عليّ أن أنتزعَ عباءةَ أمّي من فم الشمس، وأجلبها من حبل الغسيل المشدود. أطلّ برأسي من السطح، أرقب منازل جيراننا الذين لا نعرفهم جيداً، في رمضان فقط يطرق بابنا ابن (أمّ عيد)، في يده طبق الجريش، يسلّمه للخادمة ويفرّ مسرعاً للعب في الساحة الترابية مع أقرانه قبل الغروب. وددتُ لو مددتُ يدي التي تلفّها خطوط العَرق وصافحت البنتَ ذاتَ الشعر البنيّ في منزل (بوسند)، ودعوتها إلى زيارتنا لنبدد شيئاً من السأم الصيفي الممتد طوال العطلة. سرب حمام يطيّره ابن الجيران، يحلّق عابراً أمنياتي الصغيرة.
الجيران يسمّونه «بيت الحريم»، وأحياناً «بيت أم ناصر»، لكونهم لم يشاهدوا بوناصر منذ أكثر من خمسة أعوام، بعضهم يتذكر إطلالته الصباحيةَ الأنيقةَ بزيّ موظفي الجمارك وطوله الفارع ونظارته السوداء، التي غالباً ما تخفي نَظَرَات كالزجاج المهشّم. كان يتجنب إلقاء التحية على المارة وهو ينطلق للعمل متأخراً، فيه قدْر من التعالي غير المبرر، فهو من أسرة غير معروفة، ووضعه المادي غير مختلف عمّن حوله، كما يبدو لهم.
لا أحدَ يعلم حقيقة الإشاعات المتناثرة حول سور «بيت الحريم»، والتي منها أن بوناصر مسجون على ذمة قضايا مالية، والإشاعة الأقل تداولاً أنه طلّق أم ناصر، وتزوج بسيدة معروفة تنشر الصحف صور افتتاحها المعارض، ويسكن معها إحدى المناطق النموذجية. ومما زاد في غموض الأمر أن أم ناصر المتحفظة والمنغلقة لم تكن لتفسح للجارات المتباعدات مجالاً للزيارة أو المحادثات الجانبية، كانت تحافظ على المسافات كي لا تخون سرّها، بابها موصد، وسورها بعلوّ إضافي، ونوافذها عاكسة للضوء، ترتّب وتطوي الكلامَ حتى مع أقاربها، بحيث تتجنّب ذكر زوجها لحساسية الموضوع وتفاصيله المحرجة.
نهار كل جمعة نخرج أنا وشقيقاتي مع أمي قبل صلاة الجمعة لنعود بعد صلاة العصر، في تتابع أسبوعي لم يطرأ عليه تبديل منذ خمس سنوات، أي منذ كنت في الصف الثاني.
الطريق يستغرق أقل من نصف ساعة، لأن الشوارع شبه خالية والحركة هادئة نهار الجمعة، نجتاز ثلاث إشارات مرورية في طريقنا قبل أن نصل لدوار العظام.
أجلس قرب النافذة محدّقة في المباني على جانبَي الطريق ويدي اليمنى على صدغي، أحاول زجّ رأسي في المنتصف كي يصلني هواء التكييف.
كل جمعة ما إن يقترب موعد مشوارنا حتى ينتابَ أمي قلقٌ خفيفٌ، الرحلة متعبة لها تجعلها أقرب للصمت. ألمحها تتفرّس في وجوهنا عبْر المرآة الأمامية، تطرح علينا بعض الأسئلة المقتضبة، إن لم تكن تستمع لشريط مطربها المفضل.
سؤال واشٍ بألمها يرتطم على زجاج النافذة الأمامي، رغم كلمات المطرب المنسابة بعذوبة عن «المعازيم» واللقاء القدَري المبهج.
تنظر إليهن.. من أكثرُهنّ شبهاً بوالدها؟ ما يقلق أمَّ ناصر أكثر من الحاضرِ المعتادِ التفكيرُ في مستقبل البنات، ماذا لو طرق الباب خاطبٌ، كيف ستتعامل مع الموقف الفجائعي حينها؟ من يؤكد أو ينفي سطوة الوراثة عليهن؟
نصف ساعة من السقوط في فخ الظنون السوداء كل جمعة، وفي النهاية عند الإشارة الضوئية الأخيرة تواسي نفسها بأيّ حكمة تسعفها بها الذاكرة المرهقة، ولو كان حظّها طيباً وسقط المطر أثناء رحلة نصف الساعة تنتعش روحها المكبّلة بالقلق. تتأكد من لفّ غطاء رأسها، وهي تردد «يوم أقبلت صوّتْ لها جرحي القديم»، وهي واثقة من أنه ليس هناك من يطير نحوها بصحبة شوقه والنسيم.
هو أبي بعينيه الذابلتين ووجهه الأصفر وصمته البارد، لكني لا أعرفه جيداً! نلتقي أسبوعياً كعائلة في مكان لا يتغيّر، أحياناً نصادف عمّتي عنده.
يغمرنا صمتٌ غريبٌ، وتتبادل أمي مع الجميع عبارات لا تحمل أي جديد. أحدّق في زوايا الغرفة، بينما يتخلل الهواءَ المحبوسَ بيننا صوتُ الراديو الذي يمسك به أبي طوال الوقت، أذرع الممر ربما ألمح فتاة ألعب معها في هذا المكان الكئيب، دون أن تنهرني أمي.
غير مسموح لنا الحديث عن مشوار الجمعة للآخرين، أبي عاجز عن شراء الهدايا، لا يستطيع حضور اجتماعات المدرسة، لا يوبخنا إن أخطأنا، ولا يملك سريراً في منزلنا، بودّي لو استطعت مساعدته بأي طريقة ليخرج ويعود معنا، أمي دائماً تردد أن تفوّقنا سيسعده حتى لو كان بعيداً!
تجتاز أم ناصر البوابة الحديدية بسيارتها، المكان القديم المحايد يستقبل الزوار بفتور، يترجّلن من السيارة، يمشين في سرب صغير، يحملن مناديل الحنان ليقدمنها للأب في لقائهن به هذا الأسبوع، ما إن تلامس أقدامهن بلاط الممرات الطويلة حتى يشع بياض جدران الغرفة (37) في مستشفى الطب النفسي، يطرقن الباب برقّة، تهتز علب الليثيوم في غرف الممرضات، في الداخل ثمة رجل يسعل، ولا يتواصل مع من حوله، ونظراته كالزجاج المهشم.
باسمة العنزي
قاصة من الكويت