات فعالة للمشكلات التي تثيرها ديناميكية رأس المال في تراكمه ونموّه غير المحدود. ومن هنا فإن الحكم الذي أطلق على الكتاب بوصفه، “أخطر كتاب في العالم(7) هو توظيف ايديولوجي يتعارض مع موقف بيكيتي الذي ينتقد ادعاءات علماء الاقتصاد.
والملاحظ أن بيكيتي الذي سرى إليه وهم المثقف النبوي، على غرار ماركس، عاد وفرمل اندفاعه النرجسي. وصار أكثر تواضعاً وأكثر تعقّلاً في ما يطلقه من آراء. وهكذا فالمؤلف لا يثق بالمقاربات الحتمية في المسائل الاقتصادية، بل يعتبر أن ما يحدث مفتوح على الاحتمالات المتعارضة. وهذا ما أكده في لقاءاته العربية، حيث قال بأنه لا يأخذ بادعاء الذين يعرفون مسبقاً ما سوف يحدث أو ما لن يحدث. من هنا معارضته لماركس في رؤيته الحتمية لنهاية الرأسمالية.
ومع ذلك فإن أطروحة بيكيتي هي ماركسية من حيث تأكيدها على أن البنية العميقة لرأس المال لم تتغير كثيراً لجهة علاقتها بمبدأ المساواة، من القرن الثامن عشر حتى القرن الحادي والعشرين، وكما تلخصها المعادلة التي يكررها على امتداد الكتاب: تزايد رأس المال هو اسرع بكثير تزايد الاجور.
عدّة قديمة
ما قرأته من كتاب بيكيتي، وما تابعته من أقواله في الصحف اللبنانية والعربية، أوحى لي ببعض الملاحظات على عنوانه ومضمونه.
1- بدا لي أن الكتاب يصدر، في عنوانه، عن ادعاء كبير. فلا أعتقد أن بإمكان أي دارس أو محلّل أن ينظّر لمسألة أو لحقل أو لنشاط بشري على مدى قرن كامل، في هذا الزمن المتقلّب بمعطياته والمتسارع بتحوّلاته. ربما كان الأوْلى أن يعنون الكتاب: رأس المال في العصر الرقمي، قياساً على كتاب ماركس الذي تناول رأس المال في العصر الصناعي.
2- اشتغل بيكيتي بنفس العدّة الفكرية التي اشتغل بها ماركس، كالمردود والريع أو الاسعار والاجور أو النمو والانتاج أو السلعة والقيمة، ولكن من غير تجديد أو تطوير: من هنا اعترف بيكيتي بأنه لم يولِّ “الأطر النظرية” لتحليلاته ما تستحقه من الاهتمام، واعداً بسدّ هذه الثغرة لاحقاً. وهذا ما حاول أن يفعله في لقاءاته مع وسائل الإعلام كتأكيده على الحاجة إلى “بناء نماذج جديدة”.
3- لم يأخذ بيكيتي بعين الاعتبار التحوّلات البنيوية والجذرية التي طرأت على المجتمعات البشرية على غير صعيد بعد الدخول في العصر الرقمي، والتي تغيّرت معها مفاهيم الملكية وتغيّرت انماط الإنتاج وأساليب الاستهلاك، بقدر ما تغيّرت قيم الأشياء والاعمال والعلاقات الاجتماعية والانشطة الاقتصادية.
باختصار مع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة والاتمتة والروبطة تتغير كل مفردات الوجود. ولذا ما عاد مجدياً تناول الوقائع بعدة ماركس واقتصاديي العصر الصناعي الآفل أو الحداثة الفائتة
كتاب أوسع من أطروحته
أخلص من ذلك، إلى ما يمكن أن يتركه الكتاب من الاثر الايجابي، الفعال والبناء، في ما يتعلق بفهم المشكلات الاقتصادية عامة، أو في ما يتعلق بالدفاع عن مبدأ المساواة، بصفة خاصة.
والكتاب، هو كأي عمل فكري أغنى من أطروحته القائلة بأن معدل تزايد رأس المال هو أعلى بكثير من تزايد الاجور. فلا أعتقد أن الوصول إلى مثل هذه المعادلة يحتاج إلى أن نجمع المعطيات الاقتصادية، التي تكوّنت طوال قرون ثلاثة، للاشتغال عليها بالدرس والتحليل أو بالتأليف والتركيب. فالمجتمعات البشرية لا تكفّ عن إنتاج التفاوت. بل إن التفاوت والتنافس هما محرك للنمو، ومن غير ذلك يسيطر الركود، كما شهدت تجارب المجتمعات في الأنظمة الاشتراكية.
من هنا فأنا لا أتعامل مع الكتاب كما يقدم نفسه. فخطاب بيكيتي هو خطاب ملتبس يمكن أن يُقرأ قراءات متعارضة. ومن التبسيط تصنيفه في هذه المدرسة أو تلك.
