في ديوانه الشِعريِّ الجديد ( مراكب ورقية ) ينطلق الشاعر زهران القاسمي بنا نحو آفاق واسعة من التأمُّل في الحُبِّ باعتباره قيمة إنسانية وجودية يرتكز عليها الشاعر في مواجهة أفكار التعصُّب والجمود التي تؤدِّي إلى انتشار مشاعر البغضاء والحرب والهلاك، ليصبح الحُبُّ معادِلا ً موضوعيا ً للحضارة، ووجها ً آخر من أوجه الإبداع، ولِمَ لا و «الحُب والإبداع قيمتان تعتني بهما الحياة، ويعمر بهما الوجود، وينجو بهما الإنسان من رحلة الضياع في بحر الحِداد أو بحر العدم، فالحُب كالإبداع من منظور الوعي المديني كلاهما مرتبط با لآخر ارتباطا ً وثيقا ً»( 1 ) ومن هذا الوعي جاء الحُب بمفهومه التجريديّ يحمل حُبَّ الذات الشاعرة للكتابة، وحُب المرأة أيضا ً، ليكون هذا الحُب هو سلاح الذات الشاعرة في مواجهة التعصُّب والحرب والهلاك فيقول :
«سيدخل الجميع الحرب/ سيتقاتلون على كل شيء/ سيموتون جميعا ً حاملين ضغائنهم/ أمَّا أنا/ فسأجلس هنا/ أنتظر سفينة فضائية تحمل لي رسالة منكِ/ لن أكون معهم عندما يتناهشون لحومهم/ سأكون معكِ/ سأدخل مثل كائن بخلية وحيدة/ في الأغوار/ حتى يبتلعني حبك ِ»(2) . في المقطع السابق تبدو الذات الشاعرة مؤمنة بقناعاتها واختلافها عن الآخرين، فبينما يتقاتل الجميع وهُم يحملون ضغائنهم ويموتون جميعا ً وهُم «يتناهشون لحومهم «نجد الذات الشعرية تختلف عن كل هذا حيث تجلس لتنتظر رسالة من الحبيبة تأتي في سفينة فضائية حتى يبتلع الحُب تلك الذات الشاعرة .
وفي مقطع آخر يجعل الشاعر الحُب للكتابة والحُب للمرأة في مواجهة ذاكرة التعصُّب التي تحاول وأد كل هذا الحُب، فيقول في ص 9-10 :
«أريد أن أكتب عن وديان بعيدة/ وعن دوائر تُخلّفها الإطارات/ لمسافرين لم يتركوا حتى أمنية واحدة/ أكتب إليكِ يا حبيبتي/ ولا أمل لي حتى في سماع أغنية/ كانت تتحدث عن الصباح وضجر الباعة المتجولين/ في طرقات شِبه مهجورة/ عن طَعم الشاي ونكهة الجعداء/ عن ذاك الأفق الدمويّ/ والجبين الخجول/ تلك الأغنية التي وأدَتها ذاكرة التعصُّب».
والذات الشاعرة في تعاملها مع رمز الحُب لَم تكتفِ بكونه مجرد سلاح في مواجهة التعصب والكراهية والحرب والعدَم، بل تؤكد قوة العلاقة بينها وبين هذا الحُب من منظور وجوديّ، فإذا غاب الحُب غاب الوجود، ليجعل الشاعر الذات الشاعرة في صورة السمكة الصغيرة ويجعل المرأة – أحد رموز هذا الحُب – هي البحر البعيد، في تأكيد واضح على قوة تلك العلاقة، والعجز عن الحياة/ الوجود بدونها، فيقول في ص 19-20 :
«وأنا زعانفي صغيرة/ ولا أجيد لغة الخطابات الفارهة/ حتى أصادق الحيتان الذين يعلمون سِرَّكِ/ لذلك سبحتُ في كل المحيطات/ مِتُّ وحييتُ/ ثُمَّ مِتُّ وحييت/ مرّات ومرّات/ ما زلتُ أنا السمكة الصغيرة/ وأنتِ ذلك البحر البعيد».
