سليم النجّار
شكّل أدب السجون لحظة فارقة وقاسية في تاريخ النضال الفلسطيني، تم فيها اختبار قدرات الأسير الفلسطيني على تحويل جدران السجن إلى سرد، سرد يفتح بوابات الحياة من داخل المعتقل إلى الفضاء الفلسطيني الواسع، الذي هو في حقيقة الأمر سجن آخر، يرزح تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي.
مرّ أدب السجون في فلسطين الممتد منذ الانتداب البريطاني الذي لم يرف له جفن بزج مئات الفلسطينيين في السجون ولم يكتفِ بهذا، بل مارس أبشع أنواع الجرائم بكل مُعارِض وقاموا بإعدام من يعترض مشروعهم في إقامة دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين، وذلك منذ عام 1933 -1939(1)
وقد بلغ عدد المعتقلين أثناء ثورات 1948 حوالي 15,000 من الفلسطينيين والعرب المتطوعين في الصراع ضد المجموعات الإرهابية الهاجانا والشتيرن، وذلك دفاعًا عن المدن الفلسطينية(2).
منذ تسعينيات القرن العشرين، كانت هناك تحوّلات عميقة وجذريّة جعلت الكتّاب يتناولون الحياة من منظور بعيد تمامًا عن الأيديولوجيا ومضامينها السياسية والاجتماعية، وقد اختلفت نماذج الكتابة كثيرًا عن نموذج الأدب الفلسطيني النمطي الذي يتحدث عن الوطن السليب خلال عقدي السبعينيّات والثمانينيّات، فقد تأثّر بعض الكتّاب بتجارب إبداعية، كأمثال إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا وغسّان كنفاني، الذين اتخذوا من مركزية الذات وفحولتها منطلقًا لتكوين رؤيتهم الشاملة، تلك الذات المكتملة التي تحلم بتأسيس عالم مغاير ومتمرّد وثوري، ربما انهارت تلك الرؤية وانحسرت بفعل موجات من الهزائم على مستوى السياسة والقومية، والتغيّرات العميقة التي صاحبت تسيُّد الليبرالية الجديدة واقتصاداتها التي غيّرت من كيفية تناول الأدب والكتابة للحياة بشكل عام، فمن ناحية أعمق، برزت أنماط من الكتابة الذاتية وتم الاقتراب أكثر من عوالم الحياة اليومية وتسجيل الحياة كسيرة سردية تتناول مفردات الحياة الهامشية وتفاصيلها، بديلًا عن العالم الخارجي الذي كان مسيطرًا على كثير من الإنتاج الأدبي السابق.
«من وراء الشبك»(3)، مجموعة رسائل أدبية للكاتب الأسير مؤيد عبدالرحيم عبدالصمد، المحكوم بالسجن مدى الحياة، و»عالم الكتابة في السجن»، للأسير كميل أبو حنيش المحكوم بأكثر من مؤبد، و»رسائل كسرت القيد»(4) للأسير أسامة الأشقر، رسائل لثلاثة أسرى فلسطينيين تقترب تجاربهم من حافة الاعتراف والوقوف أمام مرآة، في محاولة ليست فقط من أجل الكشف عن الذات وفضح طاقتها الهائلة المخبّأة في الحزن والوحدة، بل أيضًا لاصطياد الزمن المعكوس الذي يبدو أنّه غير قابل للاستعادة، ولكن يمكن نسخ ذاكرة من خلاله، ذاكرة ليست مهتمة بتسجيل التفاصيل بنمط توثيقي، بل يمكن اعتبارها إعادة إنتاج للحياة، إعادة خلق الجسد وتهشّماته أمام عاصفة من الألم والفقد والهزائم الروحية، كما صوّرها مؤيد عبدالصمد في قصته «خذو قلبي»، حيث جاءت على الشكل الآتي:
«كان قلبي يضجُ بصخب حزين، مع هذا كانت عيوني تنطلق بالفرح.. ما زال الرفاق قادرون على التقاط حبات الفرح من تحت ركام هذا الزمن الحزين»(5)