ففيه من الادعاء قدر ما فيه من التواضع، وفيه من الجهد المعرفي بقدر ما فيه من التهويم النضالي، وفيه من التجديد الفكري، بقدر ما فيه من التقليد المدرسي. فهو أتى من ماركس ولكنه خرج عليه. وذلك هو مسوّغ تأليف الكتاب: أن يختلف عن ماركس، لا أن يكون مجرّد نسخة عنه. من هنا دعوته لبناء “نماذج جديدة” تتجاوز صراع الشيوعية والرأسمالية، سيّما وأننا ندخل في زمن اختلطت فيه الاوراق بين اليمين واليسار، وكما يجري بشكل خاص في بلده فرنسا، حيث المعسكران، اليمين واليسار، عاجزان عن تجديد النموذج الاقتصادي والمعيشي.
وما أراه في هذا الخصوص، أن الكتاب يحقق الغاية من تأليفه، إذا نجح في خلق مجاله التداولي، سواء على مستوى بلد أو مجموعة دول، أو على المستوى العالمي، وذلك بإثارته، عبر مختصراته وشروحاته، المناقشات حوله في الفضاء العمومي على غير محور.
التبادل المعرفي
الأول: على صعيد المواطن، أي الفرد العادي الذي لا ينتمي إلى فرع معرفي. والفرد هو “فاعل” اجتماعي، كما يقال اليوم في العلوم الاجتماعية، شأنه شأن العالم، سواء على وجه السلب أو على وجه الايجاب.
ايجاباً إذا كان الفرد منتجاً في مجاله مشاركاً في بناء مجتمعه، سواء عبر انتاجه، أو عبر مشاركته في المناقشات العمومية والمداولات الديموقراطية. ولكن يمكن للفرد أن يمارس دوراً سلبياً. هذا شأن العاطل عن العمل، إنه يؤثر سلباً بصورة مضاعفة، كما هو شأن الجاهل الذي لا يحسن تدبير شؤونه في ما يخصّ نشاطه الاقتصادي أو خياراته السياسية. وهذا أيضاً شأن العالم أو الفيلسوف كفاعل اجتماعي، قد يفعل سلباً إذا غلب الاعتبارات الإيديولوجية على المشاغل المعرفية، وبالعكس.
من هنا الفائدة الجلّى من انفتاح علماء الاقتصاد على المواطن على النحو الذي يسهم في نشر الثقافة الاقتصادية، بتقديم شروحات مبسّطة تجعل النظريات الاقتصادية المعقّدة قريبة من أذهان العموم من الناس.
ثمة فائدة أخرى للانفتاح على الفاعلين في بقيّة القطاعات، هو تبادل الخبرات معهم. وإذا كان العلماء يفيدون المجتمع باستخدام ادواتهم النظرية ومناهجهم العلمية في تشخيص المشكلات، فللناس في المقابل خبراتهم التي يمكن أن يفيد منها العلماء في صوغ نظرياتهم. والمثال أنه بعد وفاة مارجريت تاتشر (1979-1991)، ابنة البقال التي تسلّمت رئاسة الحكومة البريطانية، والتي قادت بلدها بنجاح في المجال الاقتصادي، قال أحد الخبراء الاقتصاديين إن تاتشر لم تكن خريجة معهد اقتصادي، ولا هي منظرة لليبرالية الجديدة، وإنما أدارت الأمور بالطريقة التي كان والدها يدير فيها دكانه.
مقاربة مركّبة
2- لجهة العلاقة مع بقية فروع المعرفة. فالنشاط الاقتصادي، وكما يلاحظ ذلك بيكيتي، لا ينفصل عن بقية أنشطة الإنسان ومشاغله وهمومه. لأن الفرد من الناس لا يفكر دوماً وفقاً للمعادلات الرياضية والنظريات الاقتصادية، بل تتحكّم في تصرّفه وخياراته، عوامل عديدة، منها العقلاني واللاعقلاني، المصلحي والعاطفي، السياسي والثقافي…
وهكذا، فالعوامل العديدة والملتبسة التي تتدخل، في تصرّفات الفرد وقراراته، تقتضي اللجوء إلى مقاربات مركّبة، متعددة المداخل والاختصاصات. من هنا تأتي أهمية طرح النظريات العلمية الاقتصادية على بقية العاملين في فروع المعرفة من مؤرخين وفلاسفة وعلماء اجتماع أو نفس أو سياسة أو ثقافة.
3- على صعيد العلاقة برجال الدولة. فعلى عاتق هؤلاء تقع مسؤولية ترجمة الأفكار إلى إجراءات تسهم في حل المشكلات أو في رفع مستوى الحياة، لدى العموم من الناس. وإذا كان العلماء والفلاسفة يبدعون في صوغ النظريات واجتراح المناهج أو ابتكار النماذج، فالسياسي الناجح، الذي يدير الشؤون بصورة فعالة وبنّاءة، هو الذي يبدع في تحويل الأفكار من مستواها النظري أو التجريدي، إلى إجراءات وتدابير عملية في هذا الحقل أو ذاك.
