احتفلت"جمعية الشعراء الحديثين " فى اليابان وفى صيف 1994 بصدور مختارات من الشعر اليابانى الحديث باللغة للعربية ، وكان كاتب هذه. السطور قد ترجم تلك ـ المختارات عن اليابانية مباشرة بالتعاون مع المستعربة كاورو – ياماموتو ونشرت فى سوريا عن دار المواقف تحت عنوان "سفينة الموت " ديوان الشعر اليابانى الحديث حوارات وقصائد.
واثناء للاحتفال -اللقاء بهذه المناسبة طلب الى كاتب هذه السطور وصاحب الترجمة العربية لن يقدم لمحة عن الشعر للعربي الحديث وعن انطباعاته التى تولد اثناء العمل على ترجمة الشعر لليابانى الى للغة للعربية، وفيما يلى نص الكلمة للتى القاها،ومن الجدير بالذكر ان الاحتفال -اللقاء قد اقتصر على الشعراء فقط وحضره. حوالي ثلاثين شاعرا يابانيا.
كنا، اصدقائى وانا نتساءل ونحن نطلع على الشعر الاورربي والأمريكي المعاصر، وماذا عن الشعر اليابانى الحديث ، كيف يكتب شعراء يابان التكنولوجيا.
ما هو النصي الشعري الحديث الذى يمكن ان يكون مقابل هذه التكنولوجيات التى غزت اليابان بسرعة هائلة بعد الحرب الكونية الثانية، هل انتقل اهتمام الشاعر اليابانى من تأمل الطبيعة الى تأمل مصنع سيارات ، من تأمل وردة فى قمة جبل الى تأمل دولاب سيارة او تأمل برغى فى كمبيوتر، بماذا يهتم الشاعر اليابانى الآن .
هل خرج على قوانين التانكا والهايكو… واذ ا كان باشور وبوزون مثلا قد اجتازا حدود اليابان ليصبحا سفري الحساسية الشعرية اليابانية ليصبح الهايكو الرمز الأول لهذه الحساسية، فلماذا لم يستطع الشعر الحديث اليابانى – وعمره الآن يتجاوز المائة عام – ان يصل ونحن فى عصر الاعلام السريع الى خارج اليابان بقوة السلعة اليابانية التي نالت ثقة المستهلك الاجنبي دون منازع هل لان البلدان المتقدمة لم تعد تنتج شعرا لانها لم تعد بحاجة اليه ، ام لان الشعر يهاجر من هذه البلدان حيث مكان الصدارة لم يعد له ، الى بلدان أخرى يكون فيها السيد الاول ام لان للشعر الحديث تحديدا قدرا متشابها فى جميع انحاء العالم حيث الابواب تفلق فى وجهه بحجج متعددة غموضه ، صعوبته ، خروجه على المألوف ، عدم جدواه، أم لانه اصبح قضية تخص نخبة معينة دون غيرها، وصار له زبائنه الذين يبحثون عنه فقط دون غيره ام لانه لم يعد يقبل ان يكون مطية العقائد والايديولوجيات التي تروج لها وسائل اعلام بلدان تعتقد بمر كزيتها الثقافية ، ام ان الشاعر الحديث مكتف بسوقه المحلي ولا يريد ابعد من هذا المستوى.
الهذه الاسباب وغيرها لم نعرف الشعر الياباني الحديث عن قرب وبشكل جيد، لم نعرف رأي الشاعر الياباني المعاصر بالحداثة عموما وبالحداثة الشعرية خاصة . فى حين انتشرت أراء شعراء كثيرين من امريكا واوروبا والعالم العربي.
لذلك كله ، رأيت نفسي، وانا فى اليابان ، مدفوعا فى اتجاه الشعر الياباني المعا هو وفى اتجاه شعر ائه اطرح عليهم اسئلتى العربية حول الشعر الياباني وحول معانى الحداثة الشعرية ومشكلاتها فى اليابان فنحن العرب ، لدينا ربما اقدم تقاليد شعرية مستمرة بشكلها من اكثر من ألفى عام على الاقل .