إلّا أنّ فكرة الغياب كانت أكثر وضوحًا في قصة «مريم/مريم»(6) لكميل أبو حنيش، حيث تمحورت حول تقاطعات كثيرة، بين فكرتي الغياب والحضور، الإرادة والاستسلام، وفي هذا وذاك تكمن تفاصيل يمكن أن تكون جديرة بالملاحظة والقراءة، هناك من يختار الغياب عبر الانتحار أو الموت، أو اختيار حضور ضبابي عبر الاستسلام للواقع أو للعزلة وإرادتها، وأيًا كان شكل الغياب والحضور الذي يختاره أو يُجبر عليه أو يستسلم له الكاتب الأسير، فإنّ فكرة الغياب كانت دائمًا الأكثر حضورًا في روح أبو حنيش، ربّما بأشكال متعددة تصل أحيانًا حدّ التناقض، «بعد أن غادرني تأملتُ المفارقة، فالرجل أصله من صفورية، وسيعمل في خدمة من احتلّوا بلدته وهجّروا أهلها، كما لفت انتباهي أنه قال: في صفورية وليس تسيبوري، فعندما تسأل أحدًا عن مكان عمله يرد عليك: في كرمئيل، أو كريات أتا، أو نتسيرت عليت..إلخ، ولا تجد من ينطق اسم البلدة الأصلية التي تقوم على أنقاضها المستوطنة، إذن فإجابة الرجل تنطوي على موقف وحنين وحزن وإرادة أيضًا».(7)
كما أنّ الحنين هو سلاح الكاتب الذي يواجه به غيابه، فإنه حضوره الافتراضي أيضًا، مثل السفر عبر الزمن، يعود الكاتب إلى تلك التفاصيل الصغيرة في حيواته ليلتقطها ويثبّتها ويجعل منها حياة مغايرة ونصوصًا تقاوم الغياب، كما جاء في قصة «رسائل إلى الصديق ماسلوا”(8)، والتي يتم فيها سرد تفاصيل في غاية الدقة، وفي غاية المفارقة، لا تلتقطها سوى العين الاستثنائية المأخوذة بتحويل العادي إلى غرائبي، «ألم يخطر ببالك أن تجعل رأس هرمك الموقر احتياجنا للرحمة؟ وهل كنت تتوقع أن هذه الصفة الفطرية عند كل المخلوقات هي تحصيل حاصل لدى بني البشر؟ أم أنه فاتك ابن آدم لأخيه؟ وهل مثلك من يغفل احتياج الإنسان لأبسط القضايا؟ هل كنت تعتقد بأن الإنسان أكثر رحمة بأخيه الإنسان فلم تسعفك فطنتك بأن تضع على رأس الهرم هذه الخصلة المفقودة والتي نحن بحاجة لها كاحتياجنا للأوكسجين؟»(9)
يمكن القول أن القصص الثلاث بثّت الخيال في حياة أخرى تظهر في النصوص كما لم تظهر في الحياة العادية، والحنين للحرية ليس استثنائيًا فيما يخص الكتّاب الثلاثة وحسب، إنّه حنينٌ يخص المكان في النصوص، والمكان يأخذ حيّزه الأثير بين الكتّاب الثلاثة، الذين قاوموا السجّان بالحنين إلى الحرية والعودة إلى الوطن، لذا، يدقّ الكتّاب على حديد المكان ساخنًا، على حديد الأشخاص والأشياء على الرغم من تقسيم الكتّاب قصصهم إلى أبواب، يشمل كل باب منها نصوصًا متقاربة، لكن الحنين وحده الذي ينمو مثل زهور بيضاء في كل القصص.
ما يمثّله الحنين في القصص الثلاث ليس حضورًا فحسب، إنّه حالة قد تكون أشبه بحالة صراع الكتّاب الأسرى مع ذواتهم فيما بين الإرادة والاستسلام، لأنه حضور نضالي يرى ولا يُرى، لا يقدر على إمساك الأشياء أو تحسّسها بقدر ما هو قادر على وصفها وتصويرها، هذا المسافر الزمني الذي لا يجب أن يغرق في التفاصيل كي لا يضيع فيها، كي لا يتحول لديهم الحضور إلى استسلام، والإرادة إلى غياب.
