كان عليه اذا ما وصل مكان مدفنه كل خميس ، معاينا مكان موته أن يشم رائحة الرماد، ويقف امام شواهد المدافن قارئا تواريخ الراحلين ، وعبوديتهم الذليلة امام الموت ، يجلس تحت ظل المستكة ويسمع العميان .
كانوا، وهو جالس على المصطبة ، يقبض على عقفة عصاه يتأملهم الأربعة ، من الصبيان برؤوسهم الحليقة ، ووجوههم الشاحبة ، العجفا، بدرجة مؤسية ، بعيونهم المغمضة على الظلام، يتحلقون حلقة على رماد ككحل العين ، يضعون اذرعهم في احجارهم ويهتزون بالتلاوة . "كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون اجوركم يوم القيامة " كان يردهم قد رفعوا جباههم للشمس ، ينتظرون رحمة الخميس ، صدقة اهل الخير الساعين في درب المقبرة المبعثرة ، آخرة للبقاء، مثوى للراحلين ، يمتلىء بفيض غامر، ويدرك بضمير مستريح انه لم يعد ينتمى لهذه الفانية ، لكنه ينتمى الآن ، للورد، والشفاعة ، ورحمة الخميس ، وتلك الأبدية التي لا تفنى.
هبت ريح من الجبل فقاوم حنينه لعائلته الراحلة ، وغمغم بغير ضني "رحمة لنا ولأموات المسلمين ".
نهض ، وصلى في ركن المقبرة ركعتين ، وجلس جلسة التشهد، طلب من المولى نهاية حسنة الختام ، دعا بصوت خفيض ان يرحمه الله في الدنيا والاخرة ، والا يجعله يموت وحده . كان يخاف الى حد الرعب – هو المقطوع في تلك الشيخوخة المتأخرة – ان ينساه جيرانه فتعلن رائحته عن موته . كان يحس ، وهو في الثمانين من العمر ان الحياة طالت ، وان وحدته ابدية، وشعر كأنه من زمن قديم ، يواجه برد الشتاء، وحر الصيف ببدن رهيف، نحيل، وخطو يتعثر في حجارة السكك .
ختم الصلاة ، ونهض مودعا العميان .
دبات العصا ذات العقفة ، قدمان تسعيان في المسالك الضيقة ، طنين لذباب أزرق ، نساء في الجوار يوزعن رحمة الخميس بضني الفراق ، والشوق .
هيئة الشيخ العجوز تتحرك متعثرة في اتجاه مسكنه ، كهلا يبعث على العطف ، جلد على عظم، وقد اسقطت الايام لحمه كما يسقط الثوب عن البدن . شعر أبيض كثيف تحت طربوش ، وعينان كليلتان لهما لون من ألم . يقف لحظة عندما يشاهد جمع المشيعين ، وقد وضعوا نعش الميت المغطى بمفرش من الغزل الازرق المخطط امام فتحه المقبرة . توقف لحظة أشرع فيها
اصبعين ، وقرأ الشهادتين وهمس لنفسه . ( إنا لله ، وإنا اليه راجعون )
خلف المقابر ، عبر الطريق السريع قاطعا شارع الازهر، متجنبا صخب السيارات وزحمة الخلق آخر النهار. كان يمشي على اليمين غير مضطرب ، اكتسب طمأنينة بالتعود، بالتسليم المطلق ، لكنه كان يشعر بالخوف ، والرهبة ازاء ما لا يقدر عليه.
كان يؤمن بأن الموت حالة انتقال من دار الفناء الى دار البقاء، حيث تلتقي الروح ببارئها ، ولم يكن يشعر بالالم .
ما يضنيه أن يموت وحده ، فتعلن رمته عن جسده .
ينهزم عندما يتخيل الناس بعد موته قد وجدره متعفنا في سريره ، يضرب كفا بكف "لا حول ولا قوة الا بالله . مات من ايام ، ورائحته تزكم الانوف ".
يحث السير مبتعدا عن مناطق الزحام ، حتى اذا ما وصل البستان تأمل ماء النافورة ، وتلك الزهرات الملونة النابتة بجوار السور، ونفحة من نسيم رطب تهب على البستان . وقف مستندا لحظة الى شجرة نخيل لكي يتأمل العصارة الحية ، وبهجة الخضرة ، فيما يتأمل البستاني يضرب بفأسه الارض ، غاب في لحظة من ذكرى، وأحس بوجوده ينتقل الى زمان اخر مواز للحلم .
