هـ . ح
في فيلا صغيرة على واجهة شارع السلطان قابوس، كان العمل الدؤوب يستيقظُ باكرا ويستمرُ لساعات متأخرة من الليل، في حيوية غير معهودة وغير مشروطة وفي حيز تفاعلي غير مُعتاد آنذاك. ففي الفترة المسائية تنتعشُ المجلة وهي تستقطب في مقرها المُشرع، طلبة الجامعة الذين أصبحوا الآن من رواد الثقافة العُمانية، كما تستقطبُ المقيمين العرب في مهن مختلفة ممن يهتمون بالشأن الثقافي على تنوعه، إضافة إلى أولئك الذين يأتون من بقاع العالم المختلفة، ويعتبرون المجلة محطة أساسية في تلك الرحلة العابرة. يشربون القهوة ويتحدثون إلى بعضهم البعض، رجالا ونساءً، في وقت لم تتبلور فيه بعد فكرة المقاهي والمولات الضخمة في صورتها الآنية. هكذا يأتون دون مواعيد ثابتة في عصر ما قبل سرعة الاتصالات، ويجدون الاحتواء الذي يأملون، رغم ما قد تُسفر عنه الأحاديث من تنوعٍ وثراء ومشاكسة.
خطوطُ أيادٍ لا نهائية، وطوابع بريد من دول شتى، وأظرف مطوية بحرصٍ شديد كما يطوي أحدنا أثمن ما يملك. أشعارٌ وقصصٌ ومُطالعات في كتبٍ مختلفة، نقدٌ ودراساتٌ تسابقُ لتحظى بفرصتها للنشر في المجلة التي سطع بريقها لأول مرّة في عام 1994م.
فريق العمل الصغير والذي لم يتعد منذ النشأة وحتى اليوم أصابع اليد الواحدة، كان يتلقف هذه الرسائل بشغفٍ ولهفة متأملا النصوص والأشعار والدراسات ومراجعات الكتب التي تصل، ومع الفرز مرّة تلو الأخرى كان يتجلى متنُ المجلة كما يتجلى هامشها.
ذلك الجو الخاص من اللقاءات والحوارات والنقاشات الحرّة، ذهب بعضها للنشر في المجلة. وجوار ذلك لم تُهمل اللوحة العُمانية ومشوار التشكيل والتصوير ناهيك عن القصة والرواية والشعر والدراسات التاريخية. إذ تحضر المادة العُمانية بما لا يقل عن ثلث المجلة ، ويبقى الحظ الأوفر مُتاحا لمرآة الوطن العربي وما تجود به الترجمة من بقاع العالم.
في البدايات الأولى كانت تقطعُ الصور وتلصق، كما تلصق المواد أيضا بصبرٍ يدوي مُرهق على «الموكيت» الذي صمّمه الفنان التشكيلي المعروف ضياء العزاوي لأول مرّة، ثم سارت عليه المجلة بتطوير مستمر، حتى عددها هذا. تنتقل لاحقا إلى لوحٍ معدني لتمر عقب ذلك إلى المطبعة. ويحدثُ في هذه المعمعة أن تسقط الأحبار على الدشاديش البيضاء فتلوثها وقد يتلفُ بعضها، لكن العزيمة كانت تدفعُ الهمم العالية لجدوى الاحتمال دوما. لاحقا تمكنتْ المجلة من مواكبة ما استجد في عالم التقنية لتوظيفه لخدمة المجلة وموقعها الالكتروني، مع محاولة جادة لأن لا يؤدي ذلك لتقديم تنازلات –قدر الامكان- فيما يتعلق بنوع المادة وجدارتها.
لعبتْ المجلة في بداياتها الأولى وعبر موقعها الجذاب مقابل أهم شارع رئيسي في العاصمة، دور المتنفس أو رئة للمثقف وأفكاره، ونقول بأسى –بعد كل هذه السنوات- أنّ المجلة خسرته وخسرت تلقائية اللقاء وروحه عندما ضُمت لمؤسسة -إضافة لبعدها الربحي المفترض- تحرسها الأبواب والأقفال والمواعيد.
ورغم المتاعب الشديدة إلا أن الأصداء التي كانت تُحدثها المجلة في بزوغها الأول، تُذيب كل العناء الذي يُكابده فريق العمل، وهكذا تمضي مجلة نزوى إلى عددها المائة (عقدين ونصف) مُحاولة في كل مرّة الخروج من شرنقة الأيديولوجيات الجاهزة لصالح التجريب والمغامرة في الكتابة والفن.
وإن بدا حدثُ وصول مجلة نزوى لهذا المفصل الزمني، حدثا عابرا ولا يحركُ شيئا في نزعة السكون والاعتياد، لا يحركُ شيئا في ظل تعدد خيارات القراءة بين عمقها وسطحيتها إلا أنّ استمرار بزوغها لربع قرنٍ من الزمان بالنسبة لفريق العمل الذي يعمل على إنجازها بصبر وهدوء، وبالنسبة لقرائها الواقعيين والمفترضين، وقياسا بالجغرافيا التي تخرج منها، والتحولات التي تضربُ عصب كل شيء، يبدو استمرار صدورها أشبه ما يكون بمُعجزة حقيقية.
ويبقى الرهانُ الصعبُ الذي يُواجه أي مشروع ثقافي، هو رهان الاستمرارية، تحديدا في زمنٍ ترزحُ فيه المشاريع الثقافية تحت ثقل الانهيارات، وتبخيس الفكر والأدب والفن لتغدو القربان الأول الذي يُضحى به. أضف إلى ذلك رهانُ النأي _قدر المستطاع_ عن المُتشابه والمطروح والقار في الوعي، وذلك عبر مشاكسته وتحريض الأسئلة حوله، والنأي أيضا عن المحتوى الآني والعابر من أجل ما هو قابل لأن تُعاد قراءته في أزمنة لاحقة. رهانُ الحضور المتصل في ظل التعثر والانقطاعات الذي جربتْ مرارته مجلات أخرى عريقة ومؤثرة في تكوين أجيال عديدة منذ نهايات القرن المنصرم. وربما لم تكتسب مجلة نزوى صلابتها إلا عبر استفادتها الحقيقية من تلك المشاريع التي أفل بعضها وبقي بعضها الآخر.
وإن كنا نسلمُ، بأنّه لا بد للثقافة أن «تُعاني لتُعطي للعالم تصورها الخاص والمُفارق»، إلا أننا بعد هذا المشوار الطويل، نتطلع أن يُصبح واقع المجلة أكثر ازدهارا من اللحظة الراهنة التي نعيشها، وأكثر إيمانا بالدور المنوط بالمجلة، وأكثر قدرة على الانفتاح على النتاج العربي والعالمي على اختلافه وتنوعه وثرائه، ففي ذلك كله يتجلى اتساع الأفق وجدوى البقاء.
وعبر هذا الملف تنشر المجلة شهادات كُتاب أسهموا وشاركوا في إثراء المجلة منذُ شرارتها الأولى.