عرضت الفنانة التشكيلية السورية رانيا المُدرّس مجموعة جديدة من أعمالها في بيروت ـ الحمراء ، في صالة «ارثر سلكت». قدمت ثمرة جديدة من ألوانها وخطوطها لتقول ما يجيش في داخلها ، وما يتفاعل في ذاتها ، وكانت الوجوه التي رسمتها في هذا المعرض هي المدخل إلى مناخ لحظة أخرى تدخلها الفنانة بخطى هادئة.
إشراقات باهرة عكستها لوحة الفنانة ، حيث قدمت أشكالاً من الوجوه والأطراف، لتدلّ أكثر، وبوضح على مكانة الإنسان في مساحة الحياة التي عاشتها وراقبتها وتفاعلت معها . فوجه المرأة الحاضر في اللوحة كان بمثابة الدلالة الواضحة والقادرة على توظيف الشكل لصالح المعنى وخدمتة بما يضمن هذه الخصوصية المنبثقة من وعي جمالي ، وقلق إبداعي خلاّق.
أما الألوان التي انطلقت منها لتقول ما يعتمل في داخلها، فكانت مفتوحة ومقفلة ضمن سياق تناغمي أعطى للشكل خصوصية حققت المزيد من التناغم في البناء الهندسي للوحة ومعناها الأوسع.
التقيت بالفنانة أثناء افتتاح معرضها ، وقالت الكثير عن أعمالها ودلالاتها ومصادرها وتأثراتها ، وتوقّفت عند أهم المحطات التي أثرت بحياتها الإبداعية.وكان لكلامها الكثير من التفاصيل التي حافظت على مصدر الشعور والإحساس الذي انطلقت منه وما زالت تنطلق في المدى الإبداعي الأرحب.
لوحة رانيا محكمة بدلالاتها وإشاراتها،وتفي بغرض معناها من الضربة الأولى التي تنتجها ريشتها،لوحة ممكنة ومتمكّنة من الفعل والتعبير بما يضمن الوعي في المساحة الواسعة.
تعتبر رانيا نفسها فنانة وليدة ذاتها ونتاجا طبيعيا لولادة مفاعيل الحياة التي تواجهت معها، وهي فنانة خاصة، حسب قولها، وتتحاشى ذكر اسم والدها الفنان التشكيلي الراحل فاتح المدرس في كل ما يتعلّق بأعمالها الإبداعية، وتفصح بالقول: «صحيح أنني ابنة الفنان الشهير فاتح المدرّس الذي شكّل مدرسة فنية تشكيلية ، ولا شك أن دخولي إلى عالم الفن التشكيلي له أساس ساهم فيه والدي ، ولكن هذا التأثير يبقى ضمن إطار توجهات الأهل نحو الأبناء ومستقبلهم . أما الناحية الأساسية والتي اعتبرها هي الأساس في تشكيل الوعي الفني الذي عرفته ، فإنني أقول إن ولوجي إلى لوحتي التي انطبعت بشخصيتي هي وليدة أو نتيجة خاصة في ذاتي وبعيدة كل البعد عن تأثري بأعمال والدي ، وأنا لا أذكر اسم والدي ضمن سياق أعمالي الفنية كي لا ألفت الانتباه لكل من يعرف أهمية أعمال الفنان الراحل فاتح المدرس الذي هو والدي وتالياً ، أحاول النأي إلى شخصيتي التي تعكس حضوري الخاص البعيد كل البعد عن التأثر بالوالد . يعني يهمّني أن يُقال هذه لوحة الفنانة وليس لوحة الفنانة ابنة الفنان» . وتستدرك رانيا وتقول : « أخذت من والدي روحية الفنان واتجهت إلى شعوري الدفين ، وكانت اللوحة الخاصة هي النتاج الخاص لي».
بدأت الفنانة مسيرتها الفنية منذ نشأتها وقبل وأثناء وبعد دراستها ، وكانت بداية مشوبة بالخوف والقلق ، كشأن أي فنان يُلامس الحياة في بداية وعيه . فقد ترعرعت في بيت فنان عُرف بإبداعاته وحضوره الفني الواسع في سوريا وخارجها ، وكان المرسم أو المحترف الذي أنشأه الفنان (والدها) في سوريا هو الصورة التي ساهمت بالإضاءة على مسيرتها ، وتقول رانيا : «كانت أعمال ونشاطات والدي هي المُحفّز والمحرّض على دخولي الى العمل الإبداعي ، ولكن بقي هذا الدافع وهذا المحرّض ضمن سياقه الطبيعي وليس ضمن السياق الذي يمكن القول أنه تأثّري أو تقليد لهذا الفن الذي أسّسه والدي».