"لا شىء يفني عن شيء، نحن لا نعرف السر".
صمت ، وأكل خديه بفكيه ثم همس لنفسه:
"لعل الموت يعلمني الا افزع ".
فكر في جارته الست "جليلة " التي تجاورهم من سنين ، كيف عقد معها اتفاقا أن تطرق عليه بابه كل صباح ، لا تتحرك من أمام الباب حتى يفتح لها، تطمئن عليه .
سنوات طويلة من الصباحات المتشابهة ، يفزع من عز نومه على عجل ، مرتديا جلبابه الزفير، وطاقيته ، ويشهق بلقفة النفس عندما يرد عليها.
-نعم ياست "جليلة ".. انا صاح .
ثم يفتح الباب فيراها بجسدها النحيل ، مشمرة عن ساعديها، مكشوفة الرأس ، تقف على بسطة السلم مرتدية ثوبا من الكستور المزهر، ولها وجه محتقن ، وعينان تغوصان في ابدية لا ترى. يتأملها بإحساس غامض . كأنها تقف على باب موته . تحرس تلك الفتحة التي يوشك ان يلج منها حيث اخرته .
– صباح الخير يا عم "رضوان "
– صباح النور ياست "جليلة " نهارك فل .
يلتقط من فوق الشوفنيرة ما فيه النصيب يقدمه لها جنيهات .. كيس من الفاكهة .. قطعة من قماش .. ثوب من رائحة زوجته الراحلة .. كراسات لابنائها من المدارس .. بطاقة تموينه .. سنوات طويلة من العطاء رحمة ونور من حي يدب على ظهر الارض ، ما تزال تتردد انفاسه، يود ان يعيش حتى اذا ما وافته منيته حين يحين الاجل دفن بما يليق بشيخ وحيد.
فتح باب مسكنه ودخل . كان يلتقط أنقاسه ، تعبا من مشوار الخميس ، ومن زحمة المدينة تأمل الضوء النافذ من شيش النافذة المكسور، وأحس بالسكينة رغم ضجيج أول المساء. جلس لحظة ثم خلع حذاءه ، واستبدل بذلته القديمة المخططة ، ثم نهض وفتح الدولاب ، فهبت عليه رائحة من حنين . ملابس زوجته الراحلة معلقة بحالها، يعنى اوراق من ذكريات حسنة تأمل الجدران، الصور المعلقة ، القنطرة الخشب التي تربط بين شاطئين .
خطا ناحية مطبخ البيت ليجهز لنفسه لقمة .
تذكر انه نسى ان يمر على الست "جليلة " يلقى عليها المساء، ويعطيها النصيب ، ويؤكد عليها الا تنساه .
طرق عليها الباب ، فلم يرد من الداخل احد. عاود الطرق فظفر بالصمت ، والريبة .
– يا ست "جليلة "..
لا احد في الداخل . اشتدت ضربات قلبه ، انقبض صدره ، مر وقت كاف ، ولا مجيب :
– يا ست "جليلة ".
كانت عيناه يغشاهما ضوء السلم ، بينما يضرب الباب من غير وعي، سمع بابا يفتح ، وصوتا يأتي من اسفل .
– من ؟
– انا عمك "رضوان ".
– خيرا يا عم "رضوان "؟
– هي الست "جليلة "..
– سافرت هذا النهار لاختها في الصعيد هي واولادها.
– ستغيب ؟
– العلم عند الله .. يمكن شهر.. يمكن اكثر.. يمكن اقل .. ربك يعلم .
انكسر خاطره ، وأحس بانقباض ، وتكاثف احساسه بالخوف ، وقلة الحيلة .
خجل الشيخ الكهل من نفسه : ان يطلب من جيرانه ان يطمئنوا عليه كل صباح مثلما كانت تفعل الست "جليلة " وادرك لحظتها بأن الزمن يتوقف ، وريح غريبة تهب من مسقط النور.
خاف من الدخول لسكنه ، وخاف من النزول للشارع ، لكنه قاوم مخاوفه وفتح بابه ، ودخل ثم رد خلفه الباب ، واحكم إغلاقه .
سعيد الكفراوي – مصر