يصل بنا ما سبق إلى ضرورة القول أن المثاقفة كضرورة للتعايش، تقوم على أساس النديّة الثقافية وعدم اعتبار طرف ثقافي أفضل من طرف آخر، هذا هو جوهر ما ذهب إليه الكتّاب الأسرى الفلسطينيون، ومن الضروري القول أن نصوصهم تشير إلى أن الأدباء الأسرى استطاعوا تسجيل حضور بين القرّاء، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى دلالة قويّة كتبها قبل سنين هربرت ريد في كتابه الشهير «إلى الجحيم بالثقافة»(10).
المجازر بين مراحل التأويل
النص لا يبدأ من فراغ، إنما يستند إلى معرفة أولية موطئة له، وفي ذات اللحظة نحن لا نلتقي النص الأدبي ولا نجابهه خارج إطار مكاني، بل تحكمنا آنية زمانية وحيّز مكاني، ولا نتلقّاه بصمت قاتل، بل نبادئه بأطروحات وأسئلة استكشافية، هي كلمات مفتاحية، هي علاقة ولوج داخل نيّته، هي وثيقة وجودنا ووجوده وعقد مكتوب ضمنيًا وشفاهة، هي قطرة لشلّال هادر من استجابات تتوالد لدى ذهن المؤول ويرتّبها وفقًا لانطباعاته السيكولوجية، كما نقرأ في قصة «وخز الخيزران.. ومذاق الحب»:
«قلبي معاك فيما عذبتك به رانيا».. حين يتاح لك الحديث معها قل لها مثلما قال قباني (امرأة مطفأة الذكاء.. غبية في قمة الغباء.. هل ممكن أن تبلغي خمسًا وعشرين سنة ولا تزالين تعيشين على هوامش التاريخ والأشياء..؟)
قد لا أفيدك كثيرًا في هذا الأمر لكن إليك حكاية قد لا تكون ذات معنى وقد يكون لك فيها معانٍ كثيرة»(11)
هذه الانطباعات التي ارتهنت بسياجاته المرتدة تأويلًا، والتي زاحمت أفكارًا استبقتها، وأنا لا أذهب لما ذهب إليه «ريكور» من تسمية هذه المرحلة بـ»مرحلة ما قبل الفهم»(12)، إذ إنّ المؤول قبل الفهم سينطلق من قاعدة فوضوية عبثية لا تمتلك الأدوات والأطروحات والآليات، مرحلة خالية من أي حمولة، كما نجد ذلك في قصة «مكتبتي المتنقلة»: «وبهذا كانت عملية القراءة تستغرق وقتًا، كما أنه ليس بوسع القارئ (الكاتب) أن يحتفظ بمكتبة خاصة، فهذا غير مألوف في أعراف السجن إلّا في حالات نادرة وبأعداد قليلة، فضلًا عن التنقلات الدائمة بين السجون، الأمر الذي لا يمكّن الأسير من حمل كمية كبيرة من الكتب معه أثناء التنقلات، فالحقائب المسموح بها أثناء عملية النقل لا تتعدّى الحقيبتين أو الثلاث، وهي بالكاد تكفي لملابس الأسير ومقتنياته الضروريّة»(13)
غير أنه من البديهي أن يكون المؤول في هذه المرحلة وقبل توليف أرضية النص وتدجين حراثته الأولى، بات في مخيلته مخاتل العملية التأويلية، من ظروف ومعطيات عصره وتجلياته الثقافية، والذي أذهب إليه وأؤمن به، أنه يمكن نعت هذه المرحلة بـ»الفرضية» أو «الحدس» أو «التخمين» أو «التنبؤ» أو «الأحكام المسبقة» أو «أوليّة الفهم»، كما آمن بذلك هيجر، ويمكن وصف هذه المرحلة بـ»الوصف والتوصيف»، وهي تحديد مجموع المواصفات وشروط العلاقات، حيث ظهرت هذه المفاهيم في قصة «رسالة إلى الصديق ماسلوا”:
«ما رأيك بأن نتعاون فيما بيننا ونعيد ترتيب أولويات البشر واحتياجاتهم؟ فأرى أنك قد أخفقت في تحديد الأولويات، ويا حبّذا لو استطعنا أن نعلق الجرس، ونسلط الضوء من جديد على أهم الاحتياجات البشرية»(14)