4- والاساس في ذلك أن النظريات التي ينتجها العلماء والفلاسفة ليست حقائق ثابتة لا تحتاج إلا إلى التطبيق، وإنما هي اقتراحات تحتاج عند من يتبنّاها أو يتداولها، أو حتى عند من يطلقها، إلى تحويل خلاّق، بحيث تتغيّر الفكرة أو تخضع للتعديل والتطوير، بقدر ما تسهم في تغيير الواقع، أو في تغيير عقول الناس.
في ضوء هذه الايضاحات، بالوسع القول إن الحلول للازمات الاقتصادية والمعيشية، لا يصنعها علماء الاقتصاد أو الساسة وحدهم، بل جميع الفاعلين الاجتماعيين على اختلاف قطاعاتهم وحقول عملهم ودوائر تأثيرهم.
بذلك، لا تعود إدارة الشأن الاقتصادي، وكما يخشى بيكيتي، أسيرة التهويمات النضالية للنخب الثقافية، ولا رهينة لجمهورية الخبراء، أو لعجز جماهير الفقراء، بل تتحول إلى ورشة حيّة من التفكير الخلاّق والعمل البنّاء، بقدر ما تشكل في الوقت نفسه فضاء للمناقشات الحرّة والديمقراطية في الفضاء العمومي. بالطبع من أجل “الخير المشترك”، وكما يأمل جان تريول.
ومع ذلك، لا يجدر أن نثق ثقة مفرطة بالإنسان، لأن المساواة التامة حلم محال تحقيقه. فالمجتمعات البشرية لا تكف عن إنتاج التفاوت والتهميش أو الإقصاء والتمييز. والبشر يعلنون بأنهم مع المساواة والعدالة والحقيقة، ولكن ما يسعون إليه هو الاستئثار والفرادة والسبق والتميّز…
وبيكيتي يقدم لنا المثال. فهو كداعية مساواة، إنما يمارس نجوميته كعالم كبير، بانتقاله من بلد إلى بلد ومن محاضرة إلى أخرى ومن لقاء فكري إلى سواه. فأين منه فقراء العالم المغمورون، هو الذي يشهد ازدهاره الوجودي معرفة وثروة وشهرة وحضوراً وسط المشهد الفكري العالمي. وتلك هي إشكالية الدعاة والمُصلِحين من الفلاسفة والعلماء. إنهم يدعون إلى أمر هم لا يُحسنون سوى انتهاكه في حياتهم المهنية وأنشطتهم العامّة.
من هنا فالحقوق والحريات ليست مكتسبات نهائية، بل يمكن أن تتراجع، كما تراجعت الأحوال في فرنسا، عما كانت عليه، أيام العقود الثلاثة المجيدة؛ مما يجعلها تحتاج على الدوام إلى التعزيز والتطوير والتفعيل، بابتكار الجديد من المساحات والدوائر أو الأطر والقواعد.
الهوامش
1 راجع الطبعة الفرنسية، توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الواحد والعشرين، دار سوي، 2013.
2 آراء بيكيتي مستقاة من مقدمة الكتاب وخاتمته.
3 صدر عن دار التنوير، بقلم المترجمين وائل جمال وسلمى حسين، 2016.
4 راجع الحوار الذي أجرته معه في هذا الخصوص، كورين لهاييك (Corinne Lhaïk ) تحت عنوان: كلنا في المأزق منذ زمن طويل. نشر الحوار في مجلة الأكسبرس، عدد 2383، بتاريخ 4/5/2016
5 من الملاحظ ارتباك بيكيتي، فيما يخص علاقته بكتاب رأس المال، حيث ترجح موقفه بين التردد والتناقض، بين قوله بأنه “لم يقرأ ماركس جيداً “، وبين قوله أنه ” قرأ إنتاجه “، ولكن كتابه أسهل من كتاب ماركس. راجع بهذا الخصوص مقالة محمود عاطف، جريدة “العربي الجديد”، 5 حزيران 2016؛ راجع كذلك الحوار الذي أجراه مع بيكيتي كريم طرابلسي ورشا أبو زكي، أيضاً في جريدة “العربي الجديد”، 7 حزيران 2016.
6 هذا ما يذهب إليه عالم الاقتصاد اليوناني يانيس فاروفاكسي، كما نقل رأيه ناصر الأمين، في جريدة “الأخبار” اللبنانية، 2 حزيران 2016.
7 هكذا عرف بالكتاب، كما جاء في الحوار الذي أجري مع بيكيتي على صفحات جريدة “العربي الجديد”، المصدر السابق.
علي حرب