مع تلك الأهمية الوجودية للحُب يُصرِّح الشاعر بأن الذات الشاعرة لا وجود لها بدونه، فبدونه تتساقط وتتهاوى كل البطولات والإنجازات ولا يبقى سوى العَدَم – «التراب «– فيقول في ص 33-34 :
«ما أنا في غيابكِ ؟/ مجموعة من القراصنة سيئي الطالع/ دخلوا كهفا ً وانغلقت بوابته إلى الأبَد/ أنا هناك/ لَمْ تتبقَّ إلاّ عظامهم وأحداقهم الجوفاء ناحية/ الفوهة المغلقة/ أنا قراصنة الموتى/ قبضوا على بطولاتهم كاملة/ فإذا بها تراب رطب مملوء بالملح/ أنا في غيابكِ/ بعض ذلك التراب/ وبعض ملح».
وحضور المرأة في ديوان ( مراكب ورقية ) اختلف كثيرا ً عن طبيعة حضورها في الشعر العربي القديم الذي تعامل – في مجمله – مع المرأة من منظور ٍ حِسِّيٍّ ماديّ يقوم على الغزل الصريح أو العفيف في محبوبة معيَّنة، بغض النظر عن مجئ هذا التعامل كمقدمة غزلية للقصيدة، أو حتى إذا أفردت له قصيدة غزلية كاملة، كما يتجاوز الشاعر في هذا الديوان الرؤية الرومانسية لدى شعراء المهجر، تلك الرؤية التي وصفها أحد الباحثين بقوله : «لقد كانت المرأة في وجدان شعراء المهجر صورة رائعة من صور الجمال والفتنة التي حليت بها الحياة وازدان بها الكون، فانطلقوا يُرتِّلون لها أعذب أناشيد الحُب في شِعر صافٍ رقيق يحمل صورة أرواحهم المرهفة، ونفوسهم الظامئة إلى الحُب، الراهبة في معابد الجمال والحُسن»(3) . لكن المرأة هنا في هذا الديوان رمز للحُب الذي تطمح إليه الذات الشاعرة في مواجهة الوحدة والاغتراب والتعصب الذي ينتج البغضاء والحروب .
والشاعر في رفضه التعصُّب والكراهية والحرب، ومع مواجهتهم بالحُب : حُب الكتابة وحُب الآخر – أي المرأة – يضعنا أمام صورة من صور التحضُّر التي نحتاجها : «فنحن إذن في حاجة أن تستقر الحضارة في نفوسنا ونحن إذن في حاجة إلى أن تصبح الحضارة جزءا ً مِنَّا، ولكي يتمّ ذلك لنا لا بُدَّ لنا أوَّلا ً من أن نَحِس أن هذه الحضارة ليست شيئا ً غريبا ً يُجلب لنا من الخارج وإنما هي شئ مستقِّر عندنا نصدر فيه عن طبائعنا وعن نفوسنا وأمزجتنا وأذواقنا ليتيح لنا أن يكون لنا الشِعر الجديد بأدق معاني هذه الكلمة وأعمقها وأوسعها . لست أدري متى يتاح لنا بلوغ هذه المنزلة ومتى نصل إلى هذه الدرجة من تأصُّل الحضارة بحيث يستطيع الشِعر الجديد أن يُعّبِّرعن نفوس جديدة»(4) .