إذ أنّ التأويل ليس رجمًا بالغيب أو قولًا اعتباطيًا لنصوص وفق هوى المؤول، بل هو نشاط ينطلق من ظاهر النص إلى الخفايا التي ينطوي عليها بسبب نظامه وتوتر لغته وإيجازها وتكثيفها(15)، لذا، الفهم هو تدبير عقلي من الدلالات والمعاني للظاهرة الإنسانية في إحدائيّاتها المتحركة، فما بالك بالكتّاب الأسرى، الذي يجب على المؤول الولوج عبر أطروحاته وتخميناته وأسئلته المفتاحية لشيفرة النصوص الإبداعية لهم، فالشيفرة التي تجمع نصوص الأسرى هي الاعتقالات الإدارية التي تمثّل إجراءً تعسفيًّا وسياسة صهيونية قديمة جديدة، حيث أُخذِت هذه السياسة عن قانون الطوارئ البريطاني، ومارستها سلطات الاحتلال مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكان تطبيقها الأوسع آنذاك(16)، كما يجب على المؤول ربط هذه الشيفرة في تصوير الكتابة القصصية ورصد عوالمها التخيُّليّة، وخلق نص سردي متعدد الأصوات والأطروحات والأساليب والمنظورات التي تخص الكاتب، ونجد هذا التداخل في قصة «رسالة من طرف الصحراء.. أنكون على قدر النداء..»:
«من حناجرنا؟ وهل تطلق الحناجر غير اهتزازات رقيقة؟ هل تطلق غير الصيحات؟ من أقدامنا العارية؟ وهل تصلح إلّا لإثارة الغبار؟ (تهز رأسك بحسرة ولا تخاطبنا لكن تتمتم لنفسك فنسمعك وأنت تقول: وهل يكون الزيت غير الدم والعرق والصيحات والغبار؟؟
-ولكن قد نموت! (وهل الزيت إلّا موتكم؟)»(17).
ومن هنا تعد قصة «استراحة بالمتاعب» من النماذج القصصية التي وظّفت خطابًا تنظيريًا يرد في شكل ميتاسرد أو لغة متعالية موضوعية ترصد خصائص الكتابة التقنية بناءً وتشكيلًا، حيث يدعو الكاتب إلى كتابة جديدة تجريبية قائمة على تشظية الرؤى استباقًا واسترجاعًا، وتشغيل تيار الوعي في استنطاق المشاعر الغامضة، «ومع أن الرواية ملغزة برموز الشعر، وسحر الحلم، وشغف العودة، فمن الأفضل ترك أمر الكتابة عنها للنقد، وبوصفي كاتبها لن ألجأ إلى الكشف عن رموزها، والرسالة التي كنت أعتزم إيصالها من خلالها، غير أنني أود تسليط الضوء على حجر الزاوية في الرواية، الذي أختصره بنص شعري لمحمود درويش، شكل أحد المحفزّات لمواصلة الرواية، وهذا النص: اذهب في المكان.. تجد زمانك عائدًا»(18)، وهكذا فقد نجد الخطاب الميتاسردي القائم على تداخل الأجناس معروفًا في السرد العربي القديم والحديث على حد سواء، ويهدف هذا الشكل من الميتاسرد إلى تنويع الميتاسرد الأجناسية في النص الواحد، وخلق شخوص فضائية ولغوية وأسلوبية توظَّف في خدمة النص.
غير أن الكاتب الأسير أسامة الأشقر في قصته «رسالة إلى وردة الدم يوم مجزرة جنين وبيت عنان» عمل على تصوير الصراع مع شخصية المجزرة الميتاسردية التي تتراقص بين سطور النص المؤلم للمؤلف السارد تعاليًا وسيطرة، وتفرض وجودها الميتاورائي على مخيال ذلك المؤلف الضمني، بل قد تتمرّد تلك الشخصية على خطة السارد، فتعلن انشقاقها ورفضها لرؤية السارد وهيمنته، «ولكي يستطيع النوم لن تكتمل لياليه إلّا بغرس أنيابه في لحومنا، يأتي في كل الصباحات زائرًا ثقيلًا يتكئ على أفواه مدافعه علّها تعوضه عن شعوره الدفين برفض هذا التراب لاحتضانه»(19)، إذ تتقاطع في هذه القصة شخصية الضحية مع شخصية القاتل، فتتداخل الشخصيات معًا تناوبًا وتعاقبًا وتأطيرًا، والواقع أن المؤول يرنو إلى التأويل ويحيل على سيرورات تأويلية وصيرورات لامتناهية تشتم فيها الأبدية، ويرسل تساؤلات توطئة لمقدّمات تفسيرية، هي علل الفهم، يتبرّأ من فكره ولباب عقله في تأويل ما قرَّ ووقر، تأويلًا يصطبغ بصيغة العصر.