وما نزال إلى اليوم ندرس وندرس هذا الشعر فى مؤسساتنا التعليمية بصفته اساس هويتنا العربية الاول … ومن سمات هذا الشعرالاولى اعتماده على عناصر الطبيعة الصحراوية وعلى التجربة الفردية ، جميع صوره محسوسة وغياب صريح للتجريد الذي سوف يطفى على الشعر العربي بعد مجىء الاسلام ولا يوجد عربي اليوم ، يعرف القراءة والكتابة ، إلا ويحفظ شيئا من هذا الشعر القديم ، لقد ظلت قوانينه العروضية تسيطر على الشاعر العربي الى بداية القرن العشرين ، ولم يتحرر منها بشكل كلي إلا فى الاربعينات "1940" حيث بدأت حركة الحداثة الشعرية العربية ، فى البداية ولد شعر يحترم جزئيا القواعد الشعرية القديمة اي يستخدم مقطعا موسيقيا واحدا فى القصيدة بدلا من مجموع مقاطع متناغمة فيما بينها تسمى «بحرا» ثم ولد شعر متحرر تماما من القواعد وهو الذي نسميه بالعربية «قصيدة النثر» هكذا لدينا اليوم ثلاثة اشكال شعرية تتعايش فوق ارض واحدة ، ولكل شكل قراؤه ومحبوه ، شعراء الافكار الايديولولجية لايزالون يكتبون وفق الشكل القديم او وفق الشكل الثاني، اي الذي يحترم قواعد القديم جزئيا، أما قصيدة النثر، فيكتبها شعراء لا يؤمنون بالافكار الكبرى ولا بالايديولوجيات داخل الشعر يعبر هؤلاء عن مشكلاتهم الفردية اليومية بطريقة بسيطة بعيدة عن التعابير الرنانة وعن الغنائية التقليدية .
لايزال شعراء الشكل التقليدي المعاصرون أدوات بيد السلطة السياسية والدينية فى العالم العربي، أما شعراء الشكل الثاني فهم الذين نسميهم اليوم بشعراء الحداثة العربية لكنهم هم أيضا شعراء الايديولوجيات السياسية الجديدة قومية ، ماركسية ، ليبرالية ، وهم الذين نقلوا الى العربية حداثة الغرب الشعرية وتأثروا بها، يميلون فى الغالب الى كتابة القصيدة الطويلة التي تصل إلى المائة صفحة احيانا ، قصيدة اقرب الى الملحمة الشعرية ، فيها الفلسفة والتاريخ والدين ، والحب والجنس … الخ ويسمونها بالقصيدة الشمولية _ الكلية على اساس ان الشاعر يجب ان يكون نبيا يعرف كل شىء ويقول كل شىء ويتدخل فى كل شىء، تماما مثل ت .س اليوت الذي اراد بشعره ان يكون مسيحا جديدا يقدم برنامج خلاص للانسانية من الخطيئة والبؤس .
من هذا الجو أتيت بأسئلتي التي طرحتها على شعراء يابانيين مجايلين للشعراء العرب اليوم ويعيشون ، بشكل أو بآخر، الهموم الشعرية ذاتها، ولاسيما هم الحداثة والتجديد الشعري لم تكن اسئلتى غريبة عنهم ، وجاءت اجاباتهم وكأنها متعلقة بمشكلات الشعر العربي الحديث الى حد ما فيما هم يتحدثون عن الشعر الياباني. طرحت اسئلة متشابهة على شعراء تختلف عوالمهم الشعرية .
افتتحت الحوار بسؤال حول هوية الشعر الياباني الحديث ى حول هوية الشاعر نفسه ، اي ما معنى ان يقال فلان شاعر ياباني وآخر شاعر عربي او فرنسي، وجاءت الاجوبة متقاربة جدا على اساس لان اللفة هي الهوية ، انا شاعر ياباني لانني كتب باللغة اليابانية ثم يأتي تعقيب يشير الى ان القصيدة :تفقد هويتها كاملة بعد ان تنتقل الى لفة اخري، بل لابد ان بقى جزء يسير يدلل بشكل او بآخر على تلك الهوية وحول يؤات الشعر الياباني الحديث اشار الشعراء الى انه متحرر من مو ورات الشكل الخارجي، اي من قواعد الها يكو والتانكا، بصار يميل الى لفة بسيطة بعيدة عن الغنائية التقليدية ، اضاف بعضهم قائلا: من لم ينجح فى فهم واتقان قواعد الهايكو والتانكا لم ينجح فى مجال الشعر الحديث .
