كنا نائمين في الصحراء حين مر البدو على حصنهم قاصدين البئر. نهضت المدينة على أجسادنا لكن بقيت الإشارة اشارتك باتجاه النبع هي ما تبقي لي من زاد ,للطريق أستيقظ هذا الصباح وأنا مفعم بغبطة الكتابة اليك . أطلق صرخة من الشرفة التي تعرفينها جيدا ، نحو الفراغ العميق فتصاب الطيور والأشجار المستكينة في حومة الحر والرطوبة بنوع من ذهول أتذكر وترقب.
كل خطوة معك ، وحيدين أو مع الأصدقاء، كانت وعدا بسعادة ، بشيء من أمان وقلب ، أنا الأكثر احساسا باليتم ، أستشعر الحنان متدفقا، غريزيا بشكل إيروسي، صداقي، أمومي وفوضوي.
نحن الذين اكتنزنا أعمارا كثيرة في هذا العمر القصير. وأزمنة من المرارات والخيبات والتيه ،" مليئين بثقل الذكريات كأنما عشنا ألف عام" كنا نبدأ من جديد . كل علاقة حقيقية ولادة الكلمة حين تطلق على الكائن المتمادي في اضمحلاله .
كانت روحك الأكثر سطوعا ، روحك المتدفقة بالغناء والمرح ، تطوقني كيد أنتظرها من عصور سحيقة حين كنا نتجول في الكهوف والبراري . حين رحلت ، بقيت في الفندق أعيش غيابك أتنفسه ، أشربه كثمرة مرة وجميلة . لم أشأ أن أعكر صفو هذا الغياب بالهروب الى سهرة كما قلت لي ، بل فضلت أن أعيشه بتفاصيله . الإنغمار في نار الحقيقة أفضل من الهروب منها أحيانا .
لم أعد أعرف الفرق بين الحضور والغياب ، كأنما الحضور ظل ذلك الغياب ، جناحه المهيض ، لعبة مرايا ومتاهات بينهما في وجه ثنائيات الفكر الضاجة بالتبسيط والقسرية .
نحاول أن نخلق أبديات بسيطة ، أبديات محدودة بسقف الزمن فيما هي متحررة من اكراهاته ، لكنها تدور في برزخه القاهر، بالضرورة ، وتتلاشى في عناصره ، رغم كلامك الأخير حين التقينا بعد عام في المقهى نفسه ، ونظرت الى الأشياء والحيرات التي لم تتغير في مظاهرها ، بأن ليس هناك من زمان بل مكان فقط ! ولا أخال أعمى المعرة أو بصيرها الكبير إلا صادقا تمام الصدق في إلحاحه على الدور التحطيمي الذي لا رأب لصدعه للزمن . لكن الغبطة حين نكتشف وكأنما لأول مرة أننا مازلنا على نحو
من نضارة تلك المشاعر التي هي بمثابة النبح الذي كنت تشيرين اليه في الصحراء والذي ظل في أعماقنا ، سلاحا وحيدا في حلبة هذه المعركة اللامتكافئة . والجمال ، كل الجمال في خوضها من غير طموحات وأوهام النصر والهزيمة ، الربح والخسارة .
النضارة في المشاعر وذلك الألق الخفى لا نجده إلا نادرا في بني البشر المعلبين مثلما نجده في الحيوانات والطيور وحقول الطبيعة الأخرى بإشراقها وعزلتها .
هل انجرف الى نزعة رومانسية
في هذا المنحى ؟
ولماذا لا ؟
ربما هذه الأبديات الزمنية الأرضية التي نعيش أو نحاول ، لا تتناقض مع الأبدية الكبرى المحلوم بها ،والتي لا يطالها البلى والشرط الزمني . والتي لا أعتقد أن أكبر الفلاسفة الشعراء وكهنة الفراعنة والنساك والهة الأولمب ، قد عاشها الا كحلم بالغ العصيان ومستحيل ، وهذا ربما سر جمالها ؛ كل له أبديته وأوهامه السعيدة .
إنني أرى الأبدية في عائلة الجبال الضخمة المتأخية وفق نظام روحي غامض لا يفنى . في كيان الصحراء الجبار . في البحار والمحيطات المترامية . أراها في الهوام والأشباح والمجرات ، أسرة حبنا الشجية . شعوبنا التي ننتظر منها كل شيء ولا شيء ، في هذا الصباح وأنا أفكر في كتابة هذه الأسطر،كنت قد قرأت عن نجمة تقع في اطار "درادوس " التي هي غيمة ماجلان ، المجرة الأقرب الينا . وفيها تقع نجمة يصفها الفلكيون بأوصاف مختلفة ومثيرة
وجنسية ، أما حجمها فهو أكبر من حجم شمسنا بثلاثة آلاف مرة .
شعرت بتفاهة الأرض ومخلوقاتها المدعية أمام هذا الكون المخيف اللامتناهي الملفع بصمت العظمة الحقيقية . لكني شعرت أيضا بتلك الومضة الخاطفة التي اخترقتني، كوني جزءا من لغز هذا الكون بأجرامه وأنغامه وأسراره ..
كل علاقة مع امرأة رائعة عملية تأجيل للانتحار ] كان سيوردن يقول كل كتاب[ للموت الزاحف من كل التخوم والمدن والثكنات .