بين الرؤية والرؤيا
تحدّث آرثر رامبو عن العلاقة بين الرؤية والرؤيا، وهو من أبرز ممثلي الرمزية الفرنسية إلى جانب بود لير وبول فاليري، وهي إكساب الرؤيا (الحلم) شيئًا من الرؤية بالقدر الذي يجعل النص خاضعًا لعشوائية الحلم وهيمانه البريء، حيث العالم مجرد حلم جميل ووديع تتوزع فيه الأدوار ببساطة بين الخير والشر، الأبيض والأسود، وأيضًا لا يجعلها خاضعة لميكانيكا اليقظة العارمة، حيث الرؤية العقلانية المحضة، «اليوم بدأوا بتركيب إسبست حول شبابيك غرفنا كأنها حرام علينا بقايا الشمس وحرام علينا بقايا الظلام البعيدة التي تخترقها صباح مساء فتذكّرنا بأننا في عالم اسمه الأرض»(20)، هذه الرؤية التي تطالب بالحرية، «أنّ ما يحدث في السجون من احتجاز وسلب للحرية يعكس نفسه على واقع المجتمع الفلسطيني وعلى الحالة الوطنية والسياسية بشكل عام، لا يجوز إبقاء جنود الحرية في الغياب وهم الذين ضحوا بأعمارهم من أجل حرية وكرامة الشعب الفلسطيني»(21)، لذا، إنّنا في صلب هذه العملية من جدلية الحلم، لكن السؤال البديهي الذي سيطرحه القارئ، هو أننا إزاء نصوص تُعنى بالرؤية وتستصعبها، «صعبٌ أن أرى»، فهل لنا أن نجعلها في سياق الملحمة التي يسطرها أبطال الحرية في سجونهم، فهل نحن أمام مركزية طاغية لبطولات هؤلاء الذين قاموا وما زالوا يقومون ببطولات خاصة في الحفاظ على ذاكرتهم الوطنية، «كنت كل يوم أتأمل بيوت مستوطنة (تسيبوري) ببيوتها القرميدية الحمراء بين الأدغال والأشجار الخضراء، بيد أن المشهد لم يثر فيّ أية مشاعة خاصة، لأن سائر ما نراه من مستوطنات ومدن صهيونية كلها تقوم على أنقاض عشرات القرى والبلدات المدمرة، إذن صفورية ليست استثناء»(22)، إنّ صعوبة الرؤية/رؤية الصعوبة تطرح سؤالًا آخر أيضًا ينبعث هنا، هل أنّ «صعٌب أن أرى» تعني أنه صعبٌ لفرط ما أراه لبشاعته وقسوته؟، بالتالي علينا كشف هذه الرؤية، فالرؤية خاصية المثقف، الذي يقع عليه الدور في كشفها في ظل أنّنا أمام نصوص إبداعية لكتّاب أسرى داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، بمعنى آخر، أنّنا أمام ثقافة تقاوم، وهذه الوظيفة الأساسية للثقافة، «إذا كانت الثقافة، في تصوّراتها المختلفة، مرتبطة بالقومي والوطني والسياسي والروحي والجمالي…، فما هو الموقع الذي يؤمن لها خصوصيتها؟ وإذا كان هناك تعريف نسبي لها، فما هو هذا التعريف؟»(23)، وأوضح ذلك المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد حين قال: «هناك طرقًا للالتفاف على ذلك، الأمر ليس مجرد ضيق أفق، بل إنه نوع من التواني، نوع من التقاعس وتوقع الغير أن يقوم بذلك، أعتقد أن ذلك عدونا الأكبر، غياب المبادرة»(24).
