كانت طفولتي رتيبة وباهتة، أدرس بجدّ لأرى الفرحة في عينيْ أمي وأبي، وأركض طوال اليوم دون هدف مثل بقيّة أطفال القرية. كانت لُعَبُنَا تتنوّع حسب المواسم، وليس لأحد منّا أن يغيّرَ في نواميسها، وكلّ من يجرؤ على ذلك نصدّه ونمنعه، لكنّ مع ذلك حدثت بعض التّحويرات في هذه اللُّعَبِ، لقد فرضها الأطفال الذين يعودون مع عائلاتهم إلى القرية في العطل المدرسيّة، وكان معظمهم من أبناء المدرّسين.
كنّا نحتفي بالضيوف ولا نرفض لهم طلبا، كما كنّا ننظر إليهم بإعجاب، ونعلّق على تصرفاتهم ولهجتهم. كل شيء يصدر عنهم يبدو لنا غريبا، وعندما يشعرون بانبهارنا يتعمّدون التكلّف والتصنّع في القول والفعل، أذكر أنّنا كنّا نتسابق للفوز برضاهم، ندعوهم إلى منازلنا البسيطة ونقدّم لهم ما يبدو لنا ذا قيمة، ورغم أنّ دلالهم ومقارناتهم البائسة كانت تقلقنا، لم يحدث يوما إن أسأنا إليهم، اللهمّ إلاّ إذا كنّا في نوباتنا الهستيريّة في اللعب، كانت رائحة المدنيّة التي تعبق من ثيابهم، وأفكارهم، تجلبنا وتسحرنا، نحن نعرف أنّهم أبناء القرية أبا عن جدّ غير أنّنا نجد متعة في عدّهم غرباء عنّا .
لم ننقطع أنا وأصدقائي عن رعي الأغنام طيلة فترة الطفولة، أمّا صباحات الآحاد فنستغلّها لنملأ عربات الطّين لأمّهاتنا، كان مشهدا عاديّا أن ترى أطفالا يجرّون الطّين أو الحطب في قريتنا البائسة لأنّ صناعة « الكانون»(1) كانت مصدر رزق لأغلب سكّانها.
ولم يبق راسخا في وجداني من هذه الطفولة المُمِلّة إلاّ نخلة الجيران، كانت تثير فيّ شعورا غريبا، هو مزيج من الرّغبة والرّهبة.
ولم لا؟ فأنا أنال من ثمرها كلّ خريف، لكنّ ذلك لم يكن يسيرا إطلاقا، فابن جيراننا العجمي كان يقف حاجزا أمام كلّ من تسوِّل له نفسه الاقتراب منها، كان صراخه الحادّ مؤذيًا، وحُصَيَّاته أو حجراته التي لا تخطئ مرماها مخيفة . لطالما اعتقدت أنّه أحد جنود هذه النّخلة أوحرّاسها، العجمي شخص طريف وغريب الأطوار، فهو يتحوّل في فصل الخريف من طفل بسيط وساذج إلى طفل ماكر لا يغفل عن شيء، ينتقل في هذا الفصل الثّقيل من ملاك إلى شيطان.
كنت أحتال عليه، مستغلاّ فضوله المرضيّ، فأحدّثه عن معركة رهيبة تدور رحاها وسط القرية أو أنبئه بأي كارثة من الكوارث يمكن أن تقع، كنت أعرف أنّه سيكون بعد دقائق على عين المكان، أو كأن أمكّنه من «كركابتي»(2) المشهورة بين الأطفال بدقّّة صنعها فيلعب بها، كانت هذه هي الطريقة الوحيدة ليصرف نظره وحجره عنّي وعن نخلته، لم يكن الرطب باهظ الثمن وقتها فهو متوفّر في السوق كما في البيت، غير أنّني كنت لا أرى رطبا إلاّ ما نجنيه خلسة من نخلة جارنا.
سمعت حكايات كثيرة عن هذه النّخلة، قالوا إنّ جارنا أراد اقتلاعها ليبلّط ساحة داره لكنّ الفأس كان ينكسر في يده في كل مرّة، قالوا أيضا إنّ نفرا من الجنّ كان قائما على هذه النّخلة، وبمرور الزّمن تعوّد النّاس على أنّها «مسكونة»(3)، كما تخلّى جارنا عن محاولة التخلّص منها، وقد ازداد أهل القرية ثقة بتصوراتهم، عندما تأكدّوا من أنّ العجوز جدّة العجمي تتعامل مع هذه الكائنات، فقد كانت تتحدّث معهم وتستعين بهم، وروجوا فضلا عن ذلك أنّ العجمي هو الوحيد الذي يرى ما تراه جدّته.
لم يكن العجمي ليفهم كلّ ذلك لكنّه كان يعرف أنّ نخلتهم مُرْبِكَة ومخيفة، وأنّه مختلف عن أترابه، كانت علاقته بجدّته كبيرة جدّا حتى أنّه غادر مقاعد الدّراسة لفرط انشغاله بها، أمّا أنا فكنت أحسّ حين أتناول ما أظفر به من رطبها بخفّة عجيبة، فتنتابني رغبة في أن أقفز من أيّ مكان عالٍ، وقد لازمني هذا الشّعور طيلة فترة الشّباب ، كنت أحلم أنّي أطير دون أجنحة، وعندما أفيق أمسح العرق الذي يتصبّب من جبيني.
في ليالي الخريف المُمْطِرة كان تفاجئني رغبة في الذّهاب إلى بيت الحمّام، أشعر بالخوف أوّل الأمر، وبعد ذلك أنطُّ من فراشي واندفع نحو ساحة المنزل بعد أن أكون قد دُسْتُ أحد إخوتي الممدّدين بجانبي، عن غير قصد، كانت قطرات المطر تنقر وجهي الصّغير فتدبّ فيّ قشعريرة يتحرّك لها جسدي من إصبعي الكبير إلى مفرق شعري، وقبل أن أصل إلى بيت الحمّام كنت أقف كالصّنم متأمّلا النّخلة التي تُشْرِفُ على الجزء الخلفيّ من منزلنا، كنت أرغب في الهروب، غير أنّ متعتي تزداد كلّما قاومت الخوف أكثر.
ثمّ بشكل مفاجئ يغلي الرّعب في رأسي فأعود في طرفة عين إلى غرفة النّوم ، لم يكن من السهل أن أتموقع من جديد بين إخوتي في الفراش، لذلك أزحت يدَ أخي محمّد جانبا وأملت رأس أخي خليفة قليلا ثمّ حشرت ساقيّ بين سيقانهم، وفي الوقت الذي ملأت فيه مكاني بدأت مخيّلتي في تشكيل صور مخيفة، كنت أتخيّل أنّ حرّاس النخلة من الجنّ يرفعونني إلى مكان في السّماء ثم يلقونني من هناك، وقبل أن اصطدم بالأرض كانت ضحكات العجمي المقيتة تدقّ طبلة أذني، حينها أفتح عينيّ وأثبت نظراتي في الظّلام الدّامس، وأتلمّس وجه أحد إخوتي حتّى أختبر صدق حواسّي.
خرجت من القرية لأواصل دراستي في الكليّة وكنت لا أعود إليها إلاّ في العطل، ورغم أنّ معظم ذكريات الطفولة تلاشت من ذاكرتي كنت أستحضر صورة النخلة مجرّد أن تطأ قدماي أرض القرية. كنت أيضا أتسقّط أخبار العجمي، ألقاه من حين إلى آخر أحاول أن أظفر منه بنكتة بتصرف مضحك لكنه كان صنما باهتا لا غير، لقد فقد نهائيّا اهتمام الناس به وبشطحاته، لم يعد ذلك الصبيّ الطريف، فكلّ شيء جذّاب فيه تبدّد منذ سن المراهقة، تحلّلت شقاوته في تخشّن صوته ونمو ذقنه، فمال طبعه إلى الحزن والأسى أكثر، و َبَت جذوة الفرح وانطفأت لمّا فارقته جدّته. ومنذ ذلك اليوم لزم البيت، ولم يعد يره أحد في ساحة القرية ، لقد انسحب مبكّرا من هذه الحياة. في المقابل أحسست منذ ذلك الوقت بأنّ رغبتي في الطّيران بدأت تتراجع تدريجيّا، ثمّ اضمحلّت تماما، أمّا النّخلة فد تيبّست ثم امّحت الحياة داخلها إلى الأبد.
هوامش:
1 – الكانون : آنية ذات أصول بربريّة ُصنع من الطّين، وتُستعمَل لطهي الشاي والشّواء
( منزل فارسي وهي قرية بالساحل التونسي مشهورة بصنع هذه الأواني)
2 – الكركابة: لعبة في شكل عربة صغيرة ذات عجلتين ،يصنعها الأطفال من الأسلاك الرَّقيقة
3 – مسكونة: كلمة متداولة في اللهجة العاميّة وتعني المكان الذي يسكنه الأشباح.
السيّد التوي*