من أي الجهات
يصدح هذا الصوت
بجرف المسافة
كإله غاضب
من الماضي أم من المستقبل ؟
من كهوف القدماء
أم ناطحات سماء المدن ؟
صوتك الذى يسري في عتمة أعصابي
عبر الأزمنة والوديان .
يهدل اليمام في أحشاء الظهيرة ،
فأرى البحر يتدفق أمامي
خلجان طفولة وبكاء
أرى الملاك الحارس يجفل من جبل الى أخر ،
ظلك الوحيد الذي يتبعني
كحكاية من غير بداية ولانهاية
حكاية الخلق الأولى بعد الطوفان
ظلك الذي يفترسني من غير رحمة .
كنت مريصا بالحمى
حين دخلت
مفرقة الظلام بأصابع ولهى
ظلام المقبرة الساجي
يغزوه مطر الربيع .
تفاحة الليل الغائمة في
هواء الغرفة
تقضمينها ,بشفاه نمر.
شبح جدتك الطورانية
وهى تنهب المارة أسلابهم .
اللبؤة الصغيرة الجائعة
إلى ثدي أمها
ترضعين الليل النائم في جروفه البعيدة
تقصفين السنوات …
تنصتين الى مطر في الخارج
موسيقى تتسلل بين الجدران
ثغاء ماعز
رفيف أجنحة علو نهر
أنصت الى نبضك المرتعش كغيوم متدافعة على
منحدر
كم كانت حيواناتك أليفة
وأنت تنامين أسفل
السرير
بعد شهقتك الأخيرة .
مصاب الأنهار
الصيف يكتسح المدينة
الحر ثقيل, ثقيل
أحلم بالقطب الجنوبي
والأزمنة الجليدية
لو تعود
أو يخطفنا طائرخرافي اليها
أحلم بشهر في لاهاي
حيك كنت أعيش
وسط السحب والرعود وموج بحر الشمال الهادر
وتلك العجوز البلهاء
التي طردتني من الموتيل في ليلة عاصفة
بكلبها الايروتيكي الضخم .
وحين أكون فيها
لاشك سأحلم بطقس أخر
حنين النقيض الى نقيضه
احتدم البرق نحو العاصفة .
ضغطي مرتفع
رأس مترنحة في الجحيم .
أحس أني أكثر وحدة من قارب في محيط
تلتهمه العواصف من كل الجهات .
أتشبث بأهدابك البعيدة
أنا الغريق حتما
كأنك التميمة الأخيرة
كأنك زبد المحيط .
الصيف :
كوابيس الأجداد انفجرت دفعة واحدة
من مضيق
أحلم بمصبات الأنهار.
عوده الى الجبال
دائما مخطوف بهيامك
ايتها الجبال المتاخية مثل أرواح صلبة
لا تفني
ترمقين العابرين من البشر
بنظرة ملؤها الشفقة والسخرية.
منذ طفولتنا البعيدة .
التي تقاذفتها أحجارك الكريمة
وأنت تلامسين المغيب
بأروع مما يكون التوحد بين حبيبين فرقتهما
أنواع عاصفة .
عبر دروبك الممتدة ,
أحدق فيها الآن من نافذتي،
مضاءة بشموس ضارية
حفرها البشر والحيوانات المندفعة
نحو كهوفا الراحة المستحقة بعد شقاء طويل
لكنها ممتدة الى ما هو أبعد
مثل دراك المتناسلة في عرين
لا ينتهي.
كان الزمن لم يمر قط
كأن القيامة لفظت أنفاسها الأخيرة
كأنك سدرة الخلق ومنتهاه .
أي سر يقذفه النيزك في مساء قاتم ؟
أي حلم لموجة جاثعة تخبط ثغرك
على الشاطىء؟
مروا سريعين من هنا
مر الغجر والبداة
مرت القبائل والسلالات في حروبا عبثية
البغال والحمير والجمال
الخيل الشاحبة تحت فتنة المعدن .
مرتا الدول والأساطيل
ناقلات النفط وراجمات القارات العملاقة
كلهم مروا من هنا
من غير أن يتركوا أثرا أومعمارا,
لأن أي خلق سيكون صغيرا
في أزل شموخك الباهر
لأن جلجامش
لو حدق في مرآتك مرة , ترك
البحث عن عشب الخلود
لأن الفراعنة فكرة مبسطة من
صرامتك الهندسية.
لقد فكت أعمالهم ورموزهم
وشرحت الملاحم والحفريات
وأنت مازلت عصية على الشرح والتفسير
محصنة أسرارك بالغموض ,
] ليس الجيولوجي وانما الروحي المتسامي [
شاهدت الطوفان والزلازل والفيضانات
شاهدت البشرية تنحدر
الى مراتع الوحش .
ربما أغمضت عينيك قليلا
ربما رفست قبة السماء
ربما سالت دمعة في الشعاب
لأنك المضاءة بالعزلة والمنفى
المجبولة بالغضب والأرق .
ولأنك تملكين القدرة على الغفران
صليت لأجلهم
صليت في محراب ذاتك
مرتجفة من فرط الندم والمحبة
كأنك من أسلت الدماء
وارتكبت المجزرة .
***
أدور على كرسي
صنع من شمس وماء
أطل على المنحدرات المدارية
لأرى الأزمنة متجمدة
في أبارها الأولى.