أعتقد من المفهوم تمامًا هنا، وبالنسبة لأي قراءة موضوعية ما، أننا لا نسأل لنجيب باختيار إجابة من اثنتين كما في الامتحان المدرسي، لا نسأل لنختار، بل نختار ونقلق علنًا، ونبحر مع روح الكاتب الأسير، «أناجيك قبل المساء وبعد نوم العصافير في أعشاشها، فكوني صوت الحلم لهذا الجسد الملقى بعيدًا عن القمح والماء، لكي تكوني صدى الأشواق المتأهبة لتذوق طعم الزعرور وصعود الصخور، ولتذوق رائحة الأرض عند الشهقة الأولى في أيلول»(25)
وعلينا هنا أن نعود لنذكّر مرارًا وتكرارًا بنصيحة رامبو الثمينة بألّا نثق بقدرتنا على حسم المواجهة، بل المبدع هو البطل العظيم والمهزوم أيضًا في الوقت ذاته، إذن، هل للسجن مهما طال أن يطفئ حزن فاقد الحرية؟، وإنْ له ذلك فهو حزنٌ مشوبٌ برعب الخوف على الذات، خوف من استمرار جدران السجن بالبقاء طوال الحياة، وخوف من السجن نفسه الذي أصبح كائنًا بحد ذاته.
علاقة السجن بالكتابة
كشفت بعض مقولات جنرالات الاحتلال بعض الأهداف التي رمت إليها سياسات الاعتقال والأسر، حيث صرّح وزير دفاع الاحتلال الجنرال موشي ديان: «سوف نجعل هذه السجون تُخرِج معاقين وعجزة ليكونوا عبئًا على المجتمع الفلسطيني»(26)، «تبنّت إدارة السجون الإسرائيلية هذه السياسة، وتفنّنت بالاشتراك مع المخابرات بابتكار أبشع الأساليب لتنفيذها وقتل الروح المعنوية قبل الجسد»(27)، ولم تكتفِ إدارة السجون الإسرائيلية بهذه الأدوار، بل قامت بعمل تجارب غير إنسانية على الأسرى، إذ كشف عيسى قراقع عن «وجود 1000 تجربة أدوية خطيرة تحت الاختبار تُجرى على الأسرى الفلسطينيين في إسرائيل، كما شهدت أفي لفتات رئيسة شحنة الأدوية في وزارة الصحة الإسرائيلية أمام الكنيست أن هناك زيادة سنوية قدرها 10% في حجم التصاريح التي تمنحها وزارتها لإجراء المزيد من تجارب الأدوية الطبية الخطيرة على الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية كل عام»(28).
من هنا نستطيع القول أن الأسير الفلسطيني والعربي بات مدركًا لمعنى وجوده الحقيقي وهدفه والاستهدافية الواضحة له، فانطلقت حملات التعبئة بين صفوف الأسرى ضد السجّان الذي لم يتوقع أن تتواصل الأحداث لهذا المنحى وبوتيرة متصاعدة وثقة بالنفس ورباطة جأش، ورفض الاستجابة لإجراءاته، لم يرق الحال للسجّان الذي استنفد وسائل العنف والبطش والقمع والإذلال التي واجهها الأسرى بخطوات نضالية ضد الغاصب الإسرائيلي، وللحقيقة، هذا الدور الذي قام به الأسرى الفلسطينيون لم يأتِ بالصدفة، أو لم يكن خاصًّا بهم، بل الكثير من الكتّاب والمفكرين في العالم أشاروا لدور حركة التحرر في التخلّص من المحتل الذي يغتصب أراضي ليست له وتحت دعاوى وحجج واهية، ونذكر على سبيل المثال المؤرّخ الألماني «مايكل غويل» الذي أرّخ لحركات التحرّر في العالم الثالث، ومنها على سبيل المثال: «مقاومة العواصم الإمبريالية فترة ما بين الحربين باريس وبذور القومية في العالم الثالث والهجرة والهويات والقومية في أمريكا اللاتينية»(29).