وإذا نظرنا إلى عنوان الديوان باعتباره عتبة هامة من عتبات تأويل النص الأدبيّ نجد كلمة «مراكب «جاءت جمعا ً للدِلالة على كثرتها، وفَسَّرَها الشاعر داخل الديوان بأن تلك المراكب هي رسائل المحبوبة في إشارة إلى انتظار الذات الشاعرة للكثير والكثير من تلك الرسائل، وتنكيرها هنا جاء للتعظيم الذي يتناسب مع صيغة الجمع ويتناسب مع انتظار الذات الشاعرة للكثير منها، ثم ينعت الشاعر تلك المراكب بكلمة «ورقيَّة «في إشارة رمزية ضِمنية إلى ضعفها، وإلى كونها تحمل في أبعادها الدلالية شعور «النوستالجيا «والحنين إلى الطفولة باعتبار تلك المراكب الورقية من وسائل اللعب في تلك الفترة، أو رُبَّما إشارة رمزية للتشيؤ والاغتراب والبعُد عن المحبوبة فلا تبقى وسيلة للتواصل سوى المراكب/الرسائل الورقية التي تنتظرها الذات الشاعرة للعبور إلى الحياة التي تطمح في الوصول إليها، أو أن الشاعر يحملنا بكلمة «ورقيَّة «إلى حقل دِلاليٍّ آخر هو أهمية الكتابة والإبداع باعتبار الورق من الأدوات التي يستخدمها المبدع ليسجِّل إبداعه عليه . وأعلى العنوان نجد اسم الشاعر «زهران القاسمي «وما يحمله من رموز دِلالية ترتبط بموقع الاسم على غلاف الديوان واللون الذي كُتب به، فبالنسبة لموقع الاسم على غلاف الديوان نجده أعلى الغلاف ويعلو العنوان مِمَّا يدل على حضور الذات الشاعرة القويّ واعتدادها بنفسها داخل الديوان، ويجي اسم الشاعر باللون الأحمر القاتم يعطي إشارة ما إلى الإحساس بالمعاناة من غياب الآخر، فاللون الأحمر يُذكِّرنا بالدماء وما تثيره في النفس من ألَم وحُزن، وفي جانب آخر يشير اللون الأحمر إلى حقل دِلالِيّ مختلف تماما ً، فقد يكون هذا اللون مِن حُمرة الورد رمز الحُب الذي تتكِئ عليه رؤية الشاعر داخل الديوان .
ونلاحظ في الديوان غياب الإهداء وهذا الأمْر ليس بغريبٍ – كما يعتقد البعض – لأنَّ «غياب الإهداء لا يدل بالضرورة على أيٍّ من الأمْرَين – إشارة إلى موقف «جيرار جنيت «من عدم وجود إنسان يستحق الكتاب أو يستحقه الكتاب – فغياب الإهداء هو الأصل الشائع …. وغياب الإهداء قد يُعَلَّل جزئيا ً باعتباره موقفا ً للمؤلف الحديث من ممارسة الإهداء ذاتها»(5) .
وعلى المستوى الفنيّ جاء الديوان قصيدة واحدة مقسَّمة إلى عدد من المقاطع الصغيرة التي تشبه «الإبيجراما «في بِنيتها القصيرة القائمة على المفارقة أحيانا ً واللغة شديدة التركيز والتكثيف، فيقول في ص 18 : «أشعر بكِ هنا/ تماما ً على خاصرتي/ شيء من الوجع الخفيف/ أشعر بكِ للحظة/ هي الزمن كُلُّه». حالة الحُب تلك تُمثِّل صورة الانجذاب الصوفيّ، بمعجمها الشِعرِيّ، وعجْز اللغة عن البوح بما يدور في النفس، لنرى الديوان منذ المقطع الأول حالة صوفية تشع برموز «الحضور – الغياب – العجز ….وغيرها «فيقول في ص 5 : «منذ متى أتعلّم اللغة/ لأقف أمامكِ/ وأخاطبكِ كما ينبغي/ لكنها لغة صعبة/ أبحث في المعاجم فلا تسعفني/ كل هذا الكم ميت في حضرتكِ/ وأنا أهرب باحثا ً/ يا صحراء/ يا جبال/ يا مستحثات/ يا قلوب تناثرت في الكون/ لكن كل شيء يُصَلِّي بصمت/ واستكانة/ مثل عصفور يرمق بخدر وعذوبة/ تفتّح زهرة غريبة».أو قوله ص 40 : «أستعيذكِ من النسيان يا حبيبتي/ أن تأتي لحظة/ وليس ثمّة أغنية في خاطري/ عن عينيكِ أو أصابعكِ الراقصة/ أستعيذكِ من الجبروت الذي/ يلحق بالشوق/ وبالانتظار الذي ينبت أشجار الضغينة». مثل هذا الحضور الصوفيّ على مستوى الرؤية والمعجم الشِعرِيّ يراه البعض صورة من صور الخصوصية بل أحد مراتبها حيث : «تُمَثِّل حالة الانجذاب الوجدانية عند المتصوفة العالِميين ذروة الإشراق في رحلة وصلهم، الساعية نحو مراتب الخصوصية التي تلفُّهم في رداء الوصل، حيث هم منشغلون عَمَّا ينشغل به العامة من مكالب الدنيا، لأنهم مترفعون على غوايات الجوارح، ومتأبُّون على سطوة المادة لدرجة لا يستطيعون معها البوح بما تختلج به أرواحهم، وما تموج به صدورهم سوى بالانخراط في سبر أغوار المعرفة والتفقّه النوراني عَبْر الأذكار والتسابيح والاستغراق في التفكير والتأمُّل في ملكوت الكون»(6) . لذا وجدنا عند الشاعر تصريحه بعجز اللغة عن التعبير فالمعاجم لا تسعفه، ونجد تعبيره عن خصوصيته واختلافه عن الناس – الذين سيذهبون إلى الحرب والضغينة – بينما هو سيقف متأملا ً منتظرا ً الحب ورسائل محبوبته .