لكن ألح بعضهم على ان كتابة الشعر الحديث اصعب بكثير ن كتابة التانكا والها يكو، على اساس ان الموسيقى الخارجية . تنقذ الهايك او التانكا فى حال فشل الشاعر فى ابراز الفنية شعرية ، آنذاك لايبقى إلا الكلام المموسق فكم من قصيدة تانكا ليس فيها من خصائص الشعر إلا الموسيقى، وعندما يتخلى الشاعر عن هذه الموسيقى تصبح كتابة الشعر صعبة جدا، ويحتاج الى تركيز وتوتر من الدرجة الأولى ، والشعرية قد توجد فى هايكو او فى تانكا او فى نص منثور والحداثة ليست صفة ملازمة لكل نص تحرر من القواعد الشعرية القديمة ، هذا تماما ما قد يقوله شاعر عربي حول موضوعة مماثلة لان فى شعرنا الاشكالية ذاتها، وعن علاقة الشعر بكل من الدين والسياسة ، اكدوا على وجود هذه العلاقة بشكل او باخر، وقيما يتعلق بالاجيال الشعرية الجديدة ، عبر بعضهم عن أسفه لعدم وجود جيل متين كما كان فى السابق وقال اخر بأنه لاينهم غالبية شعراء الجيل الجديد على اساس انهم بعيدون عن الواقع ويعتمدون على الذهن كثيرا.
وهذا هو موقف الشعراء العرب عموما من الاجيال الشعرية التالية لهم : فهم يتهمون هذه الاجيال بأنها غير قادرة على الوقوف بمواز اتهم وغير قادرة على استلام الراية الشعرية الحديثة بعدهم ، وهذا هو الاتهام الذي تعرضوا هم انفسهم له فى بدايات عطاءاتهم الشعرية ، يبدو ان قاعدة «النفى يقود الى الاثبات » سارية المفعول فى جميع البلدان وعلى جميع الاصعدة ، فلكي تثبت نفسك لابد من ان تعترف بالاخر وتنفيه فى ان ، هذه خلاصة الاسئلة والاجوبة التي وضعتها فى مقدمة إلمبختارات كي تساعد القارىء العربي على فهم جو الشعر الياباني الحديث .
اذا كان الشاعر الياباني المعا هو يلتقى، فى هذه الحوارات على الاقل ، مع مجاملة العربي حول بعض القضايا النظرية ، فانه يفترق عنه فى طريقة الكتابة افتراقا جليا ويلتقي بالاحري مع اجيال عربية شعرية جديدة .
سوف اسوق بعض الانطباعات الشخصية التي تولدت اثناء العمل على هذه المختارات ، وهى انطباعات قد تتحول الى دراسة منفصلة .
يبدو لى ان الشاعر الياباني الحديث عاشق لحاضره يتمتع باكتشافه والتعرف اليه وتذوق جمالاته ، فمن هذا الحاضر تأتى القصيدة اي بما يحيط بالشاعر بصفته فردا يريد التداخل مع عالمه اليرمى، يريد نشر هذا العالم بطريقة شعرية .
الشىء الغريب الموجود امامه هو موضوع الجمال واللاجمال فى ان ، حاضر الشاعر الياباني سريع الزوال ، سريع الحركة وكثيرا ما يأسف الشاعر لهذه السرعة فيحاول الامساك بجوهر هذا الزوال والهشاشة ، يحاول التقاط الحركات الخفيفة فى جميع الاشياء بشكل ذكى وبسيط مثل طفل يتحرك بلا تصنع ، يأتي كلام الشاعر الياباني عموما مثل تنهد نسمة تمر مع الرياح ، يعيش مع الرياح ويتنفسها لكن عندما تأتى نسمة جميلة ونقية يلتقطها بسرعة ويتنفسها، فتأتى القصيدة هكذا من داخل أشياء كثيرة متراكمة حول الشاعر لتضىء الدرب نحو الجميل فى الحاضر يتحدث عن تجربته بأقل ما يمكن من الكلام ، وبأ قل ما يمكن من الكلام يحول كل ما يحيط به الى شعر، او بعبارة اصح يكتشف الشعر فيما يحيط به فيما هو حاضر معه ويعيشه انه فى سباق مع نفسه من اجل ذلك .
الشعر الياباني الحديث ، كما بدا لى من خلال هذه المختارات ، يريد ان يكون حاضرا حضور الاشياء، مرئيا ملموسا مثلها لان فيها كما اعتقد يقوم الماضي والحاضر والمستقبل ، فاللحظة الحاضرة هي جمع الماضي والحاضر والمستقبل .