هذه التجارب النضالية العالمية والعربية والفلسطينية، استطاعت الكشف عن الوجه القبيح للمحتل وممارساته، وفي تغيير معالم البلد الذي يغتصبه ويعمل على مسح كل معالم هذا الوطن المحتل، هذا السلوك العدواني للمحتل الإسرائيلي ضد الأسرى الفلسطينيين، دفع العديد من المعتقلين إلى اللجوء للكتابة والإبداع للتعبير عن ذواتهم، فحملت نصوصهم حوارات وخطابات داخلية تحدث بين المعتقل وذاته، وغالبًا ما يكون هذا الإبداع نتيجة لتفكيره في الممارسات الوحشية التي تمارس ضدهم من قبل السجّان الإسرائيلي وتسيطر عليه، ولذلك يردّد كلمات لا يمكن لأي شخص غيره أن يسمعها، ويطلق على هذا النوع من الحديث مصطلحات عدّة، فهو أحيانًا يُعرف بأنه الحديث الداخلي أو الصوت الداخلي أو الحوار أو المونولوج الداخلي أو التفكير الشخصي، فإنه من الضروري فهم ماهية هذا الحديث النفسي ومدى تأثيره في مشاعر الأسير وقراراته.
والخطاب الداخلي لا يكون بالضرورة مفيدًا للمعتقل، فعندما تنتاب شخصًا ما حالة من القلق والتفكير فهو يعبّر عن ذلك بكلمات، «دوت صرختها.. ملأت صيحته جدران الكون.. وعلى موجات الصوت كان نسر أحمر يفرد جناحيه فيدفع كل رياح الشعب في إعصار شديد، فبكى حبًا، وبكت عشقًا حزنًا فرحًا طربًا مرحًا»(30)، لكن الخطاب الداخلي النفسي يزيد في أحيان كثيرة من حالة الاكتئاب والقلق المسيطرة على الشخص، حيث تظل الأفكار المقلقة بداخل رأسه ولا يتم التخلّص منها إلّا من خلال الإبداع، «كنت أعمل كالبندول ثماني عشرة ساعة في اليوم، وتذهب معظمها في الأنشطة التنظيمية والثقافية والأكاديمية، وعلى هامشها أقرأ وأكتب، وكثيرًا ما كنت أصحو في الليالي الصامتة، لأسجل فكرة أو عبارة أو نصًا أدبيًا لكي لا أنساه»(31)
وبما أنّ الخطاب الداخلي له دور في عملية ضبط سلوك الأسير، فهل يلعب الدور نفسه في تحفيز سلوك معين؟، بالتأكيد يلجأ الأسير للتعبير عن السلوك الآتي: «يا مريم العذراء والمحراب، يا مريم القداسة والسلام يا مريم المعذبة والمضطهدة ورسولة الطهارة وجنة الأيتام، مريم يا أمنا، منك، وعليك السلام، اليوم تطاردني رائحتك وتنغرس بين حبات الدم لوعاتك وتطفو على شغاف القلب ابتساماتك، لا أعلم سر هذا النسيم الذي حضرني في ليلة من ليالي الانتصار والشوف لرائحة الحياة»(32)، إذ إنّ فهم الخطاب الداخلي بشكل جيد سيساعد على عملية التفكير، وسيحل إحدى المشكلات طويلة الأمد التي يتعرض لها الأسير الفلسطيني عن كيفية عمل لغة الأسير والمعرفة والوعي معًا.
الخاتمة
صور الأسير
يؤمن الأسرى الفلسطينيون أن شعبهم الفلسطيني عدوًا شرسًا لمن يقتل ويشرّد ويصادر الأرض، ويهدم البيوت ويقتلع الأشجار ويعتقل ويدنّس المقدّسات، ويسكن بيوت من شرّدهم دون أن يرف له جفن أو أدنى شعور بالذنب على ما ارتكبه ولا زال يرتكبه من جرائم، وما يحدث الآن من مجازر وقتل متعمّد للأطفال في غزة يدلّل على وقاحة المستعمر التي سجّلها التاريخ، حيث يتّهم الفلسطيني بالإرهاب وينعت كفاحه بالشغب إذا ما حاول مقاومته للدفاع عن نفسه واستعادة حقوقه، إنّها مفارقة أن يقاوم الأسرى الفلسطينيون الموت البطيء على أيدي هذه الدولة القاتلة بالإبداع وكتابة تجاربهم التي تصوّر عذاباتهم وأمانيهم بالتحرّر من هذه المعتقلات التي هي في حقيقة الأمر مقابر جماعية.
كتابات الأسرى الفلسطينيين تحتفي بإنسانية جديدة محتملة، مواجهة القتل بالإبداع، هذه النصوص تنطلق من الجوهر الإنساني.
«الحياة إبداع، والمعتقل طريق نحو الحرية» هذه مقولة الكتّاب الأسرى.
الهوامش
رائد الشافعي، رواية معبد الغريب، دار دجلة ناشرون، عمّان، 2023، ص7
ذات المرجع السابق
مؤيد عبد الرحيم عبد الصمد، مجموعة رسائل أدبية، منشورات نادي الأسير الفلسطيني، فلسطين، 1999
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، دار الرعاة، رام الله، 2022
مؤيد عبد الرحيم عبد الصمد، مجموعة رسائل أدبية، قصة خذوا قلبي، ص33
بتاريخ 1995/11/7
كمال أبو حنيش، عالم الكتابة في السجن، ص90
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، دار الرعاة، رام الله، 2022
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، ص43
إلى الجحيم بالثقافة، هربرت ريد، ت عمر الفاروق، مراجعة الدكتور محمد عناني، كتاب صدر عن الهيئة العامة للكتاب، 2007
مؤيد عبد الرحيم عبد الصمد، مجموعة رسائل أدبية، ص38
بول ريكور: النظرية التأويلية، ت حسن بن حسن، دار تينمل للنشر، مراكش المغرب، 1992، ص64
كمال أبو حنيش، عالم الكتابة في السجن، ص37
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، ص44
مدخل إلى أسس فن التأويل، غادامير، ت د.محمد شوقي الزبن، مجلة فكر ونقد، العدد 16، 1999، ص74
القديس والخطيئة، واقع الحركة الأسيرة في عيون روّادها، نظرة إلى الداخل، الأسير خليل أبو عرام، الجزء الأول، إصدار الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، 2022
مؤيد عبد الرحيم عبد الصمد، مجموعة رسائل أدبية، ص7
كميل أبو حنيش،الكتابة والسجن ص65
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، ص72
مؤيد عبد الرحيم عبد الصمد، مجموعة رسائل أدبية، ص64
حريتنا العدد الخامس، مايو 2023، مجلة دورية شهرية شاملة، صوت الأسرى الصادح بالحرية، إصدار اللجنة السياسية العامة للأسرى، مقابلة العدد، عيسى قراقع، وزير الأسرى السابق، ص31
كمال أبو حنيش، عالم الكتابة في السجن، ص90
أشكال المثقف وإشكالية الثقافة،، د/فيصل درّاج، دار أزمنة عمّان، 2015، ص31
الثقافة والمقاومة، محاورات مع إدوارد سعيد، ديفيد بارسميان، ت ينال قاسه، دار نينوى، سوريا، دمشق، 2013، ص30
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، ص67
الأسرى وحقوقهم وواجباتهم، هيئة علماء المسلمين في الخارج، ناصر الله جواد، كنوز المعرفة، ط2، فلسطين، 2013، ص86
الإبداع والثقافة في بداية الاعتقال، ورقة مقدمة في ثقافة تحدي القيد، رام الله، 2003، ص9
الأسرى في السجون الإسرائيلية بعد أوسلو 1993، 1999، رسالة مقدمة استكمالًا لمتطلبات درجة الماجستير، الدراسات المعاصرة، كلية الدراسات العليا جامعة بيرزيت، ص138
الأدب في خطر، تودورف، استشعر لحظة زمنية هبلى بمتغيراتها، طالب الرفاعي، مجلة الشارقة الثقافية، نافذة الثقافة العربية، تصدر شهريًا عن دائرة الثقافة الشارقة، العدد الخامس، مارس 2017، ص16
مؤيد عبد الرحيم عبد الصمد، مجموعة رسائل أدبية، ص54
كمال أبو حنيش، عالم الكتابة في السجن، ص143
أسامة الأشقر، رسائل كسرت القيد، ص70