جانب آخر من جوانب توظيف اللغة داخل الديوان هو توظيف اللغة القائمة على السرد والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، ولعل هذا ينبع من البنية المعرفية للشاعر وخبرته الطويلة في التعامل مع فن القصة والرواية، وقد صدر له من قبل «سيرة الحجر 1»(7) و «سيرة الحجر 2»(8) و «جبل الشوع»(9) و«القناص»(10)، لذا لم يكن غريبا ً أن نجد ذلك التوظيف الجيد للسرد كما في ص 60 – 61 حين يقول : «أكتب اسمكِ وأنا أنسى ما أريد قوله/ أخط اسمكِ على شجرة الجيران/ كلما سافروا/ تتساقط الأوراق/ وعبثا ً ألملمها وألصقها ثانية/ لعل الشجرة تعود مورقة/ لكنهم عندما يعودون/ يستبشرون فرحا/ يقول كبيرهم حان وقت النيروز/ ويقصد الخريف/ تطير الأوراق مع عواصف المساء/ فأشعر بكل ورقة/ تغادر في روحي».
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
أو ذلك الحديث السرديّ عن الرغبة في الكتابة موظِّفا ً التفاصيل الصغيرة من اليوميّ والمعيشيّ حين يقول في ص 7-8 : «أريد أن أكتب شيئا/ أكتب إليكِ أو إلى شجرة اللمبا العجوز/ عن عروق يديكِ أو عن السواقي التي طمرها السيل/ لكنني قلق الآن/ من كبدي ينبثق ألم خفيف/ مذكرا ً إيَّاي بضرورة أخذ فنجان صغير/ من القهوة والألم كل يوم/ وأنا لا تراب في كفي/ لأزرع عليه سيرتك/ ولا النوارس تخطئ ولو لمَرَّة في العمر/ وتمر على الجبال».
وقد جاء توظيف السرد تأكيدا ً على الحضور القويّ للذات الشاعرة، وفي الربط وخلق علاقة بينها وبين السرد الشِعرِيّ، وفي هذا الصدد يقول الدكتور شوكت المصريّ : «ولعلّ أُولى تمثلات الشخصية داخل النص الشِعرِيّ هو أنَّ «الأنا «فيه غالبا ً ما تكون شخصية رئيسية معادلة للبطل في الحكاية مهما حاول الشاعر الهروب من هذه الغلبة وهذه السيطرة، فأنا الشاعر إمَّا أن تكون حاضرة باعتبارها فاعِلا ً رئيسيا ً للحدث، وإمَّا أنها تحكم سيطرتها عَبْر استدعاء أنا أخرى تقاسمها الحدث أو تفردها «أنا ساردة «به . لكن السمة الغالبة على الشِعر( باعتبار الغنائية سمته الرئيسية ) أن تكون أنا الشاعر هي السارد المسيطر على الحدث وحركته في النص الشعِرِيّ حتى ولو كان ذلك الحضور مُقَنَّعا ً بشخصية أخرى أو مُتلبِّسا ً بها»(11) . من هنا تأتي أهمية توظيف السرد في كونه يعكس الرؤية التي يرتكز عليها الديوان وهي الحضور القويّ للذات الشاعرة وإن كان مُقَنَّعا ً بالتركيز في الحديث عن الآخر : ( هي – الكتابة )، حتى لو عَبَّر الشاعر صراحة عن تشيؤ واغتراب الذات كما في قوله ص 15 : «أنا أغنّيكِ وحيدا/ وأسافر إليكِ وحيدا/ وأبحث بين وحدتي/ لا عشبة خضراء/ ولا نبع يعكس حديث نجمة غاربة/ متعب جدا/ وموجع».
