في الطريق الى مسقط
أمي عن يميني، ذاهبة للعلاج متشبثة بأمل الشفاء من ألم مؤذ يضاعف أوجاعها المتعددة التي ما برحت تداهمها منذ سنوات حتى أصبح المشي عندها محسوبا بالخطوات .
شجرة في الطريق تلفت انتباهها. ظنت بأنها شجرة كيذا، دفعني اسم الشجرة لأذكرها ببيتنا القديم في ضواحي النخل حيث جاراتها العزيزات عليها اللواتي تخطفهن الموت واحدة تلو الأخرى. وأذكرها وأنا أبتسم بكيذا جارتها مريم الأقرب الى قلبها حيث كان في بستانهم شجرة كيذا ضخمة تطل على طريق عريض بمقاسات تلك الأيام. ترد علي وهي تلف رأسها باتجاه النافذة اليمنى : راحت الشجرة كما راحت راعيتها.
أواصل حديثي وقد خفضت سرعة السيارة : كأنني أشاهدها أمامي الآن وهي آتية اليك بحزمة من ذلك الكيذا العبق الذي تملأ رائحته السكة التي تسير عليها بين العصر والمغرب ودائما ما تكون ابنتها الجميلة متزينة بزهرة منها عند كتفها الأيمن ليجتمعن مع باقي الجارات في الساحة الصغيرة بين باب بيتنا وعريش جدتي التي لم تكن تكف عن دعاباتها معهن .
أواصل حديثي وبصري الى الأمام يناظر الشارع الملتوي وقد تباطأت السرعة أكثر: هل تذكرين يا أمي حليب الزعتر الذي كنت أحبه من صنعها ولا أستسيغه من غيرها ؟ .. كانت تأتي به الينا في وقت الضحى وحينما علمت بأنني لا أحب حليبا غيره أخذت تأتي به وخيوط الشمس لا تزال تتلمس طريقا لها بين أوراق الشجر وسعفات النخل وأحيانا قبلها دون أجر ودون أن تشعرنا سوى بالبهجة والفرح وكأن ذاك الطفل الذي كنته وترهق نفسها لأجله أنجبته من بطنها.
وفجأة !
يا للهول ماذا كنت أفعل ؟!
يكتمني نحيب أمي .
يا لسوء تقديري..
لقد كنت أدمي جراحها دون قصد مني ولا انتباه..
اية حماقة ارتكبت؟!
كيف أسرد هذا الجمال في ذاكرتي وهي المكلومة بفقدهن وتكاد تعيش غربة دونهن منذ أكثر من ربع قرن ؟!.
محطة الوقود تنقذني من التوتر والحرج.
أقف !.
أدلف الى أماكن الوضوء في المسجد المجاور والخالية من الناس أغسل دموعا جرت بيد انني عند أول رشة ماء حملها كفي الى وجهي كانت رائحة الكيذا تعطر أنفاسي ثم غدوت أنتحب دون شعور ربما أكثر من انتحاب أمي .