وبقار ما نقترب من هذه اللحظة ونعيشها نقترب من الانسان الحاضر ونعيشه ، وهو بدوره جمع الانسان الماضي والانسان المستقبلي ، ولا نرى قيمة لشعر لايعنى بالانسان بصفته كائنا ـ فردا حاضوا يعيش وسط محيط خليط من الاشياء.
لايترفع عن هذه الاشياء ولا يدعى سيادته عليها، فهي مثله لها حياتها الخاصة اللابد من رؤيتها كما هي واكتشاف
الشعري فيها، فصوت كلب احيانا او صوت تقطيع السكاكين او الصفير البعيد قد تنادى العالم اكثر من اغنيات الشاعر نفسه كما يقول شونتا رو تانيكاوا ان هذا التواضع امام العالم واشيائه كثير الوضوح فى هذه المختارات وقلما نجد له مثيلا خارج اليابان ولهذا لانجد ءانا» الشاعر الياباني بارزة جدا داخل القصيدة وبالكاد يعبر عنها مرة او مرتين واذا ظهرت هذه الانا فلكي توحى بشكل خفيف انها غير مستقلة عن الوجود واشيائه ، وانها جزء من هذا الوجود ولا معنى لها خارج هذا الحاضر، فالشاعر الياباني يغيب اناه قدر المستطاع لصالح الشعر يضحى بها على عتبة القصيدة وما ذلك إلا لانه يتكلم بصفته انسانا اولا لابصفته شاعرا قادما من عالم غير عالم الانسانية ، فهو لايطمح الى مكانة الرسل والانبياء والقادة العظام الذين يتموضعون عموما فوق كل شىء، ويستأثرون بالكلام كل الكلام وهو لايعبر بصفته شاعرا عظيما يريد تحقيق فتوحات وانتصارات فكرية هائلة من خلال الشعر على طريقة ت .س اليوت الانجليزي الامريكي او سان جون بيرس الفرنسي او ادونيس العربي او اكتافيو باز المكسيكي الاسباني، أي على طريقة شعراء تشبعوا بالافكار الدينية مسيحية واسلامية او شيوعية ، حيث ان الشعر يصير الوجه الآخر للفكرة الدينية او الفلسفية او السياسية وحيث ان الشاعر ينصب نفسه راهبا او شيخا او فيلسوفا او قائدا يقدم عبر القصيدة برنامجا خياليا مفهوميا لانقاذ الانسان والانسانية واعدا بعالم افضل غير هذا العالم الحاضر، اي بعالم غائب يظن انه موجود وراء هذا العالم وهكذا تجىء القصيدة بلاغة لغوية فارغة من نبض الحياة الانسانية وحر ارتها، مليئة بصور ذهنية مجردة لا وظيفة لها إلا تضخيم ذات الشاعر وتمجيدها وتقبيح الحاضر اي تأتى على طريقة الخطبة الدينية او السياسية هذا الشعر أسميه شعر اغتيال الحاضر، لانه باسم الحديث عن المستقبل واكتشافه يتجاهل الحاضر وجمالية الحاضر.
على العكس من هذا كه ، الشاعر الياباني الحديث يكتب خارج اي برنامج شعري قصياي خارج أية نية لعرض العضلات الفنية والشعرية يكتب الشعر لانه بحاجة الى هذا الشعر يكتب لانه شاعر انسان ولا يكتب لكي يصبح شاعرا – انسانا ولهذا يكتب باقتضاب شديد، ليس فى شعره مفاهيم وافكار كبرى، بل فيه الانسان بحركاته وحيويته وجماله ، ولا يطمح الى جعل الشعر قطارا من المفاهيم والافكار، يكتب ليكتشف الضوء فى الاشياء الحاضرة ، اي الجمال فى هذه الاشياء، يكتب دون خلفية عقائدية او ايديولوجية قضيته الاساسية هي ان يعيش العالم بطريقة شعرية دون اي برنامج مسبق ، هي ان يكتشف الشعر فى الاشياء، فى شجرة فى مطر فى اشياء المطبخ ، فى سمكة ، فى مزهرية ، فى نهير يفيض ، فى شلال ، فى قوا قع ، فى قنبلة ، فى وردة فى غائط طفل ، فى تقىء سكران ، فى رنين هاتف ، فى ربطة بصل افض، فى الملح الابيض ، فى اشياء لها علاقة حميمة بالانسان ، الشاعر الياباني لايحب ان يطير عاليا جدا فوق عالم الانسان ، وغير مستعجل لفهم عالم الغيب والمجهول ، يريد أولا فهم هذا العالم ليس من خلال الافكار والمفاهيم بل من خلال التجربة الحسية ، التجربة والقصيدة تولدان معا اي هما توأمان .
اعيد قراءة بعض القصائد التي ركزت على الاشياء اليومية العادية واذكر على سبيل المثال لا الحصر قصائد لا تربطني، قوا قع ، شيب الشقراء، نصف ساعة عند الغروب ، اعيد قراءة هذه القصائد وغيرها وانا اتساءل كيف تجرأ الشاعر الياباني على كتابة هذا، كيف تجرأ على ادخال القوقعة ، البصل الاخضر او الملح الابيض ، فى نسيج القصيدة الحديثة ، ألم يخف على فنية وشعرية هذه القصيدة ؟ لان استخدام الاشياء اليومية وأسمائها فى الشعر الحديث حيث لا توجد موسيقى خارجية قد تنقذ الكلام من عاديته وتقنعه بقناع الشعر _ مغامرة حقيقية وغير مضمونة النتائج على الصعيد الفنى، ان الحساسية الميتافيزيقية التي تسيطر على الشعر القربى والعربي والامريكي سوف ترفض مثل هذه التعابير إلا فى اطار المزاح والنكتة لأي اطار شعري جاد، لكن هذا هو الشعر الذي يمكن ان يقال عنه ، انه يؤكل ، ان أ امثلة ادخال اليومى فى القصيدة اليابانية الحديثة كثيرة جدا غير ان هذه القصيدة اصبحت بدورها شيئا يوميا فالشاعر الياباني الحديث متصالح والى حد كبير مع اشيائه اليومية العادية ، كما هو متصالح منذ البداية مع الطبيعة والموت ، الشعر الياباني الحديث لايهمه ان يقال عنه انه شعر عظيم وكبير، كما يقال عادة عن شعر المفاهيم والافكار _ لكن يهمه ان يقال عنه إنه شعر ذكي وبسيط وجميل انه شعر الإنسان الطبيعي الموجود معنا لا شعر السوبرمان القادم مما وراء الانسان .
ان ذلك كذلك لان الشاعر الياباني صديق وفى وحميم لحواسه ، لايعاديها، لايسعى الى تدميرها بل يحييها ويقدم لها كل ما يستطيع لانها نوافذه الى العالم الخارجي والداخل ولانه يصادقها بوفاء، فإنها تعطيه بكرم وتسعفه بلا تردد فى التعبير الخفيف عن اسرع ما فى الوجود مرورا، ولهذا يرى جيدا، ويسمع جيدا ويشم جيدا، ويتحسس باللمس جيدا، ويتذوق طعم الاشياء جيدا، ولا يسمح للذهن ـ هذا الطاغية الميتافيزيقي ـ ان يتحكم بهذه الحواس ، هكذا تأتى قصياته قصيدة حواس .
اذا كان رامبو قد نادى بتشويش الحواس من اجل الوصول الى الحقيقة واكتشاف العالم ، واذا كان السورياليون قد طبقوا هذه المقولة وغيرها من مقولات ورثوها هم ورامبو عن الفكر الديني المسيحي والاسلامي واليهودي، الداعى الى قتل الحواس او تعطيلها كقربان يقدم لاله متعال كي يكشف عن نفسه على اساس ان هذه الحواس حاجز كبير يمنع من الوصول الى الحقيقة _ الاله ، والى الجمال يقول اذا كان ذلك كذلك عند راهبو والسورياليين ، فإن الشاعر الياباني الحديث بقى صديقا كريما وهادئا لحواسه يعمل على ان تكون أصفى وأنقى ما يمكن لتأدية أدوارها على خير ما يمكن من اجل الوصول الى الجمال والمعرفة الجميلة خارج اطار المفاهيم الدينية المقدسة للجميل وخارج اطار المفاهيم الايديولوجية السياسية للجميل .
محمد عضيمة(شاعر ومترجم سوري مقيم في اليابان )