دراستها وإقامتها لفترة زمنية في باريس، وتجوالها في الحياة والعالم ، زواجها وإنجابها وقلق الحياة واللحظات المتنوعة التي خاضت غمارها على مدار حياتها وعمرها ، كلّها ساهمت في تأصيل لوحتها وبناء مدماكها ، والأهم ، تلك الخصوصية التي انبثقت في أعمالها ، كانت هي اللغة التي عبّرت بها جلياً . وحين واجهتها بسؤال الوعي الفني الذي تشكّل في حياتها ، وكيف استطاعت النأي وسط هذه الخصوصية دون أن تسقط في التشابه مع الآخر وخصوصاً في مجال هذا اللون الفني الذي خصّت نفسها به، قالت الفنانة : « أنا أرسم ذاتي وما يجول فيها ، أرسم ما يجيش في خيالي وواقعي ، وكل ما أراه وكل ما أشعر به وكل ما أحسّه هو يشبهني، وكل إنسان له خصوصية في الحضور وخصوصية في الشكل لا يمكن أن تتشابه إلا بالإسم والطرح العام فقط، وهذا أمر وحال لوحتي ومعنى لوحتي وخصوصية لوحتي في الحياة التي عشتها وعايشتها . لا يمكن لي أن أكون إلا شبيهة ذاتي فقط ، وحين أرسم أجد نفسي أمام مرآة حياتي ، فأركن إلى نفسي وأترجمها بخطوطي وألواني». وتضيف الفنانة بالقول وتشرح : « إن اللوحة التي اختارتني إلى إطارها هي لوحتي الداخلية ، لوحة حياتي وعمري ، فأنا أرسم وألوّن الحياة ، وقد اخترت الطريق التي قادتني إلى ترجمة هذه الأحاسيس وفق أصول كانت دفينة في أعماقي . لقد تأثرت بنفسي وبأحاسيسها ونشاطها على مسرح الحياة . كل لحظة عشتها كانت حافزي للتعبير والقول والفعل ، كانت اللوحة هي المكان الأخير الذي وجدت نفسي مرتاحة داخله» .
سؤال الرسم ولماذا يرسم الفنان يبدو عادياً وهو سؤال تقليدي ومُكرر ويسمعه الفنان دائماً، لكن الفنانة رانيا المدرس تتوقف كثيراً عند هذا السؤال وتعتبره السؤال الضروري ، وقد يكون جواب الفنان عليه هو الأساس الذي يمكن التأسيس عليه . ولأنها أصرّت على هذا السؤال وأهميته انتظرت منها الجواب الذي قالت فيه : « أنا أرسم كي أرى نفسي جيداً ، كي أحدّق بالتفاصيل التي لا أراها بسهولة خارج السياق العام للحياة . اللوحة بالنسبة لي هي المرآة الصافية التي تعكس أدق التفاصيل في حياة الإنسان ، وهي أيضاً اللغة التي يمكن القول من خلالها الكثير من الأمور والأفعال والأحوال . لوحتي هي أغنيتي وصوتي وظلالي ، هي حضوري وهي غيابي ، وكي أجد كل ما هو غائب عني أستنجد باللوحة كي أستحضر كل هذا وكل هذا الصمت الذي نظنه سكوناً فقط. انه سكون على وجه الحياة ، ولكن هناك الكثير مما يجول ويتجوّل في الأعماق وبين تفاصيل الأشياء الراكدة في أعمق ما يمكن ان نتوقعه ونحسه ونشعر به. الرسم بالنسبة لي هو الطّاعة ، طاعة الروح وتلبية لنداء الذات التي لا تتأخر عن الحضور في مساحة الجمال . أنا أرسم كي أقول، حياتي وردة مُشرقة ، وأغنية يمكن إنشادها بالشكل واللون والمعنى المستتر، كما يمكن المجاهرة بلحنها وفق أصول اللون المتفجّر أو اللون الهادئ ، الصامت ، وربما اللون الخفي الذي يتحرك تحت سيطرة الروح دون أن نحدد ملامحه .»