ويأتي حُب الشاعر للبحر ومفرداته ليأتي من هذا الحب رموز صوره الشعرية مثل : ( المراكب الورقية – الأسماك – أسماك القِرش – القرصان – السفينة – الموج – الغَرَق ) في صور جزئية أهم ما يميزها كونها جديدة ومبتكرِة مثل تلك الصورة الشعرية ص 23-24 «مولع أنا بالمراكب الورقية/ وكل يوم/ أصنع من رسائلي مراكب جديدة/ وأطلقها في الماء/ فترحل المراكب/ تأخذها الرياح حتى تختفي/ وكلما غاب مركب ورقيّ في الأفق/ ظهر طائر أزرق/ حتى إذا مَرَّ بمحاذاتي/ هبط إلى الماء وأخذ ينقره قليلا/ تكبر الدوائر من كل نقرة/ حتى تصل إليّ/ فأعلم أنها رسائلك». أو قوله في ص 38-39 : «حدقة في الغياب/ حدقة مفتوحة عن آخرها/ لا لدهشة أو ألَم/ حدقة قرصان قبض على رسائلي/ وبعدما قرأها/ فتح حدقة عينه الوحيدة/ ظلَّ هكذا/ رحلَتْ سفينته ومعاونوه/ وهو على صخرة تشبه رجلا ً مكسور الظهر/ حدقة تبصرني على ساحل/ هجره المستكشفون/ ومن تلك الحدقة/ تتلألأ زرقة البحر». وفي نفس الحقل الدِلاليّ تأتي صورة الغريق والماء والسمكة في قوله ص 51 : «دائما أحلم أنني أغرق/ أرى ماء لا يشبه الماء في شيء/ يسيل هادِرا من خصلات شَعرِكِ/ دائما يجرفني السيل إلى سفرجلة في يدك/ هناك تطفو جثتي/ مثل سمكة نافقة/ يطفو قلبي مثل بالونة». كما يصوِّر عينه القلقة على هذا النحو في تلك الصورة الجديدة المبتكرة المعبِّرة والمحمَّلة بهذا الكَم من المرارة والأسى، والمأخوذة من عالم البحر المولَع به حين يقول ص 47 : «في عيني القلقة/ تسبح سمكة قِرش جائعة/ أضاعت فريستها».
ولم يكتفِ الشاعر في توظيف الصورة الشعرية الجزئية المبتكَرة بالرموز المأخوذة من عالَم البحر فقط بل نجد صورا ً أخرى مأخوذة من عالَم المدنيَّة الحديثة كتلك الصورة في ص 49 : «أقول آآآآه طويلة/ يمد منها منهدسو الكهرباء ما تحتاجه/ بيوت من طاقة». وفي صورة أخرى، لا يريد الشاعر أن يكون فردا ً واحدا ً بل شعبا ً من العُشَّاق، لكنه يتجاوز هذا في صورة لا معقولة جديدة توضح أثر الحُب فيه حين يقول ص 16 – 17 «هيييييه تعال انظروا/ ها أنا عاشق/ أصابعي الآن ليست عشرا ً/ ها هي تزيد/ وها أنا أعد عشقي/ وأخطئ/ أعد وأخطئ/ وكلما بدأت من جديد تتزايد الأصابع». ولنتأمّل معا تكرار حرف الياء في كلمة «هييييه «في المقطع السابق .وتكرار الألف في الآهة الموجودة في المقطع الذي قبله «آآآآه «ليعطي إطالة في النطق تتناسب مع كثرة وطول الآهات وتنهداتها، كذلك الالتفات – تعدد الضمائر – في المقطع الأول حيث «تعالَ «– أي أنتَ – ضمير للمخاطَب المُفرَد، ثُم «انظروا «المخاطب واو الجماعة، ثم ضمير المتكلم في «ها أنا عاشق «ليلفت الشاعر انتباه المتلقي، ويبين الشاعر من خلال هذا الالتفات قدرته على توظيف التنوّع في تشكيله اللغويّ . والتعامل مع الصورة الشعرية على هذا النحو يبرز أهميتها لأنَّ «الصورة الشعرية – تحديدا ً – هي طاقة من طاقات الإبداع المختلفة، تمنح النص جماليته وشِعريته، يتحد الشاعر بنصه اتحادا ً قويا ً من خلال صوغه لصوره الشِعرية وتراكيبها اللغوية والجمالية، لأنّ الشاعر خلق صور لهذا العالَم ومن خلال العالم الشِعريّ نفسه، يبدع هذا الصور إبداعا ً ذاتيا ً وجماعيا ً، يبث من خلالها روحه ومعاناته وقلقه»( 12 ) .
وقد تنوع توظيف الصورة الشِعريَّة داخل الديوان بين الصورة الجزئية – التي سبق الحديث عنها – والصورة الكليّة القائمة على رسم مشهد كامل يمكن تخيله بجميع عناصره وكأن الشاعر يعرض مشهدا ً روائيا ً أو يرسم لوحة تشكيلية يمكن بسهولة تلمُّس عناصرها، مثلما نجد في ص 25-26 : «أسمعكِ/ صوتك قريب الآن/ ليس في سمَّاعة الهاتف/ ولا خلف الجدار/ إنَّه يخرج من باطن كفي/ أرفعها إلى أذني وأستمع إلى همسك/ تحكين عن مراكبي الورقية/ التي تصل إليكِ وقد تحوَّلَت إلى فراشات/ لكنني لا أعرف لماذا سكت ولم أخبرك/ بأن البحيرة قد جفَّت/ وأن الطين في قاعها قد تكسّر على شكل رسائل/ نبتت بين جوانبها زهور بيضاء/ وكأنني سمعت همسك عنها/ وعن احتراقها». أو ذلك المشهد الدراميّ الذي يوحي بالألم في ص 28 حين يقول : «وأنا العاشق/ لا سُلَّم لي لأصعد إلى قلبي/ وقد تعلّق على حبل انتظارك/ لذلك ألوِّح له/ مخافة أن ينفلت/ مثلما تلوِّح أُم لطفلها الصغير/ مخافة أن ينزلق من الشرفة».
من القراءة السابقة يمكن القول إنّ ( مراكب ورقية ) ديوان يحمل بين جنباته هَمّ الذات في رفضها للتعصب والبغضاء والحروب، وتواجه كل هذا بالحُب : حُب المرأة وحُب الكتابة والإبداع، في قصيدة تمثل دفقة شِعرية واحدة اعتمدت على توظيف المعجم الصوفيّ والصورة الشِعريّة الجديدة المبتكرة، والجمع بين الخيال الجزئيّ والكليّ، وتوظيف لغة السرد للتعبير عن الحُب باعتباره حقيقة وجودية لا حياة للذات الشاعرة بدونه .
**************************
الهوامش :
1- يراجع : د. جابر عصفور – رؤى العالَم …عن تأسيس الحداثة العربية في الشِعر –الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2011 –ص 131
2- زهران القاسمي – ديوان «مراكب ورقية «– مؤسسة أروقة للترجمة والنشر والتوزيع – القاهرة – الطبعة الأولى 2016 – ص 21-22
3- انظر : د. عبد الحكيم بلبع – حركة التجديد الشعرِيّ في المهجر بين النظرية والتطبيق – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1980 –ص 300
4- انظر : طه حسين – تقليد وتجديد – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2013 –ص 143
5- انظر: د .صادق القاضي- عتبات النص الشعريّ الحديث في شعرية المعاصرة ومعاصرة الشِعر – أروقة للترجمة والنشر والتوزيع – القاهرة – الطبعة الأولى 2014 – ص 364
6- يراجع : صبري قنديل – إشراقة الشِعر – كتاب الاتحاد – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2009 – ص 115
7- زهران القاسمي سيرة الحجر 1 – حكايات قروية – دار الفرقد 2009
8- زهران القاسمي – سيرة الحجر 2 – نصوص – دار نينوى – دمشق 2011
9- زهران القاسمي – جبل الشوع – رواية – دار الفرقد – دمشق 2013
10- القناص – رواية – مسعى 2014
11- انظر : د . شوكت المصريّ – تجليات السرد في الشِعر العربي الحديث – دراسات أدبية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2015 – ص 92
12- انظر د . أحمد الصغير المراغي – بناء قصيدة الإبيجراما في الشِعر العربي الحديث – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2012 – ص 107
1
إبراهيم موسى النَحـّاس