قصائد تحرس غابة اللغة للشاعرة السورية رشا عمران صباحات مدججة بحلم القصيدة الدافئ، وشغب الكتابة المتوغل في أرخبيلات الذاكرة، وأنفاق الذات. تخون عنف الحنين، تتجسس على خباياها الدفينة والأنيقة.وتتوغل في أقبية الكلمات النارية المشتعلة ببوح الذات، وبأسفار الروح العاشقة لفضاءات فاتنة متشحة بالشجن، والمشرعة على التأمل في جماليات الكون، ونداء الداخل. الداخل الذي يحترق بفتنة الانتماء للشعر، والاحتراق بشهوانية قاسية في محاريبه الغجرية، ومعابده الخضراء.قصيدة رشا عمران قصيدة الطلقة، وقصيدة المواجهة، مواجهة الذات والكون معا.تقول في قصيدة مفاتيح: قلت لك : أعطتني الحياة/ مفاتيحها/ غير أنني لم أجد أبواباً لأفتحها/ لم أر غير بهو واسع بجدران مكشوفة/ ومن السقف تدلت/ ملايين الأحلام المطفأة ! ! قلت لك عن الصمت الذي علق بي/ كان مرعباً آخر ذلك الليل/ حين أغلقت وراءك الباب الذي لم يغلق سابقاً/ فجأة لست هنا/ ليس غير حياد بليد/ لنزوة عابرة ! ! على ركبتي كنت أُجلِس مدناً لا أعرفها/ سكان تلك المدن/ لم ينتبهوا إلى غواياتي/ وأنا أحدثهم عن ليال ملتبسة/ ليال طويلة/ خبأت فيها رأسي بين ركبتي/ هل أخبرتك عن/سكان تلك المدن؟؟ صوت شعري آتٍ من خلف عشب القصيدة، تطرز بالكلمات الشفافة والدافئة طقوسا لكتابة مغامرة ومغايرة، تُراهن على احتفالية الذات في تشظيها وهشاشتها، في تصدعاتها وجنائزها، في انكساراتها وأعراسها. كتابة شعرية مسكونة بوجع الانتماء لأرخبيلات القصائد المشاكسة، المشاغبة، المبتهجة بيُتْمِ البوح، ونشيد الهجرة في فلوات النفس القصية، الموحشة والموغلة في تراتيل الحياة، المضيئة بقناديل الرعشة، وفوانيس الدهشة. قصيدة رشا عمران صرخة عنيفة لعاشقة تائهة في دروب الكون والحياة، تبحث عن كلمات مشتعلة بكيمياء اللغة لترمم ما تبقى من حنين الطفولة، وأطلال ذكرياتها وأحلامها وآلامها وآمالها. إن قصيدة الشاعرة السورية رشا عمران تُحرضك على الأسئلة، وتدفعك للتفكير مليا في متخيلها الشعري المنفتح على بناءات متعددة، تقودك لمنافي المعنى السحيقة. تُحارب الخواء والبياض بما هو انتهاك لقسوة العزلة . لم يكن الحجر الذي سقط من الجدار/ غير انحياز ناصع لفوضاي/ وأنا أبحث بين الشقوق/ عن تفاصيل لأخطاء/لم أرتكبها بعد . في الحب أيضاً/ أنحاز إلى رهانات خاسرة/ الشالات الطويلة التي طالما أشتريها/ تصل بين رهاناتي وأوهام البداية/ يحصل هذا دائماً/ لأسباب لا أحاول/ فهمها ! كيف لي أن ألملم وجوهاً/ تحنطت على الجدران قلتَ: ربما/ أن الجدران التي تحنطت/ وأن الوجوه/ محض هلوسات/ تنتهي آخر الليل! أن أنتظر تحول الليل/ من النافذة/ انقلاباً آخر للرمل/ أسفل الباب المغلق/ ما يشبه انفصال الضوء/ عن ضباب عميق/ أن أنتظر ما يصعد مني نحو/ نهار جديد/ هذا ما أفعله في غيابك……/ لنشرب ……/ في صحة البدايات/ إذاً . في انحيازها لـ(نصاعة الفوضى) و(رهانات الحب الخاسرة) ما يجعل الذات تواجه خرابها وانكسارها ويُتمها، فتتحصَّنُ باللغة كملاذ حقيقي من