في معرضها قدمت الفنانة رانيا المدرس مجموعة لوحات وأغلبها تستحضر الوجوه ، والأطراف والأشكال التي يتحرك من خلالها الإنسان ، وتميزت هذه اللوحات بإشراقة لونية ، كأن إضاءةً ما أرادتها الفنانة لتدل وتكشف كوامن خاصة لا يراها إلا من أراد أن يرى ما يخصّه. وتقول رانيا عن هذه الإشراقة انها نابعة من الأمل الذي تعيشه وتتعامل معه في الحياة : « أنا بطبعي إنسانة تتحرك في مباهج الحياة ، وترى الوجوه النّيرة والمُشعّة، وجوه الحياة ، بالنسبة لي دائماً مُشرقة. إن هذه الإشراقة هي من الأسس التي أتحرك داخلها في حياتي . أنا أنسانة متفائلة دائماً ، وهذه الإشراقة هي جزء من هذا الأمل».
وسألتها اذا كانت رانيا المدرس فنانة فرحة دائماً فقالت: «نعم أنا فنانة انطلقت من الفرح إلى المساحات الكثيرة . هذا الفرح ليس بالمعنى المُتعارف عليه بقدر ما هو فرح مبني على وعي جمالي وقدرة في بناء المشهد الذي يعطي للنفس كل ما تحتاجه من أمل وسعادة . نعم أنا إنسانة تنطلق في المدى الرحب لتقول الكثير من الأمل ، والأمل هو جزء كبير من الفرح والسعادة ، وأشكر اللون الذي يؤسس للوحتي لأنه أعطاني الحرية الكاملة للوصول الى هذه السعادة الكبيرة . اللوحة التي أرسمها أو ترسمني هي مناخ حياة يعتمد على إشراقة الربيع وبهجة باقي الفصول، وأغلب هذه الفصول هي فصول البهجة والإنشراح والمعنى الرشيق الذي يفتح شهية النفس على الحياة وعلى الجمال».
قدمت رانيا معرضها في مدينة بيروت وهي سعيدة بهذه المناسبة في عاصمة الثقافة اللبنانية والعربية والعالمية، وتنظر إلى بيروت نظرة عارمة وتعتبر أن «اللوحة في بيروت تكفي للوصول الى أعماق الروح». لكنها لا تنسى بلدها موطنها الأول سوريا وتنظر إلى اليوم الذي يجعلها تعرض في سوريا: «فظروف الوضع في بلادي اليوم لا تسمح لي بالعرض ، والحرب القائمة فيها تجعلني أعيش في متاهة وعذاب ، ولكن لا بد أن يأتي اليوم الذي تهدأ فيه الأمور وتخرج لوحاتي إلى مساحة بلادي وتعانق أبصار كل حاضر ومقيم فيه».
تحدثت رانيا عن فنّها ولوحتها وحياتها ، وفي كل كلمة كانت تشعرني بالهدوء الكبير في ذاتها ، وقد شكّل لي هذا الهدوء حافزاً كبيراً لسؤالها عن مصدر هذا الهدوء؟ فقالت: « كما أسلفت لك أنا أُترجم ذاتي في لوحتي ، وهذا الهدوء هو ظاهري وربما جوانيّ ولكن ، ليس كما هو في الظاهر فقط . أنا إنسانة تضج بالصمت وليست امرأة تمتهن الصمت . ربما يكون هذا الهدوء هو لغة أخرى تنبعث من ظنوني لتقول للآخر ما يريد أن يعرفه داخل لوحتي. المهم هو أنني إنسانة تخزن في داخلها عالم الضجيج الذي يُهندس اللحظة ويجعلها في مساحة الإنقشاع والرؤية».
يستمر معرض الفنانة لمدة شهر في بيروت من تاريخ افتتاحه ، وهي سعيدة جداً بهذا الحضور لفنها في بيروت وعلى مدار هذا الوقت التي تعتبره من أثمن الأوقات لها ولفنّها : « أن تتنفس لوحاتي وسط مدينة بيروت كل هذا الوقت فهذا أمر هام ويضعني في مرتبة إبداعية مميزة لن أنساها أبداً».
حوار: إسماعيل فقيه
شاعر من لبنان