رعب الخارج. في الداخل/داخل اللغة بما هي مسكن، وداخل الروح تحس بالأمن والآمان. تشتغل على القصيدة الومضة، فيها تجد فلسفة الحياة، وشطحات السرياليين، وأحلام الرومانسيين، حكمة المعري، وغنائية بابلو نيرودا، وصفاء لوركا. تشكل قصيدتها عصابة متخصصة ومحترفة في الإجرام الجمالي لشتات المخيلة، علمتها الحياة فن الإنصات لأبسط الكائنات بالعالم. عُمر الشاعرة مع حرائق الكتابة يُقاس شعريا وجماليا، وليس كرونولوجيا أو تحقيبيا. تذهب في ممكناتها التخييلية لعوالم شعرية مشرعة على الحلم والبوح، واستحلاب أعماق النفس، وفتنة الطفولة عبر الانحياز لفتنة الذاكرة الاسترجاعية، هكذا يكون الانتماء للقصيدة كتجربة عميقة في الكتابة والحياة عملا مُلحا لاكتشاف عمق كينونتها الإبداعية، ومحاورة خصوبتها التخيليية والشعرية، والانتساب لمجرات الكتابة اختيارا مقصودا، وعرفانا متنورا، وانخراطا واعيا ضمن المنجز النصي الشعري العربي المعاصر، وتغذيته بتراكمات حواس مدربة بكثافة رمزية قصيدتها تؤرخ لتراتيل الحنين والغواية والدهشة أيضا. شاعرة مدججة ببهاء القصيدة، وبهو الغياب، تنصت عميقا لكتابتها وشهادتها وقصيدتها ولغتها. ترمم شظايا متخيلها المنسي، المسكون في شقوق الحياة، وعلى شرفات الكون، وصحاري اللغة. عاشت كثيرا تحت قرميد المعنى، وظلال الكلمات منتشية بعزلتها الأبدية لتصافح نداء الداخل الإنساني بحرارة. مسكونة بوعي شعري وجمالي عميق: الأضواء في الشارع الطويل/ الشارع المقابل لنافذتي/ تنطفئ/ ضوءاً ضوءاً/ ومن بعيد/ يقترب نحيب البحر/ كمن ينحني على وحشته/ فقط . استعادة جميلة تشتغل على أماكن الألفة والحنين واستحضار لأزمنة الطفولة بتقنية مُدربة تحرص على التقاط التفاصيل الصغيرة، ودقة عميقة في المشاهد. يصبح المكان بؤرة للكتابة الشعرية مسكونة بكثافة التأشمل، وأداة أساسية لتوليد الصور المتخيلة، وخلق حركية داخل أرخبيلات النص لتساهم في بناء الخطاب الشعري من داخل اللغة. علمتها طقوس الانخراط في الكتابة الشعرية كيف تكون القصيدة سفرا في المجهول واللانهائي، وطنا حاضنا لحلمها وجرحها وغربتها وأنينها وحنينها باللغة وعبرها، وكأنها تخترق عتبة المكان المعتاد والموصد في لغزه المرئي المنفلت، وسحره السري المشرع على اللبس. في مطاردتها للمكان تختزل سر الفضاءات،لتحد ولو وقتيا من سيولة الزمن وانفلاته وسيلانه السريع. تصون كبرياء لغتها المثقلة بهموم الذات وحنين المنفى عبر انتسابها بأناقة قاسية لفخاخ اللغة، ومكائد المعنى، قصيدتها شفافة كدمعة طفل. مع ديوان (معطف أحمر) للشاعرة السورية رشا عمران تتمتع برحلة شعرية مفعمة بالحلم والارتواء والطفولة والغبطة والإحساس بامتلاك الكون عبر الكتابة،حيث دهشة القصيدة تشرق في سماء الذاكرة كومضة أو برق لتفتح كتاب القلب على ألفة الحنين الطري. الهوامش: 1- رشا عمران،معطف أحمر فارغ، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقافة، دمشق 2009،ص9. 2- نفسه،ص9-10-11. 3- نفسه،ص12.
شاعر